أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

خدعة التشابه بين نظام الأسد وما بعده/ مالك داغستاني

 

2025.06.12

الثورات لا تأتي بأنظمة كاملة، بل تفتح باب الاحتمالات. وسقوط الأسد لم يكن نصراً لأنه سيجلب المدينة الفاضلة، بل لأنه أزاح أسوأ كابوس عرفته سوريا في تاريخها. الفارق بين من يحكم الآن، بكل ما فيه من إخفاق، وبين الأسد، هو كالفارق بين سفينة تتخبط هنا وهناك بسبب نقص الخبرة ومحاولة الاستئثار، وسفينة يقودها قبطان مجرم يتعمد صدمها بالجبل الجليدي وهو يتهيأ للقفز منها.

نعم، كانت لدينا أحلام مختلفة عن سوريا القادمة، لكن خلال 14 عاماً من قصف الكيماوي والسكود والبراميل، ومحو قرى وبلدات كاملة عن وجه الأرض، مع مئات آلاف المفقودين والقتلى تحت التعذيب، وأكثر منهم من الشهداء المدنيين، وملايين المهجرين واللاجئين في بقاع العالم، بعد أحداث استثنائية كهذه، وبعد التحولات في مسار الثورة، انخفضت سقوف أحلامنا. خفّضتها جرائم الأسد لتتمحور حول الخلاص من “دراكولا”. نعم هكذا ببساطة، أصبح سقوط الأسد أهم إنجاز في تاريخ سوريا المعاصر. الإنجاز الذي لم يشعر به بعض السوريين! منهم معارضون سابقون للأسف.

لأن المفاضلة الحقيقية اليوم مضحكة وركيكة، يقارن بعض هؤلاء بين الأسد وحكام سوريا الجدد بناء على ما سوف يؤول إليه حال سوريا قريباً في غفلة من الناس، حيث يرى هؤلاء الغيب الأسود القادم. بل ويتوجهون باللوم لمن يعقد المقارنات الواقعية بين ما يجري اليوم من جرائم وانتهاكات وبين ما شهدته سوريا الأسد. يرفضون تلك المقارنة ليحدّوا من إمكانية اكتشاف الفوارق الهائلة. أكثر من ذلك، يضعون للآخرين حدوداً أخلاقية، محاولين تأنيبهم وتعليمهم أن هذا معيب، وأن الجريمة هي جريمة مهما كانت، وأن العلّة في النوع وليس في الكم.

يتعامون عن الفروقات بين الزمن السوري قبل سقوط الأسد وعما بعده، ليقولوا أن شيئاً لم يختلف، وفي طريقهم إلى ذلك ينشرون الأخبار الصحيحة وغير الصحيحة، وأحياناً يفتّشون في قمامة الأخبار. إن عدم رؤية الفارق في الزمن السوري اليوم هو تعامٍ غير بريء وله دلالات أخلاقية لن تكون بصالح هؤلاء. يصرح مسؤولون اليوم بأنه لم يعد هناك أي معامل للكبتاغون في مناطق سيطرة الحكومة، فلا ينتبه هؤلاء إلى أن سوريا تتحول إلى بلد نظيف من هذه الآفة الفظيعة، بينما اشتهرت خلال السنوات الماضية بأنها أهم مصدر عالمي لتصنيع وتوريد الكبتاغون، وهذا مثال بسيط.

إن عدم الخوض عميقاً في جرائم حقبة الأسد، هو نوع من الخيانة الوطنية التاريخية. طبعاً هذا لا ينفي ولا يلغي الخوض في الجرائم الحالية وتعريتها والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها. بطبيعة الحال لن أعدد هنا ما حدَّدَ طبيعة حكم المافيا في حقبة الأسد، فقد فعل ذلك العالم أجمع مع سقوطه واكتشاف السجون وصور المعتقلين من الرجال والنساء وحتى الأطفال، وقد بدأت هيئات محلية ودولية بالبحث عن المقابر الجماعية التي ابتلعت مئات آلاف السوريين. واكتشف العالم أن الأسد ترك (دولة) مدمّرة بالكامل، عمراناً واقتصاداً وروحاً. للدرجة التي لا يمكن التخيّل معها أن يفعل ذلك بسوريا أعدى أعدائها.

هل يمكن أن هؤلاء لم يروا حجم الجريمة كما نراها، فكانوا يبتلعونها على أنها واردة، فيصبح الأمر سيان لديهم ما قبل وبعد سقوط الأسد؟ هل غاب عن هؤلاء رؤية جوع الناس، والقلّة التي يعيشون بها؟ ألم يروا الحراشف التي نمَت على جلود السوريين، حسب تعبير أحد الأصدقاء، وهم يجاهدون ليبقوا على قيد الحياة بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام أحياناً، في ظلّ فضائل حواجز الفرقة الرابعة ومؤسسات السيدة الأولى الإنمائية؟ ألم يخبرهم كل ذلك أن رحيل نظام الأسد هو أولى الأولويات وهو أعظم إنجاز؟

مشكلة هذا الخطاب ليست فقط في ظلمه للواقع الجديد (شخصياً لا يهمني هذا النوع من الظلم)، بل في تشويهه لمفهوم العدالة نفسه. حين نساوي بين من ارتكب المجازر، وأقام أقبية التعذيب الجماعي على مدى نصف قرن، وبين إدارة ما بعد التحرير، بكل ما فيها من ارتباك أو أخطاء أو حتى تجاوزات، هي لا شك جرائم تتحمل مسؤوليتها. هذا ليس فقط توصيف غير موضوعي، بل محاولة لغسل يد الجلاد من دماء ضحاياه، وإدانة لضحاياه الفرحين لأنهم تاهوا لفترة بعد خروجهم من سجنه.

السوريون لم يسقطوا نظاماً عادياً انحرف قليلاً عن القيم المألوفة، بل تخلّصوا من الوحش. تخلصوا من سلطة أمنية شموليّة، نشأت على نسخة هجينة من الفاشية البعثية، وتحولت خلال عقود إلى نظام عائلي طائفي يقوم على الولاء لا الكفاءة، وعلى الرعب لا القانون، وعلى سرقة وتهريب الأموال للخارج. كل من درس تاريخ سوريا يعرف أن حافظ الأسد لم يؤسس دولة، بل أقام جهاز حكم يُشبه “الغيتو الأمني”، ووَرّثه لابنه كمزرعة. في المقابل، سوريا ما بعد الأسد ما زالت في طور التأسيس. ارتُكبت أخطاء.. نعم. تورط بعض الفاعلين الجدد في فساد أو استبداد.. نعم. لكن أن يُقارَن هذا بآلة القتل الإجرامي التي رسّخها الأسد، فذلك انحدار أخلاقي خطير في تحليل الوقائع.

قلب الحقائق هي وقاحة لدى من يساوون بين ما فعله الأسد بسوريا مع نظام ناشئ متعثر لم تتح له الفرصة بعد لإعادة بناء الدولة. سيقول البعض إن الاستئثار بمراكز السلطة ومختلف الارتكابات تشي بما يمكن أن تكون عليه الدولة القادمة. نعم، لا شك أن هناك خشية، لكن كل ذلك ليس خارج إطار التوقعات، بأن سوريا لن تكون “سويسرا الشرق” كما نوَّهتُ في مقالة لي قبل التحرير بأيام، والجميع يعلم أن الأمر لن يكون سورياً خالصاً، بل هو نتاج تفاهمات دولية إقليمية محلّية. وأن الدولة الديموقراطية ما زالت بعيدة المنال، وتحتاج النضال من أجلها.

أثناء محاكمة سلوبودان ميلوشيفيتش أمام محكمة لاهاي، دافع عن نفسه قائلاً إنه “يحمي الصرب من التطرف الإسلامي”. وهذا لا يختلف في شيء عن خطاب الأسد الذي سوّق حربه على السوريين بأنها “حرب على الإرهاب”. اليوم، من يساوي بين النظامين بسبب الخوف من الإسلاميين، يعيد إنتاج ظلم تاريخي. وهو إما أنه لم يعرف سجون الأسد، أو نسي مشاهد التعذيب وصور قيصر وأطفال الكيماوي، أو قرَّر طي صفحة الحقيقة.

النظام لم يكن مجرماً بنظر السوريين لأنه طائفي، أو أن رأسه من طائفة معينة (بنظر البعض نعم). وقصة سنّي علوي في هذا الصدد هي شبه حيادية، في حين لو احتكمنا إلى المقاييس الدولية للحكم عليه. نظام الأسد مجرم حسب (النورم) العالمي. آسف للمزاح في هذا المقام، لكن حتى لو جاء “عبَدة ذيول الفئران” فإنهم سوف يصنفونه على أنه من أعتى الأنظمة الإجرامية التي مرت في تارخ العالم.

في كل لحظة من لحظات سوريا الجديدة، التي تتلمّس طريقها بين الأنقاض، تبرز هذه الأصوات التي تصرّ على نزع المعنى عن كل ما جرى. نظام الأسد كان منظومة حكم كاملة لا تقبل الإصلاح، تنكر المجتمع، وتختزل الدولة في شخص العائلة الحاكمة. لم تكن هناك حياة سياسية، ولا مجتمع مدني، ولا صحافة، ولا أي شكل من أشكال الرقابة. كان كل شيء في خدمة البقاء بالسلطة، ولو على أشلاء الجائعين. أما النظام الحالي، على ما فيه من عثرات واضحة، فهو على الأقل نتاج عملية تغيير، وليس استمراراً لما قبله. يمكن انتقاده، محاسبته، إعادة تشكيله، ويمكن تغييره عبر العمل السياسي المتاح اليوم.

المقارنة اليوم، هي بين الاستبداد والإجرام المطلق وبين الاحتمالات الناشئة وصيرورتها. أو لأقلها بوضوح أكبر، سوريا لم تربح كل شيء، لكنها ربحت ما لا يمكن تعويضه لاحقاً لو أنه فاتها الآن. لقد تخلصت من الجلاد، وهذا، في منطق التاريخ، بداية النصر الحقيقي. لأن بقاء الأسد كان يعني استمرار موت السياسة، وترسيخ الرعب كأداة حكم، وقتل أي أفق مستقبلي. أما اليوم، فمهما كانت التحديات، ثمة مساحة ممكنة لمشاركة السوريين بصنع مستقبل بلدهم. من الطبيعي ألا يكون ما بعد الاستبداد مثالياً، بل بشريّاً ومربكاً. لكن من العار أن نساوي بين سجنٍ خرجنا منه، ومنزل لم يُرتَّب بعد.

أكتب هذه المادة، وأنا أفكر بوجوه كثيرة عرفتها في دروب الحياة، بعضها قضى زهرة عمره في زنازين الأسد. وأعلم أن كثيرين منهم لا يرون في المشهد الحالي ما يستحق التفاؤل، ويشعرون بالخوف من أن تتحول السلطة الناشئة إلى استبداد آخر. سلطة بلحيةٍ هذه المرّة، لا ببزّةٍ عسكرية ونسرٍ ذهبي. أفهم ذلك الخوف، ولا يغيب عن ذهني. لكن أن يتحوّل الخوف إلى عداء مُطلق ومُصمَت، أو إلى مساواة بين سلطة سحقت أجسادنا وأخرى لا تزال تتعثر في أولى خطواتها، فهذه قسوة على الحقيقة، بل وظلمٌ للذات أيضاً.

تعلمون مثلي أن نظام المواطنة والدولة المدنية الديموقراطية التي نحلم بها ليست على مرمى انتخابات. ولا يمكن أن يُفرض هكذا نظام قسراً على مجتمع خرج لتوّه من نصف قرن من الانهيار الثقافي والسياسي والأخلاقي. مع ذلك تصوروا معي وأجيبوني،  لو جرت انتخابات حرّة غداً، فهل ستصل النخب العلمانية أو اليسارية أو الديمقراطية إلى الحكم؟ تعلمون، دون شك، أن الإجابة هي بالنفي، لا لخلل في تلك القيم، بل لضعف حضورها الشعبي في الظروف الموضوعية الحالية.

بالتأكيد لست هنا بموقع تبرير الأخطاء والخطايا، لكنني أيضاً لن أكون في موقع إنكار المنجز. إسقاط الأسد ليس انتصاراً لنظام جديد، بل انتصار على الفكرة الأسدية نفسها كحالة إجرامية موصوفة. بعضكم، وربما محق، يرى أن الخطر لم ينته، وأن استبداداً آخر يلوح في الأفق. حسناً لنقاوم هذا الخطر لمنع الوصول إليه، دون أن ننزوي في زوايا النقاء المعارض (في العديد من الحالات ليس في الأمر أي نقاء)، ونكتفي بلعن الآخرين. لقد دفعتم الثمن باهظاً، ولا يليق بمن ذاق ظلم نظام الجريمة إنكار أن سقوطه هو أعظم لحظة في تاريخ سوريا، ولو جاء محمولاً على أكتاف أناس لا يشبهوننا. الثورة لم تكن وعداً بالجنة، إنها طوق نجاة من الجحيم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى