سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

سلطة غير رسميّة: هل أصبح «الإنفلونسرز» جهازاً أيديولوجياً؟/ محمد سامي الكيال

13 حزيران 2025

أثارت ظاهرة «الإنفلونسرز» (المؤثّرين على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل) جدلاً كبيراً منذ بداياتها، خاصة حول جوانبها الثقافية والاجتماعية، وتأثيرها على مسائل مثل الصحة النفسية للمراهقين والشباب، أنماط الاستهلاك، فهم الذات، الفردانيّة، الروابط الاجتماعية والتصورات الثقافية، إلخ. ولم يتم الانتباه إلى جانبها السياسي المباشر، إلا مع تطورات مهمّة، مثل صعود اليمين الشعبوي في دول غربية، وتصاعد العنصرية والتطرّف على شبكة الإنترنت. كان السؤال الأساسي آنذاك: هل هنالك علاقة بين التحريض وخطاب الكراهية والميول اليمينية والراديكالية ونظريات المؤامرة من جهة، ونمط العلامات والصور والرموز، التي تدعم انتشاره خوارزميات الإنترنت ومواقع التواصل من جهة أخرى؟ مال كثير من الباحثين إلى الإجابة بـ»نعم»، فمشكلة مواقع التواصل ليست فقط غياب القوانين الناظمة، التي تُطبَّق على وسائل الإعلام التقليدية، بل في كونها تعمل وفق آليات أساسية، على رأسها «المرئيّة»، أي القابلية للظهور ضمن أوساط معيّنة، تشكّل ما يشبه الفقاعات التواصلية المغلقة؛ و»لفت الانتباه»، وهو أساساً القدرة على التحفيز العصبي السريع، عبر علامات جذّابة ومبسّطة، تخاطب مستويات دنيا من الوعي واللاوعي؛ وكذلك «التجهيل» و»نزع التوطين»، أي انتزاع العلامات من سياقها الثقافي، وترويجها بوصفها منتجات مُفرَدة قابلة للاستهلاك السريع، حسب التجربة والميول الشخصية للمتلقي، ما يجعلها تعمل فعلياً على مستوى «تحت ذاتي»، أي أنها لا تقوم على سياق اجتماعي وثقافي مترسّخ، يبني مفاهيم متسقة عن الذات الفردية والجماعية، ومعرفة جديّة بأي ظاهرة أو مفهوم.

بالطبع، كل الآليات المذكورة أعلاه تتناسب مع المحتوى المتطرّف والصدامي، وتدعمه، إلا أنها لا تفرضه، أو تنتجه بشكل حتمي، فقد تنتشر بفضلها علامات وصور ذكية ولطيفة، أو حتى مسالمة وتخديريّة؛ كما أن لفت الانتباه لا يقتصر على تيار سياسي وأيديولوجي معيّن، فلكل تيار مخزون من الإحالات الثقافية المُركّبة، القابلة لإنتاج العلامات اللافتة، التي قد تكون ذات رسائل إيجابية، وبالتالي فإن التطرّف ليس بالتأكيد من منتجات الإنترنت وحده، بل له أسبابه الاجتماعية والسياسية الأكثر عمقاً، التي لا يمكن حلّها فقط عبر قوننة النشر على الإنترنت، أو فرض نوع من الرقابة على محتواه. والمشكلة أعمق حتى من التطرّف وخطاب الكراهية، فهي تكمن في «اقتصاد الانتباه» نفسه، أي في نماذج العمل والنشر والتسويق، التي باتت تعتبر الانتباه الإنساني مورداً محدوداً، يمكن تسليعه والتنافس عليه، ما يؤدي إلى محتوى تجهيلي ونازع للتوطين بالضرورة، سواء كان معتدلاً أو متطرفاً؛ يمينيّاً أو يسارياً.

على هذا الأساس، يمكن اعتبار «الإنفلونسرز» تشخيصاً لذلك النوع من المحتوى، إنهم ليسوا دعاة تطرّف، أو ناشري نظرية مؤامرة بالضرورة، ولكنهم مستثمرون في «اقتصاد الانتباه»، وهنالك جدل حول مَنْ يستهلك الآخر فعلاً: المؤثّر الذي يسعى إلى انتزاع انتباه متابعيه؛ أم المتابعون الذين يستهلكون حياة المؤثرين، فيدفعونهم إلى تصرفات وتصريحات واستعراضات، قد تكون شديدة الأذى لهم؟ غالباً الطرفان يستهلكان بعضهما، ويوجد طرف ثالث «يستهلك» الجميع، وهو عمالقة التكنولوجيا والتسويق وتسليع البيانات، وهم جانب مهم مما يميل بعض مفكري اليسار إلى تسميته «الرأسمالية التواصلية». إلا أن «الطرف الثالث» ليس فقط الشركات الرأسمالية الكبرى، فقد بدأت تظهر حول العالم، خاصة في منطقتنا، ظاهرة «حداثية فائقة»، إن صح التعبير الساخر، وهي تحوّل «الإنفلونسرز» إلى وكلاء مباشرين للسلطة السياسية، ليس فقط لنشر مقولاتها وخطابها، بل أيضاً لصناعة «التريند» الذي تريده في أيام ومناسبات محددة، مع تقديم جُمَل وكلمات مفتاحية، يتداولها المؤيّدون نسخاً ولصقاً. توجد «مراكز إعلام» و»مؤسسات ثقافية» تعمل بشكل منهجي لدعم واستقطاب وتأهيل المؤثّرين على هذا الأساس، إلا أن الظاهرة وصلت لأعلى مراحلها في سوريا، بعد سقوط النظام الأسدي، إذ لم يعمل الحكم الجديد حتى الآن على بناء مؤسساته الإعلامية، ولا يُبدي نشاطاً جديّاً في هذا الاتجاه، بل يهتم أكثر بإنتاج فِرَق المؤثّرين الخاصة به، إلى درجة أن هذا «الإعلام البديل» يكاد يصير بديلاً فعليّاً عن المؤسسات التقليدية، التي لم يعد هناك حاجة لها على ما يبدو. فما معنى الإعلام السلطوي، المبني على «اقتصاد الانتباه» هذا؟ وهل بات «الإنفلونسرز» جهاز «الإعلام ما بعد الرسمي»؟ ما معنى «رسمي» في هذا السياق أصلاً؟

«الطاقة الإيجابية»

يركّز «الإنفولونسرز» على ثيمات مثل التفاؤل والطاقة الإيجابية والنقد البنّاء والتجربة الذاتية، وهي كلها أقرب لأن تكون انطباعات، وليس مفاهيم أو أفكاراً، ويتبدّى جانب مهم من مهاراتهم في القدرة على نقل الانطباع إلى المتابعين، تماماً كما يتناولون أمامه طبقاً من الطعام، أو يجرّبون ملابس جديدة، أو يسوحون في بلد ما. فيصبحون شكلاً ملتبساً من «المثال»، إذ يرتبط بهم المتلقي عبر مجموعة من الانفعالات، مثل الحسد والشهوة، والاشمئزاز والغضب والتماهي، وليس عبر قيم وتصورات مكتملة، أو سرد متسق عن الذات والعالم. أما في قضايا شديدة التعقيد والإشكالية، مثل السياسة والنزاعات الاجتماعية، فتبدو إسهاماتهم مزيجاً من المدوّنة السياحية (التجوّل في منطقة، أو اللقاء بشخصيات عامة، ونقل «الانطباع» عنها)؛ وسرد التجربة الذاتية والمشاعر الشخصيّة؛ و»التحليلات»، التي تخلط العبارات الإنشائية ببعض المعلومات والأفكار المبسّطة، مدّعيةً الحياد الأيديولوجي، أو تجاوز الأيديولوجيا؛ إضافة لعدد من «التسريبات»، ومصدرها العلاقة مع متنفّذين في سلطة أو مؤسسة ما.

كل هذه «الطاقة الإيجابية» تحت سياسية بالضرورة، فهي لا تخاطب جمهوراً فاعلاً، ولا تبني خطاباً متكاملاً، ولا مشروعا لها أبعد من الاستهلاك المتبادل بين المؤثّر ومتابعيه. ولكنها ليست متجاوزة للأيديولوجيا كما تدّعي، فهي بالنهاية تمتلك منظوراً عن الذات والعالم، حتى لو كان مشتتاً وغير متسق، وتنقل رسائل متعددة. الأصح القول إنها «تحت فكريّة»، لأنها عاجزة عن ممارسة عمليات عقليّة أساسية، مثل التجريد والنقد والتحليل المنهجي، الذي يتمتع بشيء من الاتساق. يمكن لـ»الإنفلونسر» أن يقول الشيء ونقيضه، دون أن ينتبه لذلك أصلاً.

قد يكون الإعلام الرسمي التقليدي سلطوياً، أو إقصائياً، أو حتى كاذباً، ولكنه سياسي بالتأكيد، فهو يتعاطى مع «الشعب»، ويوجّهه باتجاهات أيديولوجية معيّنة، وصولاً إلى تحقيق غايات الدولة والنظام السياسي؛ ويلعب دوراً أساسياً في عمليات الاندماج الاجتماعي، عبر إعطاء المعلومات والأخبار المطلوبة للمواطنين، وصياغة مشتركاتهم الوطنيّة. وحتى في الدول التي لا تملك وزارات إعلام، توجد مؤسسات وهيئات مستقلة، مموّلة من ضرائب المواطنين؛ أو خاصة (ولكن مقرّبة من جهة سلطوية أو حزب كبير في النظام السياسي) تلعب أدواراً مشابهة، بشكل مباشر أو غير مباشر. وبالتالي فإن وظائف الإعلام الرسمي لم تنته، حتى في البلدان التي ظهر فيها لفظ «إنفلونسرز»، وذلك لأنها ما تزال دولاً، بمجال سياسي نشيط، وشرعية مستمدّة من السيادة الشعبية، ومؤسسات اجتماعية وسيطة، تؤدّي الحد الأدنى من الوظائف.

ليس الاعتماد على «الإنفلونسرز»، وجعلهم بديلاً عن الإعلام التقليدي، إلا علامة على إلغاء المجال السياسي من أساسه، وكذلك السيادة الشعبية، وهذا بالضرورة يعني إلغاءً للمواطنة نفسها، إذ لم يعد هنالك مواطنون، يجب استقطاب أصواتهم، أو تأمين إدماجهم في النظام السياسي، أو ربطهم بمنظومة قانونية متكاملة، وتبليغهم بها، وإنما مجرد متلقين، يشكلون حشداً سلبياً، قد يمكن تجييشه أحياناً، ومخاطبة انفعالاته على مستوى تحت سياسي وتحت فكري، وإشغاله بهذا «التريند» أو ذاك. وأهمية الحشد، بيولوجية أكثر من كونها سياسية، فهو مجموعة أجساد ليس المطلوب تطويعها وضبطها للقيام بأداء معيّن، اقتصادي أو عسكري، ومراكمة معارف عنها لهذا الغرض، وإنما إخضاعها للسلطة بشكل سلبي غير مُنتج. فهي قد تنفع للاستثمار في ملفات شائكة، مثل المساعدات والإغاثة واللجوء، والتلويح بخطرها في مسائل مكافحة الإرهاب والفوضى العابرة للحدود.

تستثمر السلطات في «اقتصاد انتباه» متكامل لتأمين بقائها، وإخضاع رعاياها، ولذلك فليس من المستغرب أن يصبح «الإنفلونسرز» جهازها الأيديولوجي الرث، بل أن تقرّبهم لدرجة منحهم مناصب «رسميّة».

ما الرسميّة؟

يبدو أن الحد الفاصل بين الرسمي وغير الرسمي قد اضمحلّ بشكل كبير، إذ أن حدود «الرسميّة» الأساسية، مثل التمثيل المُعتَمد لهيئة أو مؤسسة؛ والمسؤولية عن التصريحات والأداء؛ والالتزام بقانون أو تقليد مؤطّر، تضيع بين تعدد وسيولة مراكز وأقطاب وأدوات السلطة، وإفراغ المؤسسات من محتواها. وقد بات هذا ظاهرة عالمية إلى حد ما، ففي الإدارة الأمريكية مثلاً، لم تكن صفة إيلون ماسك الرسمية، أو صلاحيات «الوزارة» التي استُحدثت له شخصياً، محددة بدقة، ولم يكن من المعروف حقاً هل هو شخصية حكومية، أم مستثمر «شريك» في السلطة، إلى أن اندلعت الأزمة الأخيرة بيه وبين الرئيس ترامب، التي لم يُعرف أيضاً، هل هي أزمة حكومية، أو صراع بين «مؤثِّرَين» نرجسيين.

الأمر ذاته حيث يصبح المؤثّرون جهازاً أيديولوجياً رثّاً، ولكن أساسياً، إذ لا نعرف ما الرسمي وغير الرسمي، هل نحن أمام قادة عسكريين أم زعماء ميليشيات؟ أم أمام مديرين وموظفين بيروقراطيين أم رجال دين؟ قانون أم سلطة سلاح منفلت؟ وبالتأكيد: تصريحات رسميّة وأيديولوجيا دولة أم اجتهادات من «إنفلونسرز»؟

قد يعني هذا أننا لسنا فقط أمام إلغاء السيادة الشعبية والمواطنة والمجال السياسي، بل إلغاء الدولة نفسها لمصلحة السلطة وعُصبها، وكأن الإلغاء الأول مرتبط بالإلغاء الثاني، ويؤدّي إليه، والعكس صحيح. ماذا يبقى بعد كل هذا الإلغاء؟ ربما كان هذا هو السؤال الذي ينبغي عدم تجنّب التفكير به، حتى لو كان يعارض تفاؤليّة «الإنفلونسرز» وطاقتهم الإيجابية.

العيش تحت سلطات بلا وظائف اجتماعية جديّة، أو مصدر شرعية فعلي، أو مؤسسات وقانون وبيروقراطية، قد يكون مرادفاً لنزع التحضّر، في مجتمعات أعيد إنتاج بناها الأبوية التقليدية، منذ عقود طويلة، في إطار العلاقة مع جهاز الدولة، والربط به، وبالتالي باتت عاجزة عن أداء الوظائف التقليدية للعشيرة والعائلة الممتدة، إذا لم يتم تضمينها في الدولة وأيديولوجيتها، وتلقيها الدعم والريوع منها. كل هذا قد يعني أن الشكل الوحيد الذي سيبقى من علاقات السلطة هو العُصب الموالية، وما تؤمنه من مكاسب ونفوذ، للأقربين إليها.

ربما يصحّ القول إن «الإنفلونسرز»، بهذا النوع من الأداء السلطوي، باتوا ظاهرة مشابهة بنيوياً للميليشياوية، وكذلك الناشطية، كلها أقرب لعُصب تدور في فلك سلطة ما، وتسعى لمنافع غير إنتاجية، وسلطات غير مُؤطّرة، خارج المجال السياسي و»المجتمع المدني»، بمفهومه الكلاسيكي، بل ربما خارج الحضارة نفسها. ما يجعل السؤال فعلاً حول السبيل الأمثل لمنع الانزلاق الكامل نحو الهمجيّة.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى