الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالشرع و المقاتلين الأجانب و داعشالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانالقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 13 حزيران 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

——————————-

 سوريون خارج السياسة/ محمد صبرا

2025.06.13

“عندما تتحول السياسة إلى إدارة للخوف، تصبح الكراهية هي لغة الجماهير الوحيدة”.

حنة أرنديت

ينقسم المجتمع السوري اليوم بين كتلتين رئيسيتين: الأولى هي كتلة السلطة الانتقالية ومؤيدوها، وهي الكتلة الأكبر والأكثر قدرة على التأثير، والثانية هي كتلة الرافضين لها، التي تتألف من مزيج متناقض من الأطياف، تضم بقايا النظام السابق، وعلمانيين ويساريين سابقين، وليبراليين حالمين، وقوى طائفية لا ترى في السلطة إلا تمثيلاً طائفياً مناوئاً لها، إلى جانب قوى قومية متطرفة تنظر إلى الواقع من منظور أوهامها الشوفينية، وتتعامل مع المرحلة الراهنة بمنطق النفعيّة وتحصيل المكاسب، وفق القاعدة المعروفة: “ما لنا لنا، وما لكم، لنا ولكم”.

وسط هذا المشهد المرتبك، تبرز مفردة “الدولة” بوصفها الأكثر تداولاً بين جميع الأطراف، فالكل، من السلطة إلى أشد معارضيها طائفياً، يرفع شعار بناء الدولة، غير أن كلّ طرف يُحمّل هذا المفهوم دلالات ثقافية ودينية وسياسية مختلفة، إلى الحد الذي يمكن معه القول: إن لكل منهم “دولته” الخاصة التي ينادي بها، وإذا تجاوزنا تحليل الخطاب لتفكيك هذه المفردات ودوافعها، تبقى الظاهرة الأبرز أن كلا الكتلتين -المؤيدة والرافضة- تؤسس خطابها السياسي على قطيعة مع التاريخ السوري الحديث.

تحاول السلطة، أو بعض أطرافها ومؤيديها، في استحضارها لفكرة “الأموية “، أن تقطع تماماً مع كل ما جرى بعد 8 آذار 1920، تاريخ إعلان استقلال سوريا ككيان سياسي، وهذا يعني تجاوز كامل لإرث الدولة السورية الحديثة، بكل مضامينه القانونية والسياسية والاجتماعية، لصالح دولة جديدة قائمة على “عصبية مستحدثة” يسميها بعض إعلاميي السلطة بـ “الأموية الجديدة”، في مقابل نفي كامل لما يمكن تسميته بـ”العصبية الوطنية”، وقد عبّر عن هذه القطيعة الرئيس الشرع حين وصف المرحلة التي أعقبت الاستقلال بسنوات “التيه السياسي”.

إن هذه القطيعة مع قرن كامل من الدولة السورية، تمنح السلطة مرونة كاملة في إعادة بناء الاجتماع السياسي السوري على أسس مغايرة، ضمن توازنات جديدة تسعى إلى تأسيس نموذج دولة لا ينتمي إلى أي حقل سياسي معروف، وقد عبّرت السلطة، عبر تصريحات متكررة للرئيس الشرع، عن رغبتها في بناء نموذج يقوم على “الفرادة والخصوصية”، إلا أن هذه الفرادة تقوم على استحضار سرديات تاريخية إشكالية لتعزيز الانتماء، وبناء هوية تقوم على مركزية السنة، بوصفهم طائفة, لا تشكيلاً اجتماعياً ممتداً، وحاضناً للوطنية السورية، ما يشكّل انزلاقاً خطيراً، لأنه سيقوم بتطييف السنة، وتحويلهم إلى مكون طائفي، يغيب عنه أي تعبير سياسي، أو تمايز طبقي ومناطقي، ويصبح الناطق باسمه هم فقط رجال الدين أو الذين يتبنون خطابهم الديني.

هذا الاستخدام للهويّة السنيّة كأداة أيديولوجية، ومصدر لمشروعية الحكم، بدلاً من تقديم برنامج سياسي واقتصادي فعلي، يُعدّ تحويلاً خطيراً في منطق بناء الدولة، فبدلاً من الانطلاق من قاعدة اجتماعية واسعة تعبّر عن المشروع السياسي، وتشكل حاضنة للحكم وشبكة أمان له، يصبح الانتماء الطائفي هو المرجعية، ما يهدد بانفجار داخلي جديد، ويقوّض كل محاولات التماسك الوطني.

حتى الآن، لم تُقدِم السلطة على إعلان توجهاتها السياسية والاجتماعية بشكل واضح، بل تكتفي بمقولات عامة، وبخطاب عائم يُعظّم حالة الغموض أكثر مما يجلّيها، كما أن التحالفات وشبكات المصالح التي يستند إليها أي حكم، والتي تبنيها السلطة الآن، تقوم على براغماتية واسعة تضمن لها البقاء، وتعزز قدراتها المالية والسياسية، عبر علاقات مصلحية مع شخصيات، ومجموعات سبق أن دعمت نظام الحكم السابق، وفي ظل هذا الغموض، تبقى الهويّة الطائفية إحدى الأدوات الأساسية في الخطاب السلطوي.

إن إدخال عناصر التكوين الطائفي في إعادة إنتاج الهوية، سيحيل إلى قبول واسع لفكرة العنف باعتباره الوسيلة الوحيدة المتاحة للدفاع عنها، خاصة أن بعضاً من أنصار السلطة، يتوهم أنها هوية مُهدَّدَة من قبل كثير من العناصر الطائفية، التي لا ترى في السلطة سوى بُعدها الإسلامي، أو من العناصر القومية التي لا ترى فيها إلا بُعدها العربي، يلتقط أمين معلوف بذكاء هذه الفكرة حيث يقول في كتابه الهويات القاتلة: ” عندما يشعر الإنسان أن هويته مهددة، يتمسك بها بعنف، حتى لو كانت سبباً في قتل الآخرين”.  

على الضفة الأخرى، نجد قطيعة موازية لدى الكتلة الرافضة للسلطة ( وكاتب هذه السطور يسميهم رافضين وليسوا معارضين، لأن موقفهم يقوم على الرفض العدمي وليس على خطاب سياسي)، وهي قطيعة مع الماضي القريب، مع كل ما جرى قبل 8 كانون الأول 2024، هذا الخطاب يختزل كل شيء في مجرّد تغيير نظام الحكم، من دون الاعتراف بسياقات طويلة من الصراع والعذابات والمجازر والاعتقالات، التي صنعت الوعي السوري خلال خمسة عقود، وكأن المطلوب هو طيّ الصفحة تماماً، وبدء صفحة جديدة بلا محاسبة أو اعتراف بالضحايا، هذه القطيعة يفسرها الطيف الواسع من السوريين الذين تعرضوا للمذبحة، أي السنة، بأن عليهم الآن أن يكنسوا عظام أبنائهم، والمقابر الجماعية والمنافي ومخيمات اللجوء، والمعتقلات والشهداء وانتهاك الحرمات، ووضعها تحت السجادة، من دون الاعتراف بهذه المذبحة، أو بمسؤولية الأطراف التي ارتكبتها، وهو ما يثير الغضب ويؤجج حالة الرغبة في الانتقام، ولا سيما في ظل تراخي السلطة في مسار العدالة ومحاكمة المجرمين.

هذا الموقف، الذي يتبنّى خطاباً ديمقراطياً تعددياً في العلن من قبل الرافضين للسلطة، يخفي في طياته سعياً لبناء نظام قائم على المحاصصة الطائفية، ورفضاً ضمنياً لما يعتبرونه انتصاراً للسنة، وهذا الإنكار، سواء أُعلن عنه أم لم يُعلَن، هو استمرار للعنف ضد الضحية، وتشويه للتاريخ، وحرمان للضحايا من التعبير عن مأساتهم، أو كما قال جان فرانسوا ليوتار في معرض مناقشته لإنكار المحرقة: “الضحية لا تستطيع إثبات الضرر الذي لحق بها، إذا لم يكن هناك من يشهد على ذلك”، وغياب الاعتراف بالمقتلة السورية، التي طالت فئة مخصوصة من السوريين، وهم السنة، يمثل عنفاً مستمراً وتشويهاً للواقع، ونوعاً من الاغتيال الرمزي للضحايا.

هذا الخطاب الرافض يُنكر الهويات الدينية للطرفين قبل 8 كانون الأول، لكنه يبالغ بعدها في تأكيدها، فالقاتل قبل ذلك لم يكن علوياً، ولا الضحية سنياً، بل هو نظام وشعب، لكن ما بعد هذا التاريخ، يُصوَّر فيه القاتل سنياً والضحية علوياً أو درزياً، وإذا أردنا الإنصاف والاستقامة العقلية، فإن وحدة المعايير تتطلّب الاستمرار في الموقف نفسه، سواء في توصيف الماضي أو الحاضر.

ضمن هاتين القطيعتين، تغيب السياسة عن الفضاء العمومي السوري، ويتحوّل النقاش العام إلى صراع سرديات، حيث تحاول كل كتلة فرض روايتها ونفي الرواية المقابلة، وغياب النقاش السياسي يؤدّي إلى تغييب الدولة نفسها، بحيث تتحول إلى مجرّد شعار أيديولوجي، وذخيرة في صراع صفري، ويتم اختزالها في السلطة لا أكثر.

في هذا السياق، تتطابق رؤية السلطة، مع رؤية خصومها في نظرتهم للمجتمع، إذ يعتبره الطرفان مجموعة من الطوائف والجماعات الأهلية، لا شعباً متكاملاً له إرادة سياسية، فالرافضون للسلطة يتعاملون معها من منطلق طائفي، ويصرون على نفي التشكيلات السياسية واختصار تمثيل هذه المجتمعات المحلية برجال دين ورموز موغلة في خطابها الطائفي الذي يصل إلى حد العنصرية والتعالي، في حين تستثمر السلطة في خطاب مظلومية سنية مضادة، لتبرير مشروعية سلطتها الجديدة.

بهذا يصبح خطاب الرافضين للسلطة – مثل حكمت الهجري أو المجلس العلوي، والذي يقفز فوق الحقائق التي أثقلت سورية خلال خمسة عقود، ويرفض الاعتراف بالمقتلة السورية ونتائجها ومسبباتها-، يمثل ضرورة في بناء السردية المقابلة للسلطة، وهذا التخادم بين الخطابين، ينتج عنفاً من نوع آخر، ويضع الجميع دائماً في مواجهة بعضهم بعضاً، وهكذا تتغذى النزعة الطائفية من الخطابين معاً، وتتحول من انفعال نفسي أو غضب عابر، إلى بنية فكرية واجتماعية، يُعاد إنتاجها داخل الحقول التربوية والدينية والإعلامية، عبر مقولات الخصوصية والتمايز.

إن الخروج من المأزق الحالي يكون بالمكاشفات والمصارحات الحقيقية، فالسلطة ملزمة بتقديم برنامج شامل عن رؤيتها لبناء الاجتماع السوري، وكيف ترى الدولة السورية، وما هو تعريفها للوطنية السورية، وعناصر تشكيلها، وبالتالي يجب على السلطة إتاحة الفضاء العمومي السوري للنقاش، وتحويل هذا النقاش من مجرد حديث رغبوي، وأماني تمليها السلطة على المواطنين، إلى حوار جدي وحقيقي بينهم، يتيح لهم في الوقت نفسه، الخروج من ضيق التكوينات الطائفية، إلى فضاء الوطنية السورية العابر للطوائف والإثنيات، وكذلك مطلوب من الجماعات الرافضة للسلطة، أن تتبنى المكاشفة الكاملة في خطابها، وما رأيها في المقتلة السورية، التي حدثت في السنوات الأربع عشرة الماضية، وهل توافق على ضرورة محاسبة كل الجناة الذين أسهموا في هذه المقتلة، لأن مطالبها الآن تبدو وكأنها محاولة لمنع هذه المحاسبة، وتجنيب المتورطين فيها المحاكمة الضرورية والعادلة، لإعادة بناء السلم الأهلي، على أسس العدالة واحترام الكرامة الإنسانية.

إن التخويف المزدوج، أي تخويف السنة من عودة المقتلة إذا عارضوا السلطة، وتخويف الأقليات من حكم السنّة، إن هذا التخويف المزدوج، الذي تقوده أطراف مختلفة، ويسهم فيه إعلاميون ورجال دين وسياسيون، هو مجرد وسائل ذرائعية تقودها الأطراف المختلفة لإبقاء سيطرتها على ما تعتبره حيزها الخاص، وما يعنينا هو ضرورة إعادة بناء السياسة على أساس مساءلة كل الأطراف أصحاب هذا الطرح، سواء كانوا في السلطة أو قريبين منها، أو كانوا رجال دين يصدّرون أنفسهم كزعماء لمجتمعاتهم المحلية، ويمارسون نوعاً من السلطة الرمزية، فالسلطة التي لا تقبل المساءلة، ولو كانت سلطة روحية أو رمزية، هي سلطة تؤسس لخطاب استبدادي شمولي، لا يقبل الدحض أو تقديم بدائل عقلانية له، أو كما قال يورغان هابرماس : ” كل خطاب لا يسمح بمساءلة سلطته، هو بالضرورة خطاب قمعي”.

إن الانطلاق من الوطنية السورية وتراكماتها جميعاً، بكل تجاربها ونجاحاتها وإخفاقاتها، التي تأسست عبر قرن وربع، بات أمراً ضرورياً، لأنه يشكل السياج الحامي من الدخول في صراع هوياتي، وهذا يتطلب إعادة إنتاج مفهوم الدولة في سورية، بالاستناد إلى كل ما حققه الشعب السوري خلال القرن الماضي من عمر دولته، وأهمها عنصر الشعب المتعيّن في واقع جغرافي محدد اسمه سوريا، وإعادة الاعتبار للتعاقد الحرّ بين المواطن الفرد بوصفه عنصراً من عناصر الجماعة الوطنية، وبين الدولة باعتبارها التعبير الأرقى عن الاجتماع السياسي للسوريين، وهذا التعاقد الذي يعبّر عنه بالحقوق الدستورية والحريات، هو الذي يضمن لنا وطنية متعالية على كل التوصيفات الطائفية والإثنية واللغوية، “فالوطنية الدستورية” بحسب تسمية يورغن هابرماس، أي الانتماء للقيم الدستورية والحقوق الإنسانية، لا للأصل العرقي، أو الدين أو الطائفة، قد يشكل سفينة النجاة للجميع، وهذا يتطلب ترسيخ المفاهيم الدستورية القائمة على احترام الحريات وسيادة القانون، وضرورة المحاسبة، وبناء نموذج إعلامي لا يؤجج الكراهية ولا يبرر العنف والتعصب.  

تلفزيون سوريا

————————————

التشظّيات الراهنة للمسألة الطائفية في سورية/ حسن النيفي

نشر في 12 حزيران/يونيو ,2025

تنويه:

مقاربة أولية

لعلّ إحدى معضلات الثورة السورية ومصادر تعقيدها أنها كانت في مواجهة (استبداد مُركّب)، أعني استبدادًا سياسيًا وطائفيًا بآن معًا، إلّا أن الارتدادات المباشرة للطائفية طيلة الحقبة الأسدية كانت متمركزة نسبيًا في إطار مؤسسات الدولة، أمّا تشظياتها على المجتمع، فكانت محدودة، ليس لأنها خافية على أحد، بل لأنها من المسائل المسكوت عنها، بفعل قمع السلطة من جهة، وبفعل ما يمتلكه السوريون من إرث اجتماعي ظلّ بعيدًا عن الانفجارات العرقية أو الطائفية منذ عهد الاستقلال، من جهة أخرى.

مع انطلاقة الثورة السورية (آذار 2011)، وانتقال المواجهات بين الشعب والسلطة إلى طور العنف المُفرط، وموازاةً مع استنجاد نظام دمشق بحليفه الإيراني، بدأت تتدفق إلى الجغرافيا السورية حشود بشرية شتى، من العراق ولبنان وأفغانستان، لنصرة قوات النظام، ولم تُخفِ تلك الحشود دوافعها منذ الأيام الأولى للمواجهات، ذلك أن جميع شعاراتها وممارساتها داخل المدن والبلدات السورية تجهر بنزعة طائفية صريحة، وقد تحولت تلك الحشود إلى تشكيلات عسكرية تعمل بتنسيق مباشر مع قوات النظام، ولعل اللافت في الأمر أن تلك التشكيلات الطائفية هي أول من بادر بارتكاب المجازر الجماعية بحق السوريين، في بانياس وحمص والريف الدمشقي، ومن ثم في العديد من المدن والبلدات السورية، وبدواعٍ وشعارات طائفية واضحة الدلالات، ولعل تلك المذابح هي التي أطاحت بجميع الحواجز والتخوم لكي تنتقل اللوثة الطائفية من حيّزها السابق (مؤسسات الدولة وأطرها الإدارية وبناها العسكرية والأمنية) إلى الحيّز المجتمعي العام. وقد أسهمت ردّات الفعل المضادة من جانب تيارات وجماعات دينية معارضة، بخطاب وشعارات ذات مضامين طائفية أيضًا، في تعزيز البعد الطائفي في المواجهة، على حساب المفاهيم القيمية الأخرى للثورة، كمسألة الحريات والحقوق وسوى ذلك. وقد أفضى هذا المسار من الحرب طيلة أربع عشرة سنة إلى حالةٍ من الاصطفاف الاثني والعرقي الذي تعزّز بتعاظم النفوذ الدولي وتعدّد سلطات الأمر الواقع، حيث إن عامل الجغرافيا غالبًا ما كان قاهرًا للعديد من الفئات (ومنها الطائفة العلوية) التي وجدت نفسها محشورة في حيّز جغرافي يفرض عليها تصنيفًا، ربّما كان البعض منها يرفضه ضمنًا، ولكنه لا يستطيع الخروج عنه.

لم يستطع الخطاب السياسي المواكب لعملية (ردع العدوان 27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول) أن يحول دون عملية الانفجار الطائفي في ظلّ الفراغ الناتج عن غياب الدولة، ذلك أن التغيير الحاصل في سورية لم يكن نتيجة انتقال سياسي سلس تحافظ فيه مؤسسات الدولة على سيرورتها الوظيفية بانتظام، وإنما كان تغييرًا عسكريًا ثوريًا أفضى إلى اقتلاع نظام الحكم من جذوره، من دون أن يتمكّن البديل من ملء الفراغ، وفي هذه الحال لن يكون خطاب (الرحمة)، بما ينطوي عليه من تسامح وتحذير من عمليات الانتقام والدعوة إلى الحفاظ على الأرواح والممتلكات، قادرًا أن يكون بديلًا عن غياب القانون مُمَثَّلًا بسلطة تنفيذية على الأرض، ذلك أن الوعظ وخطاب حسن النوايا ربما يصلح لمواجهة حادثة معيّنة بزمان ومكان محدّدين، ولكن ليس بمقدوره أن يكون ناظمًا قانونيًا لحياة الناس.

وفي ظل افتقار السلطة الجديدة للمقدرات المادية التي تمكّنها من إحكام سيطرتها على جميع مفاصل الدولة، وكذلك في ظل عدم قدرتها على تقديم الحد الأدنى من حاجات المواطنين، فإن وجود السلطة يبقى في جزء كبير منه وجودًا اعتباريًا لا أكثر، ومن هنا يمكن القول: إن اشتعال الجذوة الطائفية في السادس من آذار الماضي لم يكن نتيجة لغياب الدولة أو هشاشة سطوة السلطة فحسب، (علمًا أن الدولة تتحمّل القسط الأوفر منها) بل نتيجة عوامل أخرى، لعلّ أهمّها:

1 – أسهم ظهور التمرّد العسكري في مدن الساحل السوري، وردّة الفعل المواجهة له، في الكشف عن هاجسين متماثلين من حيث المحتوى، متناقضين من حيث الهدف، هاجس الخوف لدى الموالين للحكومة الجديدة من أن تتمكّن فلول النظام من استعادة المبادرة العسكرية، ومن ثم الشروع في استرداد السلطة، وخاصة ان التمرّد العسكري جاء متزامنًا مع تشكيل (المجلس العسكري لتحرير سوريا) وموقّعًا باسم الضابط السابق لدى نظام الأسد العميد (غياث دلا)، أضف إلى ذلك التغطية الإعلامية من وكالة (مهر) الإيرانية التي لم تدّخر جهدًا في التحريض والتجييش نحو ما أسمته (المقاومة السورية للمؤامرة الإسرائيلية الأمريكية). وبالمقابل فإن ثمة هاجسًا آخر لدى الفئة الموالية للنظام من الطائفة العلوية، فحواه أنها لم تستطع التصديق بعدُ، أو لا تطاوعها مخيلتها على الإقرار بأنها فقدت السلطة بالفعل، وباتت جميع الامتيازات التي حازتها، طيلة أكثر من نصف قرن، خارج يدها، ولعل الشعور المباغت باليتم لدى أنصار نظام الأسد والمتضرّرين من زواله دفع بهم للتمسّك بأية بادرة -حتى ولو كانت فاشلة- من شأنها أن تعزّز لديهم الإحساس بالقدرة على استعادة السلطة. ولعل هذين الهاجسين جعلا كلّ طرف يضفي على تلك المواجهة المصيرية -وفقًا لتقدير الطرفين المتقاتلين- طابعًا وجوديًا. وفي حال كهذه من الطبيعي أن تنزاح معظم الكوابح الرادعة للفتنة والتجييش، لصالح مناخ عام مزكوم بكل ما هو قبيح ومنفّر، وذلك ما تجلّى بعملية النفير العام الموازي لخطاب الفزعة الذي لم يفض في النتيجة إلا إلى مقتلة راح ضحيتها (803) من المواطنين المدنيين، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن عدد الضحايا المدنيين (973) ضحية، إضافة إلى (310) من عناصر العام، و (250) من متمرّدي فلول النظام، وفقًا للمصادر ذاتها.

ولا بدّ من الإشارة -في هذا السياق- إلى أن قسمًا كبيرًا من الذين ناهضوا التمرّد العسكري في الساحل السوري عزوا موقفهم إلى حرصهم على التجربة التحرّرية الجديدة لسورية، وليس دفاعًا عن السلطة بأشخاصها، إذ يعتقد هؤلاء أن إضعاف السلطة الحالية أو السعي إلى إفشالها إنما هو سعيٌ ممنهج لذهاب البلاد إلى حرب داخلية طاحنة لن تنتهي إلّا بتقسيم سورية.

2 – على الرغم من تأكيد السلطة على مفهوم (السلم الأهلي) كضرورة لا بدّ منها، باعتبارها المدخل المُؤسس لدولة المواطنة، فإن مقوّمات هذا المفهوم والإجراءات والسبل المؤدية إليه كانت غائبة، أعني المسار القضائي المتمثل بـ (العدالة الانتقالية) التي بدونها سوف يبقى الحديث عن السلم الأهلي ضربًا من العبث، ولعل المؤسف أن مجمل البدائل التي اعتمدت عليها السلطة، كالمساعي التي قام بها بعض رجال الدين والجولات التي بادرت بها بعض المنظمات وكذلك حديث الإعلام عن مبادئ الأخوّة والتسامح والإرث الاجتماعي المشترك، جميعها لم تستطع الصمود أمام السعير المنبعث من وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كانت ميدانًا رحبًا لجميع النافخين في كير الفتنة، وبهذا تكون السلطة لا تفتقر إلى الرغبة في تجاوز الأزمة الطائفية، بل تفتقر إلى مقوّمات تجاوزها.

3 – إفراغ الاستحقاقات الوطنية من مضمونها الجوهري: ولعل من أبرز تلك الاستحقاقات المؤتمر الوطني، الذي كان من المفترض أن يكون مؤتمرًا تأسيسيًا تسبق انعقاده حالة من الحوار تشرف عليه السلطة ولا يستثني أي مكون أو أي طائفة، يجري بشفافية تتيح للجميع أن يفصحوا عن أوجاعهم وتطلعاتهم، وكان من شأن حوار كهذا على مدى (ستة أشهر مثلًا) أن يُفضي إلى جملة من التفاهمات، يمكنها أن تبني جسورًا من الثقة بين السوريين كما يمكنها أن تؤسس لعقد اجتماعي سوري ربّما يحول دون كثير ممّا نراه من شروخ في الرأي والمواقف. ولكن المؤسف أن هذا الاستحقاق الذي انتظره السوريون جرى التحضير له والدعوة إليه بسرعة البرق، وانعقد على مدى يومين (24 – 25 شباط الماضي)، واكتفت السلطة باستثماره كمنجز يمكن تصديره للرأي العام الخارجي فحسب.

4 – لقد أسهم البؤس المعيشي والحياتي المزمن في تأجيج حمأة الصراع، ذلك أن الحرمان الذي يعانيه السوريون، سواء على مستوى الحاجات الأساسية أو على مستوى الخدمات منذ سنوات، قد زوّد جميع الأطراف بشحنة عالية من التوتر القابل للاشتعال، ولا سيما أنه تزامن مع تسريح لأعداد كبيرة من الموظفين، إضافة إلى عدم قدرة السلطة على سداد رواتب الموظفين الآخرين، فضلًا عن شح مصادر الدخل وانتشار حالة البطالة.

النخب السورية والمسألة الطائفية:

غالبًا ما يميل المثقفون إلى تأصيل أطروحاتهم وآرائهم السياسية، من خلال ربطها أو إرجاعها إلى جذورها الفكرية، وتلك سمة حميدة من جهة الرصانة المنهجية في البحث والتفكير، لكن شريطة ألّا تكون هذه الرصانة محصورةً في الجانب النظري للظواهر والأفكار فحسب، بل ينبغي أن تكون قرينة الوقائع منبثقةً من سياقاتها الحياتية والاجتماعية أيضًا، إذ إن الأفكار المجرّدة مهما اكتست من قيمة، فإنها تفقد جزءًا كبيرًا من مصداقيتها متى فقدت أواصرها بالواقع، ولعل هذا الشطط الكبير بين ما هو مجرّد، وواقعي محسوس، هو الذي دفع كثيرين من النخب السورية إلى بناء مقارباتهم في مواجهة المسألة الطائفية على أطروحة مركزية (قديمة جديدة)، وأعني العودة إلى الدين باعتباره مصدرًا لمفهوم الطوائف، وبالتالي لا تستقيم مواجهة النزعات الطائفية المشتعلة دون الرجوع إلى جذورها الدينية، وتقصّي تداعياتها عبر التاريخ. ولعله من غير المستغرب في هذه الحالة أن نجد المعارك تتجدّد حول معظم الأحداث التاريخية (صراع علي ومعاوية، ومسؤولية يزيد عن مقتل الحسين، مرورًا بفتاوى ابن تيمية وكتاب الملل والنحل وسوى ذلك كثير)، ويغدو الوصول إلى أي حل للمسألة الطائفية في الوقت الراهن مرهونًا بحلّها عبر التاريخ، وهذا ضربٌ من المستحيل، وما هو مستحيل أيضًا هو أن تتجرّد الناس من انتماءاتها الدينية والطائفية أيضًا، وحين يصطدم أصحاب هذا المنحى بالإخفاق، يلجؤون إلى خطابهم المعهود بالتعالي على المجتمع واتهامه بالتديّن والسذاجة وندرة الوعي، ويكون اتهامهم للدين، بأنه مصدر المعوقات المستعصية على الحل، هو مخرجهم الوحيد من إخفاقهم في عقلنة الأزمة.

وإذا صحّ أن مفهوم (الطائفة) ذو منشأ ديني بالأصل، فإن الانتماءات الدينية والمذهبية كهويات (فرعية) تبقى شأنًا خاصًا لا يغادر خصوصيات الأفراد وحرياتهم العقدية، ما دامت لا تُطرح كبديل عن الهوية (الوطنية)، ولكنها تتسيّد أو تتصدّر الهويات الفرعية حين يغيب المشروع الوطني الجامع، وتغيب الدولة، فتصبح الطائفة بديلًا عن الحزب السياسي، ويصبح حينها الولاء الطائفي بديلًا عن المعايير المهنية الأخرى. ولنا في الحقبة الأسدية من تاريخ سورية دليلٌ شديد النصاعة، إذ إن الحضور الطائفي في نظام الأسد كان بديلًا عن الدور الحقيقي لمؤسسات الدولة، فالذين حافظوا على نظام حافظ الأسد من السقوط، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص كانوا يمسكون بمفاصل القوّة في الدولة: (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، المخابرات والأفرع الأمنية، وقادة الفرق المتميّزة في الجيش)، وكلهم من الطائفة العلوية، فهؤلاء هم من اعتمد عليهم رأس النظام في الدفاع عن سلطته، وليس مجلس الوزراء أو مجلس الشعب أو الدستور أو المؤسسات الأخرى، بل إن تطييف السلطة هو من جعل بقية مؤسسات الدولة لا تحظى إلّا بدور وظيفي شكلي. ثم إن الذي دافع عن سلطة الوريث بشار طيلة سنوات المواجهة هي الميليشيات الطائفية التي تخضع لتوجيه ضباط إيرانيين كان دورهم ونفوذهم الميداني يفوق دور ونفوذ كثير من الضباط السوريين، ووجدنا أن انكفاء دور الميليشيات الطائفية في سورية، نتيجة الضربات الإسرائيلية الموجعة لحزب الله في لبنان، كان له دور واضح في فقدان نظام الأسد لأحد أهم مصادر قوته.

وبالتالي فإن المقاربة الدينية المجرّدة للمسالة الطائفية دون الوقوف عند أبعادها السياسية لا تُنتِج إلّا المقولات ذاتها، ونعني بالبعد السياسي عملية الاستثمار في الطائفة، كبديل عن الدولة، وحين تخفق عملية الاستثمار السياسي في الطائفة، فإن مجمل المقولات الجاهزة (ذات المنشأ الاستشراقي) تغدو فاقدة لأي مصداقية، ولنا في الحالة السورية أكثر من شاهد على ذلك، إذ إن (تنظيم داعش) منبثق من الطائفة السنية، ومن المفترض -وفقًا لأصحاب المقاربات الدينية المجردة- أن يدافع عن مصالح الطائفة السنية، ويعبّر عن تطلعاتها باعتبارها حاضنته الدينية، ولكن واقع الحال يؤكّد أن الطائفة المستهدَفة من داعش -قتلًا وتنكيلًا وتهجيرًا- هي الطائفة السنية دون سواها من الطوائف الأخرى في سورية، إذ إن مقاتلي داعش لم يهاجموا العلويين ولا الإسماعيليين ولا المسيحيين، ولا الدروز (باستثناء عملية واحدة في العام 2018 حين قام نظام الأسد بنقل عناصر داعش من حي الحجر الأسود في دمشق، وألقى بهم على أطراف السويداء، عقابًا لأهلها بسبب عدم السماح لأبنائهم القتال في صفوف قوات الأسد)، بينما نجد أن معظم عمليات قطع الرؤوس والمقابر الجماعية والذبح بالسيوف والسكاكين كانت في الرقة ومنبج ودير الزور وإعزاز وجرابلس وبقية المدن والبلدات التي خضعت لسيطرته.

إن إصرار النخب على مقارباتها الدينية المجرّدة من سياقاتها السياسية، ولجوئها في الغالب إلى تدعيم مواقفها بسرديات انتقائية، إنما يحيل دومًا للعودة إلى نقطة الصفر، أعني إلى الفكرة المركزية التي طرحها (أرنست رينان 1832 – 1892)، والتي ترى في الأديان عمومًا، والدين الإسلامي على وجه الخصوص، أحد العوائق البنيوية التي تجعل منه معيقًا لحركة التطور والحضارة، بل أحد عوائق التفكير الصحيح، ولعل معظم الأصوات التي لا ترى في المسألة الطائفية سوى بعدها الديني ما تزال تتزوّد من أطروحة رينان السابقة.

نحو سبل أخرى لمواجهة المسالة الطائفية:

حتى لا يمضي الحديث في سياق من (الرغبوية) الفجة، لا بدّ من الانطلاق مما هو مُتاح وممكن، أي ما هو مقدور عليه من جانب الدولة القائمة، من جهة إمكانياتها البشرية والمادية، وبما تتيحه الظروف العامة في البلاد، وبناء عليه يمكن الإشارة إلى ثلاثة مسارات، يمكن العمل عليها بطريقة متوازية:

1 – مسار سياسي يتمثّل بالعودة إلى تأسيس بداية فعلية لعملية حوار وطني شامل، تشرف عليه الحكومة ولا يُستثنى منه أحد، وذلك وفق معايير مهنية بعيدة عن الولاءات الأيديولوجية أو السياسية، فما يحتاج إليه السوريون أكثر من أي وقت مضى هو بناء وتعزيز جسور الثقة فيما بينهم، والإفصاح بكل وضوح وشفافية عمّا يمكن أن يتوافق عليه السوريون، ليسهموا في إنتاج دولتهم التي تلبي مصالح مواطنيها قبل سعيها لإرضاء الخارج الإقليمي او الدولي.

2 – مسار قانوني يبدأ بإعادة هيكلة أجهزة القضاء في الدولة، ويعيد الاعتبار لسلطة الدستور وما تنبثق عنه من قوانين، ليتاح لهذا المسار دعم الهيئة التي تشكلت بخصوص العدالة الانتقالية، وتوفير كل أشكال الدعم لتمكينها من إنجاز مهمتها بنجاح، إذ لا يستقيم الحديث عن تحقيق السلم الأهلي، دون أن يمرّ من بوابة العدالة الانتقالية.

3 – مسار اقتصادي يأخذ بعين الاعتبار أن كفاية المواطن وتلبية حاجاته الأساسية هي الشرط الملازم لتفكيره وسلوكه القويم، إذ لا يمكن للإنسان المأزوم أن يتجاوز أزمته إلّا بتجاوز أسبابها، ولعل القرارات التي صدرت مؤخرًا بخصوص رفع العقوبات عن سورية، سواء من الجانب الأميركي أو الأوروبي، تتيح للدولة السورية أن تتوجه إلى المواطن السوري قبل أي طرف آخر، إذْ من العسير التفكير في استقرار البلاد أمنيًا بعيدًا عن الاستقرار الاقتصادي، وهذا بحاجة -قبل أي شيء- إلى ركون المواطن إلى حالة من الاطمئنان والرضى، حول العديد من المسائل التي تخص معيشته ومستقبله، لعل أبرزها التوزيع العادل للثروة، وترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص، وتلبية حقوق المواطنين في العمل بكرامة، الأمر الذي يتيح للمرء التفكير خارج إطار الفاقة، حيث إن التفكير بحريّة وبعيدًا عن المخاطر الوجودية هو ما يمنح المرء شعوره بالكرامة، وهذا ما يحتاج إليه السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى.

تحميل الموضوع

مركز حرمون

——————————-

مقاربة سورية للتعامل مع العلويين: العقل بمواجهة الانتقام

الخميس 2025/06/12

شاركت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية، هند قبوات، منشوراً للإعلامي السوري المعارض توفيق الحلاق عبر صفحتها الشخصية، أرفقته بتعليق مقتضب قالت فيه: “الحمد لله على وجود صوت العقل”.

وحظي منشور الحلاق وقبوات بتفاعل واسع، لا سيما في لحظة سياسية واجتماعية شديدة التوتر، جاءت عقب مجازر الساحل التي وقعت في آذار الماضي، وما تلاها من حالات عنف انتقامي استهدفت أفراداً من الطائفة العلوية، الأمر الذي أعاد إلى الواجهة أسئلة معقدة حول العلاقة بين الطائفة والنظام، وسبل تحقيق العدالة من دون الوقوع في فخ التصفية الجماعية أو الخطاب التحريضي.

الحلاق: أسمّيهم أسديين رغم كل ما جرى

في منشوره، استعرض الحلاق سلسلة من الانتهاكات التي تعرّض لها وأفراد من عائلته، قال إن مرتكبيها كانوا من أبناء الطائفة العلوية:

“أوقف برامجي العلويون، وهددني بالقتل شبيح علوي، واستولى على بيتي ضابط علوي، وحرق بيت ابنتي علويون، ودمّر بيوت أخواتي في حرستا والقدم علويون، واستشهد ابن أختي الطبيب تحت التعذيب بأحذية علويين، وطُردت أخواتي وأبناؤهن وأحفادهن من بيتي إلى الشارع بواسطة شبيحة علويين”.

لكن رغم هذه التجربة الشخصية المؤلمة، شدد الحلاق على رفضه التعميم الطائفي، وكتب: “مع كل ذلك، أسميهم وأنا في كامل قواي العقلية: أسديون، لأني مؤمن أن الطائفة والقومية لا علاقة لهما بالانتماء السياسي. هناك من السنة والمسيحيين والدروز والأكراد والأرمن والشركس من مارس أبشع الجرائم، وهناك من كان مع الثورة ولا يزال قوياً مقاوماً بطلاً. فكيف أعمم على الكل؟ هذا الأمر خارج المنطق، وقاتل لمستقبل البلد”.

تفاعل واسع ورسائل متعددة

ولاقى المنشور صدىً كبيراً في مواقع التواصل الاجتماعي، وتداوله ناشطون وحقوقيون بوصفه خطاباً نادراً في لحظة غضب عامة، مؤكدين أن ما قاله الحلاق يعكس إدراكاً عميقاً لخطر الانزلاق نحو الانتقام الجماعي. وكتب أحدهم: “النظام الأسدي النازي لا دين له”، فيما أعاد آخرون نشر كلمات الحلاق تحت وسم #لا_للثأر، في تعبير واضح عن رغبة شريحة واسعة من السوريين في فصل الحساب مع النظام عن الهويات الطائفية أو الجغرافية.

من هو توفيق الحلاق؟

توفيق الحلاق إعلامي سوري معروف، بدأ مسيرته في التلفزيون الرسمي منذ السبعينات، وقدم برامج اجتماعية وثقافية مثل “السالب والموجب”، وكان من أبرز الأصوات النقدية داخل المؤسسة الرسمية. انحاز منذ بداية الثورة إلى مطالب التغيير، وانتقل لاحقاً إلى صفوف المعارضة بشكل علني.

غادر سوريا بعد تعرضه للتهديد والمضايقات، واستولى ضابط في النظام على منزله في دمشق، بينما تعرّضت أسرته للتهجير، واستقر لاحقاً في الولايات المتحدة، حيث أسس منصة إعلامية في “يوتيوب” يواصل عبرها نشاطه السياسي والإعلامي، ملتزماً بخطاب ثوري ووطني يرفض الطائفية ويركز على المحاسبة الفردية.

الحكومة تتدخل

وكانت الحكومة الانتقالية قد اتخذت سلسلة إجراءات احترازية لمواجه تصاعد التوتر الطائفي، أبرزها بيان أصدره مفتي الجمهورية، الشيخ أسامة الرفاعي، حرّم فيه صراحة أي شكل من أشكال الثأر على أساس طائفي، مشدداً على أن العدالة لا تتحقق بالانتقام، بل عبر القانون وضمان الحقوق الفردية.

كما جرى تشكيل لجنة حكومية لرصد خطاب الكراهية ومتابعة الصفحات التي تروج للتحريض، سواء في الإعلام أو منصات التواصل، بالإضافة إلى تأسيس لجنة السلم الأهلي، وشملت الإجراءات أيضاً توجيهات صادرة عن رئاسة الحكومة للتهدئة، وإطلاق مبادرات مجتمعية في المناطق المختلطة، وتشجيع بيانات المصالحة المحلية الرافضة للتعميم والطائفية، والمتمسكة بفكرة العدالة لا الثأر.

تفكيك إرث الطائفية… بداية لعدالة جديدة

المنشور الذي كتبه توفيق الحلاق، والتفاعل الواسع الذي حظي به، لا يعكسان فقط موقفاً شخصياً أو لحظة وجدانية، بل يفتحان باباً ضرورياً لنقاش أشمل حول طبيعة العدالة في مرحلة ما بعد الأسد. فالتفريق بين “الأسدي” و”العلوي” ليس مجرد ترف لغوي، بل أداة أساسية لتفكيك إرث النظام، الذي بنى شرعيته على حصر الدولة بطائفة، وتقديمها كدرع حماية لجرائمه، فالعدالة الحقيقية لن تُبنى على الهوية الطائفية، بل على المحاسبة الفردية وكشف الحقيقة. وما قاله الحلاق، ودعمته فيه وزيرة الشؤون الاجتماعية، هو جزء من مسار وطني جديد، يرفض أن تكون طائفة كاملة رهينة خطاب الكراهية أو ضحية انتقام سياسي.

المدن

————————————

 السياسة بوصفها أداة تغيير/ حسان الأسود

2025.06.12

لكنّ الهُوية في بعض معانيها تشمل التضامن المجتمعي، إذ علينا أن نحمي بعضنا من استفراد مجموعة ما بالسلطة. وإذا كانت الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لمنع الاستبداد وللمشاركة في الفضاء العام، إلا أنها لا تعني وحدها أننا أصبحنا سياسيين، بل يجب أن تتوفر شروط معينة حتى يصبح المواطن كائنًا سياسيًا

من أنا؟ من نحن؟ من هم؟ أسئلة تتردد في صدور السوريين منذ أربعة عشر عامًا، وخلال الشهور الستة المنقضية من تاريخ التحرر تكاثرت الإجابات على هذه الأسئلة. حتى يجيب الإنسان عن سؤال الهُوية يمكنه أن يسلُك طرقًا كثيرة، لكنّها غالبًا ما تنطلق من رسم الحدود أو أن تصل إليها. الهُويّة وصفٌ، والوصف تحديدٌ، والتحديد قيدٌ، والقيدُ ضدّ الحرية! فكيف نصلُ إلى هُويتنا دون أن نتخلى عن الحريّة إذن؟ إنّه سؤال يجيب عنه الواقع، فكلّما كانت آفاقُ الحوار واسعةً، وكلما كان القبول بالرأي ومقابله ممكنًا، كانت النتائج دالّة على مضمون الهُويّة دون قيدها الكامن في تعريفها. هذا هو بالضبط عمل السياسة، التي هي الآلية الوحيدة التي أبدعها البشر لحماية أنفسهم احتكار مجموعة منهم السلطة أو الحقيقة أو المعرفة. السياسة حسب تعريف وزيرة الثقافة الجزائرية السابقة د. مليكة بن داودة، هي: “ما يسمح لنا بتنظيم العيش المشترك ولا يوجد أي اختراع آخر لتنظيمها، هي ما يصالحنا مع تنوّعنا”.

يقول المفكر الإسلامي الباكستاني محمد إقبال في إحدى قصائده: “سألني ربّي هل ناسبك هذا العصر وانسجم مع عقيدتك؟ قلتُ لا يا ربي، فقال لي: حطّمه ولا تبالي”. فهل هذا بمتناولنا جميعًا، وهل يمكننا أن نحطّم قيودنا التي لا تتوافق وفطرتنا الإنسانية؟ وهل يمكننا أن نصل إلى هُويتنا وحريتنا معًا بعد أن حطّمنا واقعنا القهري الذي حنّطه الاستبداد قَدرًا شاخصًا أمامنا؟ هل يمكننا أن ننظر إلى المستقبل وأن نعيش الحاضر قبل أن نجيب على أسئلة الهويّة المطروحة؟ الإجابة البسيطة والمباشرة هي: نعم، نستطيع. لكنّ التفاصيل تأتي بمعرفة الكيفية، وهذه الأخيرة تجيب عنها السياسة التي هي فعلٌ (Action) حسب تعبير حنّا أرندت. الناس التي تفعل، أي التي تعمل بالسياسة هي التي تقوم بترتيب البيت المشترك للوجود بشكل هادئ متعايش سلمي في العالم. أمّا الناس المنشغلون بقوت يومهم فهم لا يجدون الوقت للفعل، أي للسياسة. فقط الذين يفعلون هم الذين يجعلون العالم سياسيًا، ليس بالمعنى الحكوماتي الإداري، بل بمعنى الوجود السياسي وفق المفهوم الأرسطي. وحسب حنا أرندت يجب أن يكون كل فرد سياسيًا، وهو الضمانة لئلا يستفرد أحدٌ بالسلطة ويستبد بها فيقع الظلم والتجاوز للحريات. وحتى عندما يكون الفرد ضمن مجموعٍ معبّرٍ عنه بالأحزاب والاتحادات والنقابات، فإنّ ذلك لا يكفي وحده لتحوّل الفرد إلى فاعلٍ سياسي، فيجب أن يكون كل فرد واعيًا بما يكفي بموقعه في بلده ومحيطه وفي العالم أيضًا. هذا هو التحطيم الذي عناه محمد إقبال في قصيدته، تحطيم الثابت، وكسر القيود، والقفز في مغامرة العقل من قيود الهُويّة المحدّدة إلى فضاء الحرية المطلقة.

لكنّ الهُوية في بعض معانيها تشمل التضامن المجتمعي، إذ علينا أن نحمي بعضنا من استفراد مجموعة ما بالسلطة. وإذا كانت الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لمنع الاستبداد وللمشاركة في الفضاء العام، إلا أنها لا تعني وحدها أننا أصبحنا سياسيين، بل يجب أن تتوفر شروط معينة حتى يصبح المواطن كائنًا سياسيًا، أي ألا يكون منشغلًا بهموم الحياة اليومية، بحيث لا تكون أعباؤها ثقيلة عليه فلا يكون عنده متسع من الوقت أو حيز من الوقت للتفكير بالشأن العام. الأحرار فقط هم الكائنات السياسية، لكنّ الإنسان المكبّل بالمشاكل اليومية للأكل والشرب فهو لا يمكن أن يكون كذلك. لهذا سماهم أرسطو بالعبيد، ليس من باب التمييز العنصري، بل من باب أنّهم يكونون في العمل، ولكن ليس في الفعل. إذن الشرطية الأولى للحرية هي توفر مقومات الحياة الكريمة حتى يكون لدينا حرية وفعل سياسي، وحتى نصبح كائنات سياسية. وإذا كان المواطنون الأوروبيون، بالمعنى الأرسطي الذي تتكلم عنه حنا أرندت، ليسوا أحرارًا، لأنهم باتوا مواطنين مستهلكين لا يبحثون إلا عن متع الحياة الشخصية، عن المزيد من السفر والمساحة الشخصية، فما هو حالنا نحن الذين لم نحقق الطبقة الثانية بعدُ على هرم ماسلو، أي أننا لم نتخطَّ بعدُ حاجز الاحتياجات الفيزيولوجية والنفسية، لنصل إلى تحقيق الحاجات الثقافية للإنسان، أي الهُوية والانتماء!؟

فإذا ما كانت الهُوية تتحدد بفعل الثقافة، وإذا ما كان المتحكّم بالأخيرة، في حالات التعصّب القومي والصراعات المسلحة وعدم الاستقرار كما في بلادنا، هو صنم التوحش الذي يُقصي من اعتباره وجود ثقافات أخرى، فإننا سنجد أنفسنا دائمًا في الدائرة ذاتها من الانعزال والتقوقع. لقد بنينا أسوارًا عالية بيننا في بقعتنا الجغرافية المحدودة، وبدل أن يصبح الوطنُ بستانًا يزخر بالتنوّع، صار غابة يخشى فيها كلٌ منا الآخر. الحدود التي كبرت واتسعت لتسوّر هُوياتنا الفرعية خلال الصراع المحتدم، هي ذاتها التي أصبحت سدًا يمنعنا من التفكير خارج الصندوق ومن السباحة خارج التيار. لم نمتلك شجاعة الوقوف ضد المألوف، بل وضد ذواتنا لنقترب من الآخرين المختلفين عنّا، وهذا كان المدخل الذي أسعف الديكتاتور لينفذ منه إلى عقولنا وقلوبنا، فيحطمها ويستلبها ويمسح منها كل صفات التضامن الإنساني التي هي شرط السياسة الأول. أصبحت مجتمعاتُنا صحراءَ قاحلة، لأننا أُجبرنا على الانكفاء، ولأننا أُكرهنا على النظر إلى داخلنا باحتقار العبيد، فصار الآخر انعكاسًا لنا في مرآة الحياة اليومية، ولهذا صار عدوًا بدل أن يكون شريكًا في النضال من أجل بناء الوطن والهُويّة والمستقبل.

الخطوة الأولى لبناء الهويّة إذن هي إصلاح التربة التي تنبت فيها الثقافة، أي نبذ التعصّب والسطحية، فالثقافة في النهاية ليست جزءًا من الترفيه، فهي ليست مهرجاناتٍ ولا معارضَ ولا خطبًا حماسية، وهي ليست سلاحًا نحارب به الآخرين، بل هي شجرةٌ كلّما كبرت فإنّ ثمارها يمكن أن تسقط على الجيران، وهذا من فضل الله علينا، لأنّه سيجمعنا مع المحيطين بنا فيساهم في تذليل الصعوبات وجعل الخصوصيات التي تميزنا وتميز غيرنا عنّا قيمة نوعية محتفى بها لأنها تدلّ على التنوّع، لا حجر عثرة في طريق عيشنا المشترك. الثقافة بهذا المعنى هي ما يصالح الفرد مع كينونته وهويته مع تاريخه، هي ما يجعله مدركًا للتنوّع في بيئته ومجتمعه.

لكن بالمقابل، هل تتوفر هذه الشروط كلها في بلادنا التي ترزح تحت خطّ الفقر والفاقة الآن، وكيف لمن لا يجد قوت يومه أن يفكر بالثقافة والهُويّة وما بينهما؟ هل يمكن لهذا المواطن السوري أن يتحوّل من كونه كائنًا لا “سياسي”، بل ومعاديًا للسياسة بسبب انشغالاته اليومية التي تستنزفه، ليصبح النقيض فيدافع عن حقوقه وليمارس السياسة إذا ما شعر بالخطر؟ هل يمكنه أن يفعل مثل الفرنسيين الذين هبّوا واتّحدوا في وجه اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة حين تكاتفوا لإزاحة خطر ماري لوبين؟ لا نعرف هذا بيقينٍ مطلق، فالشهور الستة الأولى تبقى بكل الأحوال فترة قصيرة جدًا للحكم على الناس وردود أفعالهم، فنحن جميعًا ما زلنا نعيش صدمة ما بعد التحرر، ثم أتتنا صدمات أخرى مثل الذي حصل في الساحل وفي بعض مدن الجنوب وسوء التعامل مع ملف العدالة الانتقالية وغيره. لكن علينا بكل الأحوال أن نسارع للسياسة باعتبارها أداة التغيير الوحيدة الممكنة أمامنا، علّنا ننجو معًا من هذه المحنة.

تلفزيون سوريا

————————————-

 خدعة التشابه بين نظام الأسد وما بعده/ مالك داغستاني

2025.06.12

الثورات لا تأتي بأنظمة كاملة، بل تفتح باب الاحتمالات. وسقوط الأسد لم يكن نصراً لأنه سيجلب المدينة الفاضلة، بل لأنه أزاح أسوأ كابوس عرفته سوريا في تاريخها. الفارق بين من يحكم الآن، بكل ما فيه من إخفاق، وبين الأسد، هو كالفارق بين سفينة تتخبط هنا وهناك بسبب نقص الخبرة ومحاولة الاستئثار، وسفينة يقودها قبطان مجرم يتعمد صدمها بالجبل الجليدي وهو يتهيأ للقفز منها.

نعم، كانت لدينا أحلام مختلفة عن سوريا القادمة، لكن خلال 14 عاماً من قصف الكيماوي والسكود والبراميل، ومحو قرى وبلدات كاملة عن وجه الأرض، مع مئات آلاف المفقودين والقتلى تحت التعذيب، وأكثر منهم من الشهداء المدنيين، وملايين المهجرين واللاجئين في بقاع العالم، بعد أحداث استثنائية كهذه، وبعد التحولات في مسار الثورة، انخفضت سقوف أحلامنا. خفّضتها جرائم الأسد لتتمحور حول الخلاص من “دراكولا”. نعم هكذا ببساطة، أصبح سقوط الأسد أهم إنجاز في تاريخ سوريا المعاصر. الإنجاز الذي لم يشعر به بعض السوريين! منهم معارضون سابقون للأسف.

لأن المفاضلة الحقيقية اليوم مضحكة وركيكة، يقارن بعض هؤلاء بين الأسد وحكام سوريا الجدد بناء على ما سوف يؤول إليه حال سوريا قريباً في غفلة من الناس، حيث يرى هؤلاء الغيب الأسود القادم. بل ويتوجهون باللوم لمن يعقد المقارنات الواقعية بين ما يجري اليوم من جرائم وانتهاكات وبين ما شهدته سوريا الأسد. يرفضون تلك المقارنة ليحدّوا من إمكانية اكتشاف الفوارق الهائلة. أكثر من ذلك، يضعون للآخرين حدوداً أخلاقية، محاولين تأنيبهم وتعليمهم أن هذا معيب، وأن الجريمة هي جريمة مهما كانت، وأن العلّة في النوع وليس في الكم.

يتعامون عن الفروقات بين الزمن السوري قبل سقوط الأسد وعما بعده، ليقولوا أن شيئاً لم يختلف، وفي طريقهم إلى ذلك ينشرون الأخبار الصحيحة وغير الصحيحة، وأحياناً يفتّشون في قمامة الأخبار. إن عدم رؤية الفارق في الزمن السوري اليوم هو تعامٍ غير بريء وله دلالات أخلاقية لن تكون بصالح هؤلاء. يصرح مسؤولون اليوم بأنه لم يعد هناك أي معامل للكبتاغون في مناطق سيطرة الحكومة، فلا ينتبه هؤلاء إلى أن سوريا تتحول إلى بلد نظيف من هذه الآفة الفظيعة، بينما اشتهرت خلال السنوات الماضية بأنها أهم مصدر عالمي لتصنيع وتوريد الكبتاغون، وهذا مثال بسيط.

إن عدم الخوض عميقاً في جرائم حقبة الأسد، هو نوع من الخيانة الوطنية التاريخية. طبعاً هذا لا ينفي ولا يلغي الخوض في الجرائم الحالية وتعريتها والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها. بطبيعة الحال لن أعدد هنا ما حدَّدَ طبيعة حكم المافيا في حقبة الأسد، فقد فعل ذلك العالم أجمع مع سقوطه واكتشاف السجون وصور المعتقلين من الرجال والنساء وحتى الأطفال، وقد بدأت هيئات محلية ودولية بالبحث عن المقابر الجماعية التي ابتلعت مئات آلاف السوريين. واكتشف العالم أن الأسد ترك (دولة) مدمّرة بالكامل، عمراناً واقتصاداً وروحاً. للدرجة التي لا يمكن التخيّل معها أن يفعل ذلك بسوريا أعدى أعدائها.

هل يمكن أن هؤلاء لم يروا حجم الجريمة كما نراها، فكانوا يبتلعونها على أنها واردة، فيصبح الأمر سيان لديهم ما قبل وبعد سقوط الأسد؟ هل غاب عن هؤلاء رؤية جوع الناس، والقلّة التي يعيشون بها؟ ألم يروا الحراشف التي نمَت على جلود السوريين، حسب تعبير أحد الأصدقاء، وهم يجاهدون ليبقوا على قيد الحياة بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام أحياناً، في ظلّ فضائل حواجز الفرقة الرابعة ومؤسسات السيدة الأولى الإنمائية؟ ألم يخبرهم كل ذلك أن رحيل نظام الأسد هو أولى الأولويات وهو أعظم إنجاز؟

مشكلة هذا الخطاب ليست فقط في ظلمه للواقع الجديد (شخصياً لا يهمني هذا النوع من الظلم)، بل في تشويهه لمفهوم العدالة نفسه. حين نساوي بين من ارتكب المجازر، وأقام أقبية التعذيب الجماعي على مدى نصف قرن، وبين إدارة ما بعد التحرير، بكل ما فيها من ارتباك أو أخطاء أو حتى تجاوزات، هي لا شك جرائم تتحمل مسؤوليتها. هذا ليس فقط توصيف غير موضوعي، بل محاولة لغسل يد الجلاد من دماء ضحاياه، وإدانة لضحاياه الفرحين لأنهم تاهوا لفترة بعد خروجهم من سجنه.

السوريون لم يسقطوا نظاماً عادياً انحرف قليلاً عن القيم المألوفة، بل تخلّصوا من الوحش. تخلصوا من سلطة أمنية شموليّة، نشأت على نسخة هجينة من الفاشية البعثية، وتحولت خلال عقود إلى نظام عائلي طائفي يقوم على الولاء لا الكفاءة، وعلى الرعب لا القانون، وعلى سرقة وتهريب الأموال للخارج. كل من درس تاريخ سوريا يعرف أن حافظ الأسد لم يؤسس دولة، بل أقام جهاز حكم يُشبه “الغيتو الأمني”، ووَرّثه لابنه كمزرعة. في المقابل، سوريا ما بعد الأسد ما زالت في طور التأسيس. ارتُكبت أخطاء.. نعم. تورط بعض الفاعلين الجدد في فساد أو استبداد.. نعم. لكن أن يُقارَن هذا بآلة القتل الإجرامي التي رسّخها الأسد، فذلك انحدار أخلاقي خطير في تحليل الوقائع.

قلب الحقائق هي وقاحة لدى من يساوون بين ما فعله الأسد بسوريا مع نظام ناشئ متعثر لم تتح له الفرصة بعد لإعادة بناء الدولة. سيقول البعض إن الاستئثار بمراكز السلطة ومختلف الارتكابات تشي بما يمكن أن تكون عليه الدولة القادمة. نعم، لا شك أن هناك خشية، لكن كل ذلك ليس خارج إطار التوقعات، بأن سوريا لن تكون “سويسرا الشرق” كما نوَّهتُ في مقالة لي قبل التحرير بأيام، والجميع يعلم أن الأمر لن يكون سورياً خالصاً، بل هو نتاج تفاهمات دولية إقليمية محلّية. وأن الدولة الديموقراطية ما زالت بعيدة المنال، وتحتاج النضال من أجلها.

أثناء محاكمة سلوبودان ميلوشيفيتش أمام محكمة لاهاي، دافع عن نفسه قائلاً إنه “يحمي الصرب من التطرف الإسلامي”. وهذا لا يختلف في شيء عن خطاب الأسد الذي سوّق حربه على السوريين بأنها “حرب على الإرهاب”. اليوم، من يساوي بين النظامين بسبب الخوف من الإسلاميين، يعيد إنتاج ظلم تاريخي. وهو إما أنه لم يعرف سجون الأسد، أو نسي مشاهد التعذيب وصور قيصر وأطفال الكيماوي، أو قرَّر طي صفحة الحقيقة.

النظام لم يكن مجرماً بنظر السوريين لأنه طائفي، أو أن رأسه من طائفة معينة (بنظر البعض نعم). وقصة سنّي علوي في هذا الصدد هي شبه حيادية، في حين لو احتكمنا إلى المقاييس الدولية للحكم عليه. نظام الأسد مجرم حسب (النورم) العالمي. آسف للمزاح في هذا المقام، لكن حتى لو جاء “عبَدة ذيول الفئران” فإنهم سوف يصنفونه على أنه من أعتى الأنظمة الإجرامية التي مرت في تارخ العالم.

في كل لحظة من لحظات سوريا الجديدة، التي تتلمّس طريقها بين الأنقاض، تبرز هذه الأصوات التي تصرّ على نزع المعنى عن كل ما جرى. نظام الأسد كان منظومة حكم كاملة لا تقبل الإصلاح، تنكر المجتمع، وتختزل الدولة في شخص العائلة الحاكمة. لم تكن هناك حياة سياسية، ولا مجتمع مدني، ولا صحافة، ولا أي شكل من أشكال الرقابة. كان كل شيء في خدمة البقاء بالسلطة، ولو على أشلاء الجائعين. أما النظام الحالي، على ما فيه من عثرات واضحة، فهو على الأقل نتاج عملية تغيير، وليس استمراراً لما قبله. يمكن انتقاده، محاسبته، إعادة تشكيله، ويمكن تغييره عبر العمل السياسي المتاح اليوم.

المقارنة اليوم، هي بين الاستبداد والإجرام المطلق وبين الاحتمالات الناشئة وصيرورتها. أو لأقلها بوضوح أكبر، سوريا لم تربح كل شيء، لكنها ربحت ما لا يمكن تعويضه لاحقاً لو أنه فاتها الآن. لقد تخلصت من الجلاد، وهذا، في منطق التاريخ، بداية النصر الحقيقي. لأن بقاء الأسد كان يعني استمرار موت السياسة، وترسيخ الرعب كأداة حكم، وقتل أي أفق مستقبلي. أما اليوم، فمهما كانت التحديات، ثمة مساحة ممكنة لمشاركة السوريين بصنع مستقبل بلدهم. من الطبيعي ألا يكون ما بعد الاستبداد مثالياً، بل بشريّاً ومربكاً. لكن من العار أن نساوي بين سجنٍ خرجنا منه، ومنزل لم يُرتَّب بعد.

أكتب هذه المادة، وأنا أفكر بوجوه كثيرة عرفتها في دروب الحياة، بعضها قضى زهرة عمره في زنازين الأسد. وأعلم أن كثيرين منهم لا يرون في المشهد الحالي ما يستحق التفاؤل، ويشعرون بالخوف من أن تتحول السلطة الناشئة إلى استبداد آخر. سلطة بلحيةٍ هذه المرّة، لا ببزّةٍ عسكرية ونسرٍ ذهبي. أفهم ذلك الخوف، ولا يغيب عن ذهني. لكن أن يتحوّل الخوف إلى عداء مُطلق ومُصمَت، أو إلى مساواة بين سلطة سحقت أجسادنا وأخرى لا تزال تتعثر في أولى خطواتها، فهذه قسوة على الحقيقة، بل وظلمٌ للذات أيضاً.

تعلمون مثلي أن نظام المواطنة والدولة المدنية الديموقراطية التي نحلم بها ليست على مرمى انتخابات. ولا يمكن أن يُفرض هكذا نظام قسراً على مجتمع خرج لتوّه من نصف قرن من الانهيار الثقافي والسياسي والأخلاقي. مع ذلك تصوروا معي وأجيبوني،  لو جرت انتخابات حرّة غداً، فهل ستصل النخب العلمانية أو اليسارية أو الديمقراطية إلى الحكم؟ تعلمون، دون شك، أن الإجابة هي بالنفي، لا لخلل في تلك القيم، بل لضعف حضورها الشعبي في الظروف الموضوعية الحالية.

بالتأكيد لست هنا بموقع تبرير الأخطاء والخطايا، لكنني أيضاً لن أكون في موقع إنكار المنجز. إسقاط الأسد ليس انتصاراً لنظام جديد، بل انتصار على الفكرة الأسدية نفسها كحالة إجرامية موصوفة. بعضكم، وربما محق، يرى أن الخطر لم ينته، وأن استبداداً آخر يلوح في الأفق. حسناً لنقاوم هذا الخطر لمنع الوصول إليه، دون أن ننزوي في زوايا النقاء المعارض (في العديد من الحالات ليس في الأمر أي نقاء)، ونكتفي بلعن الآخرين. لقد دفعتم الثمن باهظاً، ولا يليق بمن ذاق ظلم نظام الجريمة إنكار أن سقوطه هو أعظم لحظة في تاريخ سوريا، ولو جاء محمولاً على أكتاف أناس لا يشبهوننا. الثورة لم تكن وعداً بالجنة، إنها طوق نجاة من الجحيم.

تلفزيون سوريا

———————————

أنا السوري من أكون وماذا أريد؟/ مالك ونوس

13 يونيو 2025

في زحمة الاستحقاقات والتطوّرات والتحدّيات، التي تستجدّ كلّ يوم، لا يمكن التخمين إن كان السوري يجد وقتاً يقف فيه أمام المرآة ليسأل نفسه السؤال الوجودي: من أنا، من أكون، ماذا أريد؟ سؤال يطرحه الناس دائماً إذا أرادوا مراجعة مسار حيواتهم كلّما حدثت تغيرات كبيرة حولهم، تؤثّر بالضرورة فيهم تأثيراً كبيراً، وأحياناً جذرياً، ويتغيّرون هم معها من دون أن يدروا. أمّا بالنسبة للسوري، فإن هذه الوقفة وهذه المراجعة، ربّما تكون ضروريةً له أكثر من الآخرين، نظراً إلى أن بلاده يعاد تشكيلها، ومن المفترض أن يكون له دور في ذلك التشكيل. وهو دورٌ لا يمكن ضمانه من دون معرفته ذاته وفهمه هُويَّته المتشكّلة عبر السنوات، وبفعل الحوادث التي عصفت بالبلاد، والتي قد يستمرّ عصفها.

دخل السوريون في اشتباك طائفي في وسائل التواصل الاجتماعي بعد سقوط النظام، وهروب بشّار الأسد من البلاد. اشتباكٌ أتاح أجواء حرية الكلام النسبية، أن ينتشر ويجعل كلّ من يريد أن يدلي بدلوه في المسائل الطائفية يسارع إلى ذلك بلا أيّ وازع، فالخوض في هذه المسائل كان غير متاح خلال فترة الحكم السابق. أمّا الآن فقد تغيّر الحال، وقد بدا الأمر وكأن بعضهم بدأ يكتشف نوازعه ومواقفه وآراءه فيها من خلال التعليق على ما ينشر، أو من خلال نشر رأيه فيها وانتظار ردّات فعل الآخرين تجاهها أو تجاهه هو نفسه، متجاهلاً، في بعض الأحيان، خطورة التطرّف في هذا الطرح، ومجازفاً، في أحيانٍ أخرى، بعلاقاتٍ تاريخية مع أصدقاء أو جيران من طوائف مغايرة، من أجل فرض وجهة نظره، بغضّ النظر عن مدى صحّتها. غير أن هذا الاشتباك زاد عن حدِّه بعد مجازر الساحل التي حدثت بداية مارس/ آذار الماضي، والحوادث التي جرت في جرمانا وأشرفية صحنايا في دمشق بعدها. ووصل الأمر إلى حدّ السعار الطائفي، وانزلق إليه أناسٌ لم يكن من المتوقّع انزلاقهم، ومنهم من كان قبل ذلك على الحياد، أو حتى من الرافضين طرحاً من هذا النوع. وعلى الرغم من خطورة هذا الطرح، رأى بعضهم فيه فرصةً لتفريغ مكبوتات، وفرصةً لاكتشاف كلّ فرد من أفراد الشعب السوري مدى حصانته إزاء نوازعٍ ما قبل مدينية كهذه. ومن هنا، وجد بعضهم نفسه وسط تجاذب هُويَّاتي حريّ أن يدفعه إلى سؤال نفسه: هل أنتمي إلى طائفتي، أم إلى ديني، أم أن انتمائي هو لوطني، بما يمثّله من جغرافيا وشعب وتاريخ، وغيرها من مكوّناتٍ دولاتيةٍ كُبرى عابرة للطوائف والأديان؟

وحصل هذا الأمر في وقت كان مأمولاً أن يقود سقوط النظام فيه إلى حالة من الانفتاح والتسامح بين السوريين، ويدفعهم إلى التعرّف إلى بعضهم عن قرب، بلا أيّ شكل من الخوف والتوجّس الذي كان يميّز علاقاتهم في السابق، نتيجة سياسة التخويف والكراهية والتفريق، التي اتبعها نظام الأسدَين (الأب والابن) خمسة عقود، من أجل منع التقارب بين فئات المجتمع المختلفة وطوائفه، لاعتقاده أن ذلك سيدفعهم إلى الاتفاق عليه. ويمكن إرجاع أسباب الاشتباك الطائفي وتعمّقه في هذه الفترة إلى عدم تحسُّن أحوال الناس المعيشية، بل ازديادها سوءاً بعد سقوط النظام، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لكثيرين، وانعدام الدخل لدى شريحةٍ وصل عدد أفرادها إلى مئات الآلاف، بعد فصل الموظفين والعمّال وتسريحهم من أعمالهم. وهي أمور ترافقت مع تحرير أسعار المحروقات، الذي انعكس على الفور زيادةً في أسعار الخبز وتعرفة النقل، ما استنزف الرواتب، السخيفة أصلاً، التي لا تتجاوز في أحسن الحالات 40 دولارا شهرياً. أمور جعلت كثيرين يبحثون عمّن يحملونه المسؤولية فلا يجدون إلا بعضهم بعضاً، لأنه ومع ظهور مدافعين عن الحكم الجديد، ورافضين تحميله المسؤولية، جرى تصنيف كلّ من ينتقده في صفّ الفلول، ما زاد الاشتباك حدّةً.

أمام السوريين تحدّياتٌ لا تُعدّ ولا تُحصى في هذه الفترة التي تتطلّب الخروج من حقبة الأسد التدميرية، ومن حضيض الطائفية. بعض تلك التحدّيات يقارب الأزمة، وفي أحيانٍ يصل إلى مرحلة الاستعصاء والانسداد، حتى بات من الممكن الحديث عن “مسألة سورية”، استجدّت بعد سقوط النظام نتيجة صعوبة التعافي. لذلك تتطلّب تلك التحدّيات من السوريين، ومن الحكم الجديد قبلهم، الانفتاح على الآخر المختلف، من أجل الاستفادة من خبرات الجميع في عملية إعادة البناء، وجعلها تعطي الثمار التي ينتظرها سكّان الخيام والمَهاجرون وذوو المغيَّبين والضحايا والمحرومون، ومن أفقرتهم الحرب، أو مرحلة ما بعد الحرب، لكي تستقرّ نفوسهم بعد تلك التغريبة التي طالت أكثر ممّا توقّع لها أكثر الناس تشاؤماً. انفتاحٌ تكون التشاركية وعدم الإقصاء أساسه، لضمان نجاح مرحلة إعادة الإعمار، خصوصاً بعد الفرصة التي توافرت مع رفع العقوبات الغربية، فيساهم فيها الجميع بيده أو بعقله أو حتى برأيه، وإلا فإن النواقص، التي قد لا يشير إليها أحد من البطانة، خوفاً على الحكم الجديد من أي انتقاد، ستصبح بمثابة عصيّ في عجلات هذه المرحلة.

وزيادة منهم في التشظّي، يتناول السوريون المشتبكون في وسائل التواصل، إضافة إلى القضايا الطائفية، قضايا قوميةً، وفِكَراً كانوا سابقاً يتبنّونه، وباتوا الآن رافضين له. منها قضيتا الفيدرالية واللامركزية، سواء السياسية أو الإدارية، وأحياناً من دون البحث فيها لمعرفة مدى قدرتها على التلاؤم مع الحالة السورية. وفي وقتٍ لم يبتّ فيه الحكم الجديد بهذه القضايا، حكم عليها أناس كثيرون بأنها لا تلائم البلاد، ومن بينهم من كانوا ينادون بها أيام النظام السابق، نتيجة الإقصاء الذي عانته مدن مهمّة، مثل حلب على سبيل المثال، ونتيجة الحرمان الذي عانته مدن أخرى، تُعدّ منبع الثروات النفطية والغازية والغذائية، غير أنها كانت تحرم من عوائدها بسبب وضع طغمة الأسد وأفراد حاشيته أياديهم عليها. ولكن، هل لدى السوري وقت من أجل التأمل في حياته، وإجراء مراجعة لسلوكه، والخوض الجدّي والعميق في القضايا المصيرية؟

اللهو بالقضايا الطائفية والدينية، التي لا تقدّم ولا تؤخّر، وإعلاء شأنها، سيؤدّي إلى إهمال القضايا المصيرية، فيجد الواحد منا نفسه متأخّراً، فلا هو اكتشف ذاته وتيقّن من هُويَّته، ولا هو بات قادراً على استيعاب ما وصلت إليه حال بلاده حين بدأت تتراكم أعباء إعادة الإعمار، ولا هو استفاق على فشل حكومته أو نجاحها في إدارة ملفّ البلاد الاقتصادي من دون آلامٍ، هو وحده الذي سيتحمّلها، وربّما يورثّها إلى أبنائه، إذا فشل وأبناء جيله في التصدّي لها.

العربي الجديد

—————————-

عندما يُعبث بالسلم الأهلي في سورية/ أحمد مظهر سعدو

12 يونيو 2025

السلم الأهلي في أيّ بلد، خارج من حرب طويلة وصعبة ومثخنة بالجراح والآلام، يحتاج إلى لجان للسلم الأهلي، وقائمين عليها لتضميد الجراح، يمتلكون وعياً حقوقياً وإنسانياً وأخلاقياً وسياسياً، يواكب حالة التغيير الجديدة، ومن ثمّ يبلسم الجراح المفتوحة، وليس العبث بها أو نكء هذه الجراح من جديد. لكنّ ما حصل واقعاً مع عمل لجنة السلم الأهلي، المتجسّدة في بعض الشخصيات السورية ضمن تلك اللجنة، وأطلقت للعلن منذ فترة قصيرة، أيْ إبّان ما حصل من أحداث في الساحل السوري، وكانت ضمن محاولة الإدارة الجديدة (على عجل) لمنع امتداد الجرح وتوسعه إلى ما هو أبعد من ذلك. لكن كان هناك (ولا يزال) غياب للوعي المطابق والمواكب عقلانياً لمجريات الأمور، ثمّ ممارسة بعضهم حالات تركض وراء وعي مغلوط، من دون قدرة على الوصول إلى حالة الاستشفاء المجتمعي، وضمن سياقات التوهّم بأنهم يداوون الجراح، لكنّهم بالفعل “يعفّسون بالبقلة”، كما يقول المثل الحلبي السوري المعروف.

بات أعضاء في لجنة السلم الأهلي، بخطابهم التبريري، وأفعالهم التي ادَّعوا أنها تعبّر عن فهم جديد للعدالة الانتقالية، عبئاً كبيراً، ليس على اللجنة فحسب، بل على سياسات الحكومة الانتقالية السورية برمّتها، وتؤشّر إلى وجود انحدارات كُبرى في مسارات بناء السلم الأهلي، قد لا تكون عاقلةً، ولا رصينةً، بل لا تحفظ الحقوق، إذ تزيد وبالها وبالاً، وتعيد إنتاج الواقع السوري الجديد على أسس في غاية الانفلات، وضمن حالات من الفوات المجتمعي السياسي لم يسبق لها مثيل. ويقول العقل السياسي الهادئ، الواعي لما يجري، إنه من دون توافر مسار العدالة الانتقالية الحقّة، العادلة والواعية، ومن دون تفعيل وإنتاج لجنتها (المُعلَنة رئاستها منذ فترة فقط)، ومن دون العمل الجدّي الحثيث واليومي على إحقاق الحقوق، وعودة الحقّ بكلّيته إلى أهله، ومن ثمّ جبر الضرر، والاشتغال واقعياً وصولاً إلى حالة عامّة من المصالحة الوطنية السورية، فلا توجد أيّ إمكانية حقّة للسلم الأهلي، لأن مسألة إنفاذ السلم الأهلي لم تعد قضيةً شعاراتيةً، ولا هي عملية إطلاق هيئات شكلية فقط، بل هي ممارسة واقعية. ومن ثم، الدفع بالجميع نحو سيادة القانون المبتغى والمأمول، ضمن مسارات العمل على بناء دولة المواطنة، وليس دولة الطوائف، التي لفظها المجتمع السوري، وكانت (كما يبدو) أحد أسباب واقع التشظّي والتفتّت، التي آلت إليها الأمور، خلال فترة حكم سورية من دولة العصابة الأسدية، منذ عام 1970، وحتى لحظة السقوط المدوّي لنظام الاستبداد الأسدي. واليوم، فإن اعتقال بعض ضباط أمن بشّار الأسد، المرتكبين والعابثين والموغلين حقيقة في الدم السوري خلال فترة حكم الأسد، تحت سقف القانون، ضرورة وطنية لإحقاق السلم الأهلي. ومن ثمّ، محاكمتهم جميعاً محاكمةً عادلةً، ثمّ إطلاق سراح من لم تثبت بحقّه الأفعال المقترنة به، وتحكيم العدالة العلنية في رقاب من يدينه القانون الوضعي السوري، هو الملاذ المطلوب والضروري. غير ذلك، يؤدّي (عاجلاً أو آجلاً) إلى مزيد من الارتدادات، وعمليات القتل الفردي، والثأر الموجود أصلاً ضمن معظم أنساق المجتمع العربي، والسوري منه على وجه الخصوص.

لا يمكن إنفاذ السلم الأهلي، ولا يمكن أن يحصل مطلقاً، في ظلّ وجود حالات إعطاء الأمان لمن ارتكب الجرائم بحقّ ناسه من السوريين، وبقي طليقاً أمام ناظري السوريين من الضحايا، أو ذويهم، إذ لم يجفّ الدم السوري بعد، والآلام ما انفكّت تفقأ العين وتُدمي القلب. لا يجوز اليوم أن يعتقل بعضهم مرتكبي الجرائم ثمّ يطلق سراحهم من دون محاكمة، ومن دون أن يتبيّن للناس، كلّ الناس، مدى أحقية تنفيذ العدل الواضح والصريح، والخروج بعدها بمؤتمرات وتصريحات لا تعبّر بالضرورة عن آلام الناس، ولا تواكب حالة الفوران الشعبي، هذا الشعب المنتهكة حقوقه في طول حكم آل الأسد، ثمّ يأتي اليوم الذي يعتقد فيه هؤلاء الناس أنهم سوف ينالون حقوقهم، وسيجبر ضررهم، لكنّهم يستفيقون على إجراءات وقرارات وعبث في هذه الحقوق، وجنوح إلى مهاوي لا طائل منها.

كان السوريون دائماً يتحدّثون عن أن المجرم ما زال طليقاً، من قتلهم بالسلاح الكيماوي، ومن اعتقل أبناءهم، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري، ونهب خيرات البلد، وهدم أزيد من 65% من البنية التحتية في سورية، وخلق مجتمعاً كاملاً بمئات الآلاف من معوقي الحرب الأسدية على السوريين، وعندما سقط نظام المقتلة الأسدية صبيحة يوم 8 ديسمبر/ كانون أول 2024، تأمّل الناس خيراً، وقالوا لن يكون المجرم طليقاً بعد اليوم، لكنّهم، وبعد عبث لجنة السلم الأهلي بحالة السلم الأهلي ومساره، باتوا يعيدون التفكير مرّة أخرى في خطورة أن يكون المجرم طليقاً، ما يقلقهم على مستقبلهم وحيواتهم، وهي حاضرة بين ظهرانيهم.

المطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إعادة إنتاج لجنة السلم الأهلي وتشكيلها على أسس جديدة ومختلفة، وشمول حراكها وعملها ليكون الوطن السوري كلّه، وليس الساحل السوري فقط. كذلك لا يمكن أن تعمل لجنة السلم الأهلي وحدها، فعملها يُواكب عملين مهمّين متساوقين معها لتشكيل هيئة عدالة انتقالية، شاملة وقادرة وكفؤة، وبأسرع وقت ممكن، وكذلك لجنة عليا للمفقودين، لأن عمل هيئات العدالة الانتقالية والمفقودين سيترك أثره إيجاباً في مجريات ومنتجات وآليات عمل السلم الأهلي بالضرورة، وبغير ذلك لا إمكانية أبداً للحديث عن السلم الأهلي في سورية، فوجود لجان للسلم الأهلي لا تمنع بالضرورة حرباً أهلية، فمن أجل منع تلك الحرب لا بدّ من بناء صرح جدّي للجان تعمل للحفاظ على السلم الأهلي، وإعادة بناء الوطن السوري على معطيات حديثة يقوم عليها أناس يمتلكون الوعي الحقيقي والعقل الهادئ المستنير، وليس العقل القمعي السلطوي المستبدّ والخارج من القرون الوسطى.

العربي الجديد

———————————

 ضرورات التحول المؤسسي والجمعي السوري/ محمد شيخ يوسف

2025.06.12

يدرك السوريون وجميع العالم أن سوريا دخلت مرحلة جديدة انتقالية مع سقوط النظام الساقط شعبيا منذ ثورته التي انطلقت في 2011 وتكللت بانتصار عموم السوريين على الاستبداد والديكتاتورية وأجهزة القمع والإرهاب في 8 كانون الأول/ديسمبر وهو ما انعكس في فرحة لم تنته حتى الآن، نظرا لحجم الانتصار الذي لم يكن سهلا وكلفته كبيرة جدا على جميع الأصعدة، وأهمها على الصعيد الإنساني حيث ارتفع أعداد الشهداء والجرحى وبلغ عدد المختفين قسرا نحو 140 ألفا.

وكان لزاما مع المرحلة الانتقالية التي تشمل تشكيل الحكومة وعقد المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري وتأسيس اللجان المتعلقة بالسلم الأهلي والعدالة الانتقالية، أن تشهد مرحلة معاقبة ومحاكمة مرتكبي الجرائم بحق السوريين، لأنها تساهم في شفاء الجروح وتخفيف الآلام عن ذوي الضحايا والمختفين قسرا، حيث لا تزال جروحهم نازفة وآلامهم مستمرة، وآمالهم تتبخر مع مرور الوقت، فهو يعد من أهم الملفات في المرحلة المقبلة وبحاجة لمعالجة عادلة ودقيقة دون مسامحات أو تساهل أو تهاون فيه.

المرحلة الانتقالية في سوريا وضمن أسس معينة قائمة على وحدة البلاد والشعب والمواطنة والحقوق والمساواة ودولة القانون والديمقراطية والحريات، بحاجة أيضا إلى التحول في جملة من المفاهيم التي تؤدي إلى بناء سوريا الحديثة، فاليوم لم تعد عقلية سنوات الثورة هي الخلاص وحسب، بل يجب الانتقال إلى العقلية المؤسساتية الرسمية والخاصة، والتحول وفق الدولة المنشودة التي يرغب السوريون بها لمرحلة البناء، وهو ما يرافقه تحول جمعي سوري، يجب خلاله عدم تكرار الأخطاء السابقة، والاستفادة من التجارب التي أدت للثورة، وأهمها معالجة الإقصاء والتهميش والتمييز والتفرقة، فضلا عن القمع والقتل والتعسف في الاعتقال والإذلال، وتغييب الحريات والحقوق والقوانين والديمقراطية.

الانتقال من الثورة لبناء الدولة هي مرحلة جديدة تطلب التفكير بشكل مؤسساتي، إذ إن السوريين الآن أمام دولة جديدة، وبالتالي الدولة يجب أن تعمل وفق هذه المؤسسات وتقدم خدماتها للجميع بشكل متساو، المؤسسة التي يخدم بها الموظفون ومديرها تبقى ثابتة راسخة لا تتغير بتغيير الأسماء، وهذا الانتقال يشمل جميع الأجهزة والمؤسسات بمختلف مسمياتها سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو خدمية أو قضائية، فالبقاء هو للدولة والمواطنين، مرحلة بناء المؤسسات هذا يخدم بالضرورة سوريا أمام المجتمع الدولي ودول الإقليم، وهو ما يتطلب التحول المؤسسي على جميع الأصعدة، فلم تعد المؤسسات السورية عبارة عن منصات أو كيانات بحاجة للاعتراف أو تسوق وجهة نظر معينة فقط، أو تسعى إلى تقديم الخدمات والمساعدات، بل باتت مؤسسات دولة معنية بتحمل المسؤولية والتوجه بها للداخل السوري قبل الخارج.

ولعل مرحلة الانتقال هذه بحاجة إلى تغير العقلية في إدارة هذه المؤسسات، حيث إن الإدارة موجهة إلى جميع السوريين، ولا يوجد لون واحد، ولم تعد هناك حاضنة شعبية ذو اتجاه معين، الأجهزة والدوائر السورية حاليا تمثل جميع السوريين بكافة مكوناتهم وأعراقهم وطوائفهم وأديانهم، فيجب أن تتغير العقلية في الإدارة وهو ما يحتاج إلى تغيير في الخطاب يعكس تغيير العقلية، صحيح أن هناك مرحلة انتقالية وقضايا ملحة بحاجة إلى حل في المرحلة الانتقال والمقبلة، ومنها مرحلة العدالة الانتقالية، ولكن الآن بات أمام السوريين مرحلة بناء الدولة، وهو ما يتطلب فهما أعمق، وصبرا طويلا، واستيعابا للتطورات والتفكير بعقلية الدولة، لا بالمراحل السابقة.

ومن خلال نظرة إلى التاريخ، كانت الانتماءات والولاءات تتغير إلى الحاكم الأقوى بغرض الحصول على الحماية والأمن، والقبائل والشعوب في مختلف المناطق، كانت الدماء تحقن عبر التفاوض وتقديم الولاءات، وهناك أمثلة كثيرة عبر تاريخ الدول والأمم والحضارات، فالحصول على الأمن وحقن الدماء، والتفاوض والتعاون من أجل بناء المرحلة الجديدة، خطوة موجودة يمكن اللجوء لها من قبل القوى الحاكمة في أي مكان، ومن المؤكد أن ما حصل من انتصار للثورة السورية المباركة، كان فيه إضعاف لبنية النظام الداخلية عبر متعاونين مقابل الحصول على الأمن، ومع انتصار الثورة يتوجب التعامل بعقلية الدولة الجديدة، ولكن مع التشديد بأن لا مكان لمجرم وقاتل ومرتكب جريمة بحق السوريين مهما كان نوع التعاون والدعم المقدم، لا تهاون مع القتلة ومع من سفك دماء السوريين.

ويتزامن مع التحولات هذه انتقال الشعور الجمعي السوري وخاصة لمن ذاق الألم نتيجة الثورة وتشرد وتضرر سواء داخل سوريا أو خارجها، أو من عانى من ممارسات النظام في مناطقه من القمع، لإدراك أن المرحلة الجديدة بحاجة إلى التفكير المؤسسي الجديد بعقلية جديدة وفق خطاب متطور يرتقي بالمرحلة الحالية، فالتحول الجمعي لا يقل أهمية عن التحول المؤسساتي، حيث إنها عملية مشتركة بين الدولة والشعب بنفس الوقت، فلا يمكن ليد واحدة أن تصفق، لا يمكن تهميش الشعب ومطالبه وحقوقه من قبل المؤسسات الحكومية، يجب أن تتحول وتتطور بما يناسب السياق الجديد، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب بمختلف مكوناته ومستوياته، إذ لا يمكن أن يبقى دون تحول يواكب مرحلة بناء المؤسسات الجديدة.

وإذا ما وضعنا التحول المؤسساتي والجمعي في السياق نفسه بالمرحلة المقبلة، فهو بدوره بحاجة إلى الرؤية الشاملة الواسعة من الطرفين، أي أن النظرة يجب أن تكون من منظار أوسع للتطورات الجارية والمرحلة الجديدة، النظرة وفق أفق جديد يقوم على المبادئ التي قامت الثورة السورية من أجلها وتحقيق أهدافها كاملة، فإن كانت المطالب هي الحرية والدولة الديمقراطية التي تكفل الحقوق والمساواة، فهذا يعني عمليا الانتقال من مرحلة الثورة لمرحلة البناء، ولا يجب المحاكمة وفق المنظور السابق، مع التشديد على أنه لا يجب أن تكون هناك مسامحة في مسألة معاقبة المجرمين منعا من ارتكابهم الجرائم مرة أخرى.

وخلال المضي في هذا المسار من اللازم الاستفادة من الأخطاء التي حصلت في السابق وعدم تكرارها، سنوات المعاناة للسوريين لم تكن سهلة، وهي ثورة كانت يتيمة ولم تنجح إلا بثبات السوريين، والثورة كانت لها أسباب، وتعامل النظام وتراكم أخطائه عززت من إصرار الشعب على استكمال ثورته وعدم الاستسلام والتراجع، ثورة الإصرار والكرامة، فتجاهل النظام للسوريين بشكل عام وإقصاؤه لأغلب المكونات، وتجاهل المطالب المحقة، وإصراره على احتكار السلطة، وعدم تحقيق العدالة لأطفال درعا والحولة والبيضا وأبناء جميع المناطق والمحافظات السورية، ترك أثرا كبيرا في تعميق الثورة، مرحلة المحاسبة مستمرة، ولكن تجب مراعاة التفكير المؤسسي الجديد من قبل الإدارة الجديدة، والظروف المحلية والإقليمية والدولية، ومرحلة بناء الدولة الجديدة.

وخلاصة الكلام يجب تغليب العقل والمنطق في المرحلة الجديدة، والتجرد قليلا من العواطف عبر بناء مؤسسات الدولة بشكل مؤسساتي وبناء الدولة الراسخة الثابتة الجديدة وفق المبادئ والقيم التي قامت عليها الثورة، أن تكون دولة دستورية ديمقراطية في دورة مستمرة، تنتهي من مرحلة البناء التي قد تستغرق سنوات للوصول إلى الحالة المنشودة، وهو ما يتوجب من خلاله تخفيف التوترات والاحتقانات، والصبر والتفكر بشكل جيد قبل إطلاق الأحكام، مع البقاء على الثوابت وعدم التنازل عن مطالب محاسبة المجرمين وفق مسار عدالة انتقالية حقيقي.

تلفزيون سوريا

——————————-

سورية بين الهلال الشيعي ونجمة السلاجقة/ أسامة إسبر

12 يونيو 2025

ليس الاختبار الحقيقي لثورة ما، بحسب فاكلاف هافل، ما إذا كانت ستدمّر النظام القديم، بل فيما إذا كانت ستبني شيئاً أفضل يحلّ مكانه. ما ينبغي أن تفعله الثورات، بحسب الرؤية النظرية التي تُلهمها وتوجّهها، هو إطلاق عمليّة تنطوي على إعادة بناء جديدة لبنى الدولة المتصدّعة، وللاقتصاد المنهار، وإحداث قطيعة مع ماضي الممارسات السلطوية، وتأسيس ثقافة جديدة، تتطلّع إلى المستقبل وبناء الإنسان، فالثورة، بحسب حنة أرندت، فعلٌ سياسي يَعد ببدايات جديدة. لكنّ الثورات تُخفِق، وقد تحقِّق عكس أهدافها المُعلَنة، ويضلّ أبناؤها عن جادة الصواب، فتقودهم مصالحهم وأهواؤهم، أو تطرّفهم. وما يحدث في ألعاب التاريخ أن الثورات تُختطَف، وتُحقن بمخدر أيديولوجي يشلّ الأدمغة، ويغتال الفكر النقدي، ويحجب أهمية الاختلاف وقبول الآخر، ويذْكي جمر التعصّب فلا يرى أبناؤها الحقيقة إلا في ضوء العقيدة التي توجّههم، فتشتدّ عصبيتهم ويسود توجّههم الأحادي. وقد يحدُث أن يمكر الواقع والتاريخ، وتتدخّل مصالح الدول ودسائسها لحرف مسار أي حراك، وإعادة توظيفه. لهذا قال ألكسي دو توكفيل (1859) جملته الذكية والعميقة: “في الثورة كما في الرواية، إن الجزء الأشدّ صعوبة هو وضع خاتمة لها”.

ينطبق هذا على الثورة السورية، فقد سُبيتْ في مهد حراكها المدني رضيعة، وغذّتها بالحليب الاصطناعي مصالحٌ إقليمية ودولية، بعد أن رُدكِلّ أبناؤها بفعل قمعٍ عنيفٍ ممنهجٍ مارسته استخبارات نظام الأسد. صار صوتُ التطرّف الأعلى في الديار السورية، ولم يعد هناك بدائل بعد أن دمّرت القوى السياسية السورية، وهُشِّمت، أو أُنزلت في فندق الجبهة الوطنية التقدّمية، ثمّ لاحقاً حُلّت أحزابها في العهد السوري الجديد. وإذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء، في تقويم “الربيع العربي”، لرأينا أن بعض تجلّيات ثوراته كانت مسرحيات أدّيت على خشبة مسرح السياسات الإقليمية والدولية المتشابكة، شارك فيها الغرب ممثّلاً رئيساً، بل لعب أحياناً دور البطولة. فالغرب الذي دعم الديكتاتوريات العسكرية، وانتهاك حقوق الإنسان، والأنظمة الأوليغارشية، وحتى الكليبتوقراطية، على مدى التاريخ المعاصر خارج أراضيه، ولعب دوراً جوهرياً في ترسيخ أنظمة بوليسية وعسكرية معروفة، وامتنع عن دعم أي منظّمات، أو أحزاب علمانية، أو تيّارات نسوية، بحسب إدوارد سعيد، غيّر موقفه بعد أن اختبر مزاج الجماهير في المنطقة، واحتمالات التغيير، فركب موجة “الربيع العربي”، وسلّم دماءه العربية الحاكمة للقوى الجديدة، التي داستها واحتلّت عروشها. ما الذي تغيّر؟ وماذا يعني أن تتدخّل طائرات حلف شمال الأطلسي (ناتو) لإنجاح ثورة عربية؟ أو لقتل زعيم عربي؟ أو لتغيير أنظمة الحكم؟ هذا يعني تعيين أنظمة حكم مكان أخرى، من دون أن يحدث أي تغيير بنيوي في بنية السلطة والمجتمع، أو يمسّ المصالح الغربية.

ما يحدث حالياً أن الانفراج السوري اشتُري بمالٍ خليجي. فالمبالغ الهائلة التي وُهبت للرئيس الأميركي دونالد ترامب، سهّلت طلب رفع العقوبات عن سورية من دون أن تُفرَض تنازلات تصحيحية ملموسة على نظام الحكم السوري، من ناحية طبيعة السلطة، والتمثيل الأوسع الذي يمكن أن يطاول بقية المكوّنات، وتغيير نهجه، والتخلّص من المقاتلين الأجانب، وقوى التشدّد في فلكه. بل إن ما يحدث هو العكس، وتبيّن أن المقاتلين الأجانب سيصبحون نواة، إن لم يكونوا قيادة الجيش الجديد في سورية، فيما بقيت الأمور في إطار تصريحات وترتيبات غير واضحة. وتجري مفاوضات مع إسرائيل كانت ستبدو من منظار “محور الممانعة” الساقط خيانة عظمى. لقد اشتُري التحوّل الجديد في سورية بمالٍ ليس من بيت مال السوريين، مال له سلطة وبوصلة، ويفرضُ توجّهات سياسية، وسياسات اقتصادية، ويقتضي تقديم تنازلات. لا أحد يمنحك مالاً من دون مقابل. هذه هي طبيعة العالم النيوليبرالي القاسية. فالمسألة ليست خيرية، أو إنسانية، يجب أن تدفع من سيادتك، وثروات بلادك، وثمّة تنازلات يجب أن تُقدّم، فهل يعرف السوريون ما هي؟ هل الثمن هو التنازل لإسرائيل ولغيرها عن كلّ شيء مقابل كرسي الحكم، كما يحقّ لبعضهم أن يسألوا؟ أم أن القادة الجدد لن يرضخوا لشرطِي المنطقة؛ إسرائيل؟ هذا ما سيكشفه لنا تطوّر الأحداث.

تمخّضت الثورة السورية فأنجبت السلفية الجهادية، التي كان انتصارها مبرمجاً، أي إن إسقاط نظام الأسد لم يكن ثمرة نضالٍ سوري مشتركٍ بقدر ما حصل نتيجة تدخّل خارجي وتغيير في موازين القوى في المنطقة ورعاية تركية، ووصول نظام الأسد الفاسد نفسه إلى مرحلة من الاهتراء. ومن سخريات القدر أن بنيامين نتنياهو يتبجّح بأنه هو الذي مهّد الطريق لنظام دمشق الجديد إلى القصر الجمهوري. خرجت الثورة ضدّ بشّار الأسد من المساجد، المكان الوحيد الذي يمكن أن يحتشد فيه السوريون، وبعد أن انهار النظام ثمّة مؤشّرات بأن الثورة تعود إلى المساجد مخلصة لهُويَّتها، فمن يقودها هم السلفيون، واللحى التي نراها في الشاشات إشارة واضحة إلى أنه ليس هناك للعلمانيين الذين شاركوا في الثورة حضور.

يجب ألا نُغفل الدور الهائل الذي لعبته النساء والمثقفون والفنّانون ورسّامو الكاريكاتير والمسرحيون والمخرجون السينمائيون واليساريون والعلمانيون في إسقاط نظام الأسد، وتفكيك شرعيته على المستوى الثقافي. نشط هؤلاء في بداية الثورة المدنية، وصنعوا وجهها المدني، لكنّهم غُربِلوا كما لو أنهم زؤان في حنطة السلطة، وجاءت وجوه ملتحية لتحتلّ المشهد، وتقود الثورة إلى الشكل الذي هي عليه الآن: نموذج الحكم الإدلبي الموسّع القائم على إذكاء العصبية السُّنية بوقود نيوليبرالي. أمّا بالنسبة إلى باقي المكوّنات السورية، فقد وجّهت رسالة إلى العلويين في الساحل (في السادس والسابع والثامن والتاسع من آذار الماضي)، ولاحقاً وصلتْ رسالة إلى الموحّدين الدروز، ومن خلالهم إلى بقيّة المكوّنات. الرسالتان شرحتا السياسة المتّبعة، وقالتا: هذا ما سيحدث لكم إذا لم تخضعوا.

في وقتٍ يدخل الاقتصاد السوري في ضباب المشاريع المستقبلية، والوعود البرّاقة، يزداد انحدار السوريين تحت خطّ الفقر، وتتواصل عمليات القتل خارج إطار القانون، واختطاف الفتيات، وتقديم مسرحيات هزلية تلفزيونية حول عودتهن سالمات، فيما يلوذ بعض أبرز نقّاد نظام الأسد السابقين بالصمت، أو يصطفّون بجانب المنتصر، كما لو أن أهداف الثورة المثالية تحقّقت. وساق بعضهم حجّة لتبرير موقفه، حين قال إن الارتكابات التي حدثت في ظلّ العهد الجديد لا تساوي نقطة في بحر جرائم النظام السابق، كما لو أن سفك الدماء يبرّر سفكها من جديد. ويبدو الأمر كما لو أنه سُلّمت رقاب المجتمع السوري لأشخاص قد يبتّون في أمر قطع الأعناق والأرزاق معاً، من دون أن تكون مرجعيتهم الدولة، وضرورة بنائها كي يتساوى أبناؤها كلّهم أمام القانون، بل كي يظلّ كلّ شخص مداناً بحكم انتمائه الطائفي، وربّما أسدياً، أو من جماعة الفلول.

يكشف لنا التاريخ أن الثورات تنتهي دوماً بعكس توقّعات مفجّريها، وهذا ما أكّده المصلح اللاهوتي الأميركي رينهولد نيبور، حين قال: “إن الثورات نادراً ما تحقّق أهداف صانعيها”، وما كان يتمنّاه جورج أورويل في سياق آخر، ونتمنّاه في سورية الآن، هو أن “لا ترتدي الثورة، مع مرور الوقت، رداء الطاغية الذي خلعته”، وألا يزداد تمزّق الخريطة السورية في رحلتها إلى المجهول بين الهلال الشيعي ونجمة السلاجقة الثُّمانيّة، التي زيّنت صدور الوزراء، ورُسمت (كي توجّه رسالتها) على بلاط أرضية صالة القصر الجمهوري في دمشق، حيث يستقبل الرئيس وفوده الزائرة.

العربي الجديد

————————–

 الجرافيتي والرسم الكاريكاتيري.. عندما يتحول الفن لفعل ثوري/ لونا الراشد

2025.06.12

عندما رسم الإنسان الأول على جدران الكهوف، بهدف توثيق حياته اليومية وجعل تلك الرسومات وسيلة للتواصل مع أقرانه ومع بيئته في آن معاً، لم يدرك أنه سوف يتحول ذلك بعد حين لفن له لغة خاصة تعكس الوعي وتوثق الوجود وتتحدى الواقع من خلال تفسيره ومحاولة التأثير به.

تطورت الفنون عبر العصور لتشمل أشكالاً عدة ومنها الرسم على الجدران أو ما يسمى اليوم بالجرافيتي، والذي كان مرافقا للحظات التحول الكبرى وفترات الغليان الثوري، فتحول فن الجرافيتي إلى أسلوب صريح ومعلن يعبر عن نقد المجتمع إما عن طريق رسمة أو عبارة تهكمية وساخرة من الحكام، فعبرت عن رغبة الإنسان في ترك أثر يحدث فرقاً في بيئته ومجتمعه، وكان الجرافيتي وسيلة فعالة وغير مكلفة لنشر رسائل التمرد والرفض، ولا يمكن تجاهل الجانب الجمالي في مثل هذه الفنون، حيث باتت جزء من عمليات تزيين وتجميل المدن بألوان وأفكار تعكس ثقافة الشارع الموجودة.

وأيضاً الكاريكاتير، يتميز هذا الفن بالصبغة الفكاهية التي يضفيها من خلال التضخيم والمبالغة في رسم الشخصيات أو تصوير حالة اجتماعية معينة، فتظهر بطريقة هزيلة وساخرة تترك أثراً بصرياً راسخاً لدى المتلقي، واستخدم هذا الفن كسلاح سياسي لانتقاد الحكام والأنظمة وكذلك للتعبئة الجماهيرية خلال الثورات والحروب، وتكمن قوة هذا النوع من الفن من خلال تبسيط القضايا المعقدة وإيصالها لجميع شرائح المجتمع، فكان بمنزلة مرآة عكست الواقع من خلال تصوير الحالة السياسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية من خلال إظهار الفروق الطبقية والتناقضات الاجتماعية بطريقة فكاهية.

وفي كل تحول كبير أو بأي ثورة في العالم يقف فن الجرافيتي والرسم الكاريكاتيري في ضفة مقابلة وموازية لأي فعل مسلح وعنيف يرافق الثورات، فيكون هذا الفن الأداة السلمية التي تفتح أفاقاً أرحب للتغيير الحقيقي في الوعي الإنساني.

الثورة الفرنسية وماذا فعل الكاريكاتير

في القرن الثامن عشر ميلادي بدأت الثورة الفرنسية والتي تعتبر من أبرز الثورات العالمية وأكثرها إلهاماً لأي فعل ثوري، كانت بلا شك ثورة دموية شهدت العديد من أعمال العنف وسقطت العديد من الرؤوس تحت المقصلة، حيث كان العنف أداة لا بد منها لكسر قبضة الاستبداد وإقامة الجمهورية، إلا أن أبرز ما بقي من آثار هذه الثورة ليس فقط تحقيقها لأهدافها، وإنما الرسومات  الكاريكاتيرية الساخرة التي ملأت الصحف آنذاك وبقيت إلى الآن رمزاً ملهماً للشعوب الثائرة.

كان للرسم الساخر من الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت كخنازير جشعة وهزيلة لا تبالي بفقر الشعب، الأثر البالغ في زعزعة ثقة الجمهور بالملكية، حيث تجاوزت تلك الرسومات حواجز الأمية والطبقية، ودخلت معظم البيوت الفرنسية، واستطاعت كسر هيبة العرش المترسخة في الأذهان لقرون، فتحولت من فن ساخر إلى فعل تحريضي وثوري عملت على تعبئة الجماهير وزرعت بذور السخط في الوعي الجمعي.

لم يكن الكاريكاتير فقط من كان له الأثر الأعمق، بل كانت اللافتات والشعارات التي كتبت على جدران المدن الفرنسية والتي نادت بالحرية والمساواة والأخوة الأثر نفسه في وعي الشعب الفرنسي، وهذا ما يجعل الفرنسيين من أكثر الشعوب تنظيماً للحركات الاحتجاجية والإضراب عند أي خطأ ترتكبه الحكومات.

“تشي” أيقونة ثورية التقطتها عدسة الكاميرا

في كوبا على الرغم من اتخاذ الثورة شكلاً مسلحاً كلاسيكياً، فكانت أقرب لما يسمى بحرب العصابات بقيادة فيديل كاسترو وأرنستو “تشي” جيفارا ضد ديكتاتورية باتيستا، “تشي” الطبيب الذي تحول إلى رمزاً ثورياً وقائداً عسكرياً، أثر في أجيال ثائرة شبابية حول العالم، وكان لصورة “تشي”، “المقاتل البطل” التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا عام 1960 خلال جنازة ضحايا انفجار سفينة ” الكوبري” في هافانا، الأثر الأعمق حيث امتلأت الجدران واللافتات وحتى القمصان بتلك الصورة، وأشار موردا نفسه إلى أن تعابير وجه “تشي” في الصورة عكست مدى الغضب والألم.

لم تنتشر الصورة بشكل واسع في كوبا، ويعتبر الانتشار الحقيقي الصورة بعد وفاة “تشي” عام 1967 حيث قام المصور الإيطالي جيان جاكامو فيلتريني بالحصول على حقوق نشرها في إيطاليا واستخدمها على نطاق واسع في ملصقات تدعو إلى التضامن مع الحركات الثورية، تجاوزت هذه الصورة الحواجز اللغوية والثقافية، وباتت بمنزلة أداة بصرية تحث على التمرد والتحرر وإلهاماً لكل من يسعى للتغيير الثوري، فأصبحت الجداريات التي حملت صورته بياناً ثورياً وسياسياً بحد ذاته.

“أبو نضارة” أول مجلة عربية ساخرة

يعقوب روفائيل صنوع كاتب مسرحي وصحفي مصري، أسس مجلة “أبو نضارة” والتي تعتبر أول مجلة عربية استخدمت الرسم  الكاريكاتيري كوسيلة ناقدة للوضع السياسي والاجتماعي في مصر آنذاك، أطلقت المجلة في باريس بعد تعرض صنوع للنفي من قبل الخديوي اسماعيل، حيث تابع نشاطه ونقده اللاذع تجاه سياسة الخديوي من منفاه وكتب العديد من المسرحيات التي تناولت مواضيع تتعلق بالواقع المصري مثل الفقر وتردي الحالة الاقتصادية، وبسبب النفس النقدي المعارض ليعقوب أدى لمصادرة المجلة فعمل على تغيير اسمها أكثر من مرة إلى “رحلة أبو نضارة”، و”النضارة المصرية” لحين تم إغلاقها نهائياً، وبعدها واصل يعقوب عمله الصحافي وأصدر بعدها مجلة “أبو صفارة” و”الثرثارة المصرية” وغيرها العديد التي اتسمت بالمعارضة والنقد الساخر الموجه نحو السلطات المصرية.

لا يسعنا قول الكثير عن حنظلة، فقد بات حنظلة رمزاً راسخاً في وجدان المواطن العربي، الطفل الفلسطيني ذو العشرة أعوام الذي يدير ظهره رافضاً لكل المشاريع والمعاهدات والاتفاقيات التي حدثت على أرض فلسطين، مستنكراً لكل المواقف العربية المخزية تجاه القضية الفلسطينية، حنظلة يمثل شخصية الرسام ناجي العلي الذي غادر فلسطين في سن العاشرة، ويقول ناجي العلي: إن حنظلة سيبقى بعمر العاشرة إلى أن يعود لفلسطين، فالزمن لدى حنظلة توقف منذ مغادرته فلسطين.

في معظم البلدان العربية لم تكُ الشرارة الأولى للحركات الثورية رصاصة أو خطاب ثوري، بل كانت مجرد فرشاة أو بخاخ ومساحة جدارية فارغة، امتلأت بعبارات وكلمات عبرت عن غضب الشارع العربي تجاه الحكومات.

في مصر تحولت جدران ميدان التحرير لمعرضاً فنياً يخلد لحظات الثورة ويكتب الشعارات التي وحدت الشعب، وكذلك في تونس وليبيا كانت الجدران الفضاء العام للتعبير عن النقد الموجه للأنظمة الحاكمة.

في سوريا بدأ الأمر بطريقة مشابهة، عبارة “جاييك الدور يا دكتور” التي كتبت على جدران المدارس في درعا والموجهة ضد النظام البائد هي الشرارة التي أدت إلى ردود الفعل العنيفة من النظام والتي حوّلت الحراك السلمي إلى حراك ثوري مسلّح، في ذلك الوقت امتلأت جدران المحافظات السورية بكلمة واحدة “حرية”، دفع السوريون كثيراً من التضحيات على مدى 15 عاماً من أجل نيلها.

وكانت لافتات كفرنبل التي قام بها مجموعة من الشبان السوريين، فكتبوا ووصفوا الأحداث السياسية والأمنية في سوريا، ورسموا العديد من  الكاريكاتيرات الساخرة والناقدة للحكم الأسدي التي أسهمت بنقل حقيقة واقع الثورة السورية للمجتمع الدولي، ولا تزال تلك اللافتات منذ 2013 وحتى الآن خالدة حافظة ومؤرشفة لمرحلة مهمة من الثورة السورية.

كيف طوّع الإنسان يده لخلق الفن استجابة للعقل

على الرغم من أن الإنسان الأول لم يدرك أن رسمه كان فناً، فقد كان ثائراً على أدواته موثقاً وحافظاً لما يحدث من حوله، فكان الفن فعل تمرد بمضمونه، وهذا ما حمله الإنسان إلى اليوم، التمرد على واقع لا يرضيه والبحث عن وجود أغنى، إضافة لاكتساب خبرة من دون أن يتعرض للمخاطر، فيرسم على الجدران ليلاً ليتخفى نهاراً ويراقب ما أثر تلك الرسومات.

وربما إن كلمة الحرية التي خطت على جدران معظم البلدان والتي رفعت على اللافتات في كل لغات العالم، استحقت ليس فقط حركات تمرد بل أيضاً التعرض للمخاطر من أجل الحصول عليها.

وبهذا تكون اليد البشرية بدءاً من التقاطه للثمار وضم كفيه لجمع الماء هي الأداة والركيزة الأساسية للحضارة، وصولاً لخضوع اليد لأفكار العقل الساعية نحو التغيير ومن ضمنها الفن، فعلى الرغم من الأوضاع الاجتماعية المتباينة، فهناك في الفن شيء يعبر عن حقيقة ثابتة يجعل من الأجيال الحالية، أجيالاً مستجيبة ومتفاعلة للرسوم المنقوشة على جدران الكهوف في عصر ما قبل التاريخ، أو للأغاني التي انقضت عليها عشرات وعشرات السنين.

والفن وليد عصره وهو يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي محدد ومع مطامع هذا الوضع وحاجاته وآماله، لكن الفن يمضي إلى أبعد من هذا المدى، فهو يجعل كذلك من اللحظة التاريخية المحددة لحظة من لحظات الإنسانية، لحظة تفتح الأمل نحو تطور متصل.

تلفزيون سوريا

—————————–

سوريا تعود إلى «سويفت»… فما هذا النظام ولماذا هو حجر الزاوية في الاقتصاد العالمي؟

9 يونيو 2025 م

في خطوة ذات دلالات اقتصادية وسياسية عميقة، أعلن حاكم بنك سوريا المركزي الجديد، عبد القادر حصرية، إعادة ربط سوريا بالكامل بنظام سويفت للدفع الدولي «في غضون أسابيع». هذا الإنجاز، الذي يأتي بعد 14 عاماً من الحرب والعقوبات التي عصفت بالبلاد، يُعد أول إنجاز رئيسي في حزمة الإصلاحات التي تتبناها الحكومة الجديدة، ويؤشر على تحرك سريع نحو جذب التجارة والاستثمار الدوليين بعد رفع العقوبات الأميركية الشهر الماضي.

فما هو هذا النظام؟

يعتبر «سويفت» بأنه العمود الفقري للاتصالات المالية العالمية، يتيح مليارات التحويلات بأمان وكفاءة يومياً، ويواصل التطور لتلبية الاحتياجات المتغيرة للنظام المالي العالمي. وهو اختصار لـ«جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك» (Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunication). هو ليس نظاماً لتحويل الأموال أو مؤسسة مالية بحد ذاتها، بل هو شبكة اتصالات آمنة وموحدة وموثوقة تستخدمها البنوك والمؤسسات المالية حول العالم لتبادل الرسائل والمعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية الدولية.

ولا ينقل «سويفت» الأموال، بل هو نظام مراسلة يقوم بإعداد عملية تحويل الأموال بين البنوك الأعضاء والمؤسسات المالية الأعضاء الأخرى.

ونظراً لأهميته الاستراتيجية، أصبح «سويفت» أداة ضغط اقتصادي فعالة. فاستبعاد دولة أو مصارف معينة من النظام يُعد نوعاً من العقوبات الاقتصادية الدولية التي تعزل المؤسسات المالية عن النظام المصرفي العالمي وتعيق قدرتها على تنفيذ المعاملات الدولية. وقد حدث هذا مع دول مثل إيران وروسيا في أوقات سابقة.

أرقام تؤكد الأهمية

لقد أصبحت شبكة مراسلة «سويفت» جزءاً حاسماً من البنية التحتية المالية العالمية التي تستخدم تحويلات «سويفت». في عام 2023 وحده، أرسلت أكثر من 11500 مؤسسة مالية حول العالم، تمثل 200 دولة ومنطقة، ما متوسطه 47.6 مليون رسالة يومياً عبر شبكة «سويفت». هذه الأرقام، التي سجلت زيادة بنسبة 4.5 في المائة عن عام 2022، تؤكد الدور المركزي لـ«سويفت» في تسهيل مليارات التحويلات بأمان وكفاءة يومياً. كما تتميز الشبكة بسرعتها الفائقة، حيث تصل 89 في المائة من المدفوعات إلى البنوك المستلمة في غضون ساعة، ويتم إيداع 50 في المائة منها في حسابات المستفيدين النهائيين في غضون خمس دقائق، بينما يصل ما يقرب من 100 في المائة خلال 24 ساعة.

من التلكس إلى «سويفت»

قبل ظهور «سويفت»، كان التلكس هو الوسيلة الوحيدة لتأكيد التحويلات المصرفية الدولية، وهو نظام كان يعاني من نقص في التوحيد القياسي للرموز وصعوبة في التفسير البشري، مما أدى إلى بطء المعالجة وكثرة الأخطاء.

في عام 1973، اجتمع 239 مصرفاً من 15 دولة لتشكيل «جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك» (سويفت) ومقرها بلجيكا. انطلقت خدمات «سويفت» للمراسلة عام 1977، لتحل محل تقنية التلكس المعقدة، وسرعان ما أصبحت الشريك الموثوق به للمؤسسات المالية حول العالم.

كيف يعمل؟

يعمل «سويفت» كنظام مراسلة مالي عن طريق تعيين رموز تعريف أعمال فريدة (BIC codes) لتحويلات الأموال الدولية من قبل مؤسساته المالية الأعضاء، والتي قد تكون معاملات عبر الحدود. تُستخدم شبكة سويفت أيضاً لمعاملات الأوراق المالية وبعض الأغراض الأخرى.

فمثلاً، عندما يتم إرسال أموال من مصرف في بلد إلى مصرف آخر في بلد مختلف، لا يتم تحويل الأموال مباشرة عبر «سويفت». لكن بدلاً من ذلك، يرسل المصرف الأول رسالة مشفرة وآمنة عبر شبكة «سويفت» إلى المصرف المتسلم، تحتوي على تفاصيل المعاملة (مثل المبلغ، العملة، الحسابات، تفاصيل المستفيد). يقوم البنك المتسلم بعد ذلك بمعالجة الدفعة بناءً على هذه الرسالة.

ماذا تعني عودة سوريا إلى نظام سويفت؟

إعادة ربط سوريا بنظام سويفت بعد أكثر من عقد من العقوبات يعني رفع الحظر عن جزء أساسي من وصولها إلى النظام المالي العالمي. فخلال فترة العزلة، كانت البنوك السورية معزولة فعلياً عن إمكانية إجراء أو استقبال تحويلات مالية دولية بشكل رسمي وقانوني عبر القنوات المصرفية المعتادة. هذا أجبر الأفراد والشركات على الاعتماد على قنوات غير رسمية أو طرق معقدة ومكلفة للتعاملات المالية.

الآثار المتوقعة لإعادة الربط:

* تسهيل التجارة الدولية: ستتمكن الشركات السورية من استيراد وتصدير السلع بسهولة أكبر، حيث ستصبح عمليات الدفع أكثر سلاسة وأماناً. هذا يقلل من تكاليف التجارة ويفتح الباب أمام أسواق جديدة.

* جذب الاستثمارات الأجنبية: يعكس الانضمام إلى «سويفت» تحسناً في مؤشرات الشفافية والالتزام بالمعايير الدولية، مما يطمئن الشركات والممولين العالميين ويشجعهم على الاستثمار في سوريا.

* تسهيل تحويلات المغتربين: سيتمكن السوريون في الخارج من إرسال الأموال إلى عائلاتهم في سوريا عبر القنوات المصرفية الرسمية، مما يقلل من المخاطر والتكاليف المرتبطة بالتحويلات غير الرسمية، ويساهم في تدفق العملات الصعبة إلى البلاد.

* إعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي: تمهد هذه الخطوة الطريق أمام سوريا للحصول على تمويلات وقروض دولية، والمشاركة بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي.

* تقليل الاعتماد على الشبكات غير الرسمية: سيقلل ذلك من مخاطر غسل الأموال والتمويل غير المشروع الذي ازدهر خلال فترة العزلة.

* تحسين سمعة القطاع المصرفي: ستعزز هذه الخطوة الثقة في القطاع المصرفي السوري وتشجعه على تحديث بنيته التحتية الرقمية والرقابية.

* دعم التعافي الاقتصادي: ستساهم هذه التطورات في دعم قطاعات حيوية مثل الصناعة والزراعة والتجارة، وتساعد في تعزيز احتياطات مصرف سوريا المركزي، وبالتالي تسهم في التعافي الاقتصادي العام للبلاد بعد سنوات من الحرب والعقوبات.

———————————–

غضب في سورية بسبب قرار وزاري يحدد معايير ارتياد الشواطئ ولباس السباحة/ عبد الله البشير و فيصل الإمام

10 يونيو 2025

أثارت وزارة السياحة السورية موجة غضب واسعة في الأوساط المجتمعية، على خلفية تعليمات جديدة صدرت، اليوم الثلاثاء، تتعلق بمعايير ارتياد الشواطئ ولباس السباحة. وشملت هذه التعليمات تحديد أنواع ملابس السباحة المسموح بها، وفقاً لتصنيف الشواطئ بين فضاءات عامة وخاصة، ما اعتبره عدد من النشطاء نوعاً من الوصاية على الأفراد وتدخلاً في الحريات الشخصية، تحت ذريعة الحفاظ على الذوق العام.

وتضمن القرار في مادته الأولى إجراءات السلامة والأمان في الشواطئ والمسابح لمرتاديها من السياح والزوار، بما يضمن “الالتزام بالآداب العامة، ومراعاة الذوق العام، وخصوصية الآخرين”. وشملت التعليمات تعيين منقذين ومشرفين لمراقبة الالتزام بالإرشادات، في حين تناولت المادة الثانية تعليمات “الالتزام بارتداء ملابس سباحة مناسبة تراعى الذوق العام ومشاعر مختلف فئات المجتمع، وذلك احتراماً للتنوع الثقافي والاجتماعي والديني في سورية”.

ووفقاً للتعليمات، يطلب “ارتداء ملابس سباحة أكثر احتشاماً في الشواطئ والمسابح العامة (البوركيني أو ملابس سباحة تغطي الجسم بشكل أكبر)”. أما في المنتجعات والفنادق المصنفة والشواطئ والمسابح والأندية الخاصة، فـ”يسمح بملابس السباحة الغربية العادية مع الالتزام بالآداب العامة ضمن حدود الذوق العام والسلوك الحضاري”. وتنص التعليمات أيضاً على “ضرورة ارتداء ملابس فضفاضة وتغطية الكتفين والركبتين”، وعلى “منع ارتداء الملابس الشفافة أو الضيقة جداً”.

وطلب القرار من رواد الشواطئ “ارتداء ملابس سباحة لائقة تراعي الذوق العام، مع ضرورة ارتداء ملابس أكثر احتشاماً أو تغطي الجسم بشكل أكبر، ومنع التنقل بملابس السباحة خارج الشاطئ دون غطاء مناسب”. كما يسمح بارتداء “البوركيني” الإسلامي في جميع الشواطئ والمسابح، بعد أن كان مقتصراً سابقاً على بعض المواقع.

وأشار معاون وزير السياحة غياث الفراح في حديث لـ”لعربي الجديد” إلى تخصيص شرطة سياحية لمتابعة الالتزام ومنع التصرفات غير اللائقة، مؤكداً أن القرار جاء بالتوافق مع الجهات المختصة، ويتيح خيارات تناسب التنوع المجتمعي بين الأماكن المحافظة والمنفتحة، مع ضمان بيئة سياحية آمنة تحترم الخصوصية والكرامة.

وفي تعليقها على القرار، قالت ناشطة المجتمع المدني آية قواف لـ”العربي الجديد”، إنها فوجئت بهذه التعليمات، معتبرة أن القرار “مدروس من زاوية معينة ترتبط بانتماءات دينية أو توجهات محافظة”، مضيفة أن “غياب نصوص قانونية واضحة لحماية الحريات الفردية يدعم مثل هذه القرارات التي تقيّد حرية المواطنين”.

وأوضحت قواف أنّه “من الطبيعي تنظيم بعض المسائل كارتداء اللباس عبر تخصيص مناطق معينة، كما هو معمول به في دول عدة، بحيث تُراعى خصوصيات مختلف الفئات، من المحافظين إلى من يختارون البوركيني أو حتى العري”. وشدّدت على ضرورة أن تراعي القرارات تنوع المجتمع السوري، “دون المساس بحريات فئة ما لإرضاء أخرى”، مؤكدة أنه حتى الأغلبية ليست كتلة موحدة في مواقفها من الحريات الفردية.

ولفتت إلى أنّ القرار “ينطوي على تمييز واضح، إذ يمنح الحريات لفنادق الأربع والخمس نجوم، ما يخدم الفئات الميسورة فقط، في ظل عجز معظم السوريين والمغتربين عن تحمّل تلك التكاليف بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة”. وأضافت: “حتى السياح يفضّلون أماكن بأسعار معقولة لتجربة واقعية، لا فاخرة”، معتبرة أن القرار “قد يشكّل عائقاً أمامهم ويؤثر سلباً على القطاع السياحي”.

ودعت قواف إلى إصدار قرارات تعزز السياحة وتحسّن صورة سورية باعتبارها بلداً منفتحاً، معتبرة أن البلاد بحاجة إلى سياسات تدعم الاقتصاد وتشجع الاستثمار وتحمي الحريات، لا أن تقيدها، خاصة في هذا الظرف الحساس. وحذّرت من أن مثل هذه القرارات قد تثير قلق السوريين في الخارج وتساؤلاتهم حول احتمال صدور قرارات مشابهة من جهات أخرى. وأضافت “يبقى السؤال المطروح: هل صدر هذا القرار فعلاً عن وزارة السياحة؟ إذ أشعر كأنه صدر عن جهة أخرى، وليس عن وزارة تعنى بتشجيع السياحة والانفتاح”.

بدورها أكدت الناشطة الإعلامية غيمان أبو عساف في حديثها لـ”العربي الجديد” أن التعليمات المتعلقة بشؤون السياحة التي صدرت اليوم “تبدو مثيرة للجدل، وتحتاج إلى توضيح أكبر، لا سيما أنها تمس قطاعاً مهماً جداً، منتجاً، ويعد رافداً أساسياً للدخل. بالإضافة إلى ذلك، فإن السياحة تعد أحد أبرز مظاهر التحضر ومعايير التمدن”.

ويبدو أنّ التوجه العام يتجه نحو التشدد، وفق أبو عساف، في مقابل تهميش التخصص، و”كأننا أمام فعل وردة فعل. وهنا لا بد من التذكير بأن النظام السابق أيضاً كان يمنع السباحة، مثلاً، باللباس الشرعي، وأحياناً خُصصت أماكن مغمورة تفتقر إلى الخدمات لتكون مخصصة للاستجمام لتلك الفئة تحديداً”.

ومن المثير فعلاً خلط الاهتمام بالصحة مع فرض الممنوعات بما يتناسب مع طبيعة الحكم، كما بيّنت أبو عساف، التي قالت: “على سبيل المثال، تحديد نوعية اللباس للسوريين يعد تقييداً كاملاً للحرية، دون الانتباه من المشرّع أو الجهة القانونية إلى أن لباس السباحة، في الأصل، يجب أن يكون من نوعية تسمح بالسباحة الآمنة والصحية. في المقابل، ما نصّت عليه القرارات يعد تجاهلاً واضحاً لأهمية نوع ومظهر اللباس المخصص للسباحة”.

وتابعت أبو عساف: “وفي الوقت ذاته، يُسمح للسائح غير السوري بارتداء ما يُطلق عليه اللباس الغربي، مما يخلق تمييزاً في المعاملة يخالف تماماً مبدأ الحرية الذي نص عليه الدستور. ويميل هذا القرار إلى التعسف، خاصة في ما يتعلق بإجراءات التصاريح والأذونات، بينما تمنح حرية التنقل للآخر دون قيود تُذكر. في الواقع، أجد أن الأمر يعاني غموضاً قانونياً كبيراً؛ إذ لم يتم تفسير التعليمات بوضوح، ولم تُحدد الفئات المستثناة من القرار من الجهات المنفذة، مما يفتح الباب أمام اجتهادات وتفسيرات فردية”.

وتبدو حركة السائح السوري كأنها خاضعة للمراقبة، وفق ما أشارت إليه أبو عساف، و”تخدم أهدافاً قد تكون أمنية. وعندما يحاول قانون السياحة الجديد أن يبرز جانب المواطنة ومتطلباتها، لا ينجح في ذلك، بل يظهر مرتبكاً، خاصة عندما يمنع السباحة بعد تناول الطعام، ثم يقر بلباس غير صحي من حيث النوعية والمظهر”، وفق قولها.

في المقابل أوضحت المحامية آلاء عنتر خلال حديثها لـ”العربي الجديد” أن هذا التعميم في الواقع لم يغيّر من الوضع السائد، وقالت: “الفارق الوحيد أنه تم وضع قانون لارتياد الأماكن السياحية، ومن المعروف سابقاً أن الشواطئ العامة تكون نسبياً ملتزمة باللباس، على عكس المنتجعات والفنادق ذات الأربع والخمس نجوم، كونها تستقطب شرائح دينية وسياحية متنوعة”.

وتابعت عنتر: “عموماً، لو كان التضييق يطاول المنتجعات والفنادق، لقلنا إننا بصدد انتهاك للحريات الفردية، أما التعميم الحالي فهو متوافق مع سلوكيات وشرائح المجتمع السوري، وفيما يتعلق بالتمييز بين السياح والسوريين المقيمين في الخارج أو داخل البلد، فهذه نقطة معقدة، خاصة إذا لم تكن هناك آلية واضحة لتحديد الفئات المختلفة، فغالباً ما يتم التعامل مع الجميع وفقاً للمعايير المحلية”. وأردفت: “التصرف ضمن إطار الحرية الشخصية يجب أن يكون في حدود القانون والنظام العام، بحيث لا يتعدى على حقوق الآخرين أو يسبب ضرراً للمجتمع”.

واعتبرت الكاتبة و المحامية ميادة سفر أن قرار وزارة السياحة يشكّل تعدياً سافراً على الحريات الشخصية في البلاد. وأوضحت في حديثها لـ”العربي الجديد” أنّ المجتمع السوري لم يعتد على مثل هذه القرارات التي تقيد حرية الاختيار في الملابس ونمط الحياة، خصوصاً في الأماكن السياحية، مشيرة إلى “مجتمع متنوع العادات والتقاليد، وإن اختلفت بين بيئة وأخرى، إلا أن هذا التنوع لم يكن يوماً سبباً للمشاكل بين أبناء الوطن الواحد”.

وأضافت سفر أن الإدارة الحالية التي أصدرت هذه القرارات “غابت عنها حقيقة أن الشواطئ أماكن عامة لا يجوز فرض نمط معين من اللباس والسلوك عليها بناءً على أهواء الجهات المعنية”، مؤكدة أنه “ينبغي ألا تتحول وزارة السياحة إلى أداة لتنفيذ أجندات تخدم مصالح فئات معينة أو لإرضاء جماعات لا تمثل كل الشعب السوري، حتى من هم الأكثر محافظة”. وأشارت إلى أن السوريين من مختلف المحافظات كانوا يتعايشون في المناطق الساحلية دون أن يثير لباس أحدهم أي استهجان أو اعتراض.

واعتبرت المتحدثة أنّ “إصدار هذه القرارات في ظل التوجس من توجه الإدارة الجديدة نحو أسلمة المجتمع وفرض نمط حياة محدد يثير تساؤلات مهمة، لا سيما مع ضمان الإعلان الدستوري في مواده 12 و13 للحريات العامة والخاصة”. وأوضحت أن هذه القرارات “تمثل شكلاً من الوصاية على الأفراد، إذ تخنق الحريات الشخصية تحت ذريعة الذوق العام”، متسائلة “من سيقرر ما هو الذوق العام؟ أم أننا نعود إلى قاعدة “من يحرر يقرر؟”.

العربي الجديد

———————————–

تسليم السّجناء السّورييّن في لبنان: بين العدالة والحقوق والسّياسة/ بتول يزبك

الخميس 2025/06/12

قبل نهاية الشهر الحالي، يحطّ في بيروت وفدٌ سوريّ رفيع المستوى برئاسة وزير الخارجيّة أسعد الشيباني، في أول زيارة رسميّة منذ استئناف الاتصالات الثنائيّة الرفيعة أواخر آذار. وعلى الرغم من أنّ بعض المصادر الدبلوماسيّة حرصت على وصف الزيارة بأنّها “إجراء بروتوكوليّ روتينيّ” وكرد الجميل للبنان بعد زيارة رئيس الحكومة نواف سلام لدمشق، فإنّ طابعها يتجاوز المجاملات الدبلوماسيّة إلى نقاش عددٍ لا يُستهان به من الملفّات، بعد مسارٍ معقَّد بين لبنان وسوريا يختلط فيه القانون بالسّياسة والعدالة بحقوق الإنسان. ويحتلّ ملفّ تسليم المعتقلين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة مكانةً مركزيّةً في المباحثات الثنائيّة، إذ يوجد نحو ألفَي موقوفٍ سوريّ في السّجون اللّبنانيّة، ولا سيّما أولئك الذين اعتُقلوا في ذروة الحرب السوريّة بتُهَم “الإرهاب” أو “مناصرة الثورة”.

ومع إطلاق السّعوديّة مسارَ إعادة ترتيب العلاقات بين دمشق وبيروت في اجتماع وزيري الدفاع يوم 27 آذار، بدا أنّ قطار التطبيع الإقليميّ انطلق فعلًا، وأنّ لبنان الرسميّ يراهن على دورٍ سوريّ في تخفيف أزمته المتفجّرة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. غير أنّ وجود أكثر من مليون لاجئ، إلى جانب اكتظاظ السّجون اللّبنانيّة بعشراتِ الآلافِ من الموقوفين، جعل ملفّ المعتقلين السوريّين مركز ثقلٍ في أيّ حوارٍ قادم.

من الانسداد السّياسيّ إلى التسوية

منذ اندلاع الثورة السّوريّة وما تلاها من اقتتال داخليّ وأهليّ، لجأ آلاف السّوريّين إلى لبنان، بعضهم لاجئٌ مدنيٌّ وبعضهم الآخر مقاتلٌ أو ناشطٌ سياسيّ. وقد أوقفت أجهزة الأمن اللّبنانيّة خلال أعوام الحرب مئاتٍ منهم بتُهَم “الإرهاب” أو “مناصرة الثورة”. ومع تعاقب الحكومات، وضعت ملفات قسمٍ كبير منهم بين في أدراج القضاءَيْن المدنيّ والعسكريّ، فيما صدرت بحقّ آخرين أحكامٌ نهائيّة بالسّجن. اليوم، وقد تبدّلت المشهديّة السياسيّة في دمشق عقب سقوط النظام الأسديّ وصعود سلطةٍ انتقاليّةٍ معارِضة، عادت الحكومة السوريّة لتطالب رسميًّا بتسليم مواطنيها على مبدأ “العدالة الانتقاليّة”، مستندةً إلى اتّفاقيّة التعاون القضائيّ الموقَّعة عام 1951 والمعدَّلة عام 1999. غير أنّ ثغراتٍ جوهريّة تُعيق التنفيذ:

– شرط الحُكم المبرَم: الاتّفاقيّة تحصر التسليم بالمحكومين نهائيًّا، بينما يقبع مئاتٌ موقوفين بلا أحكام.

– مهلة الأشهر الستّة: حتّى المحكومين لا يجوز نقلهم قبل انقضاء ستة أشهر على صدور الحكم، وهو شرط يتعارض والضغط السوريّ للتسليم “الفوريّ”.

– تبدّل النظام الحاكم: بُنود الاتّفاقيّة وُضِعت مع نظامٍ زال، ما يُحتّم إعادة التفاوض على شروطٍ تضمن محاكمة عادلة في دمشق.

مخاوف الموقوفين وهواجس الانتظار

تفيد بيانات وزارة الداخليّة بأنّ السّجون تستضيف حوالى ألف و850 سجينًا سوريًّا موزَّعين بين رومية والقبّة والبقاع، إضافةً إلى مئاتٍ في النظارات المؤقّتة. وتشير تحقيقات منظّمات حقوقيّة إلى أنّ الرقم الفعليّ يتجاوز ألفي معتقل، بينهم 190 شاركوا في الانتفاضة السوريّة و600 بانتظار محاكمة بتُهَم “إرهاب” مطّاطة.

بالنسبة إلى الحكومة اللّبنانيّة، لا تنحصر المسألة في الموقوفين السوريّين على أراضيها؛ فعلى الضفّة المقابلة فارّون لبنانيّون ــ بعضهم متَّهمٌ باغتيالاتٍ أو بعمليّات أمنية خطيرة ــ لجأوا إلى الداخل السوريّ منذ سنوات. لذلك أدرج الوفد اللبنانيّ، الذي أعدّ ورقته التفاوضيّة قبيل زيارة الشيباني، بندًا يطالب بتسليم هؤلاء إلى القضاء اللبنانيّ. المنطق الرسميّ واضح: المقايضة القضائيّة تُبنى على مبدأ المعاملة بالمثل. لكنّ المراقبين يرون أنّ بيروت تمتلك أوراقًا أضعف، لأنّ حاجتها إلى إفراغ السجون أكثر إلحاحًا من حاجة دمشق إلى تسليم لبنانيّين معدودين.

داخل الزنازين المزدحمة في رومية وغيرها، يتابع السجناء السوريّون المستجدّات بقلق ظاهر؛ فالمحكومون يخشون عدم إعادتهم إلى بلادهم بذريعة “الإرهاب” بعد سقوط النظام الأسديّ، أمّا غير المحكومين فيخشون “التثبيت” الطويل في السجون اللبنانيّة، بعدما علّقوا إضرابهم عن الطعام نتيجة وعودٍ رسميّةٍ بتسوية أوضاعهم. يقول أحدهم في حديثه إلى “المدن”: “نحن خائفون من تسويةٍ جزئيّةٍ تتركنا خلف القضبان. كيف تُطبَّق العدالة الانتقاليّة إذا صار القانون انتقائيًّا؟”.

الرأي القانونيّ

يرى مدير مركز “سيدار للدراسات الحقوقيّة” المحامي محمّد صبلوح أنّ الملفّ يُدار حاليًّا بأدواتٍ سياسيّة أكثر منها قضائيّة. ويقول: “الاتّفاقيّة القديمة تفترض تسليم المحكومين وحدهم، لكن حتى هؤلاء لا تُطبَّق عليهم بنودُها بسبب مهلة الأشهر الستّة. ثمّ، إذا كانت دمشق نفسها تعيد النظر في تلك الاتّفاقيّة، فلماذا يتمسّك بها لبنان إلّا لاستبقاء بعض الموقوفين كورقة ضغط؟”. ويذكّر صبلوح بأنّ عشرات الحالات رُحِّلت سابقًا “خارج أي إطار قانونيّ”، فيما يُعطَّل الآن الترحيل لأسبابٍ لا تُعلَن. وبالنسبة إليه، “الحلّ يبدأ بتشريعٍ شاملٍ يُميّز بين المتورّطين بجرائم دمٍ وبين أولئك الذين حُوكِموا لمجرّد دعمهم المادّيّ أو الإعلاميّ للثورة”.

توازيًا، وضعت الحكومة اللبنانيّة “خطّةً جديدة لإعادة السوريّين إلى ديارهم” عبر ما تصفه بـ”العودة الكريمة الطوعيّة”. ويؤكّد صبلوح ــ استنادًا إلى مشاهداته ــ أنّ أعدادًا متزايدة تتوجّه فعلًا نحو المعابر، مدفوعةً بوقف مساعدات الأمم المتّحدة وبانهيار القدرة الشرائيّة في لبنان.

ويضيف:”عندما زرتُ وزارة العدل السّوريّة، أكّدوا لي أنّ هناك اثنتين وأربعين اتّفاقيّة قيد إعادة النظر، وأنّ النظام الحالي لا يقبلها”.

ويُتابع: “ثانيًا، ملفّ السوريّين لا يُعالَج إلّا بتشريعٍ شامل. نحن اليوم أمام عهدٍ جديد؛ الرئيس نواف سلام وعد بمعالجة الموضوع، وهو يؤمن بأنّ السّوريّ واللبنانيّ لا يُفصلان. ففي فترةٍ سابقةٍ وقعت الثورة وتجاذباتٌ سياسيّة: مَن قاتل إلى جانب النظام لم يُحاسَب، ومَن قدّم مساعدةً غذائيّةً للثورة اعتُقل بتهمة الإرهاب. هذا العهد مُطالَب بتحقيق عدالةٍ انتقاليّةٍ حقيقيّة”.

وهنا يُشير: “غير أنّ رئيس الجمهوريّة يعترض بحجّة أنّ بعض الموقوفين متَّهمون بقتل عسكريّين. لذلك فلنُحدِّد المتَّهم الفعليَّ بالدليل وليبقَ موقوفًا، أمّا الباقون فيفترض الإفراج عنهم”.

مبينًا أنّه و”في الشقّ القانونيّ لملفّ الموقوفين، ثمّة مشروع قانون قادر على معالجة القضيّة. عدد الموقوفين ليس كبيرًا: نحو 310، بينهم بين 150 و160 من جنسيّات مختلفة، وليسوا سبب أزمة السجون. ومع ذلك، يُستخدَم القانون ذريعةً حيثما نشاء وننتهكه حين لا يلائمنا. حتى في صفقات التبادل أُفرج عن محكومين بأحكامٍ نهائيّةٍ بذريعة إعادة المحاكمة. هذا الانتقاء في تطبيق القانون لا يُريح البلد. إذا أردنا فتح صفحةٍ جديدةٍ مع سوريا فلنَتصرف بوضوح: الدولة السوريّة أعلنت أنّ ملفّ الموقوفين في خواتيمه، ولن تقبل المماطلة”.

انتقائيّة العدالة: معايير مزدوجة على جانبي الحدود

يُثير الملفّ كذلك سؤالًا أخلاقيًّا أوسع – بحسب صبلوح -: فلماذا يُحاكَم سوريّون في لبنان بتُهَمٍ تعود إلى مشاركتهم في المعارك داخل سوريا، بينما لم تُفتح أيّ ملفاتٍ بحقّ لبنانيّين قاتلوا إلى جانب النظام الأسديّ يوم كانت دمشق تُصنَّف “عدوًّا” من بعض القوى اللبنانيّة نفسها؟ وهنا تُشير تقارير حقوقيّة إلى معاملةٍ تفضيليّةٍ واضحة تُغذّي شعورًا بالظلم لدى الموقوفين السّوريّين وتُضعِف حجّة “المعاملة بالمثل” الّتي يرفعها لبنان.

في ضوء هذه الوقائع، يبدو مستقبل العلاقات اللّبنانيّة ــ السّوريّة مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بقدرة الجانبين على التوصّل إلى تسويةٍ عادلةٍ وشاملةٍ لهذا الملفّ الحسّاس؛ ففي حال فشل الطرفين في تقديم ضمانات قضائيّة واضحة، قد تعود العلاقات إلى نقطة التوتّر، وربّما يشهد لبنان مزيدًا من الضغوط في ملفّاتٍ اقتصاديّةٍ وحدوديّةٍ حسّاسة، وسط احتمال استخدام دمشق هذه القضيّة ورقة ضغطٍ سياسيّة في المستقبل القريب.

يبقى ملفّ المعتقلين السوريّين في لبنان قضيّةً شائكةً تحتاج إلى شفافيّةٍ قانونيّةٍ وإنسانيّةٍ، وإلى مقاربةٍ سياسيّةٍ ذكيّةٍ تُفرِّق بين المحكومين بجرائمَ فعليّةٍ وأولئك الذين اعتُقِلوا لأسبابٍ سياسيّةٍ أو نتيجة التباساتٍ قضائيّة. وبانتظار الزيارة المرتقبة للوزير أسعد الشيباني، ينتظر المعتقلون وذووهم على جانبي الحدود أن تثمر اللقاءات تفاهماتٍ حقيقيّةً تضمن لهم حقوقهم، في مرحلةٍ جديدةٍ من العلاقات الثنائيّة بين لبنان وسوريا، ما لم يكن الأمر مجرّد تسويةٍ ظرفيّةٍ لملفٍّ إنسانيٍّ عالقٍ في دهاليز السياسة الإقليميّة.

المدن

—————————-

 سوريا: وهم البناء على أرضٍ هشة/ مها غزال

الخميس 2025/06/12

من ينظر إلى الخارطة السورية اليوم، يرى بلداً يقف عند مفترق طرق بالغ الخطورة: احتمالات مفتوحة على الانفراج أو الانفجار، على التسوية أو التفكك، على البناء أو المزيد من الانهيار. لكن الإشكالية الأعمق ليست في غموض الخيارات، بل في هشاشة القواعد التي تُبنى عليها المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكأن البلاد تسعى للنهوض عبر تجميل الركام لا إزالته.

الحقيقة المؤلمة هي أن سوريا، حتى هذه اللحظة، لا تزال تتهرب من التعامل الجاد مع أزماتها البنيوية، وكأن ثقل الكارثة قد دفع الجميع إلى إنكار حجمها، الأزمة ليست فقط في البنى التحتية المدمرة، أو الليرة المنهارة، أو المهجرين بلا عودة، بل في الوجدان السوري الممزق، في كتل الغضب والكراهية، وفي الشرخ المجتمعي العميق الذي خلفته سنوات القهر والعنف، دون أن تعالجه أي جهة بصدق وشجاعة.

أزمة لا تُعالج بتمويه الذاكرة

لقد خاض السوريون حرباً مركبة، متعددة الطبقات، دينية وطائفية وسياسية وجهوية، ورغم أن خطابات “الوحدة” و”التسامح” و”العودة إلى الدولة” تملأ المنصات، فإن جوهر الأزمة لم يُمس: لم تُفتح أرشيفات السجون، لم تُحاسب أجهزة القمع، لم يُعترف بالضحايا، لم تُسمَّ الجرائم باسمها.

وما لم تتم لحظة مصارحة وطنية حقيقية، مع تحديد المسؤوليات التاريخية، ستبقى الحرب كامنة تحت السطح، حاضرة في كل بيت وذاكرة، حتى لو ساد الصمت الظاهري.

إن التعامل مع منظمات حقوق الإنسان المستقلة، التي وثقت كل مراحل النزاع، يجب أن يكون خطوة أولى نحو العدالة، لا بهدف “الانتقام”، بل لترميم العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة.

فالعدالة الانتقالية ليست ترفاً قانونياً، بل أساس الاستقرار المستقبلي لأن “البلدان التي تخرج من الحرب دون مساءلة، لا تخرج حقاً، بل تغيّر فقط شكل المعركة”، حسب المفكر السياسي الجنوب إفريقي أليستر سبارو.

الأمن… الغائب الحاضر

وفي ظل هذا التهرب من المصارحة، تتفشى الجريمة في المجتمع السوري، ليس كنتيجة طبيعية فقط لانهيار المنظومة الأخلاقية، بل كعرضٍ من أعراض غياب العدالة المنظمة، عمليات الخطف، وتجارة السلاح، وجرائم القتل العشوائي، والعصابات، هي اليوم أكثر حضوراً في حياة السوريين من أي مشروع دولة.

ولكن هنا تبرز المفارقة: كيف يمكن مواجهة هذه المعضلة الأمنية في ظل واقع سياسي معقد؟ العقوبات الغربية، التي لم تُرفع عن وزارتي الدفاع والداخلية، تمنع تحديث البنية الأمنية والتقنية، وتحرم الدولة من الوصول إلى أدوات مواجهة التحديات الجديدة التي تختلف تماماً عن أدوات “الرقابة البوليسية” السابقة، فحتى لو امتلكت الدولة الإرادة، فهي اليوم مكبلة عن إعادة تشكيل جهاز أمني فعال مدني الطابع، مسؤول أمام القانون لا فوقه.

اقتصاد متخيَّل لشعب مفجوع

وفي واحدة من أكبر المفارقات التي يعيشها السوريون اليوم، تُطرَح مشاريع إعادة إعمار طموحة تتحدث عن “مدن ذكية”، و”أبراج فاخرة”، و”مراكز استثمارية” توصف بأنها ستعيد سوريا إلى قلب الاقتصاد الإقليمي، ولكن من ينظر في التفاصيل يدرك أن هذه المشاريع لا تتحدث إلى السوريين، بل إلى خيال سياسي لا يعترف بأن هذه البلاد قد تغيرت، وأن شعبها صار أفقر وأضعف، وأن أولوياته لا تشبه أبداً أجندات من يخططون على الورق.

ففي بلد يعيش غالبية سكانه تحت خط الفقر، ويواجه ملايينٌ منه أزمة سكن مزمنة، تُقدَّم حلول النخبة كأنها خطط وطنية، لكن الحقيقة أن الفجوة بين الواقع المعيشي والمشاريع المطروحة ليست فقط فنية أو مالية، بل تُعبّر عن انقطاع كامل في فهم من هو “المواطن” المستهدف بالإنقاذ.

الشعب السوري، الذي فقد بيته وأرضه ووظيفته، لا يبحث عن شقة في الطابق الثلاثين، بل عن مأوى يقيه البرد، ومدرسة لأولاده، ومستشفى، وموظف حكومي لا يطلب رشوة، لكن العدالة الاقتصادية تكاد تكون الغائب الأكبر عن المشاريع الاقتصادية المطروحة.

اقتصاد بلا قاعدة إنتاجية

وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن نهضة اقتصادية حقيقية دون قاعدة إنتاجية، خصوصاً في الزراعة والصناعة الخفيفة، لاسيما في سوريا، التي كانت تُنتج أكثر من 4 ملايين طن من القمح سنوياً، وأصبحت تستورد بعض احتياجاتها الأساسية من الغذاء، هذا التحول الكارثي لا يعكس فقط آثار الحرب، بل سوء ترتيب الأولويات بعد الحرب.

وفي هذه الأوضاع، بدلاً من توجيه الموارد نحو إصلاح منظومات الري، ودعم المزارعين، وتوفير البذور والأسمدة والطاقة للمناطق الزراعية، يتم توجيه الاهتمام إلى مشاريع نخبوية تتطلب بنية تحتية متقدمة واستقراراً أمنياً ومناخاً استثمارياً لا وجود له.

الأمن الغذائي، المرتبط بمشكلة المياه، يجب أن يكون على رأس أولويات أي استراتيجية اقتصادية وطنية، فالمناطق الزراعية في الجنوب والشرق تعاني من تصحر متسارع، وتراجع في منسوب الفرات، وانعدام السياسات المستدامة، وأي خطة اقتصادية لا تبدأ من الأرض، لا تنتمي إلى البلاد، مهما بدا بريقها لامعاً.

لا شك أن العقوبات الغربية التي كانت مفروضة على سوريا، خصوصاً على وزارات سيادية ومؤسسات مالية، تعيق حركة التمويل والتجارة والتعاون التقني، ولكن تحويل العقوبات إلى “شماعة شاملة” لتعليق كل الإخفاقات هو تهرب آخر من الحقيقة، فالمشكلة ليست فقط في وجود العقوبات، بل في غياب الاستراتيجية الوطنية الواقعية للتعامل معها.

الحلول البديلة، من التعاون مع شركاء إقليميين إلى اعتماد اقتصادات محلية مستقلة، لا تزال هامشية، لاسيما أن الدولة لم تتحدث حتى الآن عن تنمّية شبكات إنتاج محلية، أو اطلاق آلية تمويل صغيرة ومتوسطة الحجم للفئات المتضررة من الحرب، ولا يتم الحديث عن تأسيس نظام ضريبي عادل يعيد توزيع الثروات ولو بحدوده الدنيا.

كما أن تعثّر الاستثمار العربي ليس سببه فقط “الخوف من العقوبات”، بل انعدام الشفافية، والفساد، وتحييد دور القضاء، وانقسام القرار الاقتصادي بين مراكز قوى متضاربة لا تنتمي إلى منطق السوق، ولا إلى منطق الدولة.

سلم أولويات مقلوب

من يراقب الخطاب الرسمي الاقتصادي السوري يلاحظ هذا التناقض: في الوقت الذي يُقال فيه إن “سوريا تمر بظرف استثنائي”، يتم الحديث عن استثمارات عقارية هائلة ومناطق حرة ومشاريع سياحية فاخرة.

هذا ليس فقط تضليلاً، بل تزييف للإرادة الوطنية، لأن الإرادة التي لا تبدأ من ترميم المدرسة والمستشفى والبيت الريفي، لا تمثّل السوريين، بل تمثّل طبقة ضيقة تحاول النجاة فوق أنقاض الجميع.

قال الفيلسوف الألماني إريك فروم: “إن مجتمعاً لا يضع أولوياته بطريقة إنسانية، لا ينهار اقتصادياً فقط، بل أخلاقياً”.

وسوريا لا تحتاج اليوم إلى أحلام معمارية بل إلى عقلنة اقتصادية، إلى توزيع عادل لما تبقى من الموارد، وإلى شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع، لا بين الدولة والمنتفعين.

المدن

————————–

بين البوركيني والبيكيني: هندسة الحرّية في سوريا الجديدة/ مناهل السهوي

12.06.2025

فرض لباس بحر ليس قراراً عابراً أو إجراءً إدارياً عادياً، بل خطوة أخرى في مسار طويل من قولبة المجتمع وفق مقاييس أخلاقية طبقية وجندرية، تميز بين من يستطيع الدفع ومن يُجبر على الالتزام. وهو يعيدنا دائماً إلى المعادلة القديمة ذاتها: من يملك السلطة على جسد المرأة، يملك القرار والسلطة على المجتمع بأسره.

في ظل الأحداث المتسارعة والمآسي الكبرى التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، قد يبدو الحديث عن الحريات الشخصية، أو حتى عن لباس البحر، للبعض ترفاً أو خروجاً عن الواقع. تُقال عبارات من قبيل: “نحن لم نرَ البحر أصلاً!”، أو “عن أي بكيني تتحدثون وهناك مختفون قسرياً وعدالة مؤجلة؟”، وكأن المطالبة بالحرية الجسدية والخيارات الفردية نقيضٌ للنضال من أجل العدالة السياسية أو الحقوق الأساسية التي بدأت في عام 2011.

هذه التفاصيل التي تُعتبر “صغيرة” أو “غير مهمة” ليست هامشية كما يظنّ ويروّج البعض، إذ تعكس طريقة يعاد بها تشكيل المجتمع، وتكشف بوضوح عن الانقسامات الطبقية والثقافية والجندرية التي تتسع يوماً بعد يوم. فحين يُتاح ارتداء البكيني فقط في منتجعات فاخرة مخصصة للمقتدرين، ويُفرض على النساء الأخريات ارتداء البوركيني لأنهن لا يستطعن ارتياد سوى الشواطئ العامة، يصبح القرار قطعاً غير بريء وتصبح هندسة الحرية مرتبطة برأس المال لا بخيار الفرد.

“لا نساء في السياسة السورية!”

لا شكّ في أن تعقيد الوضع السوري وثقل ما يواجهه السوريون يومياً يجعلان تبدُّل الأولويات في القضايا العامة أمراً طبيعياً. فالناس منهكون، والجراح مفتوحة، والهموم المعيشية والسياسية لا تُعدّ. لكن إذا كان موضوع لباس البحر “غير مهم” كما يزعم البعض، فلماذا اختارت الحكومة السورية أن تصدر قراراً بتنظيمه في التوقيت نفسه لانعقاد مؤتمرها الكارثي حول “العدالة الانتقالية” الذي مُنح فيه المشتبه بتورطه بمجزرة التضامن فادي صقر صكّ أمان؟

الإجابة بسيطة ومكررة في تاريخ الأنظمة القمعية: جسد المرأة لم يكن يوماً هامشياً في سياسات السلطة، بل كان دائماً ميداناً للصراع والسيطرة. من إيران الخميني إلى سوريا الأسد، لطالما استُخدم جسد النساء كأداة لإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤية السلطة سواء كانت دينية أو قومية أو أمنية.

حين أرسى الخميني دعائم حكمه الإسلامي، لم تكن أولى ضحاياه الأحزاب أو المعارضين فقط، بل النساء أيضاً، اللواتي فُرض عليهن الحجاب بالقانون، وما زلن حتى اليوم يواجهن الملاحقة لمجرد انكشاف خصلة شعر.

فرض لباس بحر ليس قراراً عابراً أو إجراءً إدارياً عادياً، بل خطوة أخرى في مسار طويل من قولبة المجتمع وفق مقاييس أخلاقية طبقية وجندرية، تميز بين من يستطيع الدفع ومن يُجبر على الالتزام. وهو يعيدنا دائماً إلى المعادلة القديمة ذاتها: من يملك السلطة على جسد المرأة، يملك القرار والسلطة على المجتمع بأسره.

في الدول الناشئة أو تلك الخارجة من صراعات طويلة، لا يُعاد تأسيس الدولة فقط عبر الدستور أو القانون، بل غالباً ما يتم ذلك عبر إعادة تشكيل المجتمع نفسه: عاداته، هوياته، وبُنى العلاقات داخله، فتتّجه بعض الدول لتكون أكثر انفتاحاً واهتماماً بالحريات الفردية بينما تفعل الأخرى العكس. في سوريا اليوم، تبدو هذه العملية واضحة، إذ يُعاد توزيع السلطة الاجتماعية بشكل يُعيد تثبيت الهيمنة الذكورية، ويمنح الرجل – كممثل للسلطة الأبوية – مكانة مركزية في الفضاءين العام والرسمي.

يكفي أن نُمعن النظر في المؤتمرات واللقاءات الرسمية، لنرى بوضوح هذا التوجه: غياب النساء شبه التام، وكأنهن غير موجودات أو لا يمتلكن الأهلية للمشاركة في صياغة القرارات أو الاتفاقات أو قيادة مستقبل البلاد. هذا الغياب لا يمكن فصله عن الرسائل الرمزية والسياسية التي تبعثها السلطة – عن قصد أو عن غير قصد – ومفادها أن الرجل وحده هو من يحق له تمثيل الدولة، والتحدث باسمها، وتحديد مصيرها.

ألم يلتقِ الرئيس الشرع بوفد نسائي مع زوجته لطيفة الدروبي من دون أن نسمع صوتها، إنما اكتفى هو بمدحها والحديث عن وقوفها إلى جانبه، لكننا لم نسمع قصة الزوجة هنا، والتي ربما اختارت ألا تتحدث، لكننا أمام دور سياسي للمرأة وعدم التحدث لا يمكن تفسيره إلا في هذا السياق، وهو أمر ينطبق على كلّ اللقاءات في سوريا، إذ من أصغرها وحتى أكبرها لا نسمع فيها سوى آراء الرجال.

فهل تصبح الهيمنة الذكورية جزءاً من مشروع إعادة بناء الدولة وأداة من أدوات الحكم وإعادة إنتاج الطاعة والسيطرة؟ تبدأ من جسد المرأة وتمتد إلى كل تفاصيل حضورها في الحياة العامة؟

قد تبدو هذه الإجراءات متفرقة وصغيرة الحجم، لكن ما يحدث في الواقع هو بناء ممنهج لمنظومة رقابة متصاعدة.

كيف تُقاس مشاعر المجتمع؟

على مدى سنوات الثورة والقمع، حُرم ملايين السوريين والسوريات من ارتياد شواطئ بلادهم، إما بفعل التهجير أو الخوف أو الفقر أو القوانين التي ضيّقت على الحركة. واليوم وبعد سقوط النظام، لا يأتي الفرج للسوريين من بوابة استعادة حرياتهم، بل من خلال تقنين صارم لشاطئ البلاد، وبذريعة الأخلاق العامة.

القرار الجديد جاء عبر وزارة السياحة، التي أصدرت لائحة تنظيمية تخص الشواطئ العامة، نصّت على ضرورة “الالتزام بالحشمة”، وهي عبارة فضفاضة تفتح المجال لتفسيرات لا نهائية. فقد ورد في نص القرار: “يُطلب من رواد الشواطئ والمسابح العامة من السياح والزوار على حد سواء الالتزام بارتداء ملابس سباحة مناسبة تراعي الذوق العام ومشاعر مختلف فئات المجتمع”.

لكن ماذا تعني “الملابس المناسبة”؟ وما هو “الذوق العام”؟ وكيف تُقاس “مشاعر مختلف فئات المجتمع”؟ هل المقصود هو فرض نمط محدد من اللباس، مثل البوركيني، تحت ستار احترام “الذوق العام”؟ أم أن هناك نية لحظر لباس معين كالبيكيني من دون التصريح بذلك صراحة؟

ما يعرفه السوريون والسوريات ممن ما زالوا يرتادون الشواطئ، أن هناك تنوعاً كبيراً في أنماط اللباس: بعض النساء يرتدين البوركيني، وأخريات البيكيني، وهناك من يخترن لباساً وسطاً مثل الشورت والتي شيرت، ما يعكس التنوعات الاجتماعية والدينية والثقافية التي لطالما كانت موجودة في سوريا. فكيف يمكن اختزال كل هذا التنوع تحت راية “الذوق العام”؟ ومن يملك تعريفه أو تحديده؟

الخطورة لا تكمن فقط في منع نمط معين من اللباس، بل في جعل المعايير الخاصة معياراً لصياغة القوانين. فحين تُترك القوانين لتُصاغ بحسب ما يُرضي “مشاعر” غير محددة لفئات غير واضحة، فإنها تصبح أداة لضبط السلوكيات الشخصية، ولإعادة قولبة المجتمع بما يناسب السلطة، لا الناس.

من جهة أخرى، شدد القرار على منع الرجال من “الظهور عرات الصدور” خارج أماكن السباحة، مثل المطاعم أو بهو الفنادق. وعلى رغم أن الأمر يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، إلا أنه يطرح سؤالاً أساسياً: أليس في ذلك شكل من أشكال الوصاية على أبسط تفاصيل الحرية الشخصية؟ ففي أماكن وُجدت أصلاً للاستجمام والتمتع بالبحر، بات حتى تناول الطعام مشروطاً بقيود معينة.

وربما يلخّص تصريح رئيس الدائرة الإعلامية في وزارة السياحة، عبد الله حلاق، لعنب بلدي، التوجه المتشدّد الرافض أي حرية لا تندرج ضمن رؤية الحكومة الأخلاقية والثقافية. فقد برر القرار بأنه يهدف إلى “الحفاظ على الآداب العامة” وتجنّب “خدش الحياء”، مشيراً إلى تخصيص أماكن منفصلة للعائلات المحافظة وأخرى للسياح الأجانب، في محاولة لتقديم صورة مزدوجة: داخلية محافظة وخارجية منفتحة، تخدم مصالح السياحة من دون السماح بانعكاسها على المجتمع المحلي.

الأكثر دلالة في تصريح حلاق، كان وصفه ارتداء ملابس السباحة النسائية (كالبيكيني) في الشواطئ العامة بأنه سبب “تشوّه بصري” لمعظم مرتادي هذه الأماكن. وهو توصيف صريح يختزل جسد المرأة بمصدر إزعاج أو تشويه بصري، ويعبّر بوضوح عن موقف السلطة من الحريات الجسدية. هكذا، تقرّر الحكومة – من موقعها الأبوي – أن سوريا “بلد محافظ”، وتمنح نفسها صلاحية تعريف ما هو مقبول أو غير مقبول من أنماط اللباس، وتحديد من يحق له الظهور في الفضاء العام، وبأي شكل.

هذا الخطاب لا يكتفي بتبرير القمع، بل يسعى إلى تطبيعه وتسويغه بوصفه منسجماً مع “الذوق العام”، متجاهلاً أن الحكومة، من موقع قوتها ومن شعورها بالانتصار، هي من تفرض هذا “الذوق” وتشكّله، فيتحوّل أي قرار تتخذه إلى حقيقة مطلقة في نظر المطبّلين، لا تُناقش ولا تُرفض.

قد تبدو هذه الإجراءات متفرقة وصغيرة الحجم، لكن ما يحدث في الواقع هو بناء ممنهج لمنظومة رقابة متصاعدة. إنها لعبة مكشوفة: تبدأ بقرارات تبدو عابرة أو مبررة، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد. ومع مرور الوقت، تتسع هذه القواعد، تزداد صرامة، وتلتهم مساحات جديدة من الحرية. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن يستيقظ الناس ذات صباح ليكتشفوا أنهم خسروا آخر ما تبقّى لهم من حقوقهم في التحكم بأجسادهم وسلوكهم واختياراتهم اليومية.

 – كاتبة وصحفية سورية

درج

————————————-

ميثاق شرف” إعلامي في الجنوب السوري ضد التحريض/ ضياء الصحناوي

13 يونيو 2025

تحاول منصات الإعلام المستقلة في الجنوب السوري مواجهة التحديات الجديدة التي نشأت بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، من فوضى واصطفافات وخطاب طائفي مؤجج وانتشار للأخبار الكاذبة، وسط غياب الإعلام الرسمي عن الساحة. ووجدت 14 منصة إعلامية محلية في محافظتي درعا والسويداء أن خروج ميثاق الشرف الإعلامي إلى النور هو صيانة للسلام، وطريق مستدام لإعلام متوازن ومستقل يحافظ على الشفافية، ويحارب الخطاب المتطرف.

وُقّع “ميثاق شرف لمنصات الجنوب الإعلامية” في 31 مايو/أيار الماضي، وأحدث صدمة إيجابية مفاجئة وتحد على جميع المستويات، قابلته محاولات عديدة لتخوين المنصات الإعلامية الموقعة والعاملين فيها. وقع هذا الميثاق بعد جهود استمرت لأكثر من أربعة أعوام تحت إشراف منظمة “بلدي” بالشراكة مع منظمة “تسامح من أجل مستقبل سورية”.

وفقاً لمدير البرامج في “بلدي”، معين جاد الكريم أبو عاصي، فقد انطلقت المبادرة قبل سقوط نظام الأسد الذي “عمل جاهداً على تمزيق النسيج الاجتماعي لمحافظتي درعا والسويداء مستخدماً الإعلام وسيلةً للتضليل والتحريض، وأحدث هذا خللاً في الخطاب الإعلامي المحلي ضمن الجنوب السوري، الأمر الذي استدعى إطلاق مشروع حوار بين منصات الجنوب تبنته منظمة بلدي بالتشارك منع منظمة تسامح من أجل مستقبل سورية”. ويضيف أبو عاصي: “استطعنا في فترة قصيرة جمع 14 مؤسسة إعلامية مؤثرة في المحافظتين، وقدمنا تدريبات تتعلق بمهنية العمل الصحافي والتمكين الإعلامي، ركزت على تبني خطاب مناهض لخطاب الكراهية ويسعى لتعزيز السلم الأهلي، خصوصاً بعد سلسلة من النزاعات الدموية بين فصائل مسلحة من المحافظتين”. يفيد بأن “معظم المؤسسات الإعلامية في الجنوب السوري ولدت من رحم الحرب السورية، والعديد من كوادرها غير مختص ويعمل ضمن ظروف أمنية واجتماعية سيئة”، ويضيف أن “هذا ما شجعنا أكثر على تبني هذه الخطوة، فانطلقنا من عمق التاريخ المشترك بين السهل والجبل، والإرث التاريخي الجامع للأجداد من تشاركية في النضال ضد المستعمر والطغاة، وما ورثه الأحفاد من تقاليد وأعراف ميّزت الجنوبيين”.

يبين أبو عاصي أنه بعد جلسات حوارية طويلة ومكثفة، أمكن الوصول إلى مسودة ميثاق شرف بين منصات إعلامية “كان لها الأثر الأكبر في وأد الفتن بين المحافظتين ودعم العمل المشترك وحفظ السلم الأهلي، بعد تمكين العاملين في بعض المؤسسات من مراعاة المهنية والموضوعية والدقة في نقل الخبر، بالإضافة للاتفاق على قاموس من المصطلحات اللازمة لنبذ خطاب الكراهية ومناهضة التفرقة ووأد الفتنة”. والآن، يلفت أبو عاصي إلى أن “هذا العمل أخذ من وقتنا الجهد والزمن اللازم لإنجازه، وهو ضرورة ملحة في ظل هذه التحديات الكبيرة التي تواجه بناء الدولة السورية ومنظومة إعلامها، ونعتبره اللبنة الأولى في طريق إنجاز ميثاق شرف هادف لصون الحقيقة وتعزيز السلم الأهلي ومناهضة الأخبار المضللة والتجييش الطائفي، وكذلك خطوة أولى لميثاق شرف يضم معظم منصات الإعلام السورية المستقلة”.

لكن الإعلان عن الميثاق أثار تفاعلاً متبايناً بين المتابعين. بينما رأى فريق أنه خطوة ضرورية لاحتواء الشحن الطائفي، اعتبر آخرون أنه يتجاهل مشاعر الجمهور ويبتعد عن قضاياه الجوهرية. كما شكك آخرون في إمكانية الالتزام العملي ببنود الميثاق عند أول اختبار ميداني. ورداً على هذه الانتقادات، قدم الناشط الإعلامي في موقع الراصد، منيف رشيد، نموذجاً عملياً لتطبيق الميثاق، مؤكداً أن مؤسسته تعمل بهذه المبادئ منذ تأسيسها، مما أكسبها مصداقية لدى الجمهور رغم الهجمات التي تعرضت لها خلال موجة التحريض الأخيرة. مشيراً إلى أن اتباع منهجية مهنية صارمة في التحقق من المعلومات، ومراعاة الخصوصيات المجتمعية، أسهم في زيادة المتابعين بنسبة 300% خلال فترة الذروة في انتشار خطاب الكراهية.

وفي مقابل هذه الجهود، يلاحظ مراقبون تقاعس الإعلام الرسمي السوري عن مواجهة خطاب الكراهية، بل تكراره لأساليب النظام السابق في بعض الأحيان، ليقع في فخ التحريض وبث خطاب الكراهية. هذا الفراغ الإعلامي سمح بانتشار الأخبار المضللة ورواج الروايات التحريضية، خاصة في القضايا الشائكة التي تتطلب تغطية متوازنة. وفي هذا السياق، يقول المواطن خالد المقداد من درعا لـ”العربي الجديد” إن الإعلام الرسمي “لم يُسجّل معاناتنا، بل عمّقها. تقاعسه عن مواجهة خطاب الكراهية وتكراره لأساليب النظام السابق حوّله إلى أداة تأجيج. خلال الاعتداءات التي تتعرض لها جارتنا السويداء من مجموعات منفلتة تطلق القذائف من مناطق تقع بين درعا والسويداء، ولم نرَ من الإعلام الرسمي سوى صمتاً يُضفي شرعيةً على التحريض، أو تغطياتٍ مختزلةً للأزمة”. ويرى أن مقارنة المنصات المحلية، مثل “شبكة الراصد” أو “درعا 24″، بالإعلام الرسمي، “تكشف التناقض؛ تصحيح الأخبار خلال ساعاتٍ يُثبت أن المشكلة ليست مشكلة إمكاناتٍ، بل إرادة سياسية”. ويطالب بإجراءات “ملحة وعاجلة، تتلخص في إنشاء وحدات تحقق ميدانية تابعة لوزارة الإعلام، وإحداث منصة شكاوى مستقلة للإبلاغ عن التحريض، وإجراءات علنية لمحاسبة قانونية للمتورطين في بث الأكاذيب”. ويقول: “كفانا وقوداً لحرائق الإعلام. التحريض يذبح الحقائق والأبرياء”.

من جهة ثانية، يرى الكاتب والباحث زيدون الزعبي، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن نجاح الميثاق مرهون بتطوير آليات تنفيذية فاعلة. مقترحاً إنشاء هيئة رقابية مستقلة مكونة من خبراء في القانون والإعلام والمجتمع المدني أو منبثقة عن المؤسسات الموقعة على الميثاق، مع تطوير نظام شكاوى شفاف يضمن التزام المؤسسات بما وقعت عليه وحمايتها أيضا من أي انتهاكات، مشيراً إلى أهمية الاستفادة من تجربة “لجنة الشكاوى” في ميثاق شرف الإعلاميين السوريين الذي أُطلق في إسطنبول عام 2014. ويشدد على أنه على المؤسسات الموقعة أن تتحلى بمرونة عالية في تقبل النقد والالتزام بالضوابط الأخلاقية التي أقرتها على نفسها. ويرى الزعبي أن الإعلان عن الميثاق جاء “في مرحلة مفصلية، تمارس خلالها مواقع التواصل الاجتماعي دوراً تحريضياً يستهدف المجتمع والدولة في وقت هو بأمس الحاجة للاستقرار”. ويحذر من أن “التحريض يولّد تحريضاً، ومناهضة التحريض تكون بعدم الرد بالمثل والالتزام بمقومات العمل الصحافي المهني والأخلاقي”، ويقر بأن خطوة مواجهة هذا السيل الكبير من التحريض في منصات الجنوب يحتاج إلى الكثير من المقدرة والشجاعة. ويقول: “في الوقت الذي ينتظر البعض من المؤسسات الإعلامية التعاطف مع المكوّن المحيط لتحظى باستقطاب أكبر عدد منهم، فمن الشجاعة والقوة حينها لهذه المؤسسات أن تبحر بعكس هذا التيار التحريضي، لأنها بالنتيجة توقف التحريض على ذاتها وتساهم إلى حد كبير في بناء الدولة من خلال إرساء مدعمات السلم الأهلي”.

يبقى الطموح الأوسع للمبادرة، بحسب القائمين عليها، هو توسيع نطاق الميثاق ليشمل المنصات الإعلامية السورية المستقلة في محافظات الجنوب ثم في مختلف المحافظات السورية. وبين المبدأ والتطبيق، يُجمعون على أن قيمة الميثاق ستُقاس بقدرته على تجاوز الإطار النظري إلى التطبيق العملي، خاصة في الأزمات الكبرى. وبينما تشكل التجربة الجنوبية نموذجاً أولياً لإعادة بناء الثقة في العمل الإعلامي السوري، ويبقى نجاحها مرهوناً بتضافر جهود المؤسسات الإعلامية والجمهور والمنظمات الداعمة لإرساء آليات رقابية فاعلة وشفافة. وفي المشهد الإعلامي السوري المعقد، حيث تتداخل الخطوط الحمراء وتتصارع الروايات، يمثل هذا الميثاق محاولة جادة لرسم مسار مهني مستقل، قادر على تحويل الكلمة من أداة تحريض إلى جسر للحوار.

العربي الجديد

——————————

 بين سقوط الأسد وصعود الشرع: ارتباك المحللين/ محمد حجيري

الخميس 2025/06/12

وقائع المشهد الرئاسي السوري بين بشار الأسد وأحمد الشرع، يُستخلص منها مساران متعاكسان، الأول انطلق من الأعلى إلى الأسفل، والثاني من الأسفل إلى الأعلى، بغض النظر عن التوجهات الفكرية والدينية والأيديولوجية لكل من الشخصيتين.

قبل أيام، حلّت ذكرى ربع قرن على رحيل حافظ الأسد، الذي يوم أُعلن موته، قام مجلس الشعب السوري بالإجماع بتعديل الدستور واختيار بشار رئيساً، ومُنعِ نائب من التفوه بكلمة ورُمي خارج المجلس. يومها، كانت سوريا، بعيداً من موقفنا إزاء نظامها الاستبدادي، دولة محورية مركزية في الشرق الوسط، لها الكلمة الفصل في لبنان حيث يتنافس السياسيون على مدح أسدها ومسارها ومصيرها وأتفه ضابط فيها. وكانت المحرّك لعدد كبير من القيادات والفصائل الفلسطينية، وعلاقتها قوية بالأردن ودول الخليج وإيران والعراق ومصر، وصراعها مع إسرائيل قائم على التوازنات والخطوط المرسومة.

لكن الوريث البيولوجي المتهور، طبيب العيون الآتي من بريطانيا والملتحق بدورات عسكرية “مكثفة”، والذي لم تكن أمه تحبذ وصوله للحكم على زعم مقربين من النظام، سريعاً ما دمّر ما “بناه” والده في السياسة والاستراتيجيات والاجتماع، وجعل من سوريا ساحة أو بؤرة لا دولة، بل خردة وركاماً وأيتامًا وأمهات ثكالى، ومدناً مدمرة ومشردين ومقابر واسعة ومجازر وفتن متنقلة ومصانع كبتاغون. قال رفيق الحريري ذات مرة بعد اجتماعه ببشار: “صرتُ خائفاً على سوريا وليس على لبنان”، وكان مصيباً في كلامه. ذلك أن ملامح بدايات خراب سوريا، بدأت من سياسة الخَلَف الأسدي في لبنان. فقبل موت الأبدي الأول، أي حافظ الأسد، كان بشار استلم الملف اللبناني واختار الجنرال إميل لحود ليحكم لبنان، ومعه بدأ يصعد التيار الأمني على حساب الدور الاقتصادي، والدويلة على حساب الدولة، وسياسة “النص كم” على حساب المنطق.

وما وعد به بشار من ربيع دمشقي كان مجرد ترغيب عابر، ومَن أخذ ذاك الربيع على محمل الجد وبدأ سعيه فيه، دخل السجن، والمنتديات التي نشطت لأسابيع قليلة أقفلتْ. اجتماعياً، الفقراء ازدادوا فقراً، والمزارعون راحوا ضحية “الإصلاحات” الزراعية التعسفية، وأدار الأسد الإبن وأخواله وأعوانه وزوجته الاقتصاد بمنطق الشريك المضارب، وأطيح الطقم السياسي القديم، فقُتل مَن قُتل، ونُفي من نُفي وسُجن من سُجن، وكانت الذروة في التمديد القسري لإميل لحود العام 2004 ثم اغتيال رفيق الحريري العام 2005. وما طمح إليه الأسد الأب طوال حروبه وفتنه واغتيالاته في لبنان، وتجلى في انتشار جيشه، والسيطرة على القرار اللبناني و”سوريا المجوفة” كما تسمى، سقط في سنوات قليلة. خرج الجيش السوري من لبنان بعد القرار 1559 وتظاهرة 14 آذار 2005، وإن حاول الأسد العودة سياسياً من خلال حرب 2006 ودعم حزب الله، لكنه خسر علاقاته بمحيطه العربي، بسبب تصريحاته الرعناء وسلوكياته غير المسؤولة، في مقابل تقدّم حسن نصرالله الذي شكل بديلاً عن الأب الضائع.

وبدأ دور حزب الله يتصاعد، وسوريا التي كانت حليفة إيران، انجرّت إلى التبعية للولي الفقيه. ولما اندلعت الثورة السورية في 2011، لم يطل الوقت قبل أن يدخل “حزب الله” في حرب القصير وانتشر عناصره في المدن السورية وعلى الحدود. والدولة الأسدية التي كانت لاعبا شرق أوسطياً سرعان ما أصبحت ملعباً دولياً، يؤجِّل سقوط نظامها وجود آلاف المقاتلين من حزب الله وإيران وافغانستان وباكستان وروسيا، عدا عن تحوّل سوريا إلى مركز قواعد عسكرية، روسية، أميركية، تركية، إيرانية،… وسيطر الأكراد على شرق الفرات، ولم يبق نفوذ الأسد إلا في دمشق والساحل، كهيكل عظمي، وصار مفعولاً به لا فاعلاً. ومرّت سنوات، واطمأن الرئيس الكرتوني إلى انتصاره واحتفى به، ورفض أن يقابل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لأنه لا يريد أن يتناول المشروبات الغازية أو الليموناضة، وحصلت حرب 7 أكتوبر و”حرب الإسناد”، فكان الأسد غير معني بما يجري. تلقى حزب الله ضربات قاسية، كثر يربطون بين تمدّد حزب الله في سوريا وانكشافه أمنياً، ووصلت الأمور إلى مقتل عمود محور الممانعة، حسن نصرالله، فرثاه الأسد كأنه لا يعرفه.

ومع انتهاء حرب الإسناد، بدأ هجوم “ردع العدوان” من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، وسقط النظام الأسدي خلال أيام. هنا يقف الممانعون في عجز عن تفسير ما حصل، وبقدر عدم تصديقهم لسقوط بشار الأسد ونظام نصف قرن، خلال أيام قليلة، كان عدم تصديقهم لصعود أحمد الشرع، الرجل الجهادي، إلى القمة وجلوسه في قصر الشعب. فالرجل المولود في السعودية والناشئ في حي المزة بدمشق، وطالب الطب الذي لم يستكمل دراسته، انتقل إلى العراق لمقاومة الغزو الأميركي العام 2003، أي في المرحلة عندما بدأ بشار يأخذ سوريا إلى انحدار علاقاتها بالدول، وأدى به ذلك في نهاية المطاف إلى السجن العراقي سيء السمعة الذي تديره الولايات المتحدة باسم معسكر بوكا. وبعد إطلاق سراحه، عاد الشرع إلى سوريا وبدأ القتال ضد نظام الأسد البعثي، وأسس جماعة مسلحة عُرفت باسم جبهة النصرة وتعهدت بالولاء لتنظيم القاعدة. لكنه، في العام 2016، انفصل عن الجماعة الإرهابية.

والرجل الذي عاش التيه ونام في الكهوف، كان صعوده أشبه بمسلسل، أو أن هناك سردية تؤرخ صعوده، لكن حتى الآن تصعب معرفة كواليس هذا الصعود أو رسمه بدقة. كان لقبه “أبو محمد الجولاني”، وعاش مثل الأشباح، فسرعان ما صار صوتاً بلا وجه، يحكي للكاميرا من دون أن نراه، ولاحقاً كشف عن كامل هويته وزيه الجهادي، ثم ذاع صيت انشقاقه عن تنظيم القاعدة وتعاونه مع الأميركيين ضد تنظيم داعش، وهذه تفاصيل تبقى تخمينات صحافية. ومع بدء معركة “ردع العدوان”، ظهر بثياب عسكرية تشبه تلك التي ارتداها الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وصار قميصه ترند في محل الألبسة، ووصل إلى دمشق بأسرع من المتوقع. تخلّى عن لقبه الجهادي، عاد إلى اسمه الطبيعي وارتدي الثياب الرسمية الغربية، البدلة وربطة العنق، ولم يبق من مظهره القديم سوى لحيته. هنا، وبسبب الأحداث الميدانية المتسارعة في سوريا، اعتبر بعض المحللين أن سوريا تعيش بين أحمد الشرع و”أبو محمد الجولاني”.

المهم أن الشرع كان سريع التحول في مقابلاته مع القيادات العربية والغربية وكثير الديناميكية والابهام، الأمر الذي أحدث بلبلة إعلامية وصار المحللون عاجزين عن الإمساك بما يفكر فيه الرئيس السوري المؤقت الذي قاد معركة اسقاط بشار الأسد. وأربك المشهد عندما لم يصافح وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، وقبلها طلب من فتاة أرادت أن تتصور معه أن تغطي شعرها، فاعتبر كثر أنها إشارات إلى توجه سياسي وإيديولوجي من الشرع الذي سرعان ما زار قصر الإليزيه في فرنسا وعدداً من الدول العربية. والرجل الذي كان مطلوباً لأميركا، عاد فالتقى، في السعودية، الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وصفه بأنه “شاب جذّاب” و”رجل قوي” يتمتع بـ”ماضٍ قوي جداً”، أثمر اللقاء عن فك العقوبات الأميركية عن سوريا، بغض النظر عن التفاصيل الداخلية في سوريا، وأنماط السياسات الأمنية، ومنَ أُوقف أو أطلق سراحه ضمن الحفاظ على السلم الأهلي، ومَن يُحاكم ضمن مبدأ العدالة الانتقالية، ومَن يُسمح لهن بارتداء البكيني ومَن عليهن الالتزام بالبوركيني.

بدأت التحليلات والفيديوهات من كل حدب وصوب: مَن “صنع” أحمد الشرع، مَن دربه، ومَن علّمه الإنكليزية، ومَن أعاد تأهيله سياسياً…؟ وزاد الطين بلة، السفير الأميركي السابق روبرت فورد. ومثل كل الشخصيات الجدلية في الشرق الأوسط، صرنا نسمع الأقاويل البوليسية والخنفشارية والروايات حول جمعية بريطانية، ومرات عن امرأة يهودية في القصر، ومرات ومرات عن مؤسسات دولية وتركية وخليجية… حتى ليخمّن المرء أن بعض ناقلي القصص يعيشون مع أحمد الشرع وفي مكتبه وبيته، ويعرفون مَن جلس معه والتقاه، وأي كتاب قرأ.

يعترف بعض المحللين بالضياع في توصيف الشرع ومعرفة وجهته ومساره والقالب أو الإطار الذي يجلس فيه. جل ما يستنتجونه أنه براغماتي، والضياع ناتج عن ماضي الشرع من جهة، والتحركات الدراماتيكية التي يقوم بها من جهة ثانية. وهو الواقع بين الطموح الليبرالي والواقع الديني، بين النقاب وستاربكس.

المدن

—————————————

غاضبون من الشرع!/ ممدوح المهيني

13 يونيو 2025 م

يمتلك الرئيس السوري أحمد الشرع غريزةً سياسية حادة. تعود هذه الغريزة إلى تكوين نفسي مركَّب، وتحولات شخصية عميقة (من زعيم لجبهة النصرة، إلى رئيس لسوريا في بضع سنوات)، وإلى قدرة جليَّة على قراءة الواقع عبر دروس التاريخ. والأكيد أنه قارئ نهم له.

لم يخضع الشرع لضغوط الجماهير كما فعل قادة سابقون، أبرزهم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي دفع ثمناً باهظاً لتماهيه مع الشارع. الشرع يدرك أن الانجراف خلف العواطف الجماهيرية يجعلك رهينة لها، وتحت تهديد الابتزاز الدائم مع كل قرار مفصليّ. وهو، في المقابل، لا يغفل تجربة الرئيس أنور السادات، الذي خالف المزاج الشعبي، وعارض حتى بعض أركان نظامه، لكنه أعاد سيناء ومنع اندلاع حروب جديدة كانت ستدمّر مصر.

ما يميِّز الشرع أيضاً أنه لا يستخدم اللغة الخشبية. سئمنا القاموس السياسي المتكلّس. يتحدث ببساطة وصراحة عمَّا يؤمن به، دون مواربة أو مراوغة. وسوريا المدمَّرة والمنقسمة لا تحتاج إلى زعيم خطابي يبحث عن المجد، بل إلى قائد واقعي، عقلاني، يعالج أزماتها المركَّبة بمسؤولية.

المتطرفون الذين هلّلوا لوصوله إلى دمشق، ظنّوا أنه سيكون امتداداً لـ«الربيع العربي» بصيغته الإخوانية، وأنه سيحوّل سوريا إلى منصة للغزوات الجهادية. وحين خابت ظنونهم، انقلب المديح هجاءً، وتحولت التهاني إلى حملات عدائية منظَّمة.

لكن السؤال: هل كانوا سيشتمونه اليوم لو أعلن الجهاد؟ أو دخل حروباً عبثية مع إسرائيل؟ أو خاض صدامات مع الجيران العرب؟ أو استخدم خطاب الشتائم ضد «الشيطان الأكبر» والقوى «الاستعمارية»؟ بالتأكيد لا. كانوا سيمجّدونه على أنه «الزعيم المجاهد»، بينما يدفع الشعب السوري وحده الثمن؛ خمسين عاماً أخرى من الفقر والتشرد.

لحُسن الحظ أن الشرع اختار الطريق الآخر؛ طريق العقلانية، وبناء الدولة، واستعادة الاقتصاد السوري المتهالك. من دون شعارات مفرغة أو استعراضات نارية. لغة تكنوقراطية جافة لكنها فعَّالة، تنحاز إلى المصلحة الوطنية وترفض المزايدات والابتزاز. «سوريا أولاً» هو الشعار، وهو مفتاح عودة الثقة بين سوريا والمجتمع الدولي.

لهذا، ألقت السعودية بثقلها السياسي والاقتصادي، وأسهمت في رفع العقوبات، مزيلةً واحدةً من أعقد العقبات أمام تعافي سوريا.

سوريا لا تزال تحتاج إلى مزيد من الصبر والوقت، لكن الطريق أصبح واضحاً. والأكيد أن ما كان سيدعو للقلق فعلاً هو لو امتدحه المتطرفون ومردِّدو الشعارات الجوفاء.

الشرق الأوسط»

—————————–

 شمال شرقي سوريا على حافة المجاعة.. مواسم بلا قمح

2025.06.13

“لأول مرة أترك أرضي من دون زراعة القمح. المازوت غير متوفر، وإن توفر فبسعر لا يُمكن شراؤه، لا كهرباء، ولا قدرة على سدّ الديون. منذ قرابة الأربعين عاماً وأنا أزرع القمح، ورثت الأرض عن أبي، الذي ورثها عن جده. لم يسبق أن عشت مثل هذه اللحظة”، يقول المزارع فؤاد البيك من ريف القامشلي، وملامح الحزن بادية على وجهه، مضيفاً: “كانت الأرض لدينا تُعرف بخط العشرة، المشهور بتربته الخصبة وهطولاته المطرية المرتفعة ووفرة محاصيله، لكن هذا العام يشهد موسم القمح انهياراً غير مسبوق، يُهدد ليس فقط الفلاحين، بل الأمن الغذائي للبلاد بكاملها بعد التحرير”.

ووفق تقديرات موظف في وزارة الزراعة السورية بدمشق، أفاد بها لموقع تلفزيون سوريا، فإن “المحافظات الثلاث في شمال شرقي البلاد كانت تنتج نحو 70% من المحاصيل الاستراتيجية من مجمل الإنتاج السوري”. لكن النزاعات العسكرية والسياسات الإدارية أدت عاماً بعد آخر إلى تدهور الوضع المعيشي، وتسببت استراتيجيات الزراعة الرسمية بتقليص المساحات المزروعة، مما أجبر كثيرين على الهجرة داخلياً وخارجياً.

تراجع نسبة المساحات المزروعة بالقمح لهذا العام

تبلغ مساحة الأراضي الزراعية المروية في شمال شرقي سوريا مليون دونم، مقابل مليوني دونم بعلي. نتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج، اضطر كثيرون للاعتماد على الزراعة البعلية، والتي بدورها تأثرت بشح الأمطار وغياب الدعم.

في القامشلي مثلاً، يبلغ معدل الهطول المطري السنوي 415 ملم، إلا أن ما هطل هذا العام لم يتجاوز 80 ملم، ما أدى إلى دمار شبه كامل للمواسم البعلية. وبإحصائيات شبه رسمية فإن الغالبية العظمى من مساحة تبلغ 2 مليون زراعة بعلية تدمرت نتيجة للجفاف وشّح الأمطار، يستثنى منها مئات الدوانم التي حصلت على سقية أو أكثر عبر التعاون بين مالكي الأراضي البعلية والسّقي. في حين أن قرابة الــ10% من مساحة الأراضي الزراعية المروية لم تُزرع بسبب ارتفاع التكاليف وقلة الموارد المالية لدى الفلاحين، بالمقابل فإن الوارد السنوي لمحصول القمح لهذا العام، ونتيجة لسوء المواسم وانخفاض سعر الشراء الذي حددته الإدارة الذاتية بـ 420 دولاراً للطن الواحد، والتي وفقاً للمزارعين والفلاحين لا “تساوي كلفة الإنتاج والرّي وهامش الربح المطلوب” رغم أن الإدارة الذاتية تعهدت بمنح البذار والسماد بنصف القيمة للموسم المقبل للأراضي البعلية، ومنح المازوت بسعر وكميات جيدة للمواسم الصيفية “لكن لا ثقة ولا تصديق لهذه الوعود، لكثرة تكرارها وعدم تنفيذها” وفقاً للفلاحين من مدينة الحسكة.

خروج نحو مليوني هكتار من الخدمة في شمال شرقي سوريا، يعني انهياراً خطيراً في القطاعين الزراعي والحيواني، والتأثير المباشر على مادة الخبز التي غالباً ما ستتعرض لنقص في تمويل الطحين، بالإضافة إلى الاتفاقات التي دوماً وجدت بين أصحاب الأفران ومالكي المواشي، حيث يتم منح كميات كبيرة من الخبز  لمالكي المواشي وبسعر يفوق سعر الربطة الواحدة، لاستخدامه كطعام للماشي، وهي كلفة تقل عن سعر العلف.

يقول سلمان بارودو، مستشار في هيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية لموقع تلفزيون سوريا: “خلال مئة عام، لم نشهد جفافاً مثل هذا العام”، ويؤكد مهران خالد، طالب ماجستير في الجغرافيا الطبيعية، أن “سوريا من أكثر الدول تضرراً من التغير المناخي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن الأقل تمويلاً لمواجهته، بسبب استمرار الحرب منذ 14 عاماً، وبالمحصلة فإن غياب السياسات الاستراتيجية والخطط البعيدة المدى، أوصلت المنطقة إلى هذه الكارثة”.

بالأرقام: سلم التسعيرات وتكاليف الإنتاج يُحاصران الزراعة

من خلال التواصل مع ستة مراكز فلاحية ونقابات زراعية في الحسكة، أفادت المصادر بأن “تدني سعر شراء المنتجات الزراعية وارتفاع التكاليف والتلاعب في سعر الصرف، من أبرز أسباب التدهور. ففي عام 2022، كان سعر طن القمح 550 دولاراً، وانخفض إلى 300 دولار عام 2024، بالتوازي مع ارتفاع أسعار المحروقات واليد العاملة”.

وقدمت المصادر لائحة بمصاريف الإنتاج ومستلزماته التي تقدمها الإدارة الذاتية “30 لتر مازوت لكل 1دونم سقي معتمد على بئر بحرية تنتج 5 إنشات من  الماء، والمتفق عليه أن يتم تسليم المزارعين 4 دفعات سنوياً، بسعر 1400 ل.س للتر الواحد، والتي تختلف الكمية بحسب المساحة المزروعة ونوع محرك الديزل وحجمه، وغالباً ما تتأخر الدفعات عن الفترة الموجب البدء بالسقي، ما يدفع المزارعين لشراء المازوت بسعر حر يصل إلى  4200-6200”.

أحد الفلاحين في المالكية قال لموقع تلفزيون سوريا: “كان الله في عوننا، الجوع هذا العام كافر. سنُجبر على الهجرة أو سنعيش تحت خط الفقر الذي لم نخرج منه أساساً. زرعنا وانتظرنا السماء، لكنها أمحلت. الأرض تصدعت، ولم تنبت سوى الخيبة” مستغرباً من أن “هطول المطر سيعني تخفيض كمية المازوت من قبل الإدارة الذاتية، وندرتها لا يعني أيّ شيء بالنسبة لهم، توزيع الكميات غير منتظم، وهو ما يؤثر على الإنتاج، غالباً ما تتأخر الدفعتان الأولى والأخيرة” أما عن تكاليف الإنتاج فهي “مُرهقة جداً وكأننا أمام صراع طبقي، وثمة من يرغب بتجريد الناس من أملاكها وأراضيها، حيث يبلغ سعر 1طن من بذار القمح 300 طن، وسعر طن سماد ترابي 500 دولار، وسعر طن اليوريا 550 دولار، في حين أن كلفة حصاد 10 دونمات قرابة 75-100 دولار”.

المزروعات البعلية والسقي.. كيف سينبت القمح؟

سابقاً كانت المشاريع الزراعية المروية تُعتبر رصيداً مالياً لأصحابها، وعمقاً استراتيجياً لعموم سوريا، خاصة إذا كانت تعتمد على الكهرباء في تشغيل غطاسات المياه، لكنها تحولت إلى نقمة على مالكيها.

يقول إدريس نايف من أهالي تربسبي: “سابقاً كنت أسقي 400 دونم عبر الكهرباء المتوفرة على مدار الساعة، وبدأت بالتناقص تدريجياً، وزيادة ساعات التقنين، حتى إننا فقدناها للأبد، والأكثر غرابة كان قرار إلغاء المحولات الكهربائية والاعتماد على محركات الديزل، ثم قالوا لنا لا كهرباء ولا مازوت ولا أمطار، كيف سينبت القمح”؟ وتشير مصادر محلية إلى أن 75% من مشاريع الري الخاصة توقفت منذ بداية الموسم، نتيجة لفقدان الكهرباء والمحروقات وارتفاع التكاليف واختتم إدريس حديثه “تأخر وصول المازوت، وعدم قدرة الجميع على شرائه بسعر مدعم، أثر بشكل مباشر على الإنتاج، رحمنا الله بكميات من المطر ساهمت مع الرّي الضعيف بإنتاج مواسم ضعيفة، وفي العام الماضي تم تسعير القمح بـ 300 دولار للطن، وهو ما تسبب بعزوف الناس عن الزراعة نظراً لارتفاع التكاليف وقلة الواردات، وعدم التعويض وغياب أي شكل من أشكال المساعدات للفلاحين والمزارعين”.

أرقام “مرعبة” لهذا العام

تشير تقارير متقاطعة إلى أن إنتاج القمح هذا العام في شمال شرقي سوريا لن يتجاوز 42 ألف طن، مقارنة بـ766 ألف طن عام 2024، و1.15 مليون طن عام 2023. هذا في حين تحتاج المنطقة إلى نحو 650 ألف طن سنوياً للاستهلاك”. وبحسبة صغيرة فإن المفروض أن يبقى في صوامع الحبوب مع كمية القمح لهذا العام ما لا يقل عن 81000 طن من القمح، هذا بغض النظر عن حساب لقصص نقص القمح وفقدانه خلال العامين الماضيين، إذ يجب أن تكون ناتج المنطقة كافياً لها”.

من جهتها حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) من أن “الجفاف الحاد الذي تتعرض له سوريا في عام 2025 قد يؤدي إلى فشل ما يصل إلى 75% من محصول القمح المحلي، مما يهدد الأمن الغذائي لملايين السكان، وإن المنظمة تتوقع عجزاً غذائياً يُقدّر بـ2.7 مليون طن من القمح هذا العام، وهو ما يعادل الكمية اللازمة لإطعام نحو 16.3 مليون شخص لمدة عام كامل” وأفاد توني إيتل، ممثل الفاو في سوريا في تصريح لوكالة رويترز “بأن رفع العقوبات عن سوريا وتدفق الأموال قد يسهم في إحياء القطاع الزراعي وتحسين الإنتاج من خلال إتاحة الوصول إلى التكنولوجيا التي تُمكّن من استخدام المياه بشكل أفضل وأكثر كفاءة”.

الزراعة في سوريا من مصدر دخل قومي إلى بطن فارغ للفلاح

تقدّر منظمات إنسانية أن 65% من سكان الريف الزراعي في الحسكة يعتمدون على المعونات والتحويلات، في معيشتهم، وفي ظل غياب أدنى درجات الاهتمام بالريف والنقص الحاد في الخدمات ومقومات العيش فيها، فإن الغالبية تُفضل العيش في المدينة بحثاً عن فرص عمل وترك الزراعة وهو ما يؤثر على المردود والمحصول السنوي ومستويات المعيشة. وهو ما أكده آراس علي طالب بجامعة دمشق “الأرض الزراعية لم تعد تغطي نفقات المعيشة، لولا ما يرسله إليّ أخي من النمسا، لتركت التعليم، وهاجرت أو أصبحت أعمل في المطاعم”.

وقالت فريال الكيرط من ريف المالكية: “نعيش بالدين. لا مواسم، لا عمل، لا دعم. الله وحده يعلم ما بنا، كُنت أعمل كمستخدمة في منظمة دولية، توقف الدعم الأميركي عنها، وحالياً بلا عمل، وزوجي كان يعمل في سقاية أرض زراعية، تركها ذووها بسبب غلاء المستلزمات”.

“الإدارة الذاتية” وخدماتها غير المجدية

ينتقد الفلاحون “الإدارة الذاتية” لغياب خطط استراتيجية لإنقاذ الزراعة، وعدم تقديم دعم جدي للفلاحين، وتأخر توزيع المازوت، وانقطاع الكهرباء، وارتفاع أسعار البذار. حتى الآن، لم تصدر تسعيرة شراء القمح، رغم بدء سوقه إلى مراكز الاستلام. لكن مصادر خاصة أفادت لموقع تلفزيون سوريا بأن “أن الإدارة الذاتية تنتظر تسعيرة القمح من جانب الحكومة السورية، لتقوم بشراء المحاصيل بالتسعيرة نفسها”.

كان الأهالي سابقاً يرقصون على أنغام أغنية “في ريحاب الجزيرة أرض الخضرة والميَّ” لكن اليوم لم تعد السنابل تلوّح في الأفق كما اعتادت، ولم تعد رائحة المواسم وصخبها موجوداً. هذه الأرض التي أنجبت الحضارات، تتفتت تحت ضربات الجفاف وغياب التخطيط، وهذه الأرض التي منحت أبناءها الأمان والاستقرار، أجهزت على من تبقى من المزارعين، رغم صراعهم بأظافرهم مع الظروف. لا شيء أقسى من أن تزرع ولا تحصد. أن تنظر في عيون أطفالك فلا تجد ما تطعمه لهم، أن تبيع جزءاً من أرض أجدادك كي تقتني ربطة خبز لأبنائك. ما يحصل في الجزيرة ليست أزمة موسمية، بل نكبة صامتة، تُشبه المجاعة التي تتسلل إلى العظام، وتفتك بالكرامة قبل الأجساد، إنه زمن القمح المفقود، وزمن الإنسان المنسي.

تلفزيون سوريا

————————————

 خطاب الكراهية وتحوّل الاختلاف إلى أداة تدمير/ ضاهر عيطة

2025.06.13

من المعروف أنه في أزمنة التحولات السياسية والاجتماعية العميقة، تطفو إلى السطح أنماط متعددة من الخطابات، من بينها، خطاب الكراهية الذي يُستخدم في كثير من الأحيان لتبرير الإقصاء والعنف، وهذا الخطاب ليس مجرد انفعال عاطفي عابر، بل منظومة لغوية وسياسية تُستخدم لتغذية العداء، وتفتيت النسيج الاجتماعي، وتقويض أُسس الدولة الحديثة.

وقد يبدو هذا الخطاب، لدى بعضهم، مجرد تلاسن حاد، غير أنه، في الحقيقة، أداة خطيرة في يد من يسعون إلى الهيمنة، والعبث بمصائر الناس. وهو لا يقتصر على إنتاج التفرقة والاختلاف، بل يحمل في بنيته بذور العنف الرمزي، ويؤسس لتناحرات لفظية تفضي إلى انقسام طويل الأمد، وإلى تفشي الأحقاد.

ولعلنا ندرك جميعًا كيف كانت السلطة الأسدية البائدة تلجأ إلى خطاب الكراهية كوسيلة لضمان بقائها، بالتوازي مع ضرورة إيجاد عدو أو أعداء دائمين في النسيج السوري. وانطلاقًا من ذلك، قامت بتقسيم المجتمع السوري تقسيمًا معياريًا يُرسِّخ ثنائيات قيميّة صارمة من قبيل: “وطنيون” في مقابل “خونة”، و”مؤمنون” في مقابل “كفار”، و”موالون” في مقابل “عملاء”، بحيث لم يعد الانتماء يُقاس إلا من خلال موقع الفرد من السلطة وخطابها، واختزل ولاء المواطن للوطن في الولاء لشخص الأسد. ولا ننسى تصريح بثينة شعبان، بعد تهجير سكان داريا وحمص الشرقية وغيرها من المدن السورية، حين قالت عبر التلفزيون الرسمي: “سوريا أصبحت الآن مجتمعًا متجانسًا أكثر”، وكأن التجانس يُبنى على الخراب والإقصاء. وكذلك كان شعار “الأسد أو نحرق البلد” تعبيرًا فجًّا عن خطاب الكراهية، وتجسيدًا صريحًا للإبادة الرمزية والجسدية للآخر المختلف سياسيًا أو طائفيًا. وفي أكثر من برنامج على التلفزيون الرسمي، خُصصت حلقات كاملة للهجوم على الثوار والمعارضين ووصفهم بـ”الخونة” و”الإرهابيين” و”الجراثيم”، كما ورد في خطاب الهارب بشار الأسد عام 2011.

ولم تكتفِ السلطة الأسدية بإنتاج خطاب الكراهية، بل عملت على ترسيخه في الإعلام، والمناهج التعليمية وغيرها. كما شوهت مفهوم الحرية، وقدّمته على أنه تهديد للوحدة الوطنية، حتى غدا الحديث عنها جرمًا يُواجَه بالقتل والإبادة. وتجلى ذلك بأوضح صوره في السؤال الاستفزازي: “بدكن حرية؟”، ليأتي الرد عليه محمّلًا بالرصاص، والمدافع، والسلاح الكيميائي، والبراميل المتفجرة.

ولعل من بين أسوأ ما خلفته الأسدية وراءها مثل هذا الخطاب، الذي بدا متجذرًا في بعض البنى الذهنية والاجتماعية داخل المجتمع السوري، وعاد للظهور بأشكال جديدة، ليخرج إلى العلن دفعة واحدة ضمن منظومة متكاملة من الكلمات والمواقف التي تغذي العداء، وتحول المختلف السوري إلى خصم يجب عزله أو شيطنته أو قتله.

وما لم تكشف مخاطر هذا الخطاب ويواجه بوعي وحكمة، فقد يؤدي إلى نسف إمكانية التعايش في المستقبل، وذلك لكونه يسهم في إحداث شرخ عميق في بنية المجتمع، وينتج أفرادًا يعيشون في عزلة داخل قوقعة أنفسهم، يخشون التعبير عن ذواتهم أو حتى التفكير في المستقبل. ومع مرور الوقت، قد تنزلق أمور السوريين إلى ما هو أسوأ، وبالتالي تنجر الدولة الوليدة المفترض أنها حاضنة لهم جميعًا، إلى أداة قمع لفئة ضد أخرى، فتفقد بذلك شرعيتها الأخلاقية والسياسية، وهذا ما لا يريده معظم السوريين.

وبالتأكيد، فإن خطاب الكراهية متعدد الأشكال والمصادر: ففي السياسة، يظهر عبر تخوين الخصوم؛ وفي الإعلام، من خلال تضليل الرأي العام وتغذية الأحكام المسبقة؛ أما في الحياة اليومية، وتحت شعار حرية الرأي، فتبنى الأحكام والعلاقات على أسس دينية أو طائفية أو مناطقية، لا على القيم الإنسانية المشتركة.

وبذريعة حرية التعبير تلك، رأينا كيف راحت تطلق الكلمات على عواهنها، مبعثها الهيام بالأسدية وماضيها، أو منطلقات أيديولوجية متعصبة، أو نزعة نرجسية تهدف إلى إخضاع الآخر لرؤى صاحبها. ومن لا يوافقه الرأي يتحول تلقائيًا إلى جاحد، أو كافر، أو متخلف، أو عميل. هي تهم جاهزة تُرمى جزافًا، لتطول الفرد والعائلة والجماعة والطائفة والعرق.

قدّر الله، في خطر الحرب الأهلية، التي قد تتسلل من تحت ومثل هذا الخطاب قد يؤدي إلى غرق المجتمع السوري بأثره، لا عباءة الكلمات والاتهامات والتوصيفات التي توهم مطلقوها أنها مجرد آراء، ووجهات نظر، وحرية تعبير.

لا ينشأ خطاب الكراهية في الفراغ، بل في بيئة تتآكل فيها القيم، وتغيب فيها العدالة، ويضعف فيها صوت العقل لصالح الغرائز والانفعالات، التي باتت تتحكم بفئات عديدة من المثقفين وأصحاب الرأي، فتدفعهم إلى الإدلاء بآراء تشعل فتيل الكراهية، مستندين إلى وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع انتشار هشيم ما يطرحونه داخل المجتمع السوري، حتى غدا رأي فردي متشنج قادرًا على إشعال حريق واسع الانتشار.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن مواجهة مثل هذا الخطاب لا تكون برد فعل مشابه، بل ببناء ثقافةٍ بديلة تقوم على الاعتراف المتبادل، وتعميق الحوار، وتعزيز التربية المجتمعية والقيم الإنسانية. كما لا يكفي إدانة خطاب الكراهية، بل يفترض فهم مصادره، ومعالجة الأسباب والجراح التي تغذيه: الظلم، الفقر، الشعور بالإقصاء، والذاكرة المثقلة بالعنف. مع إعادة تعريف مفاهيم التنوع والاختلاف، لا باعتبارها تهديدًا، بل كمصدر غني للتماسك المجتمعي.

وتقع هذه المهمة اليوم على جميع السوريين العاملين في الشأن العام والخاص، وعلى جميع المؤسسات، وعلى رأسها وزارتي الثقافة والإعلام، من خلال إنتاج محتوى ثقافي مضاد للكراهية، والحرص على دعم الفنون (المسرح، السينما، الأدب) التي من شأنها أن تعزز قيم التسامح والتعدد والانتماء الوطني الشامل. وتشجيع المبادرات الثقافية التي تروي قصصًا عن التعايش، والعمل على إحياء الذاكرة الثقافية المشتركة، مع تسليط الضوء على الرموز الوطنية الجامعة للسوريين بمختلف انتماءاتهم، وإعادة الاعتبار للثقافات المحلية المهمشة (الكردية، الآشورية، الأرمنية…) بما يضعف الخطابات الإقصائية.

وأن تعمل وزارة الإعلام جاهدة على تأسيس ميثاق إعلامي وطني مناهض لخطاب الكراهية، بمشاركة النقابات والهيئات والمنظمات المدينية المستقلة، وإطلاق حملات توعية تروج لخطاب المواطنة والاحترام المتبادل، عبر التلفزيون والإذاعة ومنصات التواصل، بمشاركة فنانين ومثقفين من خلفيات متنوعة. والعمل على إنتاج برامج حوارية ثقافية وفنية تستضيف شخصيات مختلفة فكريًا وطائفيًا تتحلى بالمسؤولية لمناقشة قضايا المواطنة والانتماء، إلى جانب محاسبة من يروجون للتخوين أو التمييز السياسي والطائفي، وضبط المحتوى الرقمي بالتعاون مع المنصات العالمية، مع الحفاظ على حرية التعبير الواعي والبناء.

إذ نعتقد أن انتصار الثورة السورية على السلطة الأسدية سيبقى منقوصًا ما لم يهزم هذا الخطاب الكراهي. سيما وأن المجتمعات لا تقاس فقط بإنجازاتها العسكرية والمادي وعلاقاتها الدبلوماسية بل بقدرتها على احتضان تنوعات أبنائها، وعلى إنتاج خطاب عقلاني يقوم على التعددية والتسامح والحرية.

فإن تركت الكراهية بلا مواجهة، فهي قادرة على تقويض ركائز الدولة: المواطنة، والعدالة، وسيادة القانون؛ وقد تتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات انتقام، فتنتج نخبًا أساسها الولاء للسلطة لا للكفاءة، ما يجعل المجتمع هشًّا أمام الأزمات، ويجعل الدولة عرضة للانهيار.

لهذا، فإن مواجهة خطاب الكراهية لا تقتصر على الرد عليه، بل تتطلب تفكيك بنيته، وكشف أدواته، ومساءلة من يروّج له.

——————————

هل انتهى المشروع الإيراني في الشرق الأوسط؟/ وائل قيس

13 يونيو 2025

نفّذت إسرائيل، فجر اليوم الجمعة، واحدة من أوسع عملياتها الجوية ضد إيران، مستهدفة منشآت عسكرية ومقار قيادية للحرس الثوري داخل العمق الإيراني، ما أسفر عن مقتل قياديين بارزين في الصف الأول، وعدد من العلماء النوويين، إلى جانب تدمير منشأة نطنز النووية، في تطور يُنظر إليه على نطاق واسع كتحوّل جذري في قواعد الاشتباك بين الجانبين.

ورغم ذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الضربة أنها تتوقف عند حدود طهران، إذ يمتد صداها إلى الساحة السورية التي دخلت منذ أواخر العام الماضي مرحلة انتقالية عقب سقوط نظام الديكتاتور بشار الأسد. وقد شكّل هذا التحول الاستراتيجي ضربة قاسية للنفوذ الإيراني في المنطقة، لا سيما في سوريا التي ضخّت فيها طهران مليارات الدولارات خلال سنوات الحرب.

فالضربة الإسرائيلية التي استهدفت عشرات المواقع داخل إيران تُمثّل انتقالًا نوعيًا في نمط الرد العسكري الإسرائيلي، مقارنةً بالعام الماضي حين نفّذت تل أبيب ثلاث هجمات منفصلة، ردّت عليها طهران بهجومين محدودي التأثير. ويأتي هذا التصعيد في سياق حملة مستمرة منذ 14 عامًا، استهدفت خلالها إسرائيل قواعد ومناطق انتشار الميليشيات الإيرانية داخل الأراضي السورية.

كما يأتي هذا التطور وسط تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، بعد أن كانت طهران أحد أبرز الداعمين لنظام الأسد طيلة سنوات الحرب. فمنذ انهيار النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، بدا واضحًا أن إيران فقدت قدرتها على حماية أو تمويل الميليشيات التابعة لها، فضلًا عن الهجمات الإسرائيلية التي أدت إلى القدرات الصاروخية والجوية.

كما أن من اللافت – وإن كان من باب التخمين – أن هذه الضربة الإسرائيلية قد جرى التحضير لها منذ ما قبل سقوط نظام الأسد، وتحديدًا منذ صيف عام 2024، حين شنت إسرائيل عدوانًا واسعًا على لبنان، استهدف مناطق نفوذ حزب الله، في أعقاب اغتيال الأمين العام السابق للحزب، حسن نصر الله، عبر سلسلة ضربات جوية هزّت العاصمة بيروت. وقد توسّع الهجوم بعدها، مخلفًا خسائر جسيمة في بنية الحزب العسكرية وقياداته الميدانية، إضافة إلى تدمير معظم البنية التحتية لقاعدة الحزب الشعبية في جنوب لبنان والبقاع.

وقد شكّلت تلك الحرب نقطة تحول مفصلية، إذ كشفت هشاشة المحور الإيراني السوري اللبناني في ظل غياب الغطاء الروسي والإقليمي. وأجبرت الضربة حزب الله على سحب جزء من قواته من الجبهة السورية، ما أدى إلى تفكك منظومة الدعم اللوجستي التي كانت تؤمنها طهران لنظام الأسد والحزب معًا. وبعد أقل من ثلاثة أشهر، بدأت مؤشرات الانهيار تظهر بوضوح على النظام السوري، إلى أن سقط رسميًا في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

منذ دخول سوريا مرحلة انتقالية، حاولت بعض القوى المرتبطة بطهران الحفاظ على موطئ قدم لها في الجنوب السوري، لاسيما في محافظتي درعا والسويداء، بالاعتماد على خلايا أمنية كانت قد زرعتها خلال سنوات الحرب. إلا أن مشروع الدولة السورية الجديدة، المدعوم دوليًا وبرعاية أميركية، أظهر توجهًا واضحًا نحو فك الارتباط مع المحور الإيراني، وإنهاء حالة التبعية التي خلّفها النظام السابق.

وفي هذا السياق، تُمثل الضربة الإسرائيلية عاملًا خارجيًا يُسرّع من عملية إخراج إيران من المعادلة الإقليمية، بما في ذلك سوريا، ما من شأنه كبح قدرتها على عرقلة مسار المرحلة الانتقالية. وقد تزايدت في الآونة الأخيرة التحليلات التي تشير إلى أن إسرائيل ترى في التغيرات الجارية في دمشق فرصة استراتيجية نادرة لكسر ما كانت تصفه بـ”الهلال الشيعي”، الممتد من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق.

ورغم امتناع إسرائيل حتى الآن عن الاعتراف العلني بالسلطة الجديدة في دمشق، فإن التقارير الأخيرة التي تحدّثت عن انفتاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على توقيع اتفاقية سلام مع الحكومة السورية الجديدة، تعكس تحولًا ملموسًا في النهج الإسرائيلي تجاه سوريا، مدفوعًا بالمتغيرات الإقليمية وتراجع النفوذ الإيراني.

ما بين سقوط الأسد في دمشق، وتلقي المشروع الإيراني ضربة موجعة في طهران، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. فالضربة الإسرائيلية الأخيرة لا تمثّل مجرد رد على البرنامج النووي الإيراني، بل تعكس نهاية فعلية لحلم طهران في استعادة نفوذها في الشرق الأوسط.

وفي نهاية المطاف، تبدو سوريا اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التحوّل من ساحة كانت مهيأة لترسيخ النفوذ الإيراني في المنطقة، إلى دولة ذات قرار سيادي مستقل، تسعى إلى تثبيت الاستقرار ودعم مسار التعافي الاقتصادي، ضمن تحالف غربي واسع النطاق تُرجم برفع العقوبات الغربية الأميركية عن سوريا، قبل أن ينجح في إخراج طهران من المعادلة.

الترا سوريا

————————————-

السباحة بشروط.. عن تحوّل الشواطئ إلى ساحات رقابة على الأجساد/ وائل قيس

12 يونيو 2025

حاول معاون وزير السياحة، غياث فراح، توضيح قرار الوزارة المتعلق بـ”إجراءات السلامة والأمان في الشواطئ والمسابح” من خلال تصريحات أدلى بها لوسائل إعلام محلية. غير أن ما بدا أوضح من مضمون شرحه، هو أنه “فسر الماء بالماء”، لا سيما حين قال في حديثه لموقع “زمان الوصل”: “سمحنا لكل الشواطئ والمسابح” بارتداء ملابس البوركيني، مكتفيًا بالإشارة إلى أن بعض الشروط فُرضت على الأماكن العامة، كما لو أنها كانت ممنوعة سابقًا.

في جانب آخر من تصريحاته، أثار معاون الوزير الفضول مجددًا عندما تحدث عن الفنادق والمنتجعات “عالية السوية” التي يُسمح فيها بارتداء الملابس الغربية “مع مراعاة عدم خدش الذوق العام”، مؤكدًا في الوقت نفسه أن هذه الأماكن “مفتوحة للجميع”. إلا أنه شدد على أنها مخصصة للسياح في المقام الأول، ما يثير تساؤلات مشروعة حول ما إذا كانت هذه الأماكن ستكون حكرًا على الأجانب فقط، ولو بشكل غير معلن.

ما يلفت في القرار هو تكرار الحديث عن “اللباس المناسب” و”السلوك الحضاري” و”الذوق العام”، دون أي توضيح لمن يضع هذه المعايير أو كيف تُفسَّر، ما يجعلها عرضة للتأويل الفضفاض والتطبيق الانتقائي. والأخطر من ذلك أن القرار يقسّم رواد البحر إلى فئات طبقية، فيسمح بارتداء الملابس الغربية الأكثر تحررًا فقط داخل الفنادق المصنفة “أربع نجوم وما فوق”، بينما يفرض قيودًا أكثر تشددًا في “الشواطئ العامة”، حيث يُطالب النساء فعليًا بارتداء البوركيني والثياب الفضفاضة.

ولم تقتصر التقييدات على النساء فحسب، بل شملت أيضًا الرجال، إذ يشترط القرار عدم التجول في الأماكن العامة بملابس السباحة أو الظهور عاري الصدر خارج المسابح. ورغم أن ذلك يُقدَّم تحت شعار الحفاظ على “الآداب العامة”، إلا أن النتيجة الفعلية هي فرض رقابة صارمة على أجساد الجميع، رجالًا ونساءً، وتحديد ما يجوز أو لا يجوز ارتداؤه عند الاقتراب من البحر.

والخطير في هذا القرار ليس فقط غموضه، بل ما يفتحه من أبواب للتمييز. كيف يمكن لموظف على الشاطئ أن يقرّر ما هو اللباس “اللائق” أو ما إذا كان “الذوق العام” قد خُدش؟ من يضمن ألا تُستخدم هذه المصطلحات كأدوات للوصاية على أجساد الناس وخياراتهم الشخصية؟

هكذا فجأة، لم تعد الشواطئ ملكًا مشتركًا لكل السوريين، بل تحوّلت إلى فضاءات طبقية، واحدة مفتوحة للجميع لكن مشروطة، وأخرى غربية، لكنها مخصصة لمن يستطيع الدفع إليها سبيلا، أو ربما لمن يحمل جواز سفر أجنبي!

ليس المطلوب أن تتحول شواطئنا إلى فوضى، بل أن تكون آمنة وعادلة في آن. وأن تكون القوانين واضحة وغير تمييزية، تضمن الحرية الشخصية كما تضمن السلامة الجسدية. وفي ختام الكلام، لا نحتاج إلى تعليمات تُخبرنا كيف نلبس لنستحق الذهاب إلى الشواطئ العامة، بل نحتاج إلى معرفة أن شاطئًا لا يتسع للجميع.. هو شاطئ لا يستحقنا.

في النهاية، يبدو أن السباحة في سوريا لا تشترط فقط معرفة العوم، بل أيضًا إتقان “الذوق العام” وامتلاك ما يكفي من “الطبقة الاجتماعية”. وفي بلاد تُراقَب فيها الأجساد أكثر مما تُراقَب فيها الحدود أو السجون أو الفقر، يصبح البحر نفسه مهدّدًا بأن يتحوّل إلى مرآة للنظام لا إلى فضاء للحرية. والمرآة، كما نعلم، لا تعكس الجمال دائمًا.. بل السلطة.

الترا سوريا

———————————–

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى