أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريون خارج السياسة/ محمد صبرا

 

2025.06.13

“عندما تتحول السياسة إلى إدارة للخوف، تصبح الكراهية هي لغة الجماهير الوحيدة”.

حنة أرنديت

ينقسم المجتمع السوري اليوم بين كتلتين رئيسيتين: الأولى هي كتلة السلطة الانتقالية ومؤيدوها، وهي الكتلة الأكبر والأكثر قدرة على التأثير، والثانية هي كتلة الرافضين لها، التي تتألف من مزيج متناقض من الأطياف، تضم بقايا النظام السابق، وعلمانيين ويساريين سابقين، وليبراليين حالمين، وقوى طائفية لا ترى في السلطة إلا تمثيلاً طائفياً مناوئاً لها، إلى جانب قوى قومية متطرفة تنظر إلى الواقع من منظور أوهامها الشوفينية، وتتعامل مع المرحلة الراهنة بمنطق النفعيّة وتحصيل المكاسب، وفق القاعدة المعروفة: “ما لنا لنا، وما لكم، لنا ولكم”.

وسط هذا المشهد المرتبك، تبرز مفردة “الدولة” بوصفها الأكثر تداولاً بين جميع الأطراف، فالكل، من السلطة إلى أشد معارضيها طائفياً، يرفع شعار بناء الدولة، غير أن كلّ طرف يُحمّل هذا المفهوم دلالات ثقافية ودينية وسياسية مختلفة، إلى الحد الذي يمكن معه القول: إن لكل منهم “دولته” الخاصة التي ينادي بها، وإذا تجاوزنا تحليل الخطاب لتفكيك هذه المفردات ودوافعها، تبقى الظاهرة الأبرز أن كلا الكتلتين -المؤيدة والرافضة- تؤسس خطابها السياسي على قطيعة مع التاريخ السوري الحديث.

تحاول السلطة، أو بعض أطرافها ومؤيديها، في استحضارها لفكرة “الأموية “، أن تقطع تماماً مع كل ما جرى بعد 8 آذار 1920، تاريخ إعلان استقلال سوريا ككيان سياسي، وهذا يعني تجاوز كامل لإرث الدولة السورية الحديثة، بكل مضامينه القانونية والسياسية والاجتماعية، لصالح دولة جديدة قائمة على “عصبية مستحدثة” يسميها بعض إعلاميي السلطة بـ “الأموية الجديدة”، في مقابل نفي كامل لما يمكن تسميته بـ”العصبية الوطنية”، وقد عبّر عن هذه القطيعة الرئيس الشرع حين وصف المرحلة التي أعقبت الاستقلال بسنوات “التيه السياسي”.

إن هذه القطيعة مع قرن كامل من الدولة السورية، تمنح السلطة مرونة كاملة في إعادة بناء الاجتماع السياسي السوري على أسس مغايرة، ضمن توازنات جديدة تسعى إلى تأسيس نموذج دولة لا ينتمي إلى أي حقل سياسي معروف، وقد عبّرت السلطة، عبر تصريحات متكررة للرئيس الشرع، عن رغبتها في بناء نموذج يقوم على “الفرادة والخصوصية”، إلا أن هذه الفرادة تقوم على استحضار سرديات تاريخية إشكالية لتعزيز الانتماء، وبناء هوية تقوم على مركزية السنة، بوصفهم طائفة, لا تشكيلاً اجتماعياً ممتداً، وحاضناً للوطنية السورية، ما يشكّل انزلاقاً خطيراً، لأنه سيقوم بتطييف السنة، وتحويلهم إلى مكون طائفي، يغيب عنه أي تعبير سياسي، أو تمايز طبقي ومناطقي، ويصبح الناطق باسمه هم فقط رجال الدين أو الذين يتبنون خطابهم الديني.

هذا الاستخدام للهويّة السنيّة كأداة أيديولوجية، ومصدر لمشروعية الحكم، بدلاً من تقديم برنامج سياسي واقتصادي فعلي، يُعدّ تحويلاً خطيراً في منطق بناء الدولة، فبدلاً من الانطلاق من قاعدة اجتماعية واسعة تعبّر عن المشروع السياسي، وتشكل حاضنة للحكم وشبكة أمان له، يصبح الانتماء الطائفي هو المرجعية، ما يهدد بانفجار داخلي جديد، ويقوّض كل محاولات التماسك الوطني.

حتى الآن، لم تُقدِم السلطة على إعلان توجهاتها السياسية والاجتماعية بشكل واضح، بل تكتفي بمقولات عامة، وبخطاب عائم يُعظّم حالة الغموض أكثر مما يجلّيها، كما أن التحالفات وشبكات المصالح التي يستند إليها أي حكم، والتي تبنيها السلطة الآن، تقوم على براغماتية واسعة تضمن لها البقاء، وتعزز قدراتها المالية والسياسية، عبر علاقات مصلحية مع شخصيات، ومجموعات سبق أن دعمت نظام الحكم السابق، وفي ظل هذا الغموض، تبقى الهويّة الطائفية إحدى الأدوات الأساسية في الخطاب السلطوي.

إن إدخال عناصر التكوين الطائفي في إعادة إنتاج الهوية، سيحيل إلى قبول واسع لفكرة العنف باعتباره الوسيلة الوحيدة المتاحة للدفاع عنها، خاصة أن بعضاً من أنصار السلطة، يتوهم أنها هوية مُهدَّدَة من قبل كثير من العناصر الطائفية، التي لا ترى في السلطة سوى بُعدها الإسلامي، أو من العناصر القومية التي لا ترى فيها إلا بُعدها العربي، يلتقط أمين معلوف بذكاء هذه الفكرة حيث يقول في كتابه الهويات القاتلة: ” عندما يشعر الإنسان أن هويته مهددة، يتمسك بها بعنف، حتى لو كانت سبباً في قتل الآخرين”.  

على الضفة الأخرى، نجد قطيعة موازية لدى الكتلة الرافضة للسلطة ( وكاتب هذه السطور يسميهم رافضين وليسوا معارضين، لأن موقفهم يقوم على الرفض العدمي وليس على خطاب سياسي)، وهي قطيعة مع الماضي القريب، مع كل ما جرى قبل 8 كانون الأول 2024، هذا الخطاب يختزل كل شيء في مجرّد تغيير نظام الحكم، من دون الاعتراف بسياقات طويلة من الصراع والعذابات والمجازر والاعتقالات، التي صنعت الوعي السوري خلال خمسة عقود، وكأن المطلوب هو طيّ الصفحة تماماً، وبدء صفحة جديدة بلا محاسبة أو اعتراف بالضحايا، هذه القطيعة يفسرها الطيف الواسع من السوريين الذين تعرضوا للمذبحة، أي السنة، بأن عليهم الآن أن يكنسوا عظام أبنائهم، والمقابر الجماعية والمنافي ومخيمات اللجوء، والمعتقلات والشهداء وانتهاك الحرمات، ووضعها تحت السجادة، من دون الاعتراف بهذه المذبحة، أو بمسؤولية الأطراف التي ارتكبتها، وهو ما يثير الغضب ويؤجج حالة الرغبة في الانتقام، ولا سيما في ظل تراخي السلطة في مسار العدالة ومحاكمة المجرمين.

هذا الموقف، الذي يتبنّى خطاباً ديمقراطياً تعددياً في العلن من قبل الرافضين للسلطة، يخفي في طياته سعياً لبناء نظام قائم على المحاصصة الطائفية، ورفضاً ضمنياً لما يعتبرونه انتصاراً للسنة، وهذا الإنكار، سواء أُعلن عنه أم لم يُعلَن، هو استمرار للعنف ضد الضحية، وتشويه للتاريخ، وحرمان للضحايا من التعبير عن مأساتهم، أو كما قال جان فرانسوا ليوتار في معرض مناقشته لإنكار المحرقة: “الضحية لا تستطيع إثبات الضرر الذي لحق بها، إذا لم يكن هناك من يشهد على ذلك”، وغياب الاعتراف بالمقتلة السورية، التي طالت فئة مخصوصة من السوريين، وهم السنة، يمثل عنفاً مستمراً وتشويهاً للواقع، ونوعاً من الاغتيال الرمزي للضحايا.

هذا الخطاب الرافض يُنكر الهويات الدينية للطرفين قبل 8 كانون الأول، لكنه يبالغ بعدها في تأكيدها، فالقاتل قبل ذلك لم يكن علوياً، ولا الضحية سنياً، بل هو نظام وشعب، لكن ما بعد هذا التاريخ، يُصوَّر فيه القاتل سنياً والضحية علوياً أو درزياً، وإذا أردنا الإنصاف والاستقامة العقلية، فإن وحدة المعايير تتطلّب الاستمرار في الموقف نفسه، سواء في توصيف الماضي أو الحاضر.

ضمن هاتين القطيعتين، تغيب السياسة عن الفضاء العمومي السوري، ويتحوّل النقاش العام إلى صراع سرديات، حيث تحاول كل كتلة فرض روايتها ونفي الرواية المقابلة، وغياب النقاش السياسي يؤدّي إلى تغييب الدولة نفسها، بحيث تتحول إلى مجرّد شعار أيديولوجي، وذخيرة في صراع صفري، ويتم اختزالها في السلطة لا أكثر.

في هذا السياق، تتطابق رؤية السلطة، مع رؤية خصومها في نظرتهم للمجتمع، إذ يعتبره الطرفان مجموعة من الطوائف والجماعات الأهلية، لا شعباً متكاملاً له إرادة سياسية، فالرافضون للسلطة يتعاملون معها من منطلق طائفي، ويصرون على نفي التشكيلات السياسية واختصار تمثيل هذه المجتمعات المحلية برجال دين ورموز موغلة في خطابها الطائفي الذي يصل إلى حد العنصرية والتعالي، في حين تستثمر السلطة في خطاب مظلومية سنية مضادة، لتبرير مشروعية سلطتها الجديدة.

بهذا يصبح خطاب الرافضين للسلطة – مثل حكمت الهجري أو المجلس العلوي، والذي يقفز فوق الحقائق التي أثقلت سورية خلال خمسة عقود، ويرفض الاعتراف بالمقتلة السورية ونتائجها ومسبباتها-، يمثل ضرورة في بناء السردية المقابلة للسلطة، وهذا التخادم بين الخطابين، ينتج عنفاً من نوع آخر، ويضع الجميع دائماً في مواجهة بعضهم بعضاً، وهكذا تتغذى النزعة الطائفية من الخطابين معاً، وتتحول من انفعال نفسي أو غضب عابر، إلى بنية فكرية واجتماعية، يُعاد إنتاجها داخل الحقول التربوية والدينية والإعلامية، عبر مقولات الخصوصية والتمايز.

إن الخروج من المأزق الحالي يكون بالمكاشفات والمصارحات الحقيقية، فالسلطة ملزمة بتقديم برنامج شامل عن رؤيتها لبناء الاجتماع السوري، وكيف ترى الدولة السورية، وما هو تعريفها للوطنية السورية، وعناصر تشكيلها، وبالتالي يجب على السلطة إتاحة الفضاء العمومي السوري للنقاش، وتحويل هذا النقاش من مجرد حديث رغبوي، وأماني تمليها السلطة على المواطنين، إلى حوار جدي وحقيقي بينهم، يتيح لهم في الوقت نفسه، الخروج من ضيق التكوينات الطائفية، إلى فضاء الوطنية السورية العابر للطوائف والإثنيات، وكذلك مطلوب من الجماعات الرافضة للسلطة، أن تتبنى المكاشفة الكاملة في خطابها، وما رأيها في المقتلة السورية، التي حدثت في السنوات الأربع عشرة الماضية، وهل توافق على ضرورة محاسبة كل الجناة الذين أسهموا في هذه المقتلة، لأن مطالبها الآن تبدو وكأنها محاولة لمنع هذه المحاسبة، وتجنيب المتورطين فيها المحاكمة الضرورية والعادلة، لإعادة بناء السلم الأهلي، على أسس العدالة واحترام الكرامة الإنسانية.

إن التخويف المزدوج، أي تخويف السنة من عودة المقتلة إذا عارضوا السلطة، وتخويف الأقليات من حكم السنّة، إن هذا التخويف المزدوج، الذي تقوده أطراف مختلفة، ويسهم فيه إعلاميون ورجال دين وسياسيون، هو مجرد وسائل ذرائعية تقودها الأطراف المختلفة لإبقاء سيطرتها على ما تعتبره حيزها الخاص، وما يعنينا هو ضرورة إعادة بناء السياسة على أساس مساءلة كل الأطراف أصحاب هذا الطرح، سواء كانوا في السلطة أو قريبين منها، أو كانوا رجال دين يصدّرون أنفسهم كزعماء لمجتمعاتهم المحلية، ويمارسون نوعاً من السلطة الرمزية، فالسلطة التي لا تقبل المساءلة، ولو كانت سلطة روحية أو رمزية، هي سلطة تؤسس لخطاب استبدادي شمولي، لا يقبل الدحض أو تقديم بدائل عقلانية له، أو كما قال يورغان هابرماس : ” كل خطاب لا يسمح بمساءلة سلطته، هو بالضرورة خطاب قمعي”.

إن الانطلاق من الوطنية السورية وتراكماتها جميعاً، بكل تجاربها ونجاحاتها وإخفاقاتها، التي تأسست عبر قرن وربع، بات أمراً ضرورياً، لأنه يشكل السياج الحامي من الدخول في صراع هوياتي، وهذا يتطلب إعادة إنتاج مفهوم الدولة في سورية، بالاستناد إلى كل ما حققه الشعب السوري خلال القرن الماضي من عمر دولته، وأهمها عنصر الشعب المتعيّن في واقع جغرافي محدد اسمه سوريا، وإعادة الاعتبار للتعاقد الحرّ بين المواطن الفرد بوصفه عنصراً من عناصر الجماعة الوطنية، وبين الدولة باعتبارها التعبير الأرقى عن الاجتماع السياسي للسوريين، وهذا التعاقد الذي يعبّر عنه بالحقوق الدستورية والحريات، هو الذي يضمن لنا وطنية متعالية على كل التوصيفات الطائفية والإثنية واللغوية، “فالوطنية الدستورية” بحسب تسمية يورغن هابرماس، أي الانتماء للقيم الدستورية والحقوق الإنسانية، لا للأصل العرقي، أو الدين أو الطائفة، قد يشكل سفينة النجاة للجميع، وهذا يتطلب ترسيخ المفاهيم الدستورية القائمة على احترام الحريات وسيادة القانون، وضرورة المحاسبة، وبناء نموذج إعلامي لا يؤجج الكراهية ولا يبرر العنف والتعصب.  

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى