ما بعد السلفية الجهادية في سوريا: من الدولة المستحيلة إلى مأزق السيادة/ مالك الحافظ

12/6/2025
تتبدّى التجربة السورية ما بعد الأسد، بوصفها خروجًٍا من الاستبداد إلى التمكين، ومن طغيان الدولة الأمنية إلى سطوة “الجماعة المؤمنة”. وفي كلا الحالتين، يغيب المواطن بوصفه ذاتًا فاعلة، ويحضر فقط ككائنٍ قابلٍ للإخضاع.
كان صعود السلفية الجهادية إلى قمة السلطة في سوريا عقب سقوط نظام الأسد؛ تتويجًا لمسار طويل من التحوّلات التي شهدتها الثورة السورية في لحظاتها المفصلية، حيث تحوّلت من سردية شعبية تطالب بالحرية، إلى ساحة تتنازعها تشكيلات ذات بنية إيديولوجية مغلقة، ترفع شعارات العدالة لكنها تقوم على منطق الطهورية العقدية والإقصاء الجماعي.
في قلب هذا التحوّل، كانت “هيئة تحرير الشام”، بصيغتها القديمة (“جبهة النصرة”) أو الجديدة، تمثّل نموذجًا لصعود جماعة دينية مسلّحة إلى بنية الحكم، من دون أن تمرّ بعملية مراجعة فكرية أو سياسية، مكتفية بتكتيك التكيّف والتمويه.
إنّ خطر التغلغل العميق للمقاتلين الأجانب داخل البنية العسكرية والأمنية السورية ما بعد سقوط نظام الأسد، لا يمكن فصله عن البنية العقائدية التي أنتجت وجودهم وأعطت لهم شرعية القتال والإدارة والتمكين. فضلًا عن أن هؤلاء ينتمون إلى منظومة فكرية مغلقة تُعرف باسم “السلفية الجهادية”، وهي تيار متفرع عن السلفية التقليدية، لكنه يُعيد تشكيل النصوص الدينية عبر عدسة الصراع والغلبة، لا الاجتهاد أو التفاعل مع الاجتماع البشري والسياسي.
يتميّز الخطاب السلفي الجهادي بنزعة إقصائية راديكالية ترى في الدولة الحديثة بنية طاغوتية يجب كسرها، وفي مفاهيم المواطنة والتعددية والديمقراطية أدوات كفرية تستدعي القطيعة. ضمن هذا الفهم، لا يكون الانتماء للوطن أو الأمة معيارًا للشرعية، وإنما يكون الانتماء إلى “المنهج” و”الولاء والبراء”، وهي ثنائيات قطعية تحكم علاقة الجهادي بالعالم. لهذا لا يرى الجهاديون غضاضة في أن يتولى ألباني أو شيشاني أو أردني منصبًا سياديًا في جيش دولة هم ليسوا من مواطنيها، لأن الشرعية في نظرهم ليست سياسية وإنما عقدية.
هذا التصور القائم على أولوية “التمكين”، ينسف من الجذر فكرة الدولة الوطنية، ويحوّل مؤسساتها إلى أدوات هيمنة بيد الجماعة المؤمنة. ومن هنا، يصبح من السهل تبرير تسلّم طبيب سلفي سابق كعبد الرحمن الخطيب، أو مقاتل مطلوب كجفشتي، قيادة وحدات عسكرية حسّاسة في سوريا “الجديدة”، طالما أنّهما من “الصفّ الأول” في معركة التمكين العقائدي. أما الآخر، أي الضابط الوطني المنشق عن قوات نظام الأسد أو الفاعل المحلي غير المنتمي إلى هذا النسق الفكري، فهو إمّا تابع أو مريب أو غير مأمون الجانب.
يمكن القول إن السلطة القائمة اليوم ليست انتقالية بالمعنى السياسي التقليدي، فهي انتقالية فقط بالمعنى الزمني، ريثما يُستكمل مشروع التمكين الذي تنادي به الجهادية السلفية منذ عقدين. وهي، وإن ارتدت ثوب المؤسسات، ما زالت تحكم بمنطق الغلبة والاصطفاء، وتعيد إنتاج “دولة الجماعة” لا “جماعة الدولة”، وهو ما يدفعنا إلى مواجهة سؤال مركزي يتمحور حول إمكانية تصوّر دولة قائمة على بنية جهادية سلفية: هل هذا ممكن أم أنّه ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”الدولة المستحيلة”؟
مصطلح “الدولة المستحيلة” الذي استخدمه الباحث وائل حلاق في نقده للدولة الإسلامية الحديثة، يجد ترجمة أكثر جذرية في النموذج السوري الجديد. فالمقاتل السلفي الذي قاتل تحت راية الشريعة، لم يكن يتخيّل نفسه يومًا موظفًا في مؤسسة عسكرية أو أمنية أو مدنية محوكمة، وإنما أميرًا أو مقاتلًا في ساحة جهاد. يرى الدولة الحديثة بما فيها من قانون وتعددية ومواطنة أداة كفرية نشأت في سياق العدو أو المشروع الغربي المستورد، فكيف وهو أجنبي مهاجر قدم إلى سوريا لغاية الجهاد وفق منظوره السلفي الجهادي.
ما يجعل هذا الفكر أكثر خطورة هو توظيفه لبنية فقهية تراثية خارج سياقها، حيث يُستعاد مفهوم “دار الحرب” لتوصيف كل جغرافيا لا تخضع لحكم الشرع الصارم، ويُستعار من التراث فقه “الفيء” لتبرير السلب والسيطرة، و”الولاء والبراء” لشرعنة التكفير السياسي، و”الإمامة” لبناء سلطة فردية بعيدة عن المؤسساتية.
السلطة التي تنتج من هذا الإطار الفكري ليست دولة بالمعنى السياسي الحديث، إنما مشروع “جماعة” تتحكم بالمصير العام عبر الحق الإلهي وفق تصورهم الضيق. ولهذا، فإن أي محاولة لتأسيس دولة سورية مدنية، سيادية، تعددية، ستجد في البنية الجهادية، سواء عبر المقاتلين الأجانب أو السوريين المتأثرين بهم، نقيضًا كاملًا لها.
في ظل هذا التكوين العقائدي الصارم، لا يبدو المجتمع المحلي قوة فاعلة داخل المعادلة السياسية. وقد تكون أسباب هذا الانكفاء متعددة، تتراوح بين الحذر، والانهاك، وفقدان البدائل، ما يُفضي إلى نوع من التطبيع القسري مع بنية سلطوية لم يخترها المجتمع، لكنه وجد نفسه مضطرًا للتعامل معها ضمن شروط البقاء اليومية.
الرهان على دمج هؤلاء المقاتلين ضمن بنية الدولة السورية الجديدة كما أشار تقرير “رويترز” بحديثه عن الموافقة الأميركية على مقترح دمشق القاضي بإدماج عناصر “الحزب الإسلامي التركستاني” (الإيغور) ضمن اللواء 84، هو وهمٌ لا يقل خطورة عن وهم “الإصلاح من الداخل” الذي طُرح في عهد نظام بشار الأسد. فالفكر الجهادي لا يؤمن بالدولة، ولا بالمواطنة، ولا بالمشاركة، بل بالتمكين والغلبة والاصطفاء. وأي مشروع وطني لا يضع في أولوياته تجفيف منابع هذا الفكر، وتفكيك منطقه، وإعادة الاعتبار للفكرة السورية الجامعة، سيكون مشروعًا هشًا، مرتهنًا، وعرضة للانفجار من داخله.
على هذا النحو، لا يبدو المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد معزولًا عن نماذج تاريخية موازية، فقد تُفيد المقارنة مع تجربة “طالبان” في أفغانستان، أو النموذج الإيراني بعد ثورة 1979، في تأكيد فرضية أن استبداد ما بعد الثورة قد يكون أشد قسوة، حين تستولي جماعة إيديولوجية على السلطة من دون رؤية دولة، بل بمخيال ديني ــــ ثوري مغلق.
في خضم هذا التأسيس القسري لسلطة شرعية، تعيد الجهادية السلفية في سوريا إنتاج شكل من “الانفصال الرمزي” عن المجتمع السوري نفسه. فهي لا تراه كتلة بشرية متنوعة تستحق الحوار والمشاركة، إنما كحالة يجب هندستها وفق تصوراتها الماورائية. فالعلماني مرتدّ، والشيعي رافضي، والمسيحي ذمي، والسني المتماهي مع الدولة الحديثة منافق.
أمام هذه الرؤية، تُنسف فكرة “المجال العام” الذي يقوم على الاعتراف والتداول، ويُستبدل بحيز مغلق من التلقي والخضوع، وهذا ما يُذكّرنا بما طرحه ألان تورين حول الفرق بين المجتمع “المفتوح” والمجتمع “العضوي”. فبينما تقوم الدولة الحديثة على إدماج المواطنين بوصفهم أفرادًا، فإن الدولة الجهادية السلفية تُعيد تصنيفهم ضمن هويات طائفية أو سلوكية، ما يعيد ترسيخ الحواجز بين الفرد والدولة، وبين الفرد والمواطنة.
إنّ ما يجري في سوريا اليوم يمكن قراءته كمأزق بنيوي يطال المشروع الإسلامي السياسي بأطيافه كافة. فقد أثبتت التجربة أن الحركات التي كانت تقاتل باسم الشريعة لم تكن تملك تصورًا للسلطة سوى كيان سلطوي بديل، لا أكثر. ولهذا، فإن السلفية الجهادية اليوم تواجه مأزقًا جديدًا فهي في الحكم، لكنها غير قادرة على الحكم. وهي تُصدر قرارات، لكنها تفتقد شرعية العقد الاجتماعي.
وإلى جانب هذا الانغلاق العقدي، تعاني السلطة السلفية القائمة اليوم من غياب أي شرعية قانونية أو دستورية بالمعنى الحديث، فلا توجد مرجعية سيادية توافقية يمكن الركون إليها، في ظل غياب دستور وطني ناظم، أو عقد اجتماعي يُؤسّس للتمثيل والمشاركة. هذا الفراغ السيادي يُفاقم من هشاشة المشهد، إذ تتحوّل السلطة إلى وصاية فوق ــــ مجتمعية، تُقاس بقدرتها على إخضاع المجتمع لمنطقها العقدي.
كما أن موقع هذه السلطة في المشهد الإقليمي يطرح تساؤلات إضافية حول كيفية إدارة علاقاتها الخارجية، وحدود استقلالها الفعلي في اتخاذ القرار السيادي. ففي بيئة إقليمية معقّدة تشكّلت بفعل تحالفات ما بعد الحرب، تظل مسألة السيادة الوطنية غير محسومة بالكامل، ويصعب تقييمها خارج شبكة المصالح الدولية والإقليمية المتداخلة، والتي تتجاوز القدرات الذاتية لأي سلطة ناشئة.
في تفكيك بُنية الخطاب الجهادي السلفي القائم اليوم في سوريا، تكتسب أفكار عبد الجبار الرفاعي وطلال أسد أهمية خاصة، لأنها لا تتعامل مع الدين كمنظومة أحكام، بل كخطاب يتفاعل مع شروط الاجتماع والتاريخ والسياسة. كلا المفكرين يُظهران كيف يتحول الدين من تجربة روحية ــــ إنسانية إلى نظام سلطوي مغلق، حين يُختزل في وظيفة ضبطية تُنتج شرعية قائمة على الطاعة.
يذهب الرفاعي في نقده تديّن الجماعات المتطرفة إلى ما هو أعمق من مجرد العنف. إذ يرى أن الخطر الأكبر يكمن في “التحجيم الكلي للدين وتحويله إلى جهاز أمني وأخلاقيات متخشبة”، تفقده بعده الوجودي والتساؤلي. سلطة الجماعات الجهادية السلفية تنطلق من كونها وكيلة للغيب، تملك السلاح وتحتكر تفسير مشيئة الله. وهذا ما يسميه الرفاعي بـ”مصادرة الله”، أي إحلال الجماعة أو الأمير محل المطلق، بحيث يصبح الخروج على السلطة الجهادية خروجًا على الإيمان ذاته.
أما طلال أسد، فيمنحنا أدوات مفاهيمية لكشف الكيفية التي تعمل بمقتضاها هذه السلطة، وذلك من خلال أنظمة الخطاب والممارسات التنظيمية. ففي تحليله للدولة الإسلامية كمفهوم حديث، يوضح أسد أن الإسلام السياسي؛ بما في ذلك التيارات الجهادية، يُعيد صناعة التراث ضمن شروط الدولة الحديثة ذاتها، ولكن بمفردات لاهوتية.
إنّ أهم ما في أطروحة طلال أسد هو نزع القداسة عن فكرة “الدولة الدينية” حين يقول بأن الدولة ليست إسقاطًا مباشرًا للشرع، وإنما بناء حديث يتطلب أدوات إدارة وسيطرة وتطبيع. وحين تفشل تلك السلطة في فهم هذا التعقيد، فإنها تسقط في استبداد مضاعف؛ استبداد بالسلاح واستبداد بالمقدّس.
هكذا، تتبدّى التجربة السورية ما بعد الأسد، بوصفها خروجًٍا من الاستبداد إلى التمكين، ومن طغيان الدولة الأمنية إلى سطوة “الجماعة المؤمنة”. وفي كلا الحالتين، يغيب المواطن بوصفه ذاتًا فاعلة، ويحضر فقط ككائنٍ قابلٍ للإخضاع، أو مادة للتصنيف والتأطير. تكمن المسألة في المنطق التكويني للسلطة، وفي الكيفية التي تُنتج بها شرعيتها وتُعيد بها هندسة المجتمع.
تطرح اللحظة السورية الراهنة مع السلفية الجهادية سؤالًا فلسفيًا عميقًا حول حدود الدين حين يتحول إلى منظومة حُكم، وحول المصير السياسي لمجتمع لا يُمنح الحق في تخيّل مستقبله خارج قوالب الطاعة.
أوان
تحميل كتاب
الدولة المستحيلة الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي/ وائل ب حلاق
————————————–
نافذة على كتاب “الدولة المستحيلة” لوائل حلاق/ عبد المطلب علاء الدين
16/1/2022
البروفيسور وائل حلاق باحث فلسطيني الأصل، كندي الجنسية، مسيحيّ الديانة، متخصص بالقانون وتاريخ الفكر الإسلامي، يعمل كأستاذ علوم اجتماعية في جامعة كولومبيا، بقسم دراسات الشرق الأوسط. وفي سنة 2014 صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، الطبعة العربية لكتابه “الدولة المستحيلة” بترجمة عمرو عثمان، وقد أثار هذا الكتاب العديد من النقاشات والآراء.
نتساءل عن المعنى الذي يحمله العنوان، وقدْ يستفز الكثيرين منا أن نقرأ في صفحات الكتاب الأولى قول المؤلف: “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة”، إذ تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى تشكيكا في أهلية التشريع الإسلامي لمواكبة قضايا السياسة وبناء الدولة. ولكنا ما إن نمضي شوطاً في قراءة الكتاب، حتى نكتشف أن المراد بما قيل شيءٌ آخر، وأن الكلام فيه ما يُعرف في لغة الأدب باسم: المدح بما يشبه الذم.
وقد اقتضى الطرح الذي أراد الكاتب تقديمه أن يقف مطولا لإيضاح الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة، والعوامل التي رافقت نشأتها وشكلت هويتها. فقد جرت في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات نموذجية أثرت عليها النقلات السريعة في اقتصاداتها وتقنياتها ومجتمعاتها، وبُناها السياسيّة والمعرفية. وبذلك كانت أوروبا تقريباً المعمل الوحيد الذي صُنعت فيه الدولة الحديثة أول ما صنعت، وفيها قامت فكرة سيادة الدولة، التي تعتبر الأمة التي تجسد الدولة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها، وأُعطيت السيادة صفات تقترب من صفات الألوهية، وصارت الدولة هي الفاعل الأعلى في التشريع، وأصبحت -من خلال جهازها البيروقراطي المتصل بشؤون التعليم والصحة والبيئة والعمل- قادرة على التدخل في تشكيل الفرد والجماعة وفق معايير تضعها هي، وأدت هذه التغييرات إلى إضعاف الروابط الأسرية، وتدمير النظام الاجتماعيِّ، وإنتاج إنسانٍ أشبه بآلة افتقدت روحانيتها، وتمت برمجتها لتكون عنصرا يخدم استمرارية الدولة، وغابت في حسابات الدولة المعايير الأخلاقية أمام طغيان حسابات المنفعة المادية.
في مقابل ذلك، كان قانون الإسلام الأخلاقي المعروف باسم “الشريعة” حتَّى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة 12 قرناً، قد نجح في العالم الإسلامي في تشكيل القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وذلك قبل أن يتم على يد المستعمر الأوروبي تفكيك النظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، وقد أقر الحكم الإسلامي أن الله هو الشارع الوحيد، وقانون الله هو الشريعة، والشريعة هي الشرعة الأخلاقية، تمثيلا لإرادته الأخلاقية التي هي الشاغل الأول والأخير. وقد شكل مفهوم سيادة الله في الإسلام، مع ما يعنيه من عدم وجود ملك أو دولة يتحكمان في الشريعة، نموذجاً خاصاً من نماذج الفصل بين السلطات، واختلافاً أساسيّاً يميزه. وفي ظل الحكم الإسلامي كان التعليم، مثل الشريعة، مستقلاً بصورة دالة عن الإرادة التنفيذية التي لم يكن لها سيطرة على مضمونه أو تكوينه الديني الأخلاقي، وتضافر عند الفرد حب الله والخوف منه لتحقيق إحساس عميق بالخضوع لقوة أعلى خلقت، وبالتالي تملك كل شيء في الوجود.
وبالمقارنة بين الصورتين، يصل مؤلف “الدولة المستحيلة” إلى أنه إذا أراد المسلمون اليوم تبنِّي قانون الدولة الوضعي وسيادتها، فإن ذلك يعني بلا شك قبولاً بقانون نابع من إرادة سياسية، كما يعني القبول بأننا نعيش بكونٍ بارد نملكه ونستطيع أن نفعل به ما نشاء، والقبول بأن تُنحّى جانباً المبادئ الأخلاقية للقرآن والشريعة التي قامت على الأخلاق لقرون، لمصلحة قوانين متغيرة صنعها الإنسان، وأقرت من بين ما أقرت السيطرة على الطبيعة نفسها وتدميرها، وهي التي خلقها الله للبشرية للتمتع بها على أساس المسؤولية الأخلاقية.
على هذا، فإن الاستحالة التي أشار إليها عنوان الكتاب لا تأتي من قصور في مضمون التشريع الإسلامي وأبعاده السياسيّة، وإنما من أنه لا يمكن للحكم الإسلامي أن يقبل بأي سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله، وأنه ليس لدى المسلمين الساعين لبناء دولة إسلامية تبرير للتضحية من أجل دولة لم تستطع، ولا تستطيع تقدير الالتزام إلا بطريقة وجود منفصلة عن الأخلاق، وبالوضعية والوقائع، وما هو قائم، دون اعتبار لما ينبغي أن يكون.
أمام هذه الحقائق، ومع اعتبار أن الانعزال ليس خيارا ممكنا في عالم اليوم، يغدو البحث عن المخرج من هذه التناقضات أمرا ملحّا، وهنا يقدم الكاتب رؤية تأخذ بالاعتبار حاجة الحكم الإسلامي إلى الاعتراف به كمشارك في مجتمع الدول القومية من جهة، وإمكانية تلاقيه مع توجه غربي لدى طائفة من المفكرين يتململون من حالة افتقار مجتمعات اليوم إلى الأسس الأخلاقية والروحية.
فرغم اندثار مؤسسات الشريعة وتفسيراتها وشخوصها عند المسلمين، فإنه لا تزال آثارها الأخلاقية صامدة بإصرار لا يتزعزع. ويمكن لهذا النظام الأخلاقي، وهو رأس مال لا يقدر بثمن، أن يدعم وجهتين للعمل على الأقل، إحداهما داخلية والأخرى خارجية.
فيمكن أولا للمسلمين الآن خاصة بعد الربيع العربي أن يشرعوا في الإفصاح عن أشكال حكم جديدة، وبنائها على نحو تكون فيه قابلة لتطوير أكبر وأقوى. حيث ينبغي إعادة التفكير في الوحدات الاجتماعية التي تصنع النظام الاجتماعي السياسي الأكبر على أساس مجتمعات أخلاقية، تحتاج إلى أن يُعاد لها ثراؤها الروحي.
ويمكن ثانيا للمسلمين أن يسهموا في إعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة من خلال التفاعل مع نظرائهم الغربيين، وتطوير مفردات يمكن لهؤلاء النظراء أن يفهموها، لينتعش الأمل في أن يوحد الجميع جهودهم لتفكيك أسطورة صراع الحضارات المؤذية، ويتمكنوا من مضاعفة قوتهم الأخلاقية لتحقيق نصر يؤسس الأخلاقَ كنطاق مركزي لثقافات العالم، بصرف النظر عن التنوعات الحضارية.
ويتركنا وائل حلاق في نهاية البحث مع كلماته: لا شك أن العيش معا في سلام على الأرض هو عمل شاق، وقد يكون يوتوبيا حديثة أخرى، بيد أن إخضاع الحداثة لنقد أخلاقي يعيد هيكلتها يبقى الحاجة الأساس، لا لقيام حكم إسلامي فحسب، بل لبقائنا المادي والروحي، وليست الأزمة حكرا على الحكم الإسلامي والمسلمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب ومدون سوري