العدالة الانتقالية تحديث 15 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
————————–
إعادة تدوير رموز الأسد.. ضرورة تفرضها البراغماتية؟/ مهيب الرفاعي
السبت 2025/06/14
منذ سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، تركز النقاش العام في سوريا على أسئلة العدالة والمحاسبة، وعلى كيفية تفكيك بنية الاستبداد التي حكمت البلاد لعقود. وبينما انشغل البعض بالدعوة لاجتثاث شامل لكل من ارتبط بالنظام السابق، ظهرت أصوات أخرى أكثر براغماتية، تدعو إلى النظر في إمكانية “تدوير إيجابي” لبعض الوجوه السابقة، ليس انطلاقًا من التسامح أو النسيان، بل من منطق بناء الدولة والحفاظ على مؤسساتها وعدم الإقصاء وتعزيز انتماء الطوائف وشخصياتها في سوريا الجديدة، على الرغم مما تحمله عبارة “تدوير الشخصيات” من دلالات سلبية في الوعي الشعبي.
إلا أن الواقع السوري المعقد يفرض إعادة النظر في هذا المفهوم، بعيداً عن التصنيفات الأخلاقية الجذرية، ومن منظور وظيفي عقلاني؛ لا سيما في ظل استمرار الخلط بين “الدولة” و”الحزب” و”الرئيس”، ما جعل أي محاولة للتمييز تبدو ترفاً فكرياً. لكن في مرحلة ما بعد الأسد، تبرز الحاجة الملحة للفصل بين من تورّطوا في منظومة القمع والفساد بشكل مباشر، وبين من عملوا في المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية لصالح النظام دون تورط مباشر منهم في العمليات العسكرية في البلاد بصفتهم مجرد أدوات أو منفذين. فبينما يُفترض أن تكون العدالة الانتقالية أداة لتفكيك الإرث الاستبدادي وضمان عدم تكرار الانتهاكات، إلا أن الوقائع في العديد من الدول تُظهر عودة عدد من رموز الأنظمة السابقة تحت عناوين تكنوقراطية أو تصالحية. فالتساؤلات هنا عمّا إذا كان هذا ناتجاً عن غياب البدائل، أم عن تسويات نفعية، أم أنه شكل من أشكال إعادة إنتاج المنظومة القديمة بلباس جديد.
إعادة دمج “غير المجرمين”
مع سقوط الأنظمة الشمولية نتيجة لثورات شعبية أو عمليات عسكرية أو انقلابات سياسية، تظهر عادة موجة من التطلعات الشعبية إلى العدالة، المحاسبة وتأسيس نظام ديمقراطي جديد. غير أن مسار الانتقال غالباً ما يتخلله ضعف في آليات تنفيذ العدالة الانتقالية، أو فراغ في القدرات الإدارية، ما يفتح الباب واسعاً أمام ما يُعرف بـ”إعادة تدوير رموز الأنظمة السابقة” في مواقع السلطة الجديدة، أو حتى تقديمها للمجتمع برؤية جديدة وفق شروط توافقية-تصالحية. ويشمل هؤلاء الرموز السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية الذين شكلوا أعمدة النظام المنهار، وعادوا إلى المشهد العام، سواء بشكل مباشر أو عبر هياكل جديدة بحكم ارتباطهم بملفات حساسة وإشرافهم عليها بشكل أو آخر.
بدأت الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا، بقدر من الحذر، إعادة دمج عدد من المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، شريطة ألا يكونوا متورطين مباشرة في جرائم أو انتهاكات حقوقية، بعد تقارير لجان مسؤولة عن ملف العدالة الانتقالية والتسويات الأمنية التي قادتها الإدارة الجديدة فور تسلمها زمام الأمور في البلاد. أبرز هؤلاء كان اللواء طلال مخلوف قائد اللواء “105” في الحرس الجمهوري سابقاً، وأحد أقرباء الرئيس المخلوع بشار الأسد، والذي كان من أوائل المنخرطين ببرنامج التسوية مع تسليم كافة المتعلقات العسكرية من سلاح وملفات أمنية للاستفادة منها وتعقب تاريخ العمليات المرتبطة بها؛ شريطة التزامهم العلني بمبادئ المرحلة الانتقالية، والمساهمة في بناء المؤسسات الحديثة بعيداً عن الولاءات القديمة.
دروس الربيع العربي
في المقاربات العقلانية لبناء الدولة، تبدو الاعتبارات الأخلاقية مهمة، لكنها لا يجب أن تعيق سير المؤسسات، لا سيما وأن الحالة السورية هي حالة دولة أمنية استخباراتية تتحكم الأجهزة الأمنية بمفاصل الدولة جميعها وتشرف الأفرع الأمنية على ملفات جميع الوزارات والمؤسسات الخدمية. المفتاح في سوريا للوصول إلى خبايا المؤسسات والعلاقات العامة فيها، هو التعامل مع رؤوس الأجهزة الأمنية للحصول على جميع الملفات وإعادة ترتيبها. تتشابه سوريا مع مجموعة من الدول الخارجة من أنظمة شمولية، كما في حالات جنوب أفريقيا وتونس وتشيلي، والتي لم تلجأ إلى اجتثاث شامل لرموز الأنظمة السابقة، بل اعتمدت على مقاربة مزدوجة قائمة على مبدأين: محاسبة شاملة للمتورطين، وإعادة دمج المنظومة الإدارية والفنية في مشروع محلي وطني جامع، على اعتبار انه لا يمكن بناء دولة فاعلة من العدم، ولا يمكن تأهيل قطاعات فعالة دون استثمار في الموارد البشرية القائمة، شرط أن تتوفر الإرادة السياسية، وآليات الشفافية، وخطط إصلاح توافقية.
يقودنا هذا الطرح إلى الحديث عن دوافع تصدير رموز نظام الأسد ورجالاته وإعادة موضعتهم في المشهد العام بين حين وآخر، مع رصد المخاطر وتقديم رؤية منهجية للاستفادة المقيدة والواعية من هذه الرموز في مرحلة بناء الدولة. فعلياً هذه المسألة هي أبرز التحديات التي واجهت دول الربيع العربي، وأفريقيا ما بعد الاستقلال، وشرق أوروبا بعد سقوط الأنظمة الشيوعية. في تونس، رغم الثورة ضد نظام بن علي عام 2011، شهدت البلاد لاحقاً عودة تدريجية لأعضاء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، من خلال العمل السياسي والإعلامي، خصوصاً بعد صعود قوى سياسية براغماتية تعاملت مع هؤلاء كقوة تنظيمية لا يمكن تجاهلها. وفي السودان، ورغم إنشاء لجنة إزالة التمكين ومحاسبة رموز نظام البشير بعد 2019، إلا أن قرارات قضائية لاحقة أعادت عدداً من كبار موظفي النظام السابق، وأطلقت سراح قيادات سياسية بارزة، ما أثار قلقاً واسعاً من عودة النظام في ثوب جديد. هذه الحالات لا تنفصل عن حالات سابقة، مثل انخراط بعض رموز نظام القذافي في ليبيا ضمن أجهزة الحكم بعد الثورة، أو استخدام خبرات أمنية وعسكرية من النظام العنصري في جنوب أفريقيا بعد انتهاء “الأبارتايد”. إلا ان الحالة السورية بتعقيداتها وسرعة إنجاز مهمة إسقاط النظام بعملية عسكرية لمدة 12 يوماً، لا سيما بعد أن ظهرت مؤشرات لعودة دمشق إلى الحضن العربي ووجود مبادرات لتعويم نظام الأسد وإعادة مجموعة دول علاقاتها الدبلوماسية معه، أدت إلى اضطراب في مسار العدالة الانتقالية ومسار تنفيذ متطلبات السلم الأهلي، مع تحديات حول أي المسارين يستلزم نجاح الآخر؛ الأمر الذي شجع مجموعة شخصيات على العودة إلى الواجهة، إما عبر تسويات ومصالحات و تفاهمات أو عودة ذاتية بدون أي محاسبة أو شروط مع استغال عدة عوامل مساعدة بنوا عليها هذا الاستحقاق.
التحالفات مع رموز النظام
ننطلق في فرضية العوامل المساعدة للتعويم من وجود ثغرات في مسار العدالة الانتقالية الناقصة وغير واضحة المعالم رغم وجود الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية واللجنة العليا للسلم الأهلي؛ والتي جاءت خصيصاً لمعالجة آثار أحداث الساحل السوري. يدفع هذا الخلل إلى التركيز على الجوانب الرمزية دون المساءلة الحقيقية أو المحاسبة المؤسساتية ما يُنذر بخلق بيئة رمادية تستثمر فيها الرموز القديمة نقاط الضعف للعودة التدريجية إلى مراكز القرار أو حتى كمنفذين. تؤدي هشاشة الهياكل الجديدة التي تسلمت إرثاً منهكاً للمؤسسات السورية (عسكرية أو مدنية) وتنوع الآراء والخبرات لدى النخب الثورية، إلى فراغات في إدارة الدولة، ما يجعل من ذوي الخبرة الإدارية والتنظيمية – حتى من النظام السابق – خياراً مغرياً أو ضرورياً، خصوصاً وأن الإدارة الجديدة بحاجة إلى الملفات التي يمتلكها مسؤولون سابقون في نظام الأسد وبحاجة إلى إدارة.
تشمل هذه الملفات الضحايا والمغيبين قسرياً وقنوات التمويل والعلاقات الداخلية والدولية وإدارة القوى البشرية وملفات التوجيه السياسي والأمني، الأمر الذي يدفع النخب السياسية الجديدة إلى خلق تحالفات مؤقتة مع شخصيات من النظام السابق لأسباب تنظيمية، ما يؤدي إلى تطبيع سياسي تدريجي مع تلك الرموز في خطوة قد تثير غضب الشارع لكنها مفهومة من ناحية براغماتية نفعية بحتة؛ على اعتبار أن السيطرة على مفاتيح الدولة العميقة تبدأ من رموز الأنظمة الشمولية السابقة الذين كانوا يمتلكون علاقات قوية داخل الأجهزة الأمنية، أو الجهاز البيروقراطي، أو قطاع المال والأعمال، مما يمنحهم تأثيراً فعلياً حتى بعد أن سقط نظام الأسد. بالإضافة، فإن قدرة رموز النظام السابق على إعادة التموقع من خلال شبكات قوية من العلاقات والموارد، تمكنها من إعادة إنتاج نفسها ضمن النظام الجديد بطريقة الأمر الواقع كونها متحكمة ومتنفذة وهي الأقدر على إدارة ملفات اقتصادية وأمنية تساهم في إنشاء مسار نفعي ثنائي مع الإدارة الجديدة، وقد تنجح في التسلل إلى مراكز القرار من خلال اللوبيات أو الاقتصاد الذي يديرونه أو شبكات المصالح المحلية.
المستوى الأعلى لهذه الثغرات هو أن القوانين الخاصة بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية قد تكون فضفاضة أو غير قادرة على تحديد المعايير الدقيقة للإقصاء والمحاسبة، مما يسمح بإعادة تدوير الشخصيات القديمة، الأمر الذي يتيح المجال أمام تأثير القوى الإقليمية والدولية لضمان نسق استقرار معين، ما يدفعها لدعم شخصيات معروفة لها من النظام السابق، خصوصاً في القطاعات الأمنية والعسكرية و الاقتصادية تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو الحفاظ على توازن المصالح الإقليمية.
عودة عقلانية
قد تنضوي تحت هذه الدوافع مجموعة من المخاطر على الرغم من أن عودة بعض الشخصيات، سواء أكانت كفاءة حقيقية أو وهمية، قد تبدو عقلانية في بعض السياقات، إلا أن الظاهرة عموماً ترتبط بعدد من المخاطر أبرزها إعادة إنتاج منظومات القمع والفساد، خصوصاً حين لا تتم غربلتها بشكل فعّال، وتقويض الثقة المجتمعية في العملية السياسية الجديدة، مما يؤدي إلى عزوف شعبي وارتفاع احتمالات الانتكاسة لا سيما بين الأوساط الثورية التي تطالب بعدالة حقيقية تعوّضهم عن أعوام من القمع تحت حكم آل الأسد، دون أن يشعروا بتآكل العدالة الانتقالية، وتحويلها إلى مجرد أداة سياسية دون أثر فعلي؛ وتشظي الذاكرة الوطنية بين مطالب العدالة ومصالح النسيان، مما يعوق بناء عقد اجتماعي جديد يشارك فيه الجميع على أرضية ثابتة.
إلا أن الواقعية السياسية المستندة إلى الاعتبارات العملية والواقعية، بعيداً عن المبادئ الأيديولوجية أو الأخلاقية؛ والبراغماتية التي تحتّم أخذ الظروف القائمة والقدرات الحالية لسوريا ما بعد الأسد والمجموعات الإثنية والدينية والطائفية فيها تستلزم وتتطلب الاستفادة الإيجابية من شخصيات وأسماء محسوبين بشكل أو بآخر على النظام المخلوع. فعلياً، يمكن الاستفادة من الرموز السابقة في بناء الدولة على اعتبار ان إدارة هذا الملف لا ينبغي أن يتسم بالإقصاء المطلق ولا بالتطبيع الكامل؛ بل إن أفضل الممارسات الدولية تشير إلى إمكانية اتباع مسار توظيف مشروط ومنضبط للرموز السابقة وفق ضوابط دقيقة تبدأ بالتمييز بين الفاعلين والمنفذين.
ليس كل من عمل في نظام شمولي كنظام الأسد مسؤولاً عن جرائمه، إذ يجب التمييز بين من كان فاعلاً مباشراً في القمع والفساد ومن كان منفذاً تقنياً (في أي قطاع كان) دون سلطة قرار، ويأتي بعد ذلك إخضاع هؤلاء للمراجعة المؤسسية التي تشمل التحقق من السجلات الأمنية والذمة المالية والمشاركة في الانتهاكات ودرجة الولاء للدستور الجديد. هذه الآلية تمنح مشروعية لعملية الدمج الانتقائي- الانتقالي وتفتح الباب أمام الاستفادة المحدودة من بعض الرموز في مجالات الخبرة، دون تمكينهم من مواقع تنفيذية أو تشريعية وذلك بصفتهم إما خبراء أو مستشارين تقنيين ولمدد مؤقتة، أو حتى مجرد وضعهم تحت رقابة مباشرة حتى ينهوا تسليم مهامهم وملفاتهم السابقة للجان الانتقال والسلم الأهلي، مع ضرورة وجود رقابة مؤسساتية ومجتمعية واضحة.
يضمن هذا المسار عدم الإقصاء، وتجاوز الطائفية والمناطقية والإثنية. ما قامت به الإدارة الجديدة في دمشق هو ربط أي مشاركة لهم بميثاق أخلاقي يفرض عليهم عدم الانخراط في العمل السياسي، أو العسكري، أو الاقتصادي، أو المدني المباشر لفترة زمنية محددة، ويشترط تعاونهم الكامل مع مسارات العدالة الانتقالية واعترافهم العلني بالأخطاء السابقة. كما يمكن إدماج بعض هذه الشخصيات في مشاريع المصالحة الوطنية بحيث تلعب أدواراً إيجابية في لجان الحقيقة والمصالحة أو في تسهيل المصالحات المجتمعية، كما في حالة فادي صقر الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السورية الثورية والمدنية على اعتباره عرّاب المصالحات المدنية والعسكرية حتى بعد سقوط نظام الأسد، وإعادة تقديمه على انه رجل سلم أهلي وصمام أمان لعمليات انتقالية لاحقة، كونه، بحسب المتحدث الرسمي باسم لجنة السلم الأهلي، قد ساهم في عملية ردع العدوان دون الوصول إلى حمّام دم في مناطق دمشق و ريفها.
المدن،
————————————-
القضاء السوري.. بين التحديات والحلول الفورية/ ميشال شماس
2025.06.14
ليس بخافٍ على أحد اليوم أن وضع القضاء في سوريا في حالة يُرثى لها من الترهل والفساد، وهو على هذه الحال منذ أن كان نظام الأسد الإجرامي جاثماً على صدور السوريات والسوريين، وحتى سقوطه في 8 كانون الأول من العام الماضي. غالبية القضاة فاسدون، وبعضهم شارك في ارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.
في مواجهة هذا الواقع الكارثي، تبرز أسئلة جوهرية: كيف يمكن معالجة هذا الوضع؟ هل الحل يكمن في صرف جميع القضاة؟ وإذا تم ذلك، هل هناك بديل جاهز وقادر على تولي المسؤولية؟ هذه التساؤلات ظهرت بشكل حاد بعد قرار مجلس القضاء الأعلى بعزل 77 قاضيًا دفعة واحدة.
إن صرف الجهاز القضائي وعزله بأكمله كما يطالب البعض، بحجة أنهم يمثلون مرحلة مظلمة من تاريخ سوريا، ستكون له عواقب وخيمة على الوضع في البلد، في ظل عدم توفر بديل جاهز يؤمّن استمرار المحاكم في عملها، مما سيؤدي إلى انهيار المنظومة القضائية، خاصة في ظل نقص القضاة وضعف البنية التحتية للمحاكم، وصعوبة تجهيز وإعداد قضاة جدد. فمثلاً، تجهيز مئات من القضاة يحتاج إلى سنوات من التدريب والتأهيل.
وإذا سايرنا هذا المنطق الإقصائي بعزل جميع القضاة باعتبارهم معينين من قبل نظام الأسد البائد، وطبقناه على مختلف المؤسسات والإدارات والوزارات، وفصلنا كل الموظفين فيها بحجة أنهم خدموا النظام السابق الذي عينهم، وأنهم أمنوا له الشرعية أيضاً، سيكون الأمر كارثياً. ولنا أن نتصور الأعداد الهائلة التي يمكن أن تذهب ضحية هذا المنطق الإقصائي المدمّر للبلد، ولا يمكن القبول به على الإطلاق، ويمكن، لا بل وأكيد سيؤدي إلى حدوث اضطرابات، وربما ثورة جديدة.
نعم، هناك قضاة وغير قضاة ارتكبوا جرائم، لكن أن نعمم هذا المنطق الجمعي الإقصائي على كل الناس الذين عاشوا في مناطق سيطرة الأسد، وهم بالملايين، ومنهم من هرب من مناطق سيطرة المعارضة المسلحة ليعيش في مناطق سيطرة الأسد الساقط، سيكون هذا التعميم كارثة مدمّرة على البلد.
نحن اليوم بحاجة إلى إصلاح شامل لكل مرافق الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمتها القضاء، لكن يجب أن يكون هذا الإصلاح متوازناً، يجمع بين الحاجة للتغيير وضمان استمرارية عمل القضاء، دون أن نساهم في حدوث فوضى قانونية تزيد الأمر تعقيداً وتعرقل عملية بناء الدولة، وذلك وفق خطوات آنية ومدروسة:
أولاً: إجراء تقييم للقضاة الحاليين على أساس فردي، وذلك من خلال تشكيل هيئة رقابية مستقلة من قضاة ومحامين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، لإجراء تحقيق شامل حول أداء القضاة ونزاهتهم.
وبنهاية المراجعة، يتم الاحتفاظ بالقضاة الأكفاء النزيهين، وإبعاد المتورطين في الفساد أو الانتهاكات المسلكية والقانونية الجسيمة. وليس كما جرى مؤخراً، عندما قرر وزير العدل عزل قضاة محكمة الإرهاب بطريقة أقل ما يُقال فيها إنها “هوشة عرب”، خلافاً للقرار التفتيشي الذي أقرّ بوضوح أن 31 قاضيًا من الذين عملوا في محكمة الإرهاب لم يثبت عليهم سوء سمعة أو ارتكاب أية مخالفة مسلكية أو قانونية، ومع ذلك تم صرفهم. وهذا هو الظلم بذاته، وجريمة بحق القضاء وبحق البلد. فنحن اليوم أشد حاجة إلى هؤلاء القضاة، ولا شك أن قرار إعادة القضاة المنشقين إلى عملهم هو قرار جيد، وسيساهم على الأقل في تعويض القضاة الذين تم صرفهم مؤخراً. ومع ذلك، ستبقى المحاكم تعاني من نقص كبير في أعداد القضاة القادرين على تسيير أمور القضاء.
ثانياً: تفعيل التفتيش القضائي، من خلال رفده بقضاة أكفاء، ومنحه الصلاحيات الكاملة في متابعة القضاة ومراقبة قراراتهم، وضمان شفافية عملية التفتيش من خلال إشراك خبراء قانونيين محايدين أو جهات رقابية مستقلة. وبعدها يمكن تعديل القوانين الخاصة بالقضاء بما يفصل فصلاً تاماً بين القضاء والسلطة التنفيذية، وإعادة هيكلة المحاكم وتنظيمها بما يضمن سرعة الفصل في القضايا ومنع استغلال النفوذ.
ثالثاً: البدء بتدريب وتأهيل قضاة جدد تدريجياً، من خلال وضع برامج تدريبية مكثفة للجيل الجديد من القضاة، بحيث يكون لديهم القدرة على إدارة المحاكم بفعالية.
رابعاً: إنشاء أكاديمية قضائية مستقلة، تختص بتأهيل القضاة مستقبلاً وفقاً للمعايير الدولية للنزاهة والاستقلالية.
خامساً: توفير رواتب عادلة للقضاة لضمان استقلاليتهم، وتقليل احتمالية وقوعهم في الفساد بسبب الضغوط المادية، ومنحهم امتيازات قانونية تحميهم من التدخلات السياسية أو الاقتصادية في عملهم.
سادساً: منح نقابة المحامين ومنظمات المجتمع المدني دوراً في مراقبة أداء القضاء وضمان شفافيته.
سابعاً: اعتماد أنظمة رقمية في المحاكم لتقليل الفساد الإداري، مثل أرشفة القضايا إلكترونياً، واعتماد أنظمة تسجيل الجلسات، مما يُسهم في تعزيز الشفافية والحد من التلاعب في الملفات القضائية.
ثامناً: مراجعة قوانين العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية والإجراءات القضائية، لضمان توافقها مع مبادئ العدالة الحديثة، وتقليل الفجوات التي تسمح للبعض بارتكاب تجاوزات أو انتهاكات.
تاسعاً: إشراك المواطنين في مراقبة القضاة، من خلال إنشاء منصات للإبلاغ عن التجاوزات القانونية بشكل آمن، بحيث يكون للمواطنين دور فاعل في كشف الفساد وضمان المساءلة العادلة.
عاشراً وأخيراً: إعادة النظر بقرار عزل القضاة الـ31، الذين ثبت أنهم لم يرتكبوا زلة مسلكية أو مخالفة قانونية، لتعويض النقص الحاصل في أعدادهم.
هذه الحلول الآنية يمكن أن تساعد، في هذه المرحلة، بتحقيق إصلاح تدريجي للقضاء، دون تعطيله أو خلق مشكلات قانونية أو اجتماعية نحن بغنى عنها اليوم.
تلفزيون سوريا
——————————-
فادي صقر ولجنة السلم الأهلي في سورية/ عمار ديوب
14 يونيو 2025
فادي مجرم حرب، ومسؤول مباشر عن مجزرة حي التضامن جنوبي دمشق، وعن الإشراف المباشر (بعض الوقت) على قصف مخيّم اليرموك والحجر الأسود، وتؤكد تقارير دوره في الاعتقالات التعسّفية. فادي هذا، قال عنه عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، إن القيادة السورية أعطته الأمان، في حديث للإعلام (10/6/2025). أثارت جملته هذه رفض أغلبية السوريين، فالرجل مجرم، ومكانه السجن، والعفو عنه (وعن سواه من مجرمين) من حقّ ضحاياه أو ذويهم فقط. وقد أشار حقوقيون كثيرون إلى أن تصريحات صوفان تتجاوز أعمال لجنته، وتتطفّل على أعمال لجنة العدالة الانتقالية، التي صدر مرسوم جمهوري بها، ولكنّها لم تفعّل بعد، وهناك مطالباتٌ حقوقيةٌ بأن يشارك ذوو الضحايا، والمنظّمات المعنية، في صياغة قانونها وفي الإشراف على تطبيقها، وأن تكون مستقلة في أعمالها وتخضع لمراقبة دولية.
يؤكّد الحقوقيون أن عدم اعتقال فادي صقر بسبب الأمان الرئاسي يؤجّج العداوات بين السوريين، ويترك الباب مفتوحاً للانتقام الفردي، ويزعزع ثقة السوريين بشرعية السلطة، بينما تمرّ سورية في مرحلة انتقالية ومعقّدة للغاية، وتتطلّب عدالةً انتقاليةً للانتقال إلى السلم الأهلي (وليس العكس) وتحقيق الاستقرار، وهذا يتطلّب اعتقال كبار المجرمين من ضبّاط وشبّيحة، وفي مقدمتهم صقر، الذي كان قائداً لمليشيا الدفاع الوطني في سورية كلّها. كانت الشكوك في دورٍ ما لفادي صقر كثيرةً قبل المؤتمر الصحافي لصوفان، ولكن دوره أصبح مؤكّداً من خلال أعمال لجنة السلم الأهلي، التي شكّلها الرئيس أحمد الشرع، إضافة إلى تفاعلات لجنة التحقيق فيما جرى في الساحل في مارس/ آذار الماضي. يظهر صقر حينما يُفرَج عن ضبّاط محتجزين، ويُشاهَد في مدن الساحل، وكأنّه يمثّل السوريين العلويين، وكأنّ السلطة السورية تريد احتجازهم مؤيّدين أبديين للنظام القديم لا يغادرون موقعهم هذا، ولا تريدهم مواطنين في الدولة مثل باقي السوريين، لكن هناك رفضٌ علويٌّ، وليس سنّياً فقط، لدوره، فهو من أذرع بشّار الأسد في الفتك بالسوريين، وفي المذبحة التي حصلت بعد 2011، وقُتلت بسببها كتلة كبيرة من شباب الطائفة العلوية، بحجّة الدفاع عن بشّار الأسد.
أخطأت لجنة السلم الأهلي بإشراك فادي صقر وخالد الأحمد فيها، والأخير كان مستشاراً لدى بشّار الأسد. أي اختير رجال الأسد ليكونوا عوناً للسلطة في ضبط الساحل السوري. ربّما كان لهم دور قبل إسقاط النظام، وفي تسهيل إسقاطه، ولكنّ العلويين، ضبّاطاً وشعباً، لم يتصدّوا بعد سقوط الأسد للسلطة الجديدة، وتُستثنى من ذلك بعض الأعمال الإجرامية في مارس/ آذار الماضي ضدّ الأمن العام من بعض الفلول، انتهت بسرعة. رحّبت أغلبية العلويين بسلطة الشرع في الأيّام الأولى لهروب بشّار، ولكن تأخّر هذه السلطة في البدء بالعدالة الانتقالية دفع إلى حدوث انتهاكات واسعة (خطف وقتل وانتهاكات جسيمة)، وهناك تقارير صحافية تؤكّد مقتل 600 شابّ سوري علوي قبل انفجار أحداث الساحل في 6 مارس. يكمن خطأ السلطة في تجاهلها قيادات علوية، مثقّفين ورجال دين وسياسيين سابقين، ومتضرّرين بشدّة من حكم آل الأسد منذ 1970، كان يمكن الاعتماد عليهم. والآن وغداً، يجب أن تغيّر السلطة سياساتها في احتواء الساحل، ويقع عليها أولاً اعتماد هؤلاء في مسارَي السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وفي التحقيق الجاري في مجازر الساحل. وثانياً، يجب إشراك الضبّاط من غير المشتركين بالإجرام الأسدي في الجيش والأمن والشرطة، وثالثاً، يجب إبعاد الفصائل العسكرية كافّة، التي شاركت في مجازر الساحل، والأفضل تفكيكها نهائياً، نحو “العمشات” و”الحمزات” وفرقة السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى، وهذه فُرضت عليها عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وفرقة المجاهدين الأجانب.
اعتماد السلطة على فادي صقر وخالد الأحمد، وهما شخصان هامشيان لدى العلويين، أمر خاطئ، حتى لو كانت السلطة تريد بذلك إغلاق الباب أمام رامي مخلوف أو العميد سهيل حسن أو آخرين. هناك حالياً بدايات رفض لدورهما (صقر والأحمد) في الساحل، فهما لم يستطيعا حماية العلويين من الانتهاكات التي لم تنتهِ. وأيضاً، هما من رجال الأسد المورّطين لكثيرين من أبناء الطائفة العلوية في المقتلة. ولكن هل هناك ضغط من إحدى الدول من أجل الاعتماد على شخصين كهذين؟… ربّما، ولكن الغضب الشعبي الواسع، إثر مؤتمر حسن صوفان، والمطالبة باعتقال صقر وتطبيق العدالة الانتقالية، قد ينتقل إلى مظاهرات عارمة في حال استمرار السلطة باحتضان هذه الشخصيات، وتأخير البدء بتطبيق العدالة الانتقالية والإفراج عن ضبّاط كُثر في السجون، ومن دون محاكمات علنية، ومن دون تفسير جادّ. تبريرات حسن صوفان للإفراج عن ضبّاط من النظام السابق، أنهم لم يرتكبوا جرائم، وأن الإفراج يعزّز السلم الأهلي، لم يقنع أكثرية السوريين، لهذا يجب أن تتقدّم العدالة الانتقالية، بإعلان أسماء المجرمين، وبما يرضي الضحايا وذويهم. بعد ذلك يتحقّق السلم الأهلي، وهذا لا يُلغي أهمية وجود لجنة السلم الأهلي ودورها في تخفيف الاحتقان في الساحل. ولكن السؤال كان (وما يزال) سؤال الأكثرية، التي تضرّرت منذ 2011، عن حقوقهم قبل البدء بالاهتمام بحقوق أهل الساحل. التساؤل هذا، هو حديث واقعي للذين تضرّروا منذ 2011، وإن تجاهل السلطة له، أدّى إلى كثير من المشكلات الأمنية، وأبقى الوعي العام انتقامياً وثأرياً وطائفياً، وهذا يعني أن الوضع الأمني بأكمله قابل للانفجار.
السلطة معنية، وقد أصدرت مرسوماً للعدالة الانتقالية بالبدء بالحديث الدقيق عن كيفية تطبيقها، ومعالجة حقوق الناس وجبر الضرر، والتخلّص من عقلية احتكارها إدارة شؤون الدولة السورية، وإشراك السورين فيها. إن الرفض الأولي الراهن لتبريرات السلطة تدوير شخصيات مثل فادي صقر، يقابله بدايةً رفضٌ من الطائفة العلوية كذلك. وبالتالي، هناك ضرورة لتنفتح السلطة تجاه الشعب وتثق به، وتفصل بين السلطات، وأن تتيح المجال لأهالي المدن، وفي سورية كلّها، للمشاركة في مؤسّسات الدولة: الجيش والأمن العام، وفي مختلف المناصب، وسيكون أمراً عظيماً إن أتاح الرئيس أحمد الشرع انتخاب مجلس الشعب لا أن يُعيّنه وتعيّنه اللجان التي سيشكلها الشرع، سيّما أن هناك تقارير صحافية بدأت الكلام عن تشكيل هذا المجلس قريباً.
العربي الجديدة،
—————————
العدالة التي تسير على عكاز العفو/ ماهر حمصي
في الدول التي تُخفي دماءها تحت طبقات من التصريحات الرسمية، لا يصدر العفو عن طهرٍ أو رجاءٍ بالمصالحة… بل من موائد السياسة، حيث تُوزَّع الذنوب حسب لون المرحلة.
أحدهم تورّط، وآخر أشرف، وثالث برَّر.
ثم حين تبدّل أصحاب الكراسي، صار المجرم شاهدًا، والشاهد ملفًا، والضحية “ملفًا لم يُستكمل بعد”.
في الحالة السورية، لا حاجة لكثير من التبصّر كي تفهم أن ما يحدث ليس عفوًا بل إعادة جدولة للولاءات.
أن يغيب التحقيق، ويُستثنى الضحايا، ويُنزع الاعتراف… ثم نُبلّغ خبر “التسامح” عبر تسريب صحفي أو لفتة رسمية مريبة؟ فذاك ليس مسار عدالة، بل إعادة ترسيم للخرائط البشرية.
فادي صقر، الاسم الذي التصق بمجزرة حي التضامن، يُعاد تدويره في المشهد العام، من دون محكمة أو اعتراف أو حتى بيان يبرر. وكأن العفو هنا، ليس انعتاقًا بل تبنٍّ قسري من طرف السلطة لرجلٍ تغيّر موقعه لا تاريخه.
لكن سوريا ليست وحدها. العالم جرب العفو عشرات المرات.
خرائط عالمية لما بعد الدم
في تشيلي، احتاجت الدولة إلى عقدين لتتلفظ بجملة: “ما حدث في ظل بينوشيه كان جريمة”، لكنها تلفظتها.
في كولومبيا، لجأت الحكومة إلى عفو مشروط في اتفاق السلام مع “فارك”، حيث لا إعفاء دون جلسات استماع، واعترافات علنية، ومشاركة للضحايا عبر لجان موازية.
على النقيض، في أنغولا صدر عفو شامل بعد الحرب الأهلية، من دون مساءلة أو ذاكرة. كانت النتيجة: عودة التوترات، وتمدد الاحتقان تحت السطح، كما رصد تقرير “أمنيستي” عام 2007.
وفي لبنان… العفو صار مجرد منشار زمني يفصل بين طبقات الحرب، دون أن يمحو أصواتها.
إذا عدنا إلى دمشق اليوم، نرى أن العدالة ليست غائبة فحسب، بل مستبدلة. لا تسوية، لا خريطة طريق، لا مشاركة مجتمعية. بل مجرد إعلان مفاجئ، يُسقط شعور الطمأنينة الأخير لدى الضحايا، ويمنح الجلاد قدمًا جديدة يسير بها في ساحة ما بعد المجازر.
الأسوأ؟ … أن لغة العفو تُروَّج كأنها خطوة نحو السلم… في حين أنها تُغطي آثار الجريمة بطلاء مؤقت، يمحو الحقيقة ولا يُنقّي الذاكرة.
فالعفو النزيه، إن جاز التعبير، لا يأتي إلا إذا تحقق ثالوثه :
الاعتراف، المشاركة، عدم التكرار.
المشاركة تعني إشراك الضحايا والمتضررين في صياغة مفهوم العفو نفسه ، لا أن يكونوا مجرد متلقّين لقرار مفروض عليهم.
وإلا، سنظل نقرأ قصصنا المكتوبة بالدم من جديد،
لكن بلغة تخجل من قول الحقيقة.
ماهر حمصي
مؤسس و مدير بلا رتوش
—————————-
عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان: إجراءات السلم الأهلي ضرورة لتفادي انفجارات أكبر
14 يونيو 2025
في الوقت الذي تواجه فيه سوريا تحديات كثيرة معقدة، لا سيما في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق العدالة، جاءت إجراءات تسوية أوضاع بعض الضباط والشخصيات المرتبطة بالنظام السابق لتثير جدلًا واسعًا، بين مؤيد يراها خطوة ضرورية لتفادي التوترات وتعزيز السلم الأهلي، ومنتقد يعتقد أنها ستكون شكلاً من أشكال الإفلات من العقاب.
وأثار كلام عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، عن القيادي في ميليشيا “الدفاع الوطني”، فادي صقر، التي أسسها النظام البائد مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، موجة من ردود الفعل الغاضبة في أوساط السوريين، الذين أكدوا على ضرورة محاكمة صقر المتهم بارتكاب مجازر وانتهاكات ضد المدنيين في مناطق جنوب دمشق خلال السنوات الماضية.
وقال صوفان، خلال مؤتمر صحفي عقد في دمشق، إن إشراك شخصيات مثيرة للجدل مثل فادي صقر في مسار المصالحة الوطنية يأتي في إطار السعي لتفكيك العقد المتراكمة، ومعالجة الأزمات المعقدة، ومواجهة التحديات التي تهدد استقرار البلاد.
“الترا سوريا” حاور عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، للوقوف على تفاصيل الإجراءات المتخذة وأسبابها، ومناقشة الانتقادات التي أثارتها تصريحاته، في ظل مرحلة انتقالية دقيقة تمرّ بها البلاد.
بدايةً، ما حقيقة الإجراءات التي اتُّخذت مؤخرًا لتسوية أوضاع بعض الضباط، وما الدوافع وراءها؟
دعوني أوضح أن هذه الإجراءات تتعلق بضباط سلموا أنفسهم منذ عام 2020، خصوصًا في منطقة السخنة، بعد سقوط النظام هناك. جرى استيعابهم ضمن ما يسمى بحالات الاستئمان، بناءً على نداء الأمان الذي أطلقته إدارة العمليات، والذي خُصّص لمن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين ولم يشاركوا في انتهاكات.
هؤلاء خضعوا لتحقيقات دقيقة من قبل المؤسسات المعنية، ولم تُثبت بحقهم تهم تتعلق بجرائم حرب أو تعذيب أو استهداف للمدنيين. وبعد استكمال الإجراءات القانونية، تمّت تسوية أوضاعهم.
ما هو الهدف من هذه الإجراءات؟ وهل تُعدّ بديلًا عن العدالة الانتقالية؟
إطلاق سراحهم جاء أولًا لعدم وجود مبرر قانوني لاستمرار احتجازهم، وثانيًا لضرورات السلم الأهلي، خاصة في مناطق مثل الساحل التي تشهد توترات عالية. استمرار احتجازهم كان سيؤدي إلى نتائج عكسية، قد تضر بالاستقرار المحلي، ولا تخدم المصلحة الوطنية أو العدلية.
لكن من المهم التأكيد أن هذه الخطوات لا تُغني عن العدالة الانتقالية، بل تُكمّلها. نحن أمام اجتهادات ظرفية تهدف لتهدئة الأرضية الاجتماعية، وهي قابلة للنقاش، لكنها ضرورية ضمن السياق الحالي. العدالة الانتقالية بدأت فعليًا عبر الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بموجب مرسوم رئاسي، وهي المسار الأساس نحو دولة القانون والمواطنة.
هناك من يرى في هذه التسويات نوعًا من الإفلات من العقاب، خصوصًا مع ورود أسماء مثل فادي صقر. كيف تردون على هذه الانتقادات؟
أتفهم تمامًا هذا القلق. شخصيات مثل فادي صقر محل جدل كبير، لكن أود التوضيح أن الإجراءات لم تشمل من ثبتت بحقه تهم جرائم حرب أو انتهاكات. دور هذه الشخصيات يندرج ضمن محاولات تفكيك التوترات المحلية، وهو دور محدود ومؤقت، ولا يعني تبرئة أو إسقاط التهم.
المحاسبة لن تتم بالفوضى أو الثأر، بل عبر مسار منظم. الهيئة الوطنية تعمل على خارطة طريق واضحة لتحقيق العدالة، ونحتاج إلى صبر مجتمعي كي لا تنفلت الأمور وتتعرقل العدالة بسبب انفجارات غير محسوبة.
لكن ظهور هذه الشخصيات علنًا، حتى قبل انتهاء التحقيقات، فُسر على أنه استفزاز لأهالي الضحايا، خاصةً بوجود أدلة مصورة.
هذا الإحساس مفهوم، ونحن لا نستهين به. لكن أود التأكيد أن أي شخص سيثبت تورطه في انتهاكات لن يُشمله أي عفو أو تسوية. أما بخصوص الفيديوهات التي وُصفت كأدلة، فهي قيد التحقيق بالفعل، وإذا ثبتت الإدانة، فستتم المحاسبة.
دور هذه الشخصيات في هذه المرحلة مؤقت ومقيد، ويخضع لمتابعة أمنية وقانونية. نحاول التعامل مع الواقع المعقد دون أن نخسر السلم الأهلي أو نغامر باندلاع مواجهات جديدة. لسنا في موقع الدفاع عن أحد، بل في موقع إدارة مرحلة حساسة بكل ما فيها من تناقضات.
البعض يرى أن هذه الإجراءات تهدد فكرة العدالة بحد ذاتها، ما هو ردكم؟
العدالة لا تتحقق بالانتقام أو بردود الفعل العاطفية، رغم أنها مفهومة. نحتاج إلى دولة قوية ومؤسسات راسخة لإنصاف الضحايا، وإلا فإننا سنقع في فوضى لا تخدم سوى من يريدون دفن الحقيقة. نعم، نطالب بالصبر، لكن نعد أيضًا بالشفافية. لا وطن بلا عدالة، ولا عدالة دون إنصاف.
في الختام، ما الرسالة التي توجهونها للشارع السوري، وخاصة لعائلات الشهداء والضحايا؟
نؤكد لهم أن غضبهم مشروع، وأننا نعمل لضمان ألا يُضيع حق أحد. هذه مرحلة صعبة، وعلينا أحيانًا اتخاذ قرارات لا تُرضي الجميع، لكنها تمنع تفجّر الأوضاع. نعدهم أننا لن نساوم على العدالة، وأن كل ما يُتخذ اليوم هدفه النهائي هو بناء دولة المواطنة والقانون، دولة لا تفرّق بين ضحية وجلاد.
الترا سوريا
—————————–
دفاعاً عن فادي صقر/ رانيا مصطفى
15 يونيو 2025
بسبب الاحتقان الشعبي لحاضنة الثورة نتيجة تعويم قائد مليشيا الدفاع الوطني في عهد نظام الأسد، فادي الأحمد (فادي صقر)، والذي ارتكب مجازر بحق السوريين، وثّقها بنفسه بالصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، اضطرّت القيادة السورية الجديدة للخروج عن سياسة الصمت والغموض، فدفعت رئيس لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري، حسن صوفان، إلى عقد مؤتمر صحافي مطوّل الثلاثاء الماضي، بمشاركة المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا، وحضور وزير الإعلام حمزة المصطفى. اعتقد صوفان، وهو قيادي سابق في حركة أحرار الشام الإسلامية، أنّ باستطاعته تخدير الشعب بكلامٍ إلهي مقدّس عن طاعة وليِّ الأمر والثقة بالقيادة الفاتحة، وأنّ العدالة الحقيقية ستتحقَّق في الآخرة وليس على الأرض، وغير ذلك من مقولات دينية تصلح لخطبةٍ في مسجد، وليس لعمل مؤسّساتي.
كان الغرض من المؤتمر الصحافي تبرير إعطاء القيادة السورية الجديدة الأمان لصقر أن ثمة دوراً له في حقن الدماء خلال عملية ردع العدوان، من دون الحديث عن تفاصيل هذا الدور، ثم الطلب من السوريين المكلومين الثقة المطلقة بما تفعله القيادة. منذ التحرير في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حظيت القيادة الجديدة بتأييد شعبي واسع، رغم أنّه تأثَّر بسبب مجازر الساحل والغزوات ضدّ السوريين الدروز. قد تكون الأشهر الستة الماضية مدّة قصيرة في عمر السلطة، لتلمّس إنجازات في الملفّات الملحّة، لكنّها ليست قصيرة لظهور معالم الطريق إلى تلك الحلول، عبر خطّة حكومية واضحة، يشارك الشعب في وضعها والرقابة عليها. وتغييب الشعب عن كلّ القرارات هو السمة الواضحة لتعاطي السلطة الجديدة منذ استلامها الحكم، وبات واضحاً ميلها إلى التسلطية، مع كثير من المظاهر الاحتفالية وتضخيم بعض تقوم به، مثل توقيع اتفاق التفاهم على اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالجيش السوري، ولقاء الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأميركي ترامب في الرياض، وقرار الأخير رفع العقوبات عن سورية، وتوقيع مذكّرة تفاهم تركية قطرية أميركية حول استثمار سبعة مليارات في قطاع الطاقة والكهرباء في سورية.
أول مرّة ظهر فيها صقر، بعد التحرير، كانت في فبراير/ شباط الماضي، برفقة وفد حكومي التقى لجنة السلم الأهلي في حيِّ التضامن الدمشقي، الذي اشتهر بمجزرة بشعة شارك فيها صقر بنفسه؛ وكانت هناك احتجاجاتٌ شعبيةٌ في الحي للتعبير عن رفضها مشاركة صقر في السلم الأهلي والمطالبة بمحاكمته، ثم لفلفت السلطة القصة، ليعود ظهور صقر في قاعدة حميميم الروسية مطمئناً المدنيين من السوريين العلويين الهاربين من المجازر الطائفية في مارس/ آذار الماضي. وقبل عطلة عيد الأضحى، أخيراً، ظهر صقر برفقة صوفان في وفد لجنة السلم الأهلي في حي عش الورور، ذي الغالبية العلوية، للتعزية بمقتل سبعة شبان على خلفية طائفية في أثناء عودتهم ليلاً من مطعم يعملون فيه. وكذلك خرج شخص مقرّب من صقر، كان قد أسس فريقاً تطوعياً يقدّم مساعدات في القرى العلوية في الساحل السوري، في بثٍّ مباشر على وسائل التواصل الاجتماعي، برفقة ضبّاطٍ مفرج عنهم حديثاً، شاكراً معلِّمه صقر على جهوده في الوساطة لإطلاق سراحهم. قال صوفان في مؤتمره الصحافي أنّهم غير متورطين في جرائم جسيمة. وهنا نتساءل: إن كانوا غير متَّهمين بجرائم، فلماذا احتاج إطلاق سراحهم إلى مساوماتٍ مع أمثال صقر؟ وإذا كانوا متَّهمين، فليست لجنة السلم الأهلي ولا وزارة الداخلية من يقرّر تبرئتهم، بل القضاء العادل وضمن مسار العدالة الانتقالية. أثار ذلك كله غضباً واسعاً بين كلّ السوريين، خصوصاً ممن كانوا حاضنة للثورة، ودفع عدة تشكيلات ثورية وفروع نقابة المحامين السوريين إلى إصدار بيانات تستنكر ما ورد في تصريحات صوفان، وتعتبره استفزازاً للضحايا وذويهم، المفترض أن يكونوا مشاركين في مسار العدالة الانتقالية، باعتبار هذا شرطاً أساسيّاً لتحقيقها.
من موقعها، كتحالف فصائل إسلامية سلفية، تتعاطى القيادة الجديدة مع المجتمع السوري بوصفه طوائف وإثنيات وعشائر وغير ذلك من البنى التقليدية المتخلِّفة. وبذلك، يَعتبِر قادتُها أنفسَهم ممثِّلين للأغلبية المسلمة السنّية، وفادي صقر ومن معه يمثِّلون العلويين، الذين يطالب الغرب بعدم التعرّض لهم. وهذا يتّفق مع توصيف الإسلاميين نظام الأسد علويّاً، وبالتالي من الطبيعي أن يمثّل صقر الدفاع الوطني السوريين العلويين. لا يمكن لشخصٍ مثل صقر، بسجلّه الإجرامي الصريح أن يعمل لمصلحة العلويين وسلمهم الأهلي، ربّما يعمل لمصلحة المتورّطين منهم بجرائم، لتبرئتِهم عبر تصدّره مشهد السلم الأهلي، بينما يعاني المدنيُّون منهم، نساء وأطفالاً وشيوخاً، من استباحة كاملة، إضافة إلى صغار المقاتلين الذين تطوّعوا في أجهزة الجيش والأمن ومليشيا الدفاع الوطني بدافع إفقار نظام الأسد لهم. وبدلاً من التعاطي مع ما جرى في سورية ثورة شعبية ضدّ نظامٍ مجرمٍ ارتكب بحقّ حواضنها الشعبية المجازر، يرى صوفان ما جرى خلال 14 عاماً حرباً أهلية ارتكب فيها السوريون العلويون مجازر ضدّ السوريين السنّة. وهذا يعني أنَّ السّلم الأهلي يتحقَّق عبر توافقات مع المجتمعات الأهلية، ويعطى فادي صقر دور تمثيل السوريين العلويين، بينما تعطى الجماعة الممسكة بالسلطة في دمشق، ممثَّلَةً بمسؤول السلم الأهلي، صوفان، كلّ الصلاحيات، الفوق مؤسّساتية، لتقاضي المتَّهمين، وتصل إلى حدّ تبرئة مجرمين، الأمر الذي يطيح كل مسار العدالة الانتقالية التي شكّل الرئيس لجنة خاصّة بها. والجدير ذكره أن السوريين العلويين رافضون تمثيل صقر لهم، ويريدون محاكمة المتورّطين، والخلاص من حالة الخوف نتيجة استهدافهم كجماعة.
لن تقود مقاربة السلطة الجديدة مسار السلم الأهلي إلّا إلى مزيدٍ من الأعمال الانتقامية، المستمرّة منذ التحرير، نتيجة غياب الثقة بنية السلطة وقدرتها على السير جدّياً في مسار العدالة الانتقالية. ليست هذه المقاربة إلّا حلولاً ترقيعية، والدليل انفجار المشكلة بوجه السلطة، وفشل كل الجهود لإطفائها، سواء مؤتمر صوفان- البابا، أو تبريرات وزير الإعلام عبر شاشات التلفزة. مسار السلم الأهلي جزء من مسار العدالة الانتقالية، لأن الغاية من البدء ببرنامج الأخيرة طيّ صفحة الصّراع وتحقيق السلم الأهلي. … بالتأكيد، لا يمكن محاسبة كلّ من حمل السلاح، كما قال صوفان، لكنّ الصَّفح عمّن تورّط بالجرائم لا يتمُّ بقرار فوقي من أصحاب النفوذ، فهو مرتبط باعتراف المجرمين بجرائمهم من أجل كشف الحقيقة، وتعويض الضرر للضحايا، وقبول الضحايا بالمسامحة، لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات، سواء عبر القضاء المستقل المختص بملف العدالة الانتقالية أو عبر لجان أهلية تشارك في إدارة هذا الملفّ بإشراف الدولة.
العربي الجديد
—————————-
السلم الأهلي السوري: اتفاق الصمت؟/ عبير داغر إسبر
الأحد 2025/06/15
لطالما تأرجحت حياتي، كإنسانة وكروائية، بين غايتين متناقضتين: أن أنسى كي أنجو، أو أغرق في التفاصيل علّها تنقذني من الجهل. بين هذين الحدّين الهشّين، تبلورت رؤيتي للعالم، ولما يحدث في هذا البلد “الأم” الذي لم يعد أرضاً أو حدوداً، بل أصبحَنا، وأصبح إيّانا. وسوريا اليوم، تمشي نحو المصالحة وتطرح سؤالها الأهم: كيف نبني “السِّلم الأهلي”؟ هل بهدنة مطوّلة؟ بتوقف ميكانيكي للحرب؟ أم بحالة من التناغم العميق، تتصالح فيها الجماعات المتنافرة مع ذاكرتها، وتلتقي في مساحة من العدالة والثقة؟
أنا، كفرد، أعرف أن السلم الأهلي ليس غفراناً طوباوياً، ولا تسوية آنية، بل هي مسار مؤلم وطويل، يتطلّب هضماً بطيئاً للألم الشخصي والجمعي. لقد عشت، كما كثيرين، تحت خطاب عنيف ومنقسم. وهناك، في الهامش الرمادي، ظلّ السؤال يطاردني: كيف تنشأ مصالحة في ظل صراع مرير بين الذاكرة والنسيان؟ وسوريا كبلد وأفراد ليست استثناءً. فشعوب كثيرة خرجت من الحروب محمّلة بالدروس، وتاهت، مثلنا، بين ضرورة التذكّر كفعل مقاومة، وواجب النسيان كوسيلة نجاة.
بعد ديكتاتورية فرانكو، اختارت إسبانيا طريق “اتفاق الصمت”. لقد آثرت الأمة نسيان الماضي، وطوت صفحات الحرب الأهلية بلا محاسبة أو اعتراف، في محاولة لضمان انتقال سلس نحو الديموقراطية، تم على حساب الذاكرة. فبقيت جراح الماضي تنزف في الخفاء، وتراكمت آلام الضحايا، لتظهر مجددًا بعد عقود، مطالبة بكسر الصمت وكشف الحقيقة.
وفي لبنان، الذي نعرف ونجاور، بُنيت الدولة على أنقاض الذاكرة، وقرر المجتمع الإلتئام بلا عقد اجتماعي حقيقي. وظل السلم الأهلي هشاً، مهدداً بالانهيار عند كل أزمة. في كوسوفو، سلك المجتمع مسارًا جمع بين العدالة الدولية والمحلية، فأُنشئت محكمة خاصة لجرائم الحرب، ترافقت مع مبادرات مجتمعية للمصالحة بين المكونات الإثنية. لقد حاول الكوسوفيون، بجدّية شلالات الدماء التي سكبت، وشبكات الانتقام ذات المسارات المعقّدة فوق آلاف الأجساد التي تمت تصفيتها بلا رفة قلب، بناء سردية تقوم على التوثيق والمحاسبة، لا النسيان أو التسويات السياسية الفوقية.
في جنوب أفريقيا، حيث طوى نظام الفصل العنصري صفحة من الظلم والقمع، لم يكن النسيان هو الخيار الأمثل. لقد اختارت البلد مسارًا شجاعًا عبر “لجنة الحقيقة والمصالحة”. لم تكن هذه اللجنة محكمة بالمعنى التقليدي، بل كانت فضاءً للاعتراف، حيث يُسمح للجناة بالبوح بجرائمهم مقابل فرصة العفو. لم يكن الهدف هو الثأر، بل بناء مرويات وطنية جامعة، تقوم على المصارحة لا التعتيم.
في رواية “العار”، يقدم الأدب سرده الموازي لمرويات التاريخ. إذ يغوص ج.إم.كوتزي في أعماق جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، كاشفًا هشاشة السلم الأهلي الذي لم يُبنَ على أسس العدالة الحقيقية. إذ يجد الأستاذ الجامعي “ديفيد لوريه”، نفسه، مجبرًا على مواجهة عار شخصي ومجتمعي، يُتَّهم ديفيد بالتحرش بإحدى طالباته، لكنه يرفض الاعتذار رغم اعترافه بالجريمة، فيترك الجامعة ويتوجه للعيش مع ابنته في مزرعتها، يعمل في جمعية تختصُّ بالموت الرحيم للكلاب. ولأن للعار لعنة، فقد حلَّت لعنتُه بابنته من خلال مجموعة من المستوطنين السُّود، اقتحموا المزرعة وسرقوها واغتصبوا ابنته اغتصابًا جماعيًّا، لكنَّها ترفض إبلاغَ الشرطة عن حادثة الاغتصاب، أو إجهاضَ الطفل الذي حمَلت به، ليُولَد ابنها هجينًا يحمل دماء البِيض والسُّود معًا.
ومثل جنوب افريقيا، وفي السياق السوري، تتداخل الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، وتتشابك مصائر الأفراد والجماعات. يصبح الحديث عن الوصول إلى السلم الأهلي أكثر تعقيدًا وإلحاحًا. فالحرب السورية لم تكن مجرد صراع داخلي، بل كانت مسرحًا لتفاعلات دولية معقدة، أضافت طبقات من التشظي الجغرافي والاجتماعي، حفر عميقاً في بنية سوريا التاريخية، والوجدانية الحكائية أيضاً. فبات من الصعب تحقق سلم أهلي حقيقي، إن أتى كأجندة مفروضة، أو كخطة بروتكولية للإنقاذ، كونه بحاجة لكل ما لايملكه السوريين الآن: الوقت.
المؤتمر الذي عُقد في دمشق مؤخرًا لنقاش “السلم الأهلي”، وما رافقه من جدل حول الإفراج عن شخصيات متورطة في انتهاكات، يضعنا أمام مفترق طرق حقيقي. فالمبادرات المطروحة اليوم، رغم ما تحمله من نوايا حسنة، تظل عاجزة عن الوصول إلى جوهر السلم، ما لم تُواجه بجرأة ملف العدالة والمساءلة.
تبرير عدم المحاسبة بذريعة “حقن الدماء” أو “المصلحة الوطنية”، من دون تقديم أدلة أو إشراك الضحايا، يُقوّض فرص بناء سِلمٍ فعلي. فالمسامحة حق خاص، لا تملكه الدولة، والعدالة العامة لا تكتمل إلا بالقانون. ولا يمكن الحديث عن مصالحة تَطوي الصفحات من دون قراءتها ومحاسبة مَن لوّثها بالدم والفساد.
غياب قانون واضح لمحاسبة مجرمي الحرب، والاعتماد على مراسيم رئاسية محدودة، يفتح الباب على أخطار كبيرة: من الانتقام الفردي، إلى تآكل ثقة الناس في الدولة، وانهيار شرعية المصالحة. فالسِّلم لا يقوم على تغييب الضحايا ولا على إعادة تدوير أدوات القمع. وأي مسار مصالحة لا يُحسم بوضوح سيكون مجرّد تسوية مؤقتة، لا عقدًا اجتماعيًا يفتح أفقًا جديدًا.
أدرك اليوم أن السِّلم الأهلي لا يُبنى بالقرارات وحدها، بل بالاعتراف الصريح بأن الفقد لا يُمحى، وأن النجاة لا تعني النسيان. المصالحة، كما أتمناها، ليست هدنة عابرة، بل توازناً دقيقاً بين ذاكرة تحفظ الحقيقة ونسيان يُتيح لنا أن نكمل الطريق. فالسِّلم، كالحقيقة، لا يُفرض ولا يُختصر، بل يُنسَج على مهل، بخيوط الألم والمعرفة، وبأنفاس من ذاقوا الخسارة. وإن لم يتّسع لكلّ من اكتوى بجمر الحرب، فلن يصمد.
وأنا، بكل قلقي، لا أبحث عن خلاص، بل عن بداية صادقة تُشبهنا، ولا تُقصي أحداً من الحكاية.
المدن،
——————————-
==========================