دمشق: شاهد حيّ على تعاقب الأزمان/ محمد جميل خضر

14 يونيو 2025
من دون مقدمات، ولا سابق إنذار، استيقظت دمشق صبيحة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لِتجد نفسها عادت كما كان ينبغي لها أن تكون منذ الصيحة الأولى: وطنَ الثورة، وأرضَ إعلان النصر، وبوصلةَ الحالمين في أربع جهات البلاد.
دمشق التي فَتنت ذات تمدُّدٍ حجازيٍّ معاوية بن أبي سفيان القرشيَّ الأمويّ فأقام فيها 20 عامًا واليًا ومثلهم خليفةً، وشنَّ حربًا (صفّين) عندما انتزعها عليٌّ منه وخلعه عنها، هي نفسها التي لا يكتمل الحديث عن نزار قباني إلا بالحديث عنها: “هذي دمشق وهذي الكأسُ والراحُ… إنّي أحبُّ وبعض الحُبِّ ذبّاحُ/ أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي… لسالَ منه عناقيدٌ وتفّاحُ/ ولو فتحْتم شراييني بمُدْيتِكُم… سمعتم في دمي أصواتَ مَن راحوا/ زراعةُ القلب تشفي بعضَ من عشقوا… وما لِقلبي، إذا أحببتُ، جرّاحُ”. وهي الشام التي تفتّح ياسمينها وجوريها بصوت فضل شاكر بعدما خلعتْ من أرضها كلَّ نبتٍ فاسدٍ وكلَّ متسلّقٍ جبان: “دوري يا فرحة عالحبايب دوري الشام فتّح ياسمين وجوري”. هناك على أعتاب نصرها الدامي المدوي غنّى المغنّي “على أعتابك يا شام تزهي وفرحانة الآنام… تزهي وفرحانة الآنام… وبفضل ربي المنّان دايم عزّك يا هالشام… دايم عزّك يا هالشام…”.
السياسيون لا يريدون سواها، والشعراء يعرفون أنهم لن يحملوا هذا المجد ولن يصبحوا شعراء إن لم يكتبوا عنها:
“في دِمَشْقَ،
تطيرُ الحماماتُ
خَلْفَ سِياجِ الحريرِ
اُثْنَتَيْنِ….
اُثْنَتَيْنِ….
في دِمَشْقَ،
أَرى لُغَتي كُلَّها
على حبَّة القَمْحِ مكتوبةً
بإبرة أُنثى،
يُنَقِّحُها حَجَلُ الرافِدَيْن
في دِمَشْقَ،
تُطَرَّزُ أَسماءُ خَيْلِ العَرَبْ،
مِنَ الجاهليَّةِ
حتى القيامةِ،
أَو بَعْدها،
بخُيُوطِ الذَهَبْ
في دِمَشْقَ:
تسيرُ السماءُ
على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً، حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَةْ؟”.
أما الروائيون فقد ظلوا هائمين إلى أن أتيح لهم جعلها مكان سردهم وساحات حنينهم وقدر أبطالهم وبطلاتهم وعنوان صعود الزمان أو سقوطه (ثلاثية التحوّلات لِخيري الذهبي “حسيبة” و”فياض” و”هشام” نموذجًا، أو نماذجًا إذا تعاملنا مع كل رواية من الثلاثية بوصفها نموذجًا).
إنها دمشق فأيُّ مغامرةٍ ألِجُ وأنا الذي ينشلع قلبي عند الكتابة عن مكانٍ يخصّني وهو بعيد عني وأنا بعيد عنه… 15 عامًا يا دمشق من الشوق الذي منعني الجلاد أن أشفي غليلي منه… جبالٌ من اللّازَوَردِ الطائشِ في حدائق الأشْجان… سهمُ ندى من قاسيون وحتى أعالي بلودان… صلاةٌ لا تنتهي في رحاب ابن عربي… قنواتٌ تستسقي الفلوات فإذا بالسّرْج ساروجة والمرْج ميدان… وإذا حيُّ الأمين يزرعُ الدروبَ قمرَ دينٍ وياسمينًا وبحرةَ أديان… يا دمشق فرشتُ (كما فعل نزار) فوق ثراكِ الطاهرِ الهُدُبا فيا جيرونَ لماذا نبدأُ العَتَبا… حبيبتي أنت فاستلقِ كأغنيةٍ على ذراعي ولا تستوضحي السببا… أنت النساء جميعًا ما من امرأة أحببت بعدكِ إلا خلتها كذبا… أرأيتم لماذا يستحيل فك الارتباط الوشائجيّ المشيميّ الوجدانيّ المقدّس بين نزار ودمشق، أو بين دمشق ونزار، فالتقديم والتأخير هنا لا يقدّم ولا يؤخّر، حيث انصهر الاثنان وذابا في الوجدِ حتى ذوّبانا…
لم يتوقّف ولا يومٍ نزار عن عشق شامِه، ولا عن كتابة المَكاتيب لها شوقًا وتشببًا وتطريزَ صورِ جمالِها الفتّان:
“لقد كتبنا… وأرسلنا المراسيلا وقد بكينا… وبلّلنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا
يا شام. يا شامة الدنيا، ووردتها يا من بحسنكِ أوجعتِ الأَزاميلا
وددتُ لو زرعوني فيك مئذنةً أو علّقوني على الأبواب قِنديلا
يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي… ويا قميصًا بِزَهْرِ الخوخ مشغولا
ويا حصانًا تخلّى عن أعنّتهِ وراح يفتح معلومًا، ومجهولا
هواكَ يا بردى، كالسيف يسكنني وما ملكت لأمرِ الحب تبديلا
أيام في دُمَّرٍ كنا… وكان فمي على ضفائرها… حفرًا… وتنزيلا
والنهر يُسمعنا أحلى قصائده والسّرو يلبسُ بالساق الخَلاخيلا
يا من على ورق الصفصفاتِ يكتبني شعرًا… وينقشني في الأرض أيلولا
يا من يعيد كراريسي ومدرستي والقمح واللوز، والزرق المواويلا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده… فأجمل الحُبِّ حُبٌّ بعْدُ ما قيلا”.
لم يكن نزار وحده في عشق دمشق، وإن كان عشقه الأكثر مشروعيةً وجوىً ومكابداتِ شوقٍ حاصره العَسس ولوّعوه ولوّعونا… شاعر من هناك من براري فلسطين ونسيم بحرها الدامي قال فيها ما ينغرز في الأرض بلاغة وفي المدى مداميك ارتباط متمردٍ على كل تقسيمات الاستعمار البغيض: ” في الشام، أَعرفُ مَنْ أنا وسَطَ الزّحام… يَدُلّني قَمَرٌ تَلأْلأَ في يد اُمرأةٍ، عَلَيّ… يدلّني حَجَرٌ تَوَضَّأ في دموع الياسمينةِ ثُمَّ نام… يدلُّني بَرَدَى الفقيرُ كغيمةٍ مكسورةٍ… ويَدُلّني شِعْرٌ فُروسيّ عليَّ”، إلى أن يقول:
“أَنا أَنا في الشام،
لا شَبهي ولا شَبحي. أَنا وغدي يدًا
بيدٍ تُرَفْرِفُ في جناحَيْ طائرٍ. في الشام
أمشي نائمًا، وأنام في حِضْن الغزالةِ
ماشيًا. لا فرْقَ بين نهارِها والليل
إلاّ بعضُ أشغال الحمام. هناك أرضُ
الحُلْمِ عاليةٌ، ولكنَّ السماءَ تسيرُ عاريةً
وتَسكُنُ بين أَهل الشام…”.
هو نفسه محمود درويش الذي طلب منها “اغتسلي يا دمشق بلوْني”، وطالبها “ببعضِ أشغالِ الحَمَام”، ووعدها “كوني دمشقَ فلا يعْبرون”، وخضّب كلَّ ندى ملامحهِ بحنّائها وعيون مائِها “ارتدتني يداكِ دمشق! ارتديتُ يديكِ”، وهو نفسه الذي رأى فيها “الطريق إلى القمحِ والقدسِ والمستحيل”.
فتنةٌ قديمةٌ دمشقُ، فإن تشكّوا فاسألوا حسّان بن ثابت شاعر رسول الله ﷺ:
“لله در عصابة نادمتهم يومًا
بجلّق في الزمان الأوّلِ
يسقون من ورد البريصِ عليهم
بردى يصفّق بالرحيقِ السلسلِ
بـيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم
شمُّ الأنوفِ من الطرازِ الأوّلِ”.
أو فاسألوا البحتريّ الشاعر العباسيّ: “أمّا دمشقُ فقد أبدت محاسنَها… وقد وفّى لك مُطْريها بما وعدا… يُمسي السحاب على أجبالِها فرقًا… ويصبح النَّبْتُ في صحرائِها بَدَدا… كأنّما القيظُ ولّى بعد جيئتهِ… أو الربيع دَنا من بعدِ ما بَعُدا”.
فتنةٌ امتدّ أثرها وصولًا إلى أبي تمام: “لولا حدائقها وأني لا أرى عرشًا هناك ظننتُها بلْقيسا… وأرى الزمان غدا عليكِ بوجهه جذلان بسّامًا وكان عَبوسا… قد بوركتْ تلك البطون وقد سَمَت تلك الظهور وقُدِّست تقْديسا”. إيه… آ والله: “صَفَتْ دنيا دمشق لِساكنيها… فلستَ ترى بغيرِ دمشق دُنيا… تفيضُ جداولُ البلّور فيها خلال حدائقٍ يُنْبِتْنَ وَشْيَا”… فـ”سلامٌ من صبا بردى أرقُّ… ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ” يهتف أمير الشعراء ويقول: “وبي مما رمتكِ به الليالي… جراحاتٌ لها في القلب عُمْقُ… وتحْت جِنانكِ الأنهارُ تجري ومَلْء رباكِ أوراقٌ ووِرْقُ”.
إنها دمشق معشوقة الرحابنة وصبوات فيروز التي غنّت لها من ألحان الأخوين وتأليفِهما وتأليفِ غيرِهما 20 أغنية لم يُبثّ منها سوى 14. ومن أغنيات الرحابنة وفيروز وفليفل لدمشق: “موطن المجد”، “بلادنا لنا”، “ضفاف بردى”، “ذكرى بردى”، “إلى دمشق”، “سائليني يا شآم”، “بالغار كلّلتِ”، “قرأت مجدكِ في قلبي”، “شام يا ذا السيف لم يغبِ”، “أحب دمشقَ هواها الأرقَّ”، “حملتُ بيروت في صوتي وفي نغمي… وحمّلتني دمشقُ السيفَ بالقلمِ”، “يا رُبى لا تتركي وردًا ولا تبقي أَقاحا… مشت الشام إلى لبنان شوقًا والْتياحا”، كما غنّت فيروز قصيدة نزار المنسية: “لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا”، وقصيدة سعيد عقل “مرّ بي يا واعدًا وعدا… مثلما النسمة من بردى”، وصولًا إلى الأشهر: “يا شام عاد الصيف منتدًا وعاد بي الجناحُ… صرخ الحنين إليك بي… أقلع ونادتني الرياحُ”.
التاريخ المنسيّ…
في حين يركّز سامي مروان مبيّض في كتابه “تاريخ دمشق المنسيّ” على عشرين سنة من تاريخ جلّق (أحد أسماء الفيحاء) الممتد في الزمان تبدأ في عام 1916 وتنتهي في عام 1936، فإن المنسيَّ من تاريخ داماس أو ذات العِماد أو باب الكعبة أو الفسطاط أو الشام (من باب إرجاع الفرع إلى الأصل)، كثيرٌ وقديمٌ من قِدم وجودِها وحفرِها مكانةً لها فوق أديم الكوكب. بعضُهُ يتعلّق بالبعد الهيلينستيّ للمدينة عندما كانت سميساط عاصمة الحضارة اليونانية العربية الشرقية، وكان شاعرٌ مبدعٌ مثل ميلياغروس وفيلسوف وكاتب عميق مثل لوقيانوس يمثّلان ثمرةً مشرقةً لتعانقِ حضارتيْن وتناغمِ وجهتيْن واحدة شرقية والأخرى غربية. وسميساط من أعمال حلب، مدينة تاريخية قديمة من مدن الأناضول تقع غربي نهر الفرات جنوبي ملطية وشرقي مرعش، عندها ينعطف نهر الفرات إلى الغرب. كانت من الثغور الجزرية ومنها تخرج الجيوش الإسلامية إلى بلاد الروم.
هل كانت لدمشق مكانةً أيام العصر السوريّ الحجريّ ما قبلَ الفخّاريّ؟ وهل يا ترى من بين الـ 4500 موقع أثريٍّ التي تتوزّع كامل الجغرافيا السورية، ويعود تاريخ كثيرٍ منها إلى تسعة آلاف عام ماضية، لدمشق نصيب طيّب منها؟
المفارقة أن دمشق هي أقل المدن السورية عراقة تاريخية، والمؤرخون والآثاريون الذين يقرّون أن سورية هي مركزٌ لِإحدى أقدم الحضارات على وجه الأرض (المنجل الأول والمحراث الأول)، يوردون أسماء عشرات الممالك والحضارات والاسْتيطانات التي قامت فوق كامل الجغرافيا السورية، ويتحدثون عن بداية الاستيطان البشري، وتخطيط أولى المدن، واكتشاف الزراعة، وتدجين الحيوانات، ومعرفة وتطور الأبجدية، وعن ممالك مثل إيبلا في شمال سورية بنت امبراطورية امتدت من البحر الأحمر جنوبًا حتى تركيا شمالًا وحتى الفرات شرقًا مستمرة من عام 2500 إلى 2400 قبل الميلاد، ومثل ممالك: ماري، وأوغاريت، وراميتا، والبارة، ودورا أوربوس، وسرجيلا، وكرك بيزة، وجرارة، وقاطورة، وعين دارة، وشمس، وباصوفان، والنبي هوري، وأرواد، وقطنا، وشهبا/ فيليبولس، وقنوات، وصلخد، وأفاميا، وحمو كار، وبعودة، والمناره، وتوتال، ودير سنبل، وإيمار، والدانا، وسرمدا وغيرها العشرات من المدن، لنكتشف أنها جميعها، تقريبًا، لا تشكّل جذرًا قامت فوقه، بعد ذلك، دمشق عاصمة الأمويين وعاصمة سورية التاريخية الباقية!
على كل حال كثيرة هي الحضارات التي قامت فوق الأرض السورية وتقاطعت هناك بدءًا من الكنعانيين الذين تمددوا انطلاقًا من فلسطين نحو أربع جهات الحدود المحيطة بِها، مرورًا بالسومريين، والأكاديين، والكلدانيين، والآراميين، والحِثّيين، والبابليين، والفرس، والإغريق، والرومان، والنبطيين (الأنباط الذين تعود أصولهم إلى الكنعانيين)، والبيزنطيين، والعرب (!)، وجزئيًا الصليبيين، وأخيرًا كانت تحت سيطرة الأتراك العثمانيين لعدّة قرون، كما أنها خضعت للانتداب الفرنسي من عام 1920 إلى عام 1946.
وحدهم الآراميون (جزءٌ منهم فقط وفصلٌ واحدٌ من فصول حضارتهم فوق كامل الجغرافيا السورية)، ربما، من اختاروا عند حدود الألف الثاني قبل الميلاد دمشق عاصمة لمملكتهم، وكانوا اختاروا جنوبَها (جنوب دمشق) عاصمة لمملكةِ حبْشور إحدى ممالكهم الآرامية التي صنعت حضورها جميعه في وسط سورية وشمالها، والجزء الشمالي الغربي من بلاد الرافدين، وأجزاء من شمال الأردن. وبعيدًا عن الحروب السورية بين السلوقيين المقدونيين الألبان والبطالمة المصريين المنحدرين من الإسكندر الأكبر (يعني صراع مقدوني/ مقدوني)، فإن دمشق لم تتعرف على نفسها بما يليق بها إلا بعد أن جعل منها معاوية عاصمة لروحهِ وولايتهِ والدولة الأموية التي كان ابن أبي سفيان أوّل من وضع مدماكًا في بنيانها الشامخ. قبل ذلك كان الرومانيون واليونانيون والبيزنطيون في عموم سورية، ولم يخصّوا دمشق بما يفضّلها عن غيرها من المدن السورية الفُراتية المتوسطيّة التي كان لها حضورها في ذلك الزمان، حتى أن هرقل (عظيم الروم) كان يقيم في حمص عندما انهزمت جيوشه في معركة اليرموك القاصمةِ الفاصلة مودّعًا بما اعْتقدَ أنه كلامٌ بليغ: “الوداع، وداعًا أخيرًا يا سورية، يا محافظتي الجميلة، أنت درّة العدو الكافر الآن، فالتنْعمي بالسلام يا سورية، أي أرضٍ جميلة ستكونينَ لهم”!
سيبقى كثيرٌ من تاريخ دمشق في زوايا الأسرار المسكوت عنها، فأهلها ممّن لا يحبّذون الثرثرة، وودْيانها تعزِف، عادةً، بصمتٍ، موسيقى الجَريان المتواصل دون الالتفاتِ إلى الوراء.
شام شريف…
لم تكن دمشق مجرّد مدينة عابرة خلال الزمن العثماني الذي تمدد فوق مساحات شاسعة من العالم الذي كان معروفًا أيام مجدهم في آسيا وأوروبا وأفريقيا. لا بل قدّسوها وأطلقوا عليها اسم “شام شريف”، فهم وورثة معاوية في هذا الأمر يلتقيان حول التقاط قيمة القنوات التي تحيط بالشام العديّة، والتقاط قيمة كل شبر من أرض المدينةِ المعانقةِ أسواقُها سعيَ أبنائها وعتباتِ مساجدِها وعنفوانِ فلّاحيها وبركاتِ ثمارِها وشموخِ قاسيونِها.
يكذب من يدّعي إمكانية الإحاطة بكل ما يخص دمشق في مقال واحد؛ سوق الحميدية، وباقي أسواقها: العطّارين والنحّاسين والبزوريّة ومدحت باشا والسكريّة والعصرونيّة والقباقبيّة وباب جابية والعتيق والحرير ومردم بك والمناخلية والصاغة والصقالين والذراع والمسكيّة وغيرها، ومنطقة صيدنايا الحياة وليس السجن، ومعْلولة المعجزات، وأحياء من عبق خاص مثل المهاجرين والميدان والبرامكة والصالحية والشعلان والحريقة وركن الدين وساروجة وزقاق الجن والشاغور والقدم والقيمرية وكفر سوسة والمزّة وجرمانا والتضامن والشيخ سعد والزهور وجوبر وغيرها. ويكذب من يدّعي أن تطلعات دمشق ما بعد الانتصار ودحر الطغاة مما يمكن أن يجري تلخيصه في عجالة، بل يحتاج إلى كتب ودراسات وأبحاث، والأهم من كل هذا وذاك إلى نوايا صادقة، وإرادة خارقة.
دمشق في وصاياهُم
لعلها دمشق من أكثر مدن العالم وعواصم النبض التي وردت في وصايا مبدعين وشعراءٍ وعلماءٍ ومفكّرين وأحرارٍ وثوّار. في هذا السياق، تتجلّى وصيةُ الروائي العربيّ السوريّ الصديق خيري الذهبي (1946-2022) بوصفِها وثيقةً لا تموت لشعبٍ لا يموت، حول حُبِّ الشام وحواريها، وكل رمزٍ من رموزها، ودلالةٍ من دلالاتِها: “قلبي الآن يتحول من جوزةٍ خضراءَ يانعةٍ إلى خشبٍ صلبٍ بنّيِ اللون… فإن حصلَ هذا… فاحرصوا على غسلِ جسمي بماءِ الفيجةِ البارد، وضعوا في عينيّ المغمضتيْن برعمَي جوري يانعيْن أبيضيْن، وفي كفيّ المضمومتيْن، في اليمنى حبةَ حصرمٍ شامي، وفي اليسرى حبةَ سكَّر… قضيت عمري أسير في حواريها، وشوارعِها من دون أن أدركَ أنها كانت تسير في عروقي ودمي… سكنتني ولم أسكنها، أدهشتني ولم أدهِشها… افرشوا فوق جسمي ورقًا من شجر الغوطة، وأسفلَه سجادًا دمشقيًا مصنوعًا بأنْوال القَنوات. وإن أردتم أطلقوا في جنازتي عصافيرَ أقفاصِكم… الحساسين والكناري وعصافيرَ الجنة، أطلقوها جميعًا، من شرفاتكم، وأخبروا رعيانَ الحمائم، أن يفلتوا قطعانَهم في يوميَ الأخيرِ فوق الأرض، في سماءِ الشريفة، دعوهم يحومون ويحلّقون، ليملؤوا ساحاتِ المدينةِ وشوارعَها وحدائقَها التي لا تطيق الأقفاص، ولتنثر كلُّ سيدة بعضًا من القمح على رخامِ نافذتِها حصةً عن كل جمالِ طيورِ عشتار. في الشام لا تبكوا ولا تحزنوا…. بل ابتسموا وأنتم تتْلون الرحماتِ وتقرؤون النّعوات…. فلربما أكونُ مع الحمائم الحُرّةِ في سماء باب توما، أو في جسدِ حسونٍ يقفُ على غصنِ شجرةِ زيتونٍ في العمارة، أو مشروع دمّر…. افتحوا مياهَ النوافير، ورشوا ياسمينَكم بماءٍ بارد، رشوا المياهَ أمامَ بيوتاتِكم وفي الأزقةِ والحاراتِ العتيقة… وأنصتوا لرفيفِ اليمامِ في ساحاتِ الأموي في هنيهاتِ صمتِ الأذانِ المَهيب. فإن رأيتم عصفورًا صغيرًا فوق فسيفساءِ الجنةِ في واجهةِ المعبدِ الأموي، فابتسموا واسْقوني كأسَ ماءٍ بارد، أو أطعموني حبةَ تينٍ انْبلجت… فهذا يكفيني بعدَ أن عشتُ عمري في حبِ بلادي وحبِّكم. السّوري: خيري الذهبي”.
ورغم رسميتها، واقتضابها، إلا أن وصية الشاعر الدمشقي السوري نزار قباني (1923-1998) تشلع القلب بمدى ما تعكسه من تعلق شاعر الحب والحرية بمدينة طفولته وصباه وأحلام تمرّده: “أنا الموقّع أدناه، الشاعر والكاتب العربي نزار توفيق قبّاني، أعلن، وأنا على سرير المرض في لندن، عن رغبتي في أن يُنقل جثماني، بعد وفاتي، إلى العاصمة السورية دمشق، ويدفن فيها في مقبرة الأهل. فأرجو من جميع إخوتي وأهلي تنفيذ هذه الرغبة التي أعتبرها نهائية، لأن دمشق هي الرحم الذي علّمني الشعر، وعلّمني الإبداع، وأهداني أبجدية الياسمين. وهكذا يعود الطائر إلى بيته، والطفل إلى صدر أمّه”.
شامُنا بهجة…
لكلٍّ منّا نصيبه من الشام، وسيعتب عشرات العاتبين أين أنا من مقالك حول دمشق يا محمد؟ ولكن أكثر ما يميّز دمشق (أو درمسق أو درمسوق كما ينطقها السريان) أنها تبتلع وتهضم كل منجز من أجلها لصالح سيرورتها المشتقّة من معين الأرض المُزهرة والمجدِ العنيد والإنسان البَاني المدني الحَصيف… جلال العواصم كما يراها إيليا أبي ماضي… والمجد والنسب كما يراها حافظ إبراهيم وروح العرب والعربية… إنها الشمعة عزيزة الدموع كما يرسمها الشاعر الفلسطيني راشد حسين… قد تكون وقعت في واقعيةٍ مفرطةٍ منسحبةٍ إبّان اشتعال الثورة وولوغ طغاة عصابة الأسد في الدم السوري المبارك، وهروب السوريين نحو أربع جهات الأرض، لكنها الواقعية التي حافظت على وضوح البوصلة، المتحليةُ بصبرٍ لا تطيقه لا الجبال ولا الجِمال… ولكنها الشام… شآمنا مهما الزمن ضامنا وجار علينا… ونحن جميعنا، وكما هو حال غادة السمّان، نعرف أننا مهما ركبنا من طائرات… وقطعنا من محيطات… ورقصنا بين القارات… ما نزال نتسكع في الزقاق الشامي الذي ولدت فيه غادة وتسكعت فيه جيئةً وذهابًا عندما كانت صغيرة… وتأمل أن تتسكع فيه حتى تموت بعد عُمْرٍ طويل… تقول غادة: “مهما اغتسلتُ في مياه التايمز والدانوب والسين والميسيسيبي والراين، لا تزال مياه بردى تبلّلني وحدها ولا تجف عنّي… أعرف أنني أينما كنت، ما أزال في بيتي الدمشقي تحت ظل عينيكَ يا حبيبي الوحيد، يا زين الشباب، يا قاسيون الأبد”. ولن أقول كما تقول الأغنية “زينو المرجة والمرجة لينا… شامنا فرجة وهي مزينا”، بل سأهتف عاليًا: شامُنا بهجةٌ فَتَنَتْ معاويةً ذات مجدٍ ضاربٍ في دَوالي التاريخ… فأمْطرت محرابَ العاشقين… بجِرارٍ خالصةٍ من نبيذِ الياسمين.
ضفة ثالثة