الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالشرع و المقاتلين الأجانب و داعشالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانالقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 15 حزيران 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

————————–

عن عودة جورج صبرة… ردّاً على معن البياري/ أحمد مولود الطيار

15 يونيو 2025

في اللحظات الثورية الكُبرى، كثيراً ما تميل الحركات السياسية إلى التحالف مع قوى متباينة الأيديولوجيات، تحت راية الهدف المشترك: إسقاط النظام القائم. يبدو هذا الخيار في ظاهره براغماتياً، خصوصاً حينما تكون الثورة في مواجهة قوّة عنيفة كالنظام السوري. لكن هذا الخيار قد يتحوّل إلى أخطر باب يُفتح أمام قوىً ذات مشاريع استئصالية تناقض جوهر الثورة الديمقراطية. هذا الدرس لم يعد افتراضاً نظرياً في الحالة السورية؛ بل تحوّل واقعاً ملموساً، مع وصول أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) إلى سدّة الحكم في دمشق، بعد مسار بدأ بجبهة النصرة، ثمّ هيئة تحرير الشام، وانتهى بتفكيك هذه البُنى الشكلية، من دون أن يتغيّر الجوهر السلطوي القائم على احتكار العنف ورفض التعدّدية.

كتب معن البياري، في مقاله “جورج صبرة في دمشق” (“العربي الجديد”، 9/6/2025)، عن عودة صبرة إلى دمشق، معتبرا أن ليس “الخبرُ هنا بالضبط؛ بل في أنّ هذا المناضل هو مَن أشهَرَ تصريحاً مثيراً في ديسمبر/ كانون الأول 2012، فظلّ، بسببه، يُلاحَق بالانتقادات والإدانات وسلالٍ من السخرية والتهكّم والتجريح، لمّا قال إنّ جبهة النصرة جزءٌ من الثورة السورية، وليست تنظيماً إرهابياً، وهاجم الولايات المتحدة لتصنيفها هذا”، وأن صبرة يعود “وجبهة النصرة التي صارت هيئة تحرير الشام هي السلطة في سورية، وفي سدّة الحكم ورئاسة الدولة، فيحقّ له أن يزهو بقولته تلك، قبل 12 عاماً، على شاشة واحدةٍ من أشهر التلفزات الأميركية (والعالمية حكماً)، فهذا رئيس الولايات المتحدة يُجالس زعيم هذه الجبهة الذي يتقاطر إليه مسؤولونٌ كبار من الشرق والغرب (إلّا من تونس!) للتحاور معه، ولعرض وسائل إعانة سورية وإسعافها”. ولكن تصريح جورج صبرة، أحد قادة حزب الشعب الديمقراطي السوري، بأن “جبهة النصرة جزء من الثورة السورية”، كان في حينه انعكاساً لهذا الميل البراغماتي: القبول الضمني بدور الفصائل الجهادية طالما تقاتل النظام. ومن منظور علم الاجتماع السياسي للثورات، مثل هذا الميل مفهوم: في فترات الصراع الحاد، تذوب الحدود بين قوى متنافرة في المعركة ضدّ العدو المشترك. لكن الحالة السورية تثبت اليوم أن مثل هذا القبول لم يكن مجرّد خطأ في تقييم اللحظة؛ بل كان باباً مكّن القوى الجهادية من الهيمنة على الفضاء الثوري، وتحويل المسار من مشروع ديمقراطي تعددي إلى مشروع سلطوي جديد، يستند إلى سردية جهادية صاغها لاحقاً أحمد الشرع تحت مسمّيات مدنية.

تجارب التاريخ الثوري تؤكّد خطورة هذا المسار؛ في إيران، قبول قوى الثورة بالتحالف مع الإسلاميين المتشدّدين أسهم في انقلاب الخميني على الثورة؛ في ليبيا، تغاضي القوى الديمقراطية عن دور الجهاديين سهّل تفكّك الدولة؛ في إسبانيا، غموض قيادة الجبهة الجمهورية حيال القوى المتطرّفة سهّل انتصار الفاشية. لكن الفرق في الحالة السورية، أن القوة المتطرّفة لم تكتفِ بتقويض المسار الديمقراطي، بل استولت فعلياً على السلطة، عبر إعادة تعريف “الثورة” وفق مشروعها الخاص. وهذا يجعل اليوم مراجعة تصريحات (نحو تصريح صبرة) ضرورةً أخلاقيةً وسياسيةً. لم يكن الأمر مجرّد لحظة “وحدة في الميدان”، بل مساهمة غير مباشرة في شرعنة قوة استئصالية انتهت إلى الإمساك برقبة الثورة والدولة معاً. في المقابل، تجارب ناجحة كالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، أو مسار جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا، تُظهر أن الحفاظ على التميّز الأخلاقي والسياسي للثورة هو شرط لازم لبناء نظام ديمقراطي. القبول بأيّ تحالف مع قوى لا تؤمن بالديمقراطية، يؤدّي حتماً إلى سيطرة تلك القوى لاحقاً.

اليوم، في سورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، من الضروري الاعتراف بأن فشل جزء من النُّخبة الديمقراطية في رسم حدود واضحة مع النصرة كان أحد أهم أسباب انحراف المسار. فالثورات لا تُهزم بالقمع فقط، بل أحياناً تُخترق وتُختطف من داخلها، حينما تتخلّى عن معيارها الأخلاقي والسياسي. باختصار، الشرعية الأخلاقية ليست ترفاً في زمن الثورة؛ بل هي الدرع الوحيد الذي يحول دون تحوّل مشروع الحرية مشروعَ استبداد مقنّع. هذا الدرس، وإن جاء متأخّراً في سورية، ينبغي أن يُصبح بوصلةً لأيّ مشروع ديمقراطي مقبل.

بالعودة إلى الحدث الراهن: عودة جورج صبرة إلى دمشق. في الظاهر، عودة صبرة حقّ شخصي وإنساني لا يُجادِل فيه أحد. كلّ سوري له الحقّ في أن يرى مدينته بعد سنوات المنفى، غير أننا، حين تتحول هذه العودة مادّةً للاحتفاء السياسي، من دون مراجعة صريحة للمسار الذي انتهى بنا إلى هذا المشهد، نصبح أمام اختبار حيّ لكل ما ناقشناه أعلاه. ثمة تفصيل آخر لا يمكن القفز عنه: جورج صبرة، حين كان في موقع تمثيلي في رأس المجلس الوطني السوري، حصل على الجنسية التركية. ليس هذا في ذاته مأخذاً إنسانياً، لكنه في سياق مسؤولية صبرا السياسية يطرح سؤالاً عن مدى استقلالية القرار الوطني في تلك اللحظة. واليوم، حين يعود إلى دمشق تحت سلطة أحمد الشرع، محمّلاً بهذا الإرث المزدوج (شرعنة قوى استئصالية في الداخل، وارتهان سياسي في الخارج)، يصبح الاحتفاء بعودته من دون مراجعة، ضرباً من تزوير الذاكرة.

حين صرّح جورج صبرة، في ذروة الثورة، أن “جبهة النصرة جزء من الثورة”، لم يكن يمارس مجرّد قراءة ميدانية، بل كان يُساهم في شرعنة مسار تحالفي سرعان ما قاد إلى هيمنة قوى استئصالية. اليوم، تحكم دمشق سلطة أحمد الشرع، ابن هذا المسار نفسه. فهل الاحتفاء اليوم هو احتفاء بحقّ عودة رجل إلى وطنه، أم هو (من حيث لا ندري) محاولة لتبييض سردية سياسية فشلت في حماية الثورة الديمقراطية؟… الثورة التي تحترم ذاتها لا تحتفل على أنقاض مشروعها. بل تجرؤ على قول: أخطأنا هنا، ولن نُخطئ هناك مجدداً.

العربي الجديد

——————————

هل التعويم المدار خيار مناسب لسوريا؟/ حسن الشاغل

15/6/2025

نقلت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية عن محافظ مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، أن البلاد تتجه نحو تطبيق نظام التعويم المدار لعملتها المحلية، في خطوة تهدف إلى الحد من تدخل الصرافين في سوق الصرف، وتعزيز جهود توحيد الأسعار النقدية. وأوضح حصرية أن الخطة الجديدة تستهدف تمرير جميع عمليات التجارة الخارجية عبر القطاع المصرفي الرسمي، بما يؤدي إلى إلغاء الدور الذي ظلّ يلعبه الصرافون، الذين كانوا يتقاضون نحو 40 سنتًا عن كل دولار يدخل إلى سوريا.

وفي تصريحاته، أكد حصرية أن عودة سوريا إلى نظام سويفت ستشكّل نقلة نوعية من شأنها أن تُشجّع التجارة الخارجية، وتُسهم في خفض تكاليف الاستيراد، وتسهيل عمليات التصدير. كما اعتبر أن هذه الخطوة ستؤدي إلى جلب العملات الأجنبية التي تحتاجها البلاد بشكل كبير، إلى جانب دعم جهود مكافحة غسل الأموال، والتخفيف من الاعتماد على الشبكات المالية غير الرسمية في التجارة عبر الحدود.

وكشف حصرية أن العودة إلى الربط الكامل بنظام المدفوعات الدولية “سويفت” ستكون “في غضون أسابيع”، الأمر الذي من شأنه أن يعيد ربط سوريا بالاقتصاد العالمي بعد أكثر من 14 عاما من الحرب والعقوبات التي أدت إلى عزل البلاد ماليًا.

ما نظام التعويم المدار؟

ويُعد سعر صرف العملة الوطنية من أبرز المؤشرات التي تعكس قوة الاقتصاد الوطني وتؤثر على مستويات التجارة والاستثمار، وتختلف الدول في كيفية إدارتها لسعر الصرف تبعًا لنظامها الاقتصادي والمالي. وتندرج أنظمة سعر الصرف عادة ضمن 3 نماذج رئيسية:

    نظام سعر الصرف الثابت: حيث تقوم الدولة بتثبيت قيمة عملتها مقابل عملة أجنبية رئيسية مثل الدولار الأميركي، أو مقابل سلة من العملات. ويتطلب هذا النظام تدخلًا دائمًا من البنك المركزي لضمان بقاء سعر العملة في نطاق محدد، من خلال عمليات بيع وشراء العملات الأجنبية.

    نظام سعر الصرف المرن: يتم تحديد سعر العملة في هذا النظام بناءً على قوى العرض والطلب دون أي تدخل مباشر من البنك المركزي، مما يجعل السوق هي العامل الحاسم في تقلبات الأسعار.

    نظام سعر الصرف بالتعويم المدار: يمثل هذا النظام صيغة وسطية بين النموذجين السابقين. إذ يُسمح لسعر الصرف بالتقلب وفقًا لقوى السوق، مع تدخل البنك المركزي عند الضرورة، لا سيما في حال حدوث ارتفاعات أو انخفاضات مفرطة من شأنها أن تُربك السوق المحلية.

ويهدف التعويم المدار إلى تخفيف حدّة تقلبات أسعار الصرف، أو توجيهها نحو مستوى يخدم أهدافًا اقتصادية محددة، كدعم الصادرات أو كبح التضخم. ويعتمد نجاح هذا النظام على مجموعة من العوامل، منها: متانة الاقتصاد، حجم الاحتياطيات الأجنبية، فعالية السياسات النقدية والمالية، والقدرة على تنفيذ إصلاحات هيكلية.

وقد طبّقت دول عدة هذا النظام بدرجات متفاوتة من النجاح، مثل: الصين والهند، اللتين استفادتا من التعويم المدار في تعزيز التنافسية وزيادة الصادرات، إضافة إلى دول مثل جورجيا، رومانيا، سنغافورة، ماليزيا، تايلاند، الأرجنتين، إندونيسيا، الجزائر، والمغرب.

هل تنجح سوريا في تطبيق التعويم المدار؟

في تصريحات خاصة لموقع الجزيرة نت، قال الخبير في الاقتصاد السوري يونس الكريم إن نظام التعويم المدار سبق أن طُبّق في سوريا عام 2007 خلال فترة ما عُرف باقتصاد السوق الاجتماعي، الذي كان يمثل مزيجًا بين النمط الرأسمالي والمقاربة الاجتماعية، وذلك في محاولة لتقليل التأثير على الشرائح الفقيرة جراء تقلبات سعر الصرف.

ويشير الكريم إلى أن النظام حينها وسّع من تطبيق التعويم المدار في السنوات الأولى من الثورة، مما أدى إلى استنزاف جزء كبير من الاحتياطيات النقدية. ويضيف أن العودة اليوم إلى التعويم المدار تُعد اعترافًا ضمنيًا بالعودة إلى ربط الليرة السورية بالدولار الأميركي، بعد محاولات سابقة لفك هذا الربط وتثبيت الليرة على أساس سلة من العملات. وبرأيه، فإن الدولرة الجزئية كانت ولا تزال خيارًا أكثر واقعية وأسهل من التعويم.

ويعدد الكريم بعض الإيجابيات المحتملة للتعويم المدار في الحالة السورية، من أبرزها:

    استقرار سعر الصرف: حيث يسهم الربط بالدولار في استقرار أسعار السلع والخدمات، بالنظر إلى أن معظم المواد الأساسية مستوردة من الخارج، كما يُخفف من تقلبات سعر الليرة.

    الحد من السوق السوداء: تعاني سوريا منذ سنوات من وجود سوق سوداء قوية لتداول العملات، وتطبيق التعويم المدار قد يؤدي إلى القضاء على الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء.

    مكافحة التضخم: عانى السوريون لفترة طويلة من تضخم مفرط، ويُعد التعويم المدار أداة فعّالة لمعالجته أو على الأقل الحد من تفاقمه.

    جذب الاستثمارات: النظام الجديد قد يُقلل من مخاطر تقلبات الصرف بالنسبة للمستثمرين، ويُساعد في تأمين الاحتياطات النقدية اللازمة للاستيراد.

3- سوريا / اقترب سعر صرف الدولار الواحد من حاجز 4 آلاف ليرة سورية مع توقع باستمرار انهيار قيمة الليرة/ الفرنسية

الاعتماد على السوق السوداء في تداول العملات كان لسنوات من أبرز معوقات الاستقرار النقدي (الفرنسية)

خطوات ضرورية قبل تطبيق التعويم المدار

في تقرير نشره موقع الحرية، يوضح الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور عباس رشيد كعده جملة من الخطوات الاستباقية التي ينبغي اتخاذها من قبل مصرف سوريا المركزي، لضمان نجاح الانتقال إلى التعويم المدار. وتشمل هذه الخطوات:

    إطلاق منصة رسمية لشراء الدولار من المواطنين بسعر قريب من سعر السوق الموازية، مع وضع سقوف وضوابط يومية تمنع المضاربات.

    توفير السيولة بالليرة السورية لتمويل عمليات الشراء، بدلًا من استخدام الاحتياطي النقدي بالدولار، مما يسهم في تنشيط الدورة النقدية داخليًا.

    توسيع قنوات التداول الرسمية من خلال دمج البنوك وشركات الصرافة المرخصة ضمن منظومة شفافة لإدارة الطلب على القطع الأجنبي.

    تعزيز آليات الرقابة على السوق لمنع المضاربات غير المشروعة التي تؤثر على الاستقرار النقدي.

    بناء الثقة بين المواطن والبنك المركزي عبر الإفصاح المنتظم عن السياسات النقدية والأسعار بشكل شفاف.

    تهيئة بيئة اقتصادية داعمة من خلال تشجيع الإنتاج والتصدير بما يُحسن ميزان المدفوعات ويقلل الضغط على العملة.

تحديات جوهرية قد تعيق تطبيق التعويم المدار

ورغم الجوانب الإيجابية المفترضة، يرى الخبير يونس الكريم أن هناك مجموعة من التحديات الكبيرة التي قد تُعيق نجاح هذه الخطوة، وأبرزها:

    نقص الاحتياطات الأجنبية: إذ يُعد توفر احتياطي نقدي قوي شرطًا أساسيًا لتدخل البنك المركزي عند الضرورة، وسوريا تُعاني حاليًا من عجز حاد في هذا الجانب.

    ضعف قدرة البنك المركزي على فرض قراراته على شركات الصرافة، بسبب غياب السيطرة على أجزاء من الجغرافيا السورية.

    التقلبات الحادة في سعر الصرف: في ظل بيئة اقتصادية هشّة، فإن أي تطبيق للتعويم المدار قد يؤدي إلى تقلبات خطيرة تُربك السوق وتزيد من حالة عدم اليقين.

    استنزاف الاحتياطي النقدي: التدخل المتكرر في السوق يستهلك الاحتياطي المتاح، مما يهدد الاستقرار المالي على المدى القصير.

    بنية تحتية مصرفية ضعيفة: المصارف السورية بحاجة ماسة للتحديث والدعم الفني والتقني لتواكب متطلبات نظام أكثر مرونة.

    اقتصاد منهك بعد الحرب: من الصعب تطبيق نظام نقدي مرن في ظل اقتصاد هش يعاني من ضعف الإنتاج وتضخم مزمن.

    غياب الاستقرار السياسي: نجاح أي سياسة نقدية يتطلب بيئة سياسية وقانونية مستقرة، وهو ما لا يتوفر في الحالة السورية حاليًا.

    ضعف الكوادر والخبرة المؤسسية: البنك المركزي لا يزال يعمل ضمن منظومات وسياسات قديمة تعود لعهد النظام السابق، ما يعوق تنفيذ سياسات متقدمة.

    تعارض السياسات الاقتصادية: هناك تضارب واضح بين سياسة التعويم المدار والانفتاح الاقتصادي الكلي الذي دعا إليه بعض المسؤولين في وقت سابق.

يُعد تبنّي نظام التعويم المدار خطوة جريئة في السياق السوري، وهو خيار ينطوي على مزايا نظرية مغرية، لكن تطبيقه العملي محفوف بالمخاطر في بيئة سياسية واقتصادية غير مستقرة. فعلى الرغم من أن النظام قد يوفر مرونة أكبر في مواجهة الصدمات ويعزز التنافسية، إلا أن نجاحه مرهون بمدى توفر الظروف المناسبة، وعلى رأسها الاستقرار السياسي، كفاية الاحتياطيات، وقدرة المصرف المركزي على ضبط السوق.

وفي ظل الواقع الراهن، يبدو أن تطبيق هذا النظام في المدى القريب سيكون أقرب إلى المجازفة النقدية منه إلى الإصلاح الإستراتيجي، وقد يكون أثره سلبيًا على ثقة المستثمرين وحركة رؤوس الأموال في البلاد.

المصدر: الجزيرة

—————————————

 عودة سوريا إلى نظام سويفت.. ما الانعكاسات الاقتصادية على المجتمع والحكومة؟/ عبد العظيم المغربل

2025.06.15

منذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011، واجه القطاع المصرفي السوري عزلةً شبه كاملة عن النظام المالي العالمي نتيجة للعقوبات الاقتصادية، وقطع قنوات الاتصال الرسمية بين المصارف السورية ونظيراتها الدولية، ما دفع الأفراد والشركات إلى الاعتماد على قنواتٍ بديلةٍ غير رسميةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، وأدى إلى زيادةٍ في كلفة المعاملات المالية وأضعف الشفافية الاقتصادية.

الآن، بعد سقوط النظام والإعلان عن رفع العقوبات عن سوريا، وخصوصاً المفروضة على القطاع المصرفي والمالي، يُتوقَّع أن تشكّل عودة سوريا إلى نظام “سويفت” (SWIFT) — المنظومة العالمية لتبادل الرسائل المالية بين البنوك — تطوراً بالغ الأهمية في مسار تعافي القطاع المالي والاقتصاد السوري عموماً، حيث يمثّل هذا الانفتاح المالي فرصةً نوعيةً لإعادة ربط سوريا بالنظام المالي الدولي، فلطالما كان العزل المصرفي أحد أبرز العوامل التي فاقمت الأزمة الاقتصادية والمعيشية، حيث تعذّر استلام الحوالات بسهولة، وتكبّدت المنظمات الإنسانية كلفةً تشغيليةً عالية، واضطر التجار إلى البحث عن مسالك ماليةٍ ملتويةٍ ومكلفة.

الآن، تبرز الحاجة إلى فهمٍ أعمق لانعكاسات دمج سوريا بنظام “سويفت” على مختلف مكونات الاقتصاد والمجتمع: من الأفراد الذين يعتمدون على التحويلات المالية، إلى المنظمات الإنسانية التي تعمل وسط بيئةٍ ماليةٍ معقّدة، وصولاً إلى التجار الذين يتوقون إلى تبسيط تجارتهم الدولية، والحكومة التي تبحث عن إعادة بناء الثقة بالنظام المصرفي.

انعكاس دمج سوريا بنظام السويفت على الأفراد

يمثّل دمج سوريا مجدداً بنظام “سويفت” بارقةَ أملٍ لكثير من الأفراد السوريين الذين ظلّوا لسنواتٍ يعانون من صعوباتٍ جمّةٍ في إجراء التحويلات المالية الشخصية، إذ لطالما كانت الحوالات الخارجية، ولا سيما تلك القادمة من المغتربين السوريين المنتشرين في مختلف أرجاء العالم، تشكّل شرياناً حيوياً للاقتصاد الأسري داخل البلاد، ومصدراً رئيسياً للدخل بالنسبة لملايين العائلات، غير أن العزل المصرفي، وما تبعه من الاعتماد القسري على شبكات الحوالة غير الرسمية، أدّى إلى تضخّم كلفة التحويلات وتآكل جزءٍ كبيرٍ منها في شكل عمولاتٍ غير عادلة.

مع فتح قنواتٍ رسمية عبر “سويفت”، يمكن لهذه التحويلات أن تصبح أكثر أماناً وشفافية، وتصل إلى المستفيدين النهائيين بكلفةٍ أقل وبوتيرةٍ أسرع. كذلك، سيُعيد هذا التطور جزءاً من الثقة المفقودة بالنظام المصرفي المحلي، ما قد يشجّع الأفراد على العودة لاستخدام البنوك الرسمية عوضاً عن الاعتماد على السوق السوداء وشركات الحوالة غير المرخّصة.

إضافةً إلى ذلك، فإن تحسين انسياب التحويلات المالية الشخصية سيسهم في تخفيف الضغط عن سوق القطع الأجنبي في السوق السوداء، بما قد يُساعد على استقرار سعر صرف الليرة السورية نسبياً، ومع ذلك، يبقى نجاح هذا المسار مرهوناً بإزالة العوائق التقنية والبيروقراطية، وضمان التزام المصارف المحلية بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حتى لا تُواجَه هذه التحويلات بمزيدٍ من القيود الخارجية، وبطبيعة الحال، سينعكس هذا التطور بشكلٍ أفضل على القدرة الشرائية للمستفيدين من هذه التحويلات ويُعزّز صمودهم الاقتصادي نتيجة لسهولة وصول السيولة إلى أيديهم.

في هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي خالد التركاوي: “يوجد نوعان مستفيدان من الأفراد؛ الأول هم العاملون المستقلون (الفريلانسرز) الذين كانوا يعانون من صعوبةٍ في تحويل الأموال، وبالتالي سيكون هناك قدرة أسهل وأرخص على استلام الأموال، والنوع الثاني هم الأفراد المحتاجون الذين يحصلون على دعمٍ مادي من أشخاصٍ مقيمين في الخارج، حيث كانت تصل إليهم الأموال بصعوبة ويتعرّضون لمخاطر أمنية بسبب استلامهم لهذه الأموال، ويتعرضون لحالات نصبٍ واحتيال، بالتالي اليوم زالت هذه العوامل الخطرة وانخفضت التكاليف”.

انعكاس دمج سوريا بنظام السويفت على المنظمات الإنسانية

لطالما مثّلت القيود المفروضة على النظام المصرفي السوري أحد أبرز العوائق أمام عمل المنظمات الإنسانية العاملة داخل سوريا، فخلال سنوات العزلة المالية، أصبحت عملية تمويل المشاريع الإغاثية في البلاد معقّدةً ومكلفةً إلى حدٍّ كبير.

المنظمات الدولية والإقليمية وجدت نفسها مجبرةً على اللجوء إلى قنواتٍ ماليةٍ غير رسمية أو متعددة الوسائط لتحويل الأموال إلى شركائها المحليين، ما خلق فجوةً كبيرةً في الشفافية، وزاد من المخاطر التشغيلية، ورفع الكُلفة الإدارية لهذه البرامج.

في السياق نفسه، اضطر العديد من المانحين الدوليين إلى فرض ضوابط شديدة على تدفّق الأموال إلى الداخل السوري خشية وقوعها في يد كياناتٍ محظورة أو استخدامها في أغراضٍ غير إنسانية.

هذه القيود، رغم دوافعها الأمنية، أثّرت بشكلٍ مباشر على مرونة وكفاءة العمليات الإغاثية، حيث كانت الأموال تتأخر في الوصول إلى المستفيدين أو يتم تقييد استخدامها ضمن نطاقٍ ضيّق للغاية، أو يتم استغلالها بطرقٍ غير مشروعة.

مع إعادة فتح قنواتٍ رسمية لتحويل الأموال إلى سوريا عبر نظام “سويفت”، يلوح في الأفق تحوّلٌ إيجابي قد يُعيد قدراً من الاستقرار إلى بيئة العمل الإنساني، فإمكانية إجراء التحويلات عبر النظام المصرفي الرسمي تتيح للمنظمات فرصةً لتحسين إدارة مواردها المالية، وضمان وصولها إلى الداخل السوري بطريقةٍ خاضعةٍ للرقابة، وموافقة للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كذلك، سيُعزّز هذا التحوّل من شفافية العمليات المالية، وهو مطلبٌ رئيسي من قبل الجهات المانحة الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، التي طالما دعت إلى تحسين أدوات الرقابة على التمويل الإنساني.

إضافةً إلى ذلك، سيخفّف استخدام “سويفت” من الاعتماد على شبكاتٍ ماليةٍ في دول الجوار، التي غالباً ما كانت تفرض عمولاتٍ مرتفعة أو تعاني من مشكلاتٍ قانونيةٍ وتنظيمية، مما كان يُقلّل من القيمة النهائية للأموال المخصصة للعمل الإغاثي.

التحويلات المصرفية الرسمية ستمنح المنظمات مرونةً أكبر في تخطيط برامجها، سواء في مجال توزيع المساعدات الغذائية، أو الخدمات الصحية، أو دعم سبل العيش، لكن، رغم هذا الانفتاح الجزئي، تبقى التحديات قائمة، حيث سيبقى من الضروري إيجاد صيغٍ قانونيةٍ واضحة تتيح للمنظمات الإنسانية العمل بأمانٍ وشفافيةٍ داخل هذا الإطار. كما ينبغي تطوير بيئةٍ مصرفيةٍ داخلية قادرة على التعامل مع متطلبات الامتثال الدولي، وتقديم خدماتٍ مصرفيةٍ تلبي احتياجات القطاع الإنساني من دون تعقيداتٍ بيروقراطيةٍ إضافية، بالتالي، سينعكس الأمر على تحسين بيئة العمل الإنساني في سوريا، لكن تحقيق الأثر الإيجابي الكامل لهذا التطور يتطلّب شراكةً فعّالةً بين الحكومة السورية، والقطاع المصرفي المحلي، والجهات الدولية المعنية، لوضع إطارٍ تشغيليٍّ فعّال وآمن يخدم أولاً وأخيراً مصلحة الفئات الأكثر احتياجاً في المجتمع السوري.

في هذا الإطار، يقول التركاوي في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “معظم منظمات المجتمع المدني كان لديها مكاتب في دول الجوار مثل تركيا والأردن ولبنان، أصبح بإمكانهم إدخال أموالهم مباشرةً إلى سوريا من مصدرها، من دون اضطرارهم لإجراء تحويلاتٍ عبر أي جهة، بالتالي سيسهّل تنفيذ المشاريع الإنسانية ويُسرّعها”.

انعكاس دمج سوريا بنظام السويفت على التجار

على امتداد السنوات الماضية، عانى التجار السوريون، لا سيما العاملون في قطاعَي الاستيراد والتصدير، من مشكلاتٍ عميقة ناجمة عن العزل المصرفي الدولي، إذ أجبرتهم القيود المفروضة على النظام المالي السوري، والانقطاع عن نظام “سويفت”، على البحث عن حلولٍ بديلةٍ ومعقّدةٍ لإتمام معاملاتهم التجارية.

في كثيرٍ من الحالات، كان فتح الاعتمادات المستندية أو تسوية المدفوعات الدولية يتطلب اللجوء إلى وسطاء ماليين في دولٍ ثالثة، ما رفع الكلفة الإجمالية للصفقات التجارية، وزاد من درجة المخاطر القانونية والتشغيلية التي يواجهها التاجر السوري.

علاوةً على ذلك، كان غياب القنوات المصرفية الرسمية سبباً في إضعاف القدرة التنافسية للمنتجات السورية في الأسواق الخارجية، حيث أصبح الحصول على التمويل التجاري أكثر صعوبةً وكلفة، كما أدّى إلى اضطراب سلاسل الإمداد، نتيجة للتأخير في تسوية المدفوعات أو إلغاء بعض العقود من قبل شركاء دوليين مترددين في التعامل مع النظام المالي السوري.

يشكّل إعادة دمج سوريا بنظام “سويفت” نقطةَ تحوّلٍ مهمّة بالنسبة إلى مجتمع الأعمال السوري، فإمكانية استخدام القنوات المصرفية الرسمية ستمكّن التجار من فتح اعتماداتٍ مستنديةٍ بشكلٍ أكثر شفافيةٍ وأمان، وستُسهّل إجراء التحويلات المالية إلى الشركاء الدوليين ضمن الأطر القانونية المتعارف عليها عالمياً.

كذلك، ستُسهم هذه الخطوة في تخفيض كلفة المعاملات المالية، من خلال تقليل الاعتماد على الوسطاء الماليين الذين كانوا يفرضون عمولاتٍ مرتفعة، ويتسبّبون أحياناً بتعقيداتٍ إضافية بسبب القيود التنظيمية في بلدانهم.

إضافةً إلى ذلك، قد يُعيد هذا الانفتاح المصرفي ثقة الشركاء التجاريين الخارجيين بالتعامل مع السوق السورية، بما يُمهّد الطريق لاستعادة حجمٍ أكبر من التدفقات التجارية القانونية، وتعزيز فرص تنمية قطاعاتٍ مثل الصناعة والتجارة الخارجية.

في الوقت نفسه، سيسهم هذا التحوّل في تقليص حجم السوق السوداء التي كانت تزدهر في غياب القنوات الرسمية، ويُعيد قدراً من الانضباط والشفافية إلى حركة رؤوس الأموال. مع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنّ الطريق أمام تحقيق الاستفادة القصوى للتجار السوريين من هذا التطور لا يزال محفوفاً بتحدياتٍ كبيرة، فجزءٌ من البنية المصرفية المحلية بحاجةٍ إلى تحديثٍ تقنيٍّ وإداري، كي تتمكن من تلبية متطلبات العمل وفق معايير “سويفت”، خاصةً فيما يتعلق بآليات الامتثال المالي الدولي، لكن، حقيقةُ أنّ إعادة دمج سوريا بنظام “سويفت” تتيح نافذةً أمام التجار السوريين لإعادة بناء جسورهم مع الاقتصاد العالمي، لا تنفي أنها تتطلب جهداً متضافراً على المستويين الحكومي والمصرفي، لضمان ترجمة هذا التطور إلى أثرٍ ملموسٍ ومستدام في بيئة الأعمال السورية.

في هذا الإطار، يقول أمجد العبد الله، مالك العلامة التجارية “جو بيك” العاملة في قطاع استيراد وتصدير المواد الغذائية، في حديثٍ خاص لموقع تلفزيون سوريا: “كنا سابقاً نعاني من غياب نظام السويفت، أي قلة الثقة الدولية بالشركات السورية، لذلك كنا نلجأ لجعل العقود التجارية على شركتنا التركية. مع ذلك، كان يستمر التخوّف من قبل الشركات الدولية، التي كانت تضع شروط دفعٍ عالية وصعبة، إلى جانب الأسعار المرتفعة. كما كنا نلجأ للتعامل مالياً بالسوق الموازي بدلاً من البنوك، وهو بطبيعة الحال أمرٌ خطير إلى حدٍّ كبير بسبب تعطل نظام السويفت. وقد أدّى ذلك إلى خلق تكاليف إضافية علينا وعلى العملاء النهائيين، ما شكّل حلقةَ ضغطٍ على جميع سلاسل الإمداد والتوريد والحلقات الاقتصادية الرابطة بينها”.

يضيف العبد الله: “نتوقع أن تنشط تجارتنا بشكلٍ أفضل بعد ربط سوريا بنظام السويفت؛ حيث سيتم تفعيل الاعتمادات البنكية ضمن سوريا بسهولة، ما ينشّط قطاع الاستيراد. وسنتمكّن من التواصل بشكلٍ أفضل مع العالم الخارجي، ما سيُعزّز من قدرتنا على التصدير بسهولة، لتصبح منتجاتنا منافسةً في الأسواق العالمية. كما أنه ستنخفض التكاليف التي كانت تُدفع من أجل إرسال البضائع ترانزيت عبر دول الجوار من وإلى سوريا”.

انعكاس دمج سوريا بنظام السويفت على الحكومة

يُعدّ دمج سوريا مجدداً بنظام “سويفت” تطوراً استراتيجياً لا يقلّ أهميةً بالنسبة إلى الحكومة السورية، بالنظر إلى ما يمكن أن يُحدثه من تحوّلاتٍ على مستوى إدارة الاقتصاد الكلي والمالية العامة.

مع إعادة فتح القنوات الرسمية عبر “سويفت”، تكتسب الحكومة أدواتٍ أكثر فاعلية لمراقبة وإدارة حركة رؤوس الأموال. فمن خلال تتبّع التحويلات المالية الدولية بصورةٍ دقيقة، تستطيع السلطات المالية تعزيز قدرتها على إدارة احتياطيات العملة الصعبة، وهي مسألةٌ حيوية في سياق أزمة النقد الأجنبي المزمنة التي تعاني منها البلاد. كذلك، سيساعد هذا التطور على تحسين قدرة البنك المركزي على ضبط سعر صرف الليرة السورية بشكلٍ أكثر واقعية، وتقليل الاعتماد على التدخلات العشوائية أو العمليات غير الرسمية.

يمكن أن يؤدّي دمج النظام المصرفي السوري مجدداً في “سويفت” إلى تحسين أداء المالية العامة، إذ إن استعادة جزءٍ من حركة التجارة الخارجية عبر القنوات المصرفية الرسمية ستُسهم في رفع كفاءة تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب، وتوسيع القاعدة الضريبية التي تأثرت سلباً خلال سنوات الحرب والعقوبات. كما أن تعزيز الشفافية في حركة الأموال سيمكن الحكومة من مكافحة التهرّب الضريبي بشكلٍ أكثر فعالية.

قد يُمهّد هذا التطوّر الطريق أمام الحكومة لتحسين مناخ الاستثمار، لا سيما مع الدول الصديقة أو مع المستثمرين من أبناء الجاليات السورية في الخارج، إذ إن القدرة على استخدام قنوات “سويفت” تُعطي إشاراتٍ إيجابية للمستثمرين بشأن استقرار الإطار المصرفي والمالي في البلاد، وهو عاملٌ حاسم في تشجيع ضخّ رؤوس الأموال الجديدة. كذلك، يمكن أن تفتح هذه الخطوة فرصاً للتفاوض مع مؤسساتٍ ماليةٍ دولية أو إقليمية حول صيغٍ محدودةٍ من التعاون المالي أو إعادة بناء الروابط الاقتصادية.

حقيقةً، لا يخلو هذا المسار من تحدّياتٍ كبرى. فمن جهة، لا تزال البيئة السياسية والاقتصادية في سوريا محاطةً بتحدّياتٍ كثيرة، ويتطلّب تحقيق الاستفادة القصوى من هذا التطوّر إصلاحاً عميقاً في البنية المصرفية المحلية، من حيث رفع كفاءة الامتثال للمعايير الدولية وتعزيز الحوكمة والشفافية، وهي مهام تتطلّب إرادةً سياسيةً واضحة وتعاوناً فنياً مع الشركاء الدوليين.

في هذا الإطار، يقول التركاوي: “يساعد الأمر على اتصال الحكومة سياسياً بالدرجة الأولى مع الدول، وأمنياً سيساعدها على ضبط الأموال التي تأتي من الخارج ويتم استخدامها بشكلٍ غير شرعي، سواء تجارياً أو كأيّ دعمٍ ممكن أن يأتي لفلول النظام، بالتالي، مكافحة الجريمة سيصبح أكثر جدوى”.

بشكلٍ عام، تُشكّل إعادة دمج سوريا في نظام “سويفت” تطوّراً اقتصادياً ومالياً بالغ الأهمية في سياق ما تمرّ به البلاد من أزمةٍ اقتصاديةٍ معقّدة. فهو يفتح نافذةً جديدة لتحسين كفاءة النظام المصرفي، واستعادة قدرٍ من الشفافية في حركة رؤوس الأموال، وتسهيل التعاملات المالية للأفراد، والمنظمات الإنسانية، والتجّار، وحتى الحكومة.

غير أن هذا الانفتاح ليس حلاً سحرياً وحده، بل خطوةٌ أولى تحتاج إلى تهيئة بيئةٍ مصرفيةٍ وتشريعيةٍ قادرة على الاستفادة منه بشكلٍ فعّالٍ ومستدام. بالتالي، يجب أن يرافق الأمر إصلاحاتٌ هيكليةٌ جادّة على مستوى النظام المصرفي، تشمل تحديث البنية التحتية المالية، وتعزيز الامتثال للمعايير الدولية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وبناء شراكاتٍ موثوقة مع البنوك الإقليمية والدولية. كما سيكون من الضروري أن تعمل الحكومة على تحسين بيئة الأعمال، وإعادة بناء الثقة لدى المجتمع الدولي والشركاء التجاريين.

تلفزيون سوريا

————————————-

إعادة بناء الجيش السوري بعقيدة قتالية متجددة/ معاذ الحمد       

الجيش السوري الجديد: إعادة بناء نحو عقيدة قتالية مختلفة وتحديات متعددة

2025-06-14

بعد سنوات من الصراع، تتجه الجهود نحو إعادة بناء الجيش السوري بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وتطوير عقيدة قتالية جديدة تهدف إلى تجاوز الانقسامات الداخلية وتعزيز الاستقرار. تقوم هذه العقيدة، بحسب محللين سياسيين وخبراء عسكريين، على مفاهيم غير طائفية، وتركز على حماية الشعب السوري واستعادة السيادة، مع السعي لبناء جيش يعكس التعددية المجتمعية. ويُتوقع أن يبلغ عدد قوات الجيش نحو 300 ألف مقاتل موزعين على 20 فرقة، مع تبني نموذج هجين يجمع بين الأساليب التقليدية والتكنولوجيا الحديثة.

يقول سامر خليوي، المحلل السياسي، في تصريحات لـ”963+”: “لا شك أن الوحدة الوطنية ودولة المواطنة تُشكلان حجر الزاوية لبناء سوريا الجديدة واستقرارها في الحاضر والمستقبل”. ويشدد خليوي على أن الولاء يجب أن يكون للدولة السورية، متجاوزاً أي انتماءات طائفية أو عرقية أو مناطقية، بحيث يتمتع الجميع بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات”.

بدوره يقول عبدالله الأسعد، الخبير العسكري والاستراتيجي، لـ”963+”: “في الواقع العقيدة القتالية الجديدة للجيش طبعاً هي تختلف عن العقيدة السابقة. العقيدة القتالية تعريفها هي يعني النهج والخطط القتالية، والإيديولوجية التي يسير عليها الجيش”.

ويضيف: “في الواقع هذا الجيش الجديد لديه خبرات كبيرة جداً في مجال التكنولوجيا الصناعية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات التعامل مع السلاح الحديثة والمتطورة كما هو في موضوع الطائرات المسيرة، وأبدع الجيش الجديد في استخدام الطائرات الشاهدة المسيرة. وهذا الموضوع يعني هام جدًا من جميع الموجودين، يعني حوالي تقريباً 70% من عناصر الجيش هم عناصر طلاب جامعات ولديهم شهادات ليسانس في مختلف المجالات”.

التوجيه السياسي: جيش مدني ودولة قانون

على الصعيد السياسي، يركز الشرع على بناء جيش يتوافق مع رؤية حكومة مدنية جديدة تقوم على مؤسسات راسخة وتُعزز مبدأ سيادة القانون. هذا يتضمن الدعوة إلى تحقيق المصالحة الوطنية بين جميع مكونات المجتمع السوري، وضمان تمثيل عادل للجميع في المؤسسات العسكرية والأمنية.

ومن الخطوات الهامة في هذا الإطار، التأكيد على ضرورة دمج الفصائل المسلحة السابقة في الجيش الجديد. ويهدف هذا الإجراء إلى توحيد العقيدة العسكرية بين جميع العناصر، لضمان الانضباط والفعالية في أداء المهام الموكلة إليهم.

كما تسعى القيادة الجديدة إلى تحفيز التركيز على الجانب الإنساني في العمليات العسكرية، وضمان حماية حقوق المدنيين، وقد أصدرت وزارة الدفاع قواعد سلوك جديدة تهدف إلى بناء جيش وطني محترف وملتزم بحقوق الإنسان، وإن كان التطبيق الفعلي لهذه القواعد لا يزال موضع تساؤل.

ويتحدث خليوي عن دمج الفصائل المسلحة قائلاً: “طالما أن الجيش الجديد لا يمت للطائفية والعرقية والمناطقية بشيء، فلا خوف عليه أو منه. بل على العكس، فإن تجميع الفصائل المسلحة ضمن هذا الجيش سيُحولها من كيانات مقاتلة مستقلة إلى جزء لا يتجزأ من جيش الدولة، تابعاً لأوامرها وملتزماً بها”.

ويوضح أن هذه العملية “ستُذيب كل الفروقات، وتجعل الدولة هي المشرفة الوحيدة على هذه الفصائل من كافة النواحي، مما يُسهم في ضبطها وتصويب عملها”.

وحول حماية المدنيين في الواقع الميداني يقول الأسعد: “التعامل على موضوع حماية المدنيين هو يعني ظهر واضحاً خلال الأشهر التي مضت. الواقع الميداني المدني له حقوق وله كرامة طبعاً مباشرة، ولا علاقة له بالعناصر التي تمارس عملاً ميدانياً قتالياً ضد الحكومة. فهذا يعني الدولة تدخلت به وفصلت موضوع المدنيين عن موضوع المقاتلين، ما يعزز صورة المقاتل كمدافع عن المدنيين وليس كمصدر تهديد لهم”.

تحديات الدمج والتنوع: المقاتلون الأجانب والتوجه الديني

على الرغم من الأهداف الطموحة للتوحيد الوطني، تُواجه عملية بناء الجيش الجديد تحديات معقدة. إحدى هذه التحديات تكمن في التوجه الديني الجهادي الذي بدأ يظهر في المعسكرات التدريبية. حيث يتم تعزيز القيم الإسلامية وتوجيه المتطوعين في المساجد للتدريب على جوانب مثل الفقه والصلاة. هذا التوجه يُثير قلق المراقبين حول الاتجاه الفكري للجيش، ومدى توافقه مع مفهوم “الجيش الوطني اللا طائفي”.

وعلاوة على ذلك، تُشير خطط دمج المقاتلين الأجانب، بمن فيهم المجندون من الإيغور، إلى أن الجيش الجديد سيعتمد على كادر بشري متنوع. وبعض التقارير تُقر أن اللوائح تضمنت تجنيد حوالي 3500 مقاتل أجنبي، مما يُثير تساؤلات حول مدى التجانس والهوية الوطنية الراسخة لهذا الجيش، ويُمكن أن يؤثر على تركيبة الجيش ومستقبل الأمن في سوريا.

ودمج هؤلاء المقاتلين يُعد جزءاً من برامج خاصة لدمج وتجميع الأسلحة من مختلف الفصائل ضمن إطار عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، وهي خطوة حيوية لتعزيز الانسجام بين العناصر المنضمة حديثاً.

المحلل السياسي خليوي يشير في تصريحاته إلى مدى تأثير المقاتلين الأجانب، فيقول: “أولاً عدد المقاتلين الأجانب قليل جداً، 3-5 آلاف، وهؤلاء نقطة في بحر أمام الجيش السوري الجديد. وهذه سابقة حصلت في كل الثورات وحركات التحرر حول العالم، مستشهداً بأمثلة من كوبا، البوسنة، فرنسا، أوكرانيا، وغيرها من الدول. ومن واجب الوفاء تكريم هؤلاء المقاتلين دون تنصيبهم مناصب قيادية عليا”.

ويتفق العميد فايز الأسمر، الخبير العسكري، مع سابقه من ناحية مخاطر هؤلاء المقاتلين، ويشدد في تصريحات لـ”963+”، على أن وجودهم “ليس عامل توتر بل عامل دعم واستقرار”، مؤكداً أن هذا الأمر ليس سابقة، بل حدث في العديد من ثورات العالم وحركات التحرر.

وفي السياق ذاته، يضيف الخبير العسكري الأسعد: “المخاطر التي تتحدث عنها يعني ضمن الجيش طبعاً هي ليست بادرة جديدة في كل دول العالم. كان هناك في فرنسا فيلق أجانب، وكان أيضاً في أمريكا، وكان في البوسنة والهرسك هناك مقاتلين أجانب. هي عموماً يتم يعني في نهاية المطاف يتم وضعهم في تشكيلات خاصة بهم، وهذه التشكيلات لم تدم طويلاً”.

استراتيجية الردع والتحديث: نظرة إلى الداخل والخارج

لقد تم إعادة توجيه العقيدة القتالية للجيش السوري لتكون مركزة على الردع الداخلي، نظراً لعدم القدرة على تحقيق ردع خارجي بالقدر نفسه في المرحلة الراهنة. وصرح الشرع بأن “العقيدة القتالية الحالية ستكون عقيدة ردع داخلي”، مُشيراً إلى أهمية التركيز على تهديدات الداخل بدلاً من الأعداء الخارجيين في ظل الظروف الراهنة.

ومع ذلك، تُشير القيادة الجديدة بشكل متزايد إلى بناء علاقات ديبلوماسية مع قوى إقليمية ودولية، لتمكين الجيش من تعزيز خبراته والتعلم من تقنيات عسكرية جديدة، وهو ما قد ينعكس على العقيدة القتالية بشكل إيجابي. وتُعتبر العودة إلى العلاقات مع الدول العربية وفتح قنوات مع الغرب جزءاً من هذه الاستراتيجية.

وعن أهمية الانضباط في المعارك الحربية، وميثاق وزارة الدفاع السورية، ومتطلبات العقيدة العسكرية الجديدة يقول الخبير العسكري فايز الأسمر: “لا شك أن المبدأ الأساسي في اختبار الكفاءة القتالية العسكرية والتكتيكية للقوات المسلحة هو بلا شك في قدرة هذه القوات على خوض المعارك الحربية الحقيقية بكافة أشكالها وأنواعها. إذا كان من المسلّم به أن الجيوش يلزمها للتفوق على عدوها حيازة واقتناء السلاح والعتاد الملائم والمتقدم، واستثماره بدقة وفعالية عالية، والتدريب الكافي والعالي المستوى للعناصر والوحدات في ظروف قتال حقيقية ما أمكن، وإنشاء فرضيات ومواقف قتالية قد تمر بها القوات، إضافة إلى الروح المعنوية العالية والإصرار، فلا بد من أن يتوفر عنصر هام جدًا وهو الانضباط الصارم عالي المستوى، الذي من شأنه أن يرفع ويزيد من الروح القتالية العالية ويحمل الأفراد الإقدام على القتال”.

وعملياً، وخلال الأيام القليلة الماضية، أصدرت وزارة الدفاع السورية ميثاقاً جديداً للخدمة في الجيش السوري، وذلك في أعقاب الإعلان شبه الكامل عن إنهاء دمج الفصائل المسلحة ضمن هيكلية الجيش الوطني الرسمي.

وبحسب الأسمر: “يسعى الميثاق العسكري الجديد إلى بناء جيش وطني محترف، منضبط وملتزم بالقانون ويحترم حقوق جميع المواطنين دون تمييز، ويدافع عن وحدة الوطن وسيادته، ملتزماً بالقانون الدولي الإنساني. ويرتكز بناء هذا الجيش على عقيدة عسكرية حديثة وهجينة، تمزج بين التكنولوجيا والتفوق العددي، وتستجيب لتحديات ما بعد الصراع، مثل الإرهاب والحروب السيبرانية، مع ضرورة تأمين الموارد، وتطوير القدرات الجوية والبرية والخاصة بما يتناسب مع الجغرافيا والموارد السورية”.

+963

——————————

الفرق بين القوة العسكرية والبطش في سوريا/ غاندي المهتار

كيف تحوّل جيش نظام الأسد من قوة عسكرية إلى أداة بطش

2025-06-14

قبل سقوط نظام الأسد، صنف “مؤشر غلوبال فاير باور” جيشه في المرتبة السابعة عربياً، والمرتبة 64 عالمياً، على الرغم من تورطه في النزاع منذ عام 2011. عند البحث فعلياً في هذا الأمر، يبدو التصنيف واهياً، إذ بلغت خسائر قوات النظام السابق البشرية نحو 45385 قتيلاً، بحسب إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان، إضافة إلى 29943 قتيلاً بين عناصر القوات الرديفة، من جيش الدفاع الوطني وكتائب البعث واللجان الشعبية.

في أي حال، عسكرياً، تتجلى الاختلافات الجوهرية بين القوة العسكرية المشروعة وممارسات البطش في الصراعات المعاصرة بشكل واضح عند دراسة النموذج السوري. فبينما تُبنى القوة العسكرية على منظومة قيمية وأخلاقية تستهدف حماية الوطن والمواطن، يتمحور البطش حول استخدام مفرط وعشوائي للقوة العسكرية ضد المدنيين لغايات قمعية.

في سياقها المشروع، القوة العسكرية هي ببساطة قدرة الدولة على توظيف إمكاناتها العسكرية لتحقيق أهداف استراتيجية تخدم المصلحة الوطنية، وتلتزم قواعد الاشتباك الدولية، وتحترم القانون الإنساني الدولي. تتكئ هذه القوة إلى مؤشرات محددة: عديد الجيش وعدته، وعقيدته العسكرية، ومفاعيل تدريبه. تخضع هذه المؤشرات فعلياً لمنظومة قيادة وسيطرة مُحكمة، تخضع بدورها لقانون واضح وصارم، يضع في رأس أولوياته احترام قواعد الحرب المتعارف عليها دولياً، والتمييز بين المقاتل والمدني، والتزام بمبادئ النسبة والتناسب في استخدام القوة والضرورة العسكرية. إنها الأسس الأخلاقية لاستخدام القوة العسكرية.

في المقابل، البطش نمط مختلف من استخدام القوة، يتجاوز المنطق العسكري إلى المنطق القمعي، فليس هدفه تحقيق أهداف عسكرية محددة بقدر ما هو السعي إلى نشر الرعب بين المدنيين وإخضاعهم، في غياب أي تمييز بين مدني ومقاتل، وباستخدام وسائل عقابية جماعية تنتهك أدنى معايير لحقوق الإنسان.

ويتجلى البطش أيضاً في استخدام وسائل قتالية محرمة دولياً، واستهداف متعمد للبنى التحتية المدنية كالمستشفيات والمدارس والأسواق، وممارسة التعذيب المنهجي، والاعتقال العشوائي، والتهجير القسري للسكان، إضافة إلى استخدام مفرط للقوة، لا يتناسب مع التهديدات المحتملة، وغياب المساءلة والمحاسبة.

منذ عام 2011، يقدم النموذج السوري مثالاً واضحاً على الدمج العبثي بين القوة العسكرية والبطش. تحول جيش النظام السوري السابق من مؤسسة عسكرية مسؤولة عن حماية المواطن إلى أداة لقتل المواطن بكل ما أوتيت من عدة: أسلحة ثقيلة وسلاح جو وبراميل متفجرة وأسلحة كيماوية وحصار خانق وتدمير منهجي للحياة البشرية.

تجاوزت ممارسات نظام الأسد منطق القوة العسكرية، فلم تكن موجهة ضد أهداف عسكرية محددة رغم وجودها بكثرة بعد عسكرة الثورة المدنية واستعار النزاع المسلح، بل كان الهدف منها ترهيب المجتمع المدني السوري وإخضاعه. ساهمت الممارسات الحربية القاسية في تدمير بنية البلاد التحتية، وتشريد ملايين السوريين داخلياً وخارجياً، وانهيار المنظومة الصحية والتعليمية في سوريا.

تتجلى العواقب الإنسانية لسياسة البطش في أرقام مروعة: مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، وملايين اللاجئين والنازحين، ومدن بأكملها دمرت عن بكرة أبيها. لكن التداعيات تتجاوز الخسائر المادية والبشرية المباشرة لتشمل آثاراً نفسية واجتماعية عميقة، كانتشار صدمات الحرب، وتفكك النسيج المجتمعي، وترسيخ ثقافة الخوف والانتقام. يكمن الفرق الجوهري بين القوة العسكرية والبطش في الغاية والوسيلة معاً. فبينما تهدف القوة العسكرية المشروعة إلى تحقيق أهداف استراتيجية محددة باستخدام وسائل متناسبة وقانونية، يسعى البطش إلى الترهيب والإخضاع عبر وسائل غير متناسبة وغير قانونية.

يقدم النموذج السوري درساً قاسياً حول كيفية تحول مؤسسة عسكرية من أداة لحماية الوطن إلى أداة لقمع المواطنين. هذا التحول يؤكد أهمية المساءلة والرقابة على المؤسسات العسكرية، وضرورة تعزيز ثقافة احترام القانون الدولي الإنساني، وترسيخ مبدأ حماية المدنيين في النزاعات المسلحة. ويبقى الدرس الأهم أن القوة العسكرية الحقيقية لا تُقاس بالإمكانات والمعدات وحدها، بل بالقيم والمبادئ التي توجه استخدامها، وبالتزام حماية الإنسان.

+963

————————–

أرشيف الدولة السورية… أجوبة لأسئلة كثيرة/ حسين الشرع

يضع ذلك في اهتمام المؤرخين والدولة الجديدة

آخر تحديث 13 يونيو 2025

أرشيف الدولة السورية مهم جدا، وكذلك البحث عنه ومعرفة محتوياته لأنه يضع ذلك في اهتمام المؤرخين والدولة السورية الجديدة، للاطلاع على أبرز المحطات التي مرت عليها الدولة بحلوها ومرها، وهي ملك للشعب السوري كله.

هذه المحطات يمكن أن تشكل جوابا لأسئلة بقيت تدور وتبحث عن إجابات. وهذا الأرشيف يبدأ من مساء 7 مارس/آذار 1963، وكيف حصل انقلاب “البعث” الذي قام به نفر من ضباط الجيش السوري؟ ومن شارك فيه؟ وما أهدافه؟ وكيف تم تشكيل “مجلس قيادة الثورة”؟ ومن هم الأعضاء بالاسم والرتبة العسكرية.

والأهم من كل ذلك، كيف تسلل خمسة ضباط كانوا مسرّحين ويعملون بوظائف مدنية في وزارة الاقتصاد ومديرية الموانئ، ولم تكن لهم أية علاقة بالانقلاب إياه ولم يكونوا أعضاء في “مجلس قيادة الثورة”؟ ومن أتاح لهؤلاء الخمسة أن يدخلوا إلى جسم القوات المسلحة السورية ويحتلوا أهم المراكز الحساسة في الجيش، وهم محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وعبد الكربم الجندي، وأحمد الأمير أو المير؟ وكيف تم توزيعهم على أهم المواقع العسكرية مثل “اللواء 70″ في الكسوة و”اللواء 13” في القطيفة ومعسكرات قطنا، في توزيع متقن للسيطرة على العاصمة، دمشق، من كل الجهات؟ وتعيين صلاح جديد نائب ثم رئيس شعبة شؤون الضباط في الأركان، وكيف استطاع أن يسرح 2200 ضابط عامل في الجيش من خريجي الكلية العسكرية والأركان، ومجيء قيادة حزب “البعث” التاريخية والتستر وراءها حتى إذا ما تمكنوا انقلبوا عليها في 22 فبراير/شباط 1966، واستلام حافظ الأسد وزارة الدفاع وصلاح جديد رئاسة الأركان العامة، واستخدام ضباط كانوا مرشحين، أي برتبة مساعد، وإعطاؤهم قدما وتشكيل ضباط منهم. كل ذلك كان قبل حرب يونيو/حزيران 1967.

ثم، ما أسرار الادعاء بأن إسرائيل تحشد قواتها على الجبهة السورية وتوريط مصر في هذه الحرب بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي؟ وقبل ذلك، كيف تم استقطاب الجاسوس إيلي كوهين لهؤلاء الضباط على مستوى القيادة، وكانوا دائمي السهر والأكل على موائده؟ ومحاضر التحقيق مع كوهين ومحاكمته وإعدامه.

ثم ما حدث في حرب 1967 وكيف سقطت محافظة القنيطرة والخطط العسكرية ومحاضر اجتماعات القيادة القطرية لـ”البعث” قبل الحرب وبعدها، ولماذا لم يجر التحقيق في الكارثة ومآلاتها وكيفية ترفيع حافظ الأسد المهزوم في الحرب من لواء إلى فريق أول؟ وما أسرار الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد على القيادة القطرية وزجها في السجن لأكثر من 24 عاما؟ ولماذا تم التنكيل باللواء أحمد سويداني والنقيب عدرا، اللذين داهما شقة كوهين ووجداه متلبسا بالتجسس؟ وكان سويداني وقتذاك مدير الاستخبارات وقائدا للشرطة العسكرية.

كذلك يجب الاطلاع على محاضر اجتماعات القيادة القطرية لـ”البعث” من 1963 وحتى عام 2024، إضافة إلى محاضر اجتماعات القوات العسكرية خلال هذه المدة ومحاضر اجتماعات مجلس الوزراء من حكومة صلاح البيطار الأولى إلى آخر حكومة قبل إسقاط بشار الأسد، والاطلاع على المناهج والبرامج للتخطيط لاحتلال لبنان وكيفية إدارة لبنان من خلال الذين أوكل لهم حافظ الأسد “ملف لبنان”، مرورا بضباط الأمن من علي غانم إلى غازي كنعان إلى رستم غزالي. وما دور رؤساء أجهزة الأمن والاستخبارات لأمن الدولة و”فرع فلسطين” و”فرع المنطقة” وشعبة الأمن العسكري، من حكمت الشهابي إلى على دوبا وأخيه محمد دوبا في حلب، وحسن خليل. وإلى علي يونس وحسام لوقا، والأمن السياسي منذ ما قبل عدنان بدر حسن إلى غازي كنعان إلى محمد ديب زيتون وما تلاهم.

كما أن هناك ضرورة لمعرفة طبيعة إدارة الدولة في عهد حافظ الأسد وابنه بشار الأسد، والبحث الجدي العميق في السياسة الداخلية والخارجية للدولة السورية، ومحاضر اجتماعات الأسدين الأب والابن مع رؤساء الولايات المتحدة ووزراء الخارجية من هنري كيسنجر إلى جيمس بيكر ومادلين أولبرايت، وحضور مؤتمر السلام، ومحاضر اجتماعات الوفود السورية مع الجانب الإسرائيلي من موفق العلاف إلى وليد المعلم إلى فاروق الشرع، وإلى الإحاطة الكاملة بأرشيف الدولة السورية خلال 62 سنة.

صحيح أن المهمة صعبة وعسيرة، ولكنها هامة جدا لوضع النقاط على الحروف لمعرفة كيف كانت تدار الأمور على مستوى القيادات التي كانت تتصدر المشهد قبل حافظ الأسد وخلال فترته وهي طويلة، وخلال فترة ابنه.

فيجب معرفة من هي القوى المؤثرة في اتخاذ القرارات الهامة والمصيرية كانقلابات “البعثيين” على بعضهم في هذا التاريخ من سليم حاطوم إلى رفعت الأسد إلى علي دوبا وعلي حيدر وآخرين، ثم كيف كان يتم ترتيب الانتخابات ومجالس الشعب والحكومات، والكيفية التي يتم بها اختيار رؤساء الحكومات والكيفية التي تتم بها التوجيهات السياسية والاقتصادية والحقوقية والثقاقية، وصولا إلى كيفية إنتاج “الخطط الاقتصادية الخمسية” للحكومة، التي كانت في معظمها، إن لم تكن كلها، فاشلة، ومصير أموال عائدات النفط من 1973 إلى 2024 والحيل التي يقوم بها رأس النظام لسرقتها وإيداعها في حسابات سرية في أوروبا أو في “الجزر العذراء” وغيرها.

وثائق الدولة السورية ليست ملكا لأحد، إنما هي ملك للسوريين، وعليه يجب البحث عنها واستردادها.

وأخيرا، فالدولة السورية الجديدة- كما نرى- مشغولة بقضية التنمية وتطوير البنى الأساسية للدولة، لكن هذا لا يعفيها من إيلاء موضوع أرشيف الدولة السورية أهمية، لأن هذا عمل تراكمي لا بد من فحصه والبحث عنه وتوثيقه، فهذا تاريخ يجب إعادة كتابته بإنصاف ومن دون أفكار مسبقة. فالموضوعية يجب أن تبقى دليل كل العاملين في الشأن العام.

* النص كتبه الدكتور حسين الشرع بداية في حسابه في “فايسبوك”، وأعاد كتابته لـ “المجلة”.

المجلة

——————————

التفكير النقدي الإيجابي هو العلاج/ عبد الباسط سيدا

مرت ستة أشهر على سقوط آل الأسد والوضع السوري ما زال يواجه تحديات جسيمة؛ هذا رغم الانفتاح العربي والإقليمي والأمريكي والأوروبي على الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع؛ ورغم تعليق ورفع العقوبات الأمريكية والأوروبية التي كانت مفروضة على السلطة البائدة.

فالوضع الأمني ما زال هشاً، وهو الأمر الذي يفسح المجال أمام سلوكيات غير قانونية تُنسب إلى مجموعات المتضررين أو المتربصين، كما تنسب إلى أفراد دوافعهم مختلفة. ويُقال في هذا السياق بأن السلطات ليست على علاقة بهم، بل تلاحقهم، وتعمل بكل الوسائل للقبض عليهم ومحاسبتهم. ومن بين السلوكيات المعنية هنا: الاغتيالات والانتقامات الفردية، والاعتداء على حريات وممتلكات الناس.

والوضع الاقتصادي هو الآخر ليس بأفضل حالاً من الوضع الأمني؛ فرغم كل الوعود التبشيرية ما زال على حاله؛ وهو الوضع الذي تعاني منه الغالبية الساحقة من السوريين الأمرّين.

هذا إلى جانب التحديات الخاصة بطبيعة نظام الحكم وشكله، والدستور المنتظر، وآليات المساءلة والمحاسبة، واعتماد مبادئ الشفافية والنزاهة، والإقرار الفعلي باستقلالية السلطة، واحترام قرارات كل سلطة ضمن إطار اختصاصاتها، والالتزام بالدستور لدى بروز أي خلافات أو اجتهادات حول تأويل أو تفسير النصوص، أو اتخاذ قرارات تتجاوز الصلاحيات الممنوحة.

بالإضافة إلى ما تقدم، هناك التحديات التي تُوجبها ضرورة ترميم النسيج المجتمعي الوطني، ومعالجة الأمور بصورة جذرية فعلية، لا الاكتفاء بتصريحات مجاملاتية إعلامية، تكون غالباً بهدف الاستهلاك المحلي، وتكوين انطباع زائف فحواه أن الأمور هي في أحسن أحوالها، أو على الأقل ستصبح هكذا مستقبلاً.

هذا في حين أن المجتمعات التي مرت بظروف شبيهة بالتجربة السورية أثبتت باستمرار أهمية الحوار الوطني الحقيقي بين مختلف الأطراف السياسية والنخب الفاعلة من أصحاب المصداقية والمؤهلات في مختلف الميادين ومن سائر المكونات المجتمعية، وذلك بغية التوافق على الخطوات التي ستعتمد في سياق التعامل مع التحديات المشار إليها وغيرها. أما أن تكون جهة محددة هي صاحبة الحق في اتخاذ القرار، وتتجاهل بشكل صريح أو مضمر آراء بقية الأطراف والتيارات والقوى السياسية والشخصيات السورية التي كانت مع الثورة منذ اللحظات الأولى؛ بل مهدت لها منذ عقود، فهذا مؤداه بعثرة الجهود في اتجاهات شتى تستهلك الوقت والطاقات عوضاً عن توحيدها وتركيزها.

ولدينا نماذج من دول ديمقراطية مستقرة متعددة التقت فيها حكوماتها مع معارضاتها لتوحيد المواقف للتعامل مع التحديات المصيرية الوجودية التي تتطلب معالجات حكيمة موضوعية، تتوافق عليها الغالبية، والوضع السوري هو اليوم بأشد الحاجة إلى خطوة من هذا القبيل للتمكن من الوصول إلى بر الأمان.

فسوريا اليوم تواجه، إلى جانب التحديات الداخلية المأتي على ذكر بعضها، تحديات إقليمية ودولية تنذر بالكثير من التدخلات والإملاءات، وفرض المشاريع التي غالباً لن تأخذ تضحيات وتطلعات السوريين بعين الاعتبار.

وحتى لا نجانب الواقعية والموضوعية، علينا أن نؤكد حقيقة أهمية سوريا، ودورها المفتاحي على صعيد الإقليم، ونعترف باستمرارية الصراع الإقليمي والدولي على سوريا بأشكال مختلفة. وفي ظل الصراع الإسرائيلي الإيراني على سوريا ولبنان، والتنافس التركي الإيراني في كل من سوريا والعراق؛ إلى جانب التوافقات الصعبة بين الروس والأمريكان، وهي التوافقات التي لم تبدد هواجس الطرفين، بل ألزمتهما بالتحسب لما قد يقدم عليه الطرف الآخر؛ هذا رغم معرفة الجميع بأن الكلمة النهائية في تحديد مسار الأحداث على المسرح السوري وفي المنطقة بأسرها هي للجانب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

أما الموقف العربي فقد برز شأنه بصورة واضحة بعد وصول الإدارة الجديدة إلى الحكم في سوريا؛ وهذا ما ساعدد على تحقيق نوع من التوازن الإقليمي، وهو ما سيكون من دون شك لصالح الأمن العربي بصورة عامة، والخليجي على وجه التخصيص؛ ولصالح سوريا والأردن ولبنان وحتى العراق أيضاً.

وكل هذه التشابكات والمنافسات والصراعات بين القوى الإقليمية والدولية تستوجب عقلية مرنة، تستطيع التفكير من خارج الصندوق؛ عقلية مستعدة لاتخاذ قرارات غير عادية تفرضها تحولات نوعية بنيوية على مستوى الإقليم ككل من جهة، وعلى مستوى كل دولة ضمن الإقليم من جهة أخرى. وهذا ما أفلحت فيه الحكومة السورية الجديدة حتى الآن.

ولكن السياسة الخارجية مهما كانت ناجحة لن تعطي ثمارها المرجوة من دون وضع داخلي مستقر، وهذا لن يتحقق من دون طمانة سائر السوريين، وإفساح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم وفق القواعد الديمقراطية المتعارف عليها.

المخاطر التي تواجه سوريا اليوم كبيرة وجدية؛ وفي حال حدوث إنتكاسة لا سمح الله في تجربتها الراهنة مع الإدارة الجديدة ستكون العواقب وخيمة، خاصة في أجواء غياب البديل الوطني الجامع الناضج المقنع، وهذا ما سيفسح المجال أمام القوى الإقليمية المتربصة لمغازلة الولاءات المجتمعية الفرعية ما قبل الوطنية؛ ويمكن أن يؤدي ذلك إلى صدامات داخلية بين السوريين، أو تكريس مناطق النفوذ لتكون مشاريع تقسيم غير رسمية، وربما تظهر جماعات إرهابية متطرفة مثل داعش وما بعد داعش، وهي الجماعات التي تتحرك عادة بناء على توجيهات أجهزة الدول التي لا تريد الاستقرار المستدام في سوريا، نتيجة تناقض ذلك مع مشاريعها وحساباتها.

ومجابهة كل هذه المخاطر، وربما غيرها، في حاجة إلى تكاتف السوريين، وتضافر جهودهم في سبيل تجاوز المرحلة الانتقالية باقل الخسائر الممكنة؛ وهي مرحلة ستكون متخمة بالتوترات والتشنجات، وستكون، كما كانت، هناك أخطاء كثيرة في مختلف الميادين، بعضها له أسبابه الموضوعية: أمنية وعسكرية، مالية وإدارية…الخ، وبعضها الآخر له أسبابه الذاتية من بينها: التوجهات العقائدية الأيديولوجية، والنزعات الفردية، وغياب الرؤية الوطنية الشاملة التي تتعامل مع سائر السوريين سواسية بغض النظر عن خلفياتهم المجتمعية وتوجهاتهم الفكرية والسياسية.

ولكن كل هذه الأخطاء يمكن معالجتها، والحيلولة دون تحولها من سلوكيات وأعمال فردية إلى توجه عام يؤثر في قرارات وممارسات السلطات الرسمية، وذلك يتطلب وجود حلقات وسيطة فاعلة بين السلطات والنخب المجتمعية السورية في مختلف المجالات ومن سائر الانتماءات والتوجهات، بغية التشارو، وتقديم المقترحات، والتوصل إلى حلول واقعية ممكنة تكون لصالح تعزيز الأمن والاستقرار الداخليين.

ومثل هذه الحوارات ستكون عقيمة في أجواء انعدام الثقة المتبادلة، وطغيان المنطق العدمي الذي يهيمن على ذهنية الكثيرين من المنتقدين للإدارة الجديدة؛ وفي المقابل تتحكم النزعة التسويغية غير النقدية بذهنية المدافعين عن سياسات الإدارة المعنية على طول الخط. فهم يدافعون عن قرارات وممارسات الإدارة من دون أي تمييز بين الإيجابيات لدعهما والبناء عليها، وبين السلبيات لنقدها والدعوة إلى تجاوزها. هذا مع العلم أن تجاوز السلبيات لن يؤدي إلى حدوث أي ضرر واقعي أو متخيل، بل على النقيض من ذلك فإنه سيعزز الثقة، ويقطع الطريق على المزيد من السلبيات التي ستكون عبئاً الآن ومستقبلاً.

ما يحتاج إليه السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى يتشخص في العقلية النقدية التي تعاين الأمور بمنظار العقل والحكمة، وتراعي المصالح الوطنية العليا لا الفئوية أو الجهوية أو الشللية أو الحسابات الشخصية.

ما تحقق حتى الآن هو أمر كبير بل نوعي وتاريخي، ضحى السوريون من أجله على مدى عقود ضرائب باهظة جداً على صعيد الأرواح والمعاناة والتهجير والتدمير والتغييب؛ وهم يستحقون اليوم بكل جدارة حياة كريمة، ومستقبلاً يضمن إتاحة فرص التعليم والعمل لشبابهم، ليتمكنوا من الإسهام المبدع في نهضة بلدهم وتأمين مستقبل واعد لشعبهم.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

—————————–

علويون سوريون في أوروبا: إشكالية التمثيل ونيل الاعتراف!/ مصطفى الدباس

14.06.2025

لا تزال التجمعات السورية العلوية في المهجر تمر في طور التشكّل، وتفتح نقاشاً غير مسبوق حول مستقبل الطائفة العلوية في سوريا ما بعد الأسد، ومدى قدرتها على لعب دور فاعل ومستقلّ ضمن دولة مدنية تعدّدية، ويبقى التحدّي الأكبر هو الحفاظ على هذا الحراك بعيداً من الاستقطابات السياسية، وبناء جسور حقيقية بين الداخل والمهجر، تضع حقوق الإنسان والعدالة والمساءلة في صلب أولوياتها، لا الاصطفافات الطائفية، أو الولاءات العابرة للحدود.

منذ سقوط نظام بشّار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت ملامح خريطة جديدة تتشكّل داخل الجاليات السورية في المهجر، لا سيّما في ما يخصّ الطائفة العلوية التي ظلّت لعقود رهينة التماهي القسري مع النظام الذي كرّس ارتباطها به، أو متّهمة من باقي الشرائح السورية بالإفادة من سطوته.

بدأت أصوات جديدة تخرج من الظلّ، معلنةً ولادة كيانات وتنظيمات تمثّل العلويين خارج عباءة السلطة، وتسعى لتأطير حضورهم السياسي والاجتماعي والحقوقي على أسس جديدة أكثر استقلالية، في الوقت ذاته تحيط بالكثير من هذه التجمّعات والكيانات العديد من الأسئلة، التي تتعلّق بتاريخ بعض أعضائها، وعلاقتهم مع النظام السوري وموقفهم من الثورة السورية.

إشكالية التمثيل

في خطوة تعبّر عن تصاعد الحضور السياسي للعلويين السوريين في دول المهجر، عقد “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” اجتماعاً رسمياً في العاصمة الألمانية برلين، مع عدد من ممثّلي الأحزاب السياسية في البرلمان الألماني (البوندستاغ) في منتصف شهر أيّار/ مايو الماضي، وناقش وفد الاتّحاد خلال اللقاء، أوضاع الطائفة العلوية في سوريا بعد سقوط نظام بشّار الأسد، والانتهاكات التي طالتها في عدد من المناطق، لا سيّما في الساحل السوري.

يأتي هذا التحرّك بعد سلسلة أحداث دموية شهدتها مناطق اللاذقية وطرطوس في مطلع العام 2025، بعد أن شنّت ميليشيات موالية للنظام السابق هجمات على مراكز أمنية تابعة للسلطة الجديدة، أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر الأمن العامّ (لا رقم رسمياً عن عدد القتلى) وردّاً على تلك العمليّات، قامت مجموعات مسلّحة متشدّدة بارتكاب أعمال انتقامية بحقّ مدنيين علويين، راح ضحيّتها 1383 مدنياً بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

تأسّس “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” في برلين في آذار/ مارس 2025، مدفوعاً بالحاجة إلى تمثيل صوت شريحة اجتماعية باتت مهدّدة بالإقصاء والعنف، فقط لارتباطها الطائفي بالنظام السابق، بحسب تعبير مؤسّسيه، وسُجّل الاتّحاد رسمياً كجمعية غير ربحية.

ويؤكّد القائمون على الاتّحاد في بيانات منشورة أن عضويته مفتوحة لكلّ من يؤمن بقيم المساواة وحقوق الإنسان، وليست حكراً على أبناء الطائفة العلوية، كما يمنح بعض الأفراد عضوية شرفية تقديراً لدورهم في دعم الاتّحاد وقضاياه.

وشكّل الاجتماع الذي عُقد في مقرّ البرلمان الألماني محطّة مفصلية في مسار الاتّحاد، قُدّم فيه ملفّ موثّق يتضمّن شهادات ناجين، ووثائق وتقارير صادرة عن جهات حقوقية محلّية ودولية، توثّق الانتهاكات التي تعرّض لها العلويون السوريون خلال السنوات الماضية، لا سيّما بعد انهيار النظام السابق.

وتضمّن الملفّ مطالب واضحة، أبرزها: فتح مسارات لجوء آمنة وخاصّة للعلويين المهدّدين داخل سوريا، نتيجة تصاعد العنف واستمرار غياب الحماية، إضافة إلى منح الطائفة العلوية تمثيلاً سياسياً رسمياً في المهجر، بدعم مباشر من الحكومة الألمانية، بما يضمن إيصال صوتها إلى المحافل الأوروبية والدولية، كما طالب الاتّحاد بتوفير حماية دولية للمدنيين العلويين في مناطق التوتّر داخل سوريا، وضرورة فتح تحقيقات مستقلّة وشفّافة في الجرائم المرتكبة بحقّ أبناء الطائفة.

لا تزال تركيبة “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” غير واضحة إلى حدّ كبير، إذ لم يُعلن عن أسماء أعضائه أو خلفيّاتهم، باستثناء ناطقته الإعلامية نينا الأمين، التي ظهرت في فيديوهات عدّة عبر وسائل التواصل، تطالب بتحقيقات دولية، وتدعو إلى العدالة للضحايا العلويين. غير أن خطابها أثار موجة من الانتقادات، إذ اتُّهمت من قِبل بعض الناشطين السوريين بتقديم رواية مبالغ فيها ولا تستند إلى أدلّة موثّقة، خاصّة في ما يتعلّق بادّعاءات تتحدّث عن “الاستعباد الجنسي”، و”سوق النخاسة”، وهي مزاعم لم تُعزّز بأي تقارير أو توثيق مستقلّ.

ورغم طابع الاتّحاد المدني المعلن، طُرحت تساؤلات عديدة حول طبيعته، خاصّة في ظلّ عدم وضوح معايير العضوية أو الجهات الداعمة له، وقد أُشير إلى اشتراكات مالية للمنتسبين، من دون وجود شفافية بشأن أوجه الإنفاق أو مصادر التمويل، ما دفع البعض للتساؤل عن الأجندة الفعلية الكامنة وراء تأسيسه، ومدى استقلاليته عن الاستقطابات السياسية أو الطائفية.

من جهة أخرى، لا يسمّي الاتحاد نفسه كمعارضة سورية، خاصّة في ظلّ عدم وجود أي ماضٍ سياسي للاعضاء البارزين فيه، وقد برز اسم ديما دالية، وهي عضوة في مجلس إدارة الاتّحاد، خلال مشاركتها في “المؤتمر السوري من أجل الديمقراطية”، الذي عُقد في مبنى الكونغرس الأميركي في واشنطن. وتُقيم دالية في كندا حيث وُلدت، مما أثار انتقادات من بعض الأصوات المعارضة، التي رأت في ذلك دليلاً على ضعف الصلة المباشرة لبعض ممثّلي الاتّحاد بالواقع السوري الميداني.

لا نعرف مدى جديّة تعاطي ألمانيا مع الاتّحاد المكوّن جديداً، خصوصاً أن الحكومة الألمانية تسعى لفتح أبواب العودة الطوعية للسوريين الراغبين في العودة إلى بلادهم، وفتح أبواب جديدة للاجئين جدد في ظلّ صعود اليمين .

بعيداً عن اللقاء الذي جمع بين بعض أعضاء الاتّحاد وعدد من البرلمانيين الألمان، لا توجد حتى الآن أي تصريحات رسمية صادرة عن الحكومة الألمانية بشأن الاتّحاد أو أنشطته، وقد تمّ تسجيل “اتحاد العلويين السوريين في أوروبا” كمنظّمة مجتمع مدني، وهو إجراء قانوني معتاد في ألمانيا، ولا يتطلّب موافقة حكومية مسبقة، ومع ذلك، يظلّ ملفّ التمويل مثار تساؤل، إذ لم يُنشر أي توضيح على الموقع الرسمي للاتّحاد حول مصادر الدعم المالي، أو الجهات المموّلة، أو آلية الإنفاق، ما يُثير شكوكاً حول شفافية البنية الإدارية والمالية للكيان الوليد.

ويزداد هذا الغموض تعقيداً في ظلّ تباين واضح بين أهداف الاتّحاد المُعلنة، وسياقات السياسة الألمانية الراهنة، خاصّة في ما يتعلّق بمطلبه بفتح مسارات لجوء “خاصّة وآمنة” للعلويين المهدّدين داخل سوريا. إذ سبق للحكومة الألمانية أن شدّدت في أكثر من مناسبة، على رفضها المطلق لاستقبال أي شخص يُشتبه بانتمائه، أو ولائه للنظام السوري السابق، من ضمنهم أفراد يُشتبه بتورطهم في جرائم حرب، أو انتهاكات جسيمة، وقد أكّدت وزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك في تصريحات متكرّرة، أن “ألمانيا لن تكون ملجأ لجلّادي الأسد”، في إشارة واضحة إلى التزام برلين بملاحقة الجناة بدلاً من توفير حماية محتملة لهم.

كما أن سياسة اللجوء الألمانية شهدت في الأشهر الأخيرة عقب سقوط نظام الأسد، قيوداً مشدّدة على استقبال اللاجئين السوريين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو الدينية، وقد فرضت الحكومة الاتّحادية معايير صارمة للفحص الفردي لكلّ طلب، ما يجعل تحقيق مطالب الاتّحاد بفتح قنوات خاصّة لفئة محدّدة أمراً بالغ التعقيد، خاصّة في ظلّ غياب آلية واضحة للتحقق من عدم تورّط طالبي اللجوء في انتهاكات سابقة، سواء بصفتهم مسؤولين أمنيين، أو كجزء من الأجهزة العسكرية للنظام السوري المنهار.

علويون في فرنسا: هل يحاكَم أحمد الشرع؟

برزت مؤخّراً  في فرنسا عدّة كيانات مدنية – سياسية تدّعي تمثيل الطائفة العلوية، جاءت كردّ فعل على تصاعد العنف الطائفي والمجازر، التي طالت مدنيين من الطائفة في مناطق الساحل السوري بداية العام 2025، وتُظهر هذه التشكيلات بوضوح، توجّهاً مختلفاً عن نظيراتها في ألمانيا، حيث يتّخذ النشاط فيها طابعاً سياسياً أكثر بروزاً، يتعدّى الجانب المجتمعي والحقوقي، إلى حمل مواقف علنية من الحكومة السورية الانتقالية.

أبرز هذه التجمّعات هو التجمّع الفرنسي- العلوي (Collectif Franco-Alawite) تأسّس “التجمّع العلوي في فرنسا” في باريس في بداية العام ٢٠٢٥، ويقدّم نفسه كإطار سياسي ومدني يمثّل صوت العلويين السوريين في أوروبا، ويركّز على توثيق الانتهاكات التي طالت أبناء الطائفة في الداخل السوري، والمطالبة بحمايتهم في المحافل الدولية.

ويُعدّ التجمّع من أوائل الكيانات العلوية التي قامت بخطوات علنية ذات طابع قانوني ضدّ الحكومة السورية الانتقالية، إذ قدّم في نيسان/ أبريل 2025، دعوى قانونية أمام النيابة العامّة في باريس، اتّهم فيها رئيس الحكومة المؤقتة أحمد الشرع وعدداً من وزرائه، بارتكاب “جرائم ضدّ الإنسانية، منها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحقّ المدنيين العلويين”.

نظّم التجمّع وقفة احتجاجية خلال زيارة الشرع باريس، داعياً الحكومة الفرنسية إلى “مقاطعة الوفد السوري الانتقالي وعدم الاعتراف بشرعيته”، ما يعكس البعد السياسي المباشر لنشاط هذا التجمّع، الذي رفض رفع علم الثورة/ علم سوريا الجديد، بوصفه “علم الانتداب”، كما حضر في المظاهرة شخصيّات إشكالية بعضها محسوب على السفارة السورية في باريس، والبعض الآخر معروف علناً بموقفه المؤيّد لنظام بشّار الأسد.

أثار إعلان “التجمّع الفرنسي – العلوي” عن تقديم دعوى قضائية أمام القضاء الفرنسي، ردود فعل متباينة في أوساط السوريين، لا سيّما المعارضين للنظام السابق، حيث تركّزت الانتقادات على الطابع الطائفي الصريح للتجمّع وهوّيته المعلنة، ما اعتُبر محاولة لإعادة إنتاج الاصطفافات القديمة تحت غطاء قانوني وحقوقي.

وتعدّدت أشكال التشكيك، من التساؤل عن الخلفيّات السياسية والمالية للتجمّع وصلاته المزعومة بشخصيّات مرتبطة بالنظام، إلى تهم بـ”التهويل” والتواطؤ مع المخابرات، وصولاً إلى المقارنة بين هذه الدعوى ودعاوى ضحايا نظام الأسد من مكوّنات أخرى. كما طاولت الحملة شخصيّات بارزة في التجمّع، مثل لينا طبال، بسبب مواقف سياسية سابقة اعتُبرت داعمة للنظام، ما عزّز التصوّرات السلبية حول نوايا التجمّع.

وازدادت موجة الرفض بعد تنظيم وقفة احتجاجية في باريس منتصف آذار/ مارس 2025، شارك فيها الشاعر أدونيس، إذ رآها بعض المعارضين تركّز فقط على ضحايا مدنيين من الساحل من دون الإشارة إلى اعتداءات نفّذتها ميليشيات موالية للنظام. كما أدّى ظهور أحد منظّمي الوقفة، ممن سبق تورّطهم في اعتداءات على معارضين في أوروبا، إلى زيادة الريبة من التجمّع ونشاطه. هذا السياق كلّه عكس خشية شريحة واسعة من السوريين في فرنسا من أن تتحوّل هذه الكيانات إلى أدوات سياسية تستعيد الخطاب الطائفي، الذي شكّل أحد أعمدة النظام السابق، بعيداً من أي مقاربة حقوقية جامعة.

جمعية العلويين في الولايات المتّحدة: رفض رفع العقوبات!

تُعدّ جمعية “العلويين في الولايات المتّحدة” (AAUS) من أبرز الكيانات العلوية، التي اتّخذت موقفاً سياسياً واضحاً تجاه التطوّرات في سوريا بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وتأسّست الجمعية في عام 2025، وتهدف إلى الدفاع عن حقوق الأقلية العلوية السورية وكرامتها، وتعزيز الوعي بمعاناتها، ومكافحة الاضطهاد، ودعم السياسات التي تعزّز العدالة والكرامة الإنسانية.

وأعربت الجمعية عن رفضها “رفع العقوبات الأميركية عن سوريا”، معتبرة أن ذلك “قد يُفقد الولايات المتّحدة ورقة ضغط مهمّة، لضمان حماية الأقليات الدينية والعرقية في البلاد”.

وفي بيان أصدرته، دعت الجمعية إلى “تمديد العقوبات لتشمل الجهات المسؤولة عن الهجمات ضدّ المدنيين العلويين في سوريا”، مشيرة إلى أن “رفع العقوبات قد يُفقد الولايات المتّحدة ورقة ضغط مهمّة، لضمان حماية الأقليات الدينية والعرقية في البلاد”، وهو ما أكّدته الناشطة ميساء قباني، المقيمة في أميركا، في أكثر من تصريح إعلامي.

في نيسان/ أبريل 2025، عقدت الجمعية سلسلة من الاجتماعات الرسمية في واشنطن العاصمة، بما في ذلك زيارة مهمّة إلى وزارة الخارجية الأميركية، كما شاركت الجمعية في مؤتمر الديمقراطية السورية الأميركية الذي عُقد في مبنى الكونغرس الأميركي،  وفي أيّار/ مايو 2025، أُلغي فجأة مؤتمر كانت الجمعية تخطّط لعقده في مبنى الكابيتول هيل في واشنطن، بعد أن أعرب أحد أعضاء الكونغرس عن مخاوفه بشأن الجمعية وقيادتها، مشيراً إلى “صلات مزعومة مع النظام السوري السابق”، لكنّ الجمعية نفت هذه التهم، مؤكّدة أن “المؤتمر انتهى كما هو مخطّط له، وأنه تمّ عقد اجتماعات مع أعضاء الكونغرس في اليوم التالي خارج مبنى الكابيتول”.

– صحافي سوري مقيم في برلين

درج

—————————

أوضاع المسرَّحين من المدنيّين والعسكريين في الساحل السوري بعد سقوط النظام/ طلال المصطفى و منير شحود و سامر عيسى

نشر في 13 حزيران/يونيو ,2025

ملخص التقرير:

يركّز التقرير على تحليل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لقضية تسريح العاملين (المدنيين والعسكريين)، ويُظهر آثار ذلك الأمر في اتساع رقعة الفقر، وصعوبة تأمين البدائل، ومستوى الاستجابة الحكومية والمجتمعية، ويعرض تصوراتِ المعنيّين عن المستقبل، وأثر هذه المتغيرات في استقرار الساحل السوري.

اعتمد التقرير على منهج وصفي تحليلي، باستخدام مزيج من الأدوات الكميّة والنوعية، حيث اعتمد التقرير على جمع استبانات ميدانية تضمّنت إجابات عيّنة من المسرّحين المدنيين والعسكريين من مناطق متعددة في الساحل السوري، وعلى إجراء مقابلات معمقة مع مجموعة مختارة من المسرّحين ومع خبراء اقتصاديين واجتماعيين. وجُمعَت البيانات في شهرَي آذار ونيسان من عام 2025، وبلغ عدد أفراد العينة 232 شخصًا، وكانت هناك بعض الصعوبات في اختيار أفراد العينة، بسبب الظروف الأمنية.

توصّل التقرير إلى أن لفقدان الوظيفة (التسريح) أثرًا كبيرًا على الأوضاع الاقتصادية، حيث أشار 71% من المسرّحين إلى عدم توفر فرص عمل، ما يعكس الأزمة الكبيرة في سوق العمل. وكانت المخاوف الأمنية والنفسية واضحة، إذ أعرب العديد عن القلق من الملاحقة القانونية والخوف من الانتقام. وفي الوقت نفسه، أدّى غياب البرامج الحكومية المعنية بتقديم الدعم أو إعادة التأهيل إلى تدهور الأوضاع المعيشية.

أما الآثار الاجتماعية، فتمثلت بتراجع التواصل مع الزملاء والأصدقاء لدى المسرّحين، وكان للبعد الطائفي دور مؤثر في النظرة الاجتماعية تجاه المسرَّحين، حيث شعر بعضهم بوجود تمييز في المعاملة، بسبب انتماءاتهم الطائفية.

أما على صعيد الآثار النفسية، فقد شعر معظم المسرّحين بتدهور حالتهم النفسية، وبارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، بسبب فقدان مصدر الدخل والأمن المهني.

على صعيد الاستجابة الحكومية والمجتمعية، أشار أغلبيّة المسرّحين إلى أن استجابة الحكومة كانت غير كافية أو معدومة، بسبب غياب برامج إعادة التأهيل أو غياب الدعم الحقيقي. وكانت استجابة المنظمات غير الحكومية أيضًا غير فعّالة، ما يعكس ضعف الدعم المقدَّم.

وعلى صعيد التحديات المستقبلية، أكّد أغلب المسرّحين أنهم يواجهون أزمة مالية حادة، ويبحثون عن مصادر دخل بديلة، وأن نسبة كبيرة منهم تعتمد على شبكات الدعم العائلية، أو على بيع الممتلكات الشخصية.

واستنادًا إلى النتائج السابقة، توصل التقرير إلى مجموعة من التوصيات الإجرائية:

    إعادة هيكلة القطاع العام بما يضمن عدم تكرار أخطاء التسريح العشوائي.

    إعادة المسرّحين، خاصة المدنيين، إلى وظائفهم السابقة، بانتظار عملية هيكلة توفر الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والتعويض على المتضررين.

    تقديم برامج دعم مادي سريعة ومباشرة، لتخفيف الآثار الاقتصادية المعيشية على المسرّحين.

    استحداث برامج إعادة تأهيل مهنية، لتمكين المسرّحين من العودة إلى سوق العمل.

    تعزيز العدالة الانتقالية، لتخفيف الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عن التسريح.

    تطوير برامج إغاثية مستدامة عبر المنظمات الحكومية وغير الحكومية، لدعم المسرّحين في مسار إعادة الاندماج.

تحميل الموضوع

مركز حرمون

—————————————-

استغلوا العرس الإعلامي السوري قبل أُفوله!/ د. فيصل القاسم

14 حزيران 2025

غالباً ما تتعامل وسائل الإعلام مع الأحداث الكبرى مثلما يتعامل الناس مع الأعراس، ففي يوم العرس يكون العريس والعروس محط اهتمام الجميع، الكل يريد أن يهنئهما ويغني لهما ويلتقط صوراً معهما، لكن بعد العرس بفترة قصيرة يصبح العريس والعروس نسياً منسياً ويخرجان من التداول الاجتماعي كلياً. ومهما كانت الأحداث مهمة، فإن أثرها يتلاشى شيئاً فشيئاً، لا بل يصبح خبراً ثانوياً في وسائل الإعلام إن لم يخرج تماماً من البورصة الإعلامية.

ما مدى الاهتمام الإعلامي أو السياسي أو حتى الشعبي اليوم بمأساة غزة التي باتت أفظع مأساة عربية منذ عقود؟ من يتابع الحدث الغزاوي اليوم غير المكتوين به؟ كم عدد القنوات ووسائل الإعلام العربية والدولية التي تتابع الحدث عن كثب سوى قناة عربية واحدة أو قناتين؟ للأسف الشديد فإن الإعلام وحتى المزاج الشعبي يمل عادة بسرعة من متابعة الأحداث مهما كانت كبيرة، أضف إلى ذلك طبعاً أن أحداثاً جديدة تطوي ما قبلها، وفي بعض الأحيان ينسى الناس حدثاً ضخماً بعد أسابيع من وقوعه. لهذا عندما تتوفر لأي جهة فرصة إعلامية نادرة فعليها أن تستغلها فوراً وإلى أقصى درجة لأنها ثمينة جداً لكنها عابرة بسرعة فائقة وقد لا تتكرر، وبالتالي على أهلنا في سوريا حكومة وشعباً أن يستغلوا الاهتمام الإعلامي بهم وهو ساخن لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، لأن الإعلام سيهجركم ويهملكم عاجلاً أو آجلاً.

لا شك أن وسائل الإعلام العربية والعالمية اليوم توجه كاميراتها في اتجاه الحدث السوري، ويترافق الاهتمام الإعلامي بسوريا مع اهتمام سياسي غير مسبوق، والسبب طبعاً أن أمريكا حاكمة العالم نفسها هي من تقود ذلك الاهتمام السياسي العالمي، فقد كان للقاء الذي جرى بين الرئيسين الأمريكي والسوري في السعودية وقع كبير على كل الأصعدة، وكان لا شك حدثاً فريداً في التاريخ السياسي السوري. وما تزال سوريا حتى هذه اللحظة تستقطب اهتماماً سياسياً ليس فقط من الأمريكيين، بل أيضاً من الأوروبيين والدول الإقليمية والعظمى كالصين وغيرها نظراً لأهمية سوريا الاستراتيجية لكل القوى الدولية. ولا ننسى الاهتمام العربي السياسي والإعلامي، بحيث باتت الأنظار العربية كلها مُسلطة على الساحة السورية. لكن على السوريين أن يدركوا أن الإعلام العربي والدولي سيبدأ بالابتعاد عنهم وعن قضيتهم في لحظة ما، وسيجدون أنفسهم لوحدهم. ويجب ألا ينسوا كيف اهتم الإعلام بالثورة السورية لفترة من الزمن ثم ترك السوريين معزولين ومنبوذين إعلامياً، فلا أحد يتابع كارثتهم ولا يأتي على ذكرها حتى في آخر نشرات الأخبار. وليعلم السوريون اليوم أن ما حدث معهم في الماضي سيتكرر قريباً، فستختفي الأضواء الإعلامية المسلطة على الحدث السوري تباعاً.

والسؤال كيف نستفيد من هذا التركيز الإعلامي على سوريا اليوم؟ الجواب بسيط: علينا أن نحدد الزوايا والنقاط المضيئة التي تنقل القضية السورية للعالم بشكل إيجابي ومفيد لنا. هل نفعل ذلك اليوم؟ بالتأكيد لا، فقد سقط السوريون في فخ الصراع والتناحر الداخلي وضخموه واستمرؤوه إعلامياً وجعلوه محط اهتمام الداخل والخارج. بماذا يفيدنا هذا الضخ الإعلامي اليوم حول المناوشات الداخلية؟ لماذا ينبري آلاف السوريين (من كل الأطراف) لنشر غسيلهم الوسخ على مواقع التواصل الاجتماعي مما يكرس الأحقاد والضغائن بين المكونات السورية ويصور سوريا والسوريين للعالم كما لو أنهم ثلة من العصابات المتناحرة؟ الكل متورط في هذه اللعبة القذرة التي تفسد على السوريين فرحتهم بالنصر، وفي الوقت نفسه تبعدنا عن المسائل والقضايا الأهم التي يحتاج السوريون التركيز عليها من أجل النهوض من تحت الركام. كلنا يعلم أن الإعلام هو الذي يوجه ويحدد الزوايا التي ينظر الناس من خلالها إلى الأحداث، واليوم بات الجميع للأسف ينظر للحدث السوري من زاوية الاحتراب الإعلامي الداخلي المقيت. هل هذا ما يريده السوريون اليوم؟ لا ننكر أبداً أن هناك أطرافاً خارجية شريرة تستهدف الساحة السورية إعلامياً لضرب السوريين ببعضهم البعض، لكن للأسف الشديد فإن الكثير من السوريين من مختلف الأطراف يشاركون فيها. طبعاً لا يمكن أن نغفل التوتر والصراعات هنا وهناك في سوريا، لكن هذا لا يعني أن نجعلها شغلنا الشاغل على مواقع التواصل ونعطيها أكبر من حجمها بكثير إعلامياً. وكي لا نكذب على بعض، فمن السهل جداً تحويل الاهتمام الإعلامي وحرف الأنظار بعيداً عن القضايا المُفسدة للنهضة والفرحة السورية. لماذا لا نركز مثلاً على التنمية البشرية بالدرجة الأولى؟ لماذا لا نركز على طرق ووسائل النهوض الاقتصادي والمعيشي والعمراني؟ لماذا لا نركز على المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين واستقطاب رؤوس الأموال من الداخل والخارج للمساهمة في إعادة بناء سوريا وتضميد جراحات شعبها؟ لماذا لا نشجع الشباب السوري على الاستفادة من إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية للبدء بمشاريع صغيرة لدعم الاقتصاد الوطني وتحسين الوضع المعيشي بدل التفكير بالسفر خارج البلاد؟ لماذا لا نركز على مكانة سوريا التاريخية ومعالمها السياحية العظمية لجذب السياح في الداخل والخارج؟ لماذا لا نبدأ بإعادة إحياء الدراما السورية؟ لماذا يقضي السوريون معظم وقتهم على وسائل التواصل وهم يشتمون بعضهم البعض على أسس طائفية ومذهبية وعرقية؟ فلتخرس كل الأصوات التي تثير النزعات والأحقاد وتشق الصف الوطني. أليس من السخف أن العالم اليوم يتنافس في الذكاء الاصطناعي، بينما يتنابز السوريون بالألقاب الطائفية والمذهبية المقيتة؟ عيب. عيب. ليس من الصعب على الدولة أبداً أن تتدخل بقوة لتصحيح هذا المسار الخطير ووضع الاهتمام الإعلامي والشعبي على المسار الصحيح لفائدة السوريين جميع حكومة وشعباً. كيف لنا أن نجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى سوريا إذا كنا نقدم لوسائل الإعلام الداخلية والخارجية أسوأ ما لدينا من دمامل داخلية؟

مرة أخرى: قبل فوات الأوان: استغلوا العرس الإعلامي السوري بما ينفع سوريا قبل أن تنحسر الأضواء الإعلامية عنكم وتترككم غارقين فيما يشبه معارك داحس والغبراء السورية.

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

—————————–

==========================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 15 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

—————————-

أوضاع المسرَّحين من المدنيّين والعسكريين في الساحل السوري بعد سقوط النظام/ طلال المصطفى و منير شحود و سامر عيسى

نشر في 13 حزيران/يونيو ,2025

ملخص التقرير:

يركّز التقرير على تحليل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لقضية تسريح العاملين (المدنيين والعسكريين)، ويُظهر آثار ذلك الأمر في اتساع رقعة الفقر، وصعوبة تأمين البدائل، ومستوى الاستجابة الحكومية والمجتمعية، ويعرض تصوراتِ المعنيّين عن المستقبل، وأثر هذه المتغيرات في استقرار الساحل السوري.

اعتمد التقرير على منهج وصفي تحليلي، باستخدام مزيج من الأدوات الكميّة والنوعية، حيث اعتمد التقرير على جمع استبانات ميدانية تضمّنت إجابات عيّنة من المسرّحين المدنيين والعسكريين من مناطق متعددة في الساحل السوري، وعلى إجراء مقابلات معمقة مع مجموعة مختارة من المسرّحين ومع خبراء اقتصاديين واجتماعيين. وجُمعَت البيانات في شهرَي آذار ونيسان من عام 2025، وبلغ عدد أفراد العينة 232 شخصًا، وكانت هناك بعض الصعوبات في اختيار أفراد العينة، بسبب الظروف الأمنية.

توصّل التقرير إلى أن لفقدان الوظيفة (التسريح) أثرًا كبيرًا على الأوضاع الاقتصادية، حيث أشار 71% من المسرّحين إلى عدم توفر فرص عمل، ما يعكس الأزمة الكبيرة في سوق العمل. وكانت المخاوف الأمنية والنفسية واضحة، إذ أعرب العديد عن القلق من الملاحقة القانونية والخوف من الانتقام. وفي الوقت نفسه، أدّى غياب البرامج الحكومية المعنية بتقديم الدعم أو إعادة التأهيل إلى تدهور الأوضاع المعيشية.

أما الآثار الاجتماعية، فتمثلت بتراجع التواصل مع الزملاء والأصدقاء لدى المسرّحين، وكان للبعد الطائفي دور مؤثر في النظرة الاجتماعية تجاه المسرَّحين، حيث شعر بعضهم بوجود تمييز في المعاملة، بسبب انتماءاتهم الطائفية.

أما على صعيد الآثار النفسية، فقد شعر معظم المسرّحين بتدهور حالتهم النفسية، وبارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، بسبب فقدان مصدر الدخل والأمن المهني.

على صعيد الاستجابة الحكومية والمجتمعية، أشار أغلبيّة المسرّحين إلى أن استجابة الحكومة كانت غير كافية أو معدومة، بسبب غياب برامج إعادة التأهيل أو غياب الدعم الحقيقي. وكانت استجابة المنظمات غير الحكومية أيضًا غير فعّالة، ما يعكس ضعف الدعم المقدَّم.

وعلى صعيد التحديات المستقبلية، أكّد أغلب المسرّحين أنهم يواجهون أزمة مالية حادة، ويبحثون عن مصادر دخل بديلة، وأن نسبة كبيرة منهم تعتمد على شبكات الدعم العائلية، أو على بيع الممتلكات الشخصية.

واستنادًا إلى النتائج السابقة، توصل التقرير إلى مجموعة من التوصيات الإجرائية:

    إعادة هيكلة القطاع العام بما يضمن عدم تكرار أخطاء التسريح العشوائي.

    إعادة المسرّحين، خاصة المدنيين، إلى وظائفهم السابقة، بانتظار عملية هيكلة توفر الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والتعويض على المتضررين.

    تقديم برامج دعم مادي سريعة ومباشرة، لتخفيف الآثار الاقتصادية المعيشية على المسرّحين.

    استحداث برامج إعادة تأهيل مهنية، لتمكين المسرّحين من العودة إلى سوق العمل.

    تعزيز العدالة الانتقالية، لتخفيف الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عن التسريح.

    تطوير برامج إغاثية مستدامة عبر المنظمات الحكومية وغير الحكومية، لدعم المسرّحين في مسار إعادة الاندماج.

تحميل الموضوع

مركز حرمون

—————————————-

علويون سوريون في أوروبا: إشكالية التمثيل ونيل الاعتراف!/ مصطفى الدباس

14.06.2025

لا تزال التجمعات السورية العلوية في المهجر تمر في طور التشكّل، وتفتح نقاشاً غير مسبوق حول مستقبل الطائفة العلوية في سوريا ما بعد الأسد، ومدى قدرتها على لعب دور فاعل ومستقلّ ضمن دولة مدنية تعدّدية، ويبقى التحدّي الأكبر هو الحفاظ على هذا الحراك بعيداً من الاستقطابات السياسية، وبناء جسور حقيقية بين الداخل والمهجر، تضع حقوق الإنسان والعدالة والمساءلة في صلب أولوياتها، لا الاصطفافات الطائفية، أو الولاءات العابرة للحدود.

منذ سقوط نظام بشّار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت ملامح خريطة جديدة تتشكّل داخل الجاليات السورية في المهجر، لا سيّما في ما يخصّ الطائفة العلوية التي ظلّت لعقود رهينة التماهي القسري مع النظام الذي كرّس ارتباطها به، أو متّهمة من باقي الشرائح السورية بالإفادة من سطوته.

بدأت أصوات جديدة تخرج من الظلّ، معلنةً ولادة كيانات وتنظيمات تمثّل العلويين خارج عباءة السلطة، وتسعى لتأطير حضورهم السياسي والاجتماعي والحقوقي على أسس جديدة أكثر استقلالية، في الوقت ذاته تحيط بالكثير من هذه التجمّعات والكيانات العديد من الأسئلة، التي تتعلّق بتاريخ بعض أعضائها، وعلاقتهم مع النظام السوري وموقفهم من الثورة السورية.

إشكالية التمثيل

في خطوة تعبّر عن تصاعد الحضور السياسي للعلويين السوريين في دول المهجر، عقد “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” اجتماعاً رسمياً في العاصمة الألمانية برلين، مع عدد من ممثّلي الأحزاب السياسية في البرلمان الألماني (البوندستاغ) في منتصف شهر أيّار/ مايو الماضي، وناقش وفد الاتّحاد خلال اللقاء، أوضاع الطائفة العلوية في سوريا بعد سقوط نظام بشّار الأسد، والانتهاكات التي طالتها في عدد من المناطق، لا سيّما في الساحل السوري.

يأتي هذا التحرّك بعد سلسلة أحداث دموية شهدتها مناطق اللاذقية وطرطوس في مطلع العام 2025، بعد أن شنّت ميليشيات موالية للنظام السابق هجمات على مراكز أمنية تابعة للسلطة الجديدة، أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر الأمن العامّ (لا رقم رسمياً عن عدد القتلى) وردّاً على تلك العمليّات، قامت مجموعات مسلّحة متشدّدة بارتكاب أعمال انتقامية بحقّ مدنيين علويين، راح ضحيّتها 1383 مدنياً بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

تأسّس “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” في برلين في آذار/ مارس 2025، مدفوعاً بالحاجة إلى تمثيل صوت شريحة اجتماعية باتت مهدّدة بالإقصاء والعنف، فقط لارتباطها الطائفي بالنظام السابق، بحسب تعبير مؤسّسيه، وسُجّل الاتّحاد رسمياً كجمعية غير ربحية.

ويؤكّد القائمون على الاتّحاد في بيانات منشورة أن عضويته مفتوحة لكلّ من يؤمن بقيم المساواة وحقوق الإنسان، وليست حكراً على أبناء الطائفة العلوية، كما يمنح بعض الأفراد عضوية شرفية تقديراً لدورهم في دعم الاتّحاد وقضاياه.

وشكّل الاجتماع الذي عُقد في مقرّ البرلمان الألماني محطّة مفصلية في مسار الاتّحاد، قُدّم فيه ملفّ موثّق يتضمّن شهادات ناجين، ووثائق وتقارير صادرة عن جهات حقوقية محلّية ودولية، توثّق الانتهاكات التي تعرّض لها العلويون السوريون خلال السنوات الماضية، لا سيّما بعد انهيار النظام السابق.

وتضمّن الملفّ مطالب واضحة، أبرزها: فتح مسارات لجوء آمنة وخاصّة للعلويين المهدّدين داخل سوريا، نتيجة تصاعد العنف واستمرار غياب الحماية، إضافة إلى منح الطائفة العلوية تمثيلاً سياسياً رسمياً في المهجر، بدعم مباشر من الحكومة الألمانية، بما يضمن إيصال صوتها إلى المحافل الأوروبية والدولية، كما طالب الاتّحاد بتوفير حماية دولية للمدنيين العلويين في مناطق التوتّر داخل سوريا، وضرورة فتح تحقيقات مستقلّة وشفّافة في الجرائم المرتكبة بحقّ أبناء الطائفة.

لا تزال تركيبة “اتّحاد العلويين السوريين في أوروبا” غير واضحة إلى حدّ كبير، إذ لم يُعلن عن أسماء أعضائه أو خلفيّاتهم، باستثناء ناطقته الإعلامية نينا الأمين، التي ظهرت في فيديوهات عدّة عبر وسائل التواصل، تطالب بتحقيقات دولية، وتدعو إلى العدالة للضحايا العلويين. غير أن خطابها أثار موجة من الانتقادات، إذ اتُّهمت من قِبل بعض الناشطين السوريين بتقديم رواية مبالغ فيها ولا تستند إلى أدلّة موثّقة، خاصّة في ما يتعلّق بادّعاءات تتحدّث عن “الاستعباد الجنسي”، و”سوق النخاسة”، وهي مزاعم لم تُعزّز بأي تقارير أو توثيق مستقلّ.

ورغم طابع الاتّحاد المدني المعلن، طُرحت تساؤلات عديدة حول طبيعته، خاصّة في ظلّ عدم وضوح معايير العضوية أو الجهات الداعمة له، وقد أُشير إلى اشتراكات مالية للمنتسبين، من دون وجود شفافية بشأن أوجه الإنفاق أو مصادر التمويل، ما دفع البعض للتساؤل عن الأجندة الفعلية الكامنة وراء تأسيسه، ومدى استقلاليته عن الاستقطابات السياسية أو الطائفية.

من جهة أخرى، لا يسمّي الاتحاد نفسه كمعارضة سورية، خاصّة في ظلّ عدم وجود أي ماضٍ سياسي للاعضاء البارزين فيه، وقد برز اسم ديما دالية، وهي عضوة في مجلس إدارة الاتّحاد، خلال مشاركتها في “المؤتمر السوري من أجل الديمقراطية”، الذي عُقد في مبنى الكونغرس الأميركي في واشنطن. وتُقيم دالية في كندا حيث وُلدت، مما أثار انتقادات من بعض الأصوات المعارضة، التي رأت في ذلك دليلاً على ضعف الصلة المباشرة لبعض ممثّلي الاتّحاد بالواقع السوري الميداني.

لا نعرف مدى جديّة تعاطي ألمانيا مع الاتّحاد المكوّن جديداً، خصوصاً أن الحكومة الألمانية تسعى لفتح أبواب العودة الطوعية للسوريين الراغبين في العودة إلى بلادهم، وفتح أبواب جديدة للاجئين جدد في ظلّ صعود اليمين .

بعيداً عن اللقاء الذي جمع بين بعض أعضاء الاتّحاد وعدد من البرلمانيين الألمان، لا توجد حتى الآن أي تصريحات رسمية صادرة عن الحكومة الألمانية بشأن الاتّحاد أو أنشطته، وقد تمّ تسجيل “اتحاد العلويين السوريين في أوروبا” كمنظّمة مجتمع مدني، وهو إجراء قانوني معتاد في ألمانيا، ولا يتطلّب موافقة حكومية مسبقة، ومع ذلك، يظلّ ملفّ التمويل مثار تساؤل، إذ لم يُنشر أي توضيح على الموقع الرسمي للاتّحاد حول مصادر الدعم المالي، أو الجهات المموّلة، أو آلية الإنفاق، ما يُثير شكوكاً حول شفافية البنية الإدارية والمالية للكيان الوليد.

ويزداد هذا الغموض تعقيداً في ظلّ تباين واضح بين أهداف الاتّحاد المُعلنة، وسياقات السياسة الألمانية الراهنة، خاصّة في ما يتعلّق بمطلبه بفتح مسارات لجوء “خاصّة وآمنة” للعلويين المهدّدين داخل سوريا. إذ سبق للحكومة الألمانية أن شدّدت في أكثر من مناسبة، على رفضها المطلق لاستقبال أي شخص يُشتبه بانتمائه، أو ولائه للنظام السوري السابق، من ضمنهم أفراد يُشتبه بتورطهم في جرائم حرب، أو انتهاكات جسيمة، وقد أكّدت وزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك في تصريحات متكرّرة، أن “ألمانيا لن تكون ملجأ لجلّادي الأسد”، في إشارة واضحة إلى التزام برلين بملاحقة الجناة بدلاً من توفير حماية محتملة لهم.

كما أن سياسة اللجوء الألمانية شهدت في الأشهر الأخيرة عقب سقوط نظام الأسد، قيوداً مشدّدة على استقبال اللاجئين السوريين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو الدينية، وقد فرضت الحكومة الاتّحادية معايير صارمة للفحص الفردي لكلّ طلب، ما يجعل تحقيق مطالب الاتّحاد بفتح قنوات خاصّة لفئة محدّدة أمراً بالغ التعقيد، خاصّة في ظلّ غياب آلية واضحة للتحقق من عدم تورّط طالبي اللجوء في انتهاكات سابقة، سواء بصفتهم مسؤولين أمنيين، أو كجزء من الأجهزة العسكرية للنظام السوري المنهار.

علويون في فرنسا: هل يحاكَم أحمد الشرع؟

برزت مؤخّراً  في فرنسا عدّة كيانات مدنية – سياسية تدّعي تمثيل الطائفة العلوية، جاءت كردّ فعل على تصاعد العنف الطائفي والمجازر، التي طالت مدنيين من الطائفة في مناطق الساحل السوري بداية العام 2025، وتُظهر هذه التشكيلات بوضوح، توجّهاً مختلفاً عن نظيراتها في ألمانيا، حيث يتّخذ النشاط فيها طابعاً سياسياً أكثر بروزاً، يتعدّى الجانب المجتمعي والحقوقي، إلى حمل مواقف علنية من الحكومة السورية الانتقالية.

أبرز هذه التجمّعات هو التجمّع الفرنسي- العلوي (Collectif Franco-Alawite) تأسّس “التجمّع العلوي في فرنسا” في باريس في بداية العام ٢٠٢٥، ويقدّم نفسه كإطار سياسي ومدني يمثّل صوت العلويين السوريين في أوروبا، ويركّز على توثيق الانتهاكات التي طالت أبناء الطائفة في الداخل السوري، والمطالبة بحمايتهم في المحافل الدولية.

ويُعدّ التجمّع من أوائل الكيانات العلوية التي قامت بخطوات علنية ذات طابع قانوني ضدّ الحكومة السورية الانتقالية، إذ قدّم في نيسان/ أبريل 2025، دعوى قانونية أمام النيابة العامّة في باريس، اتّهم فيها رئيس الحكومة المؤقتة أحمد الشرع وعدداً من وزرائه، بارتكاب “جرائم ضدّ الإنسانية، منها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحقّ المدنيين العلويين”.

نظّم التجمّع وقفة احتجاجية خلال زيارة الشرع باريس، داعياً الحكومة الفرنسية إلى “مقاطعة الوفد السوري الانتقالي وعدم الاعتراف بشرعيته”، ما يعكس البعد السياسي المباشر لنشاط هذا التجمّع، الذي رفض رفع علم الثورة/ علم سوريا الجديد، بوصفه “علم الانتداب”، كما حضر في المظاهرة شخصيّات إشكالية بعضها محسوب على السفارة السورية في باريس، والبعض الآخر معروف علناً بموقفه المؤيّد لنظام بشّار الأسد.

أثار إعلان “التجمّع الفرنسي – العلوي” عن تقديم دعوى قضائية أمام القضاء الفرنسي، ردود فعل متباينة في أوساط السوريين، لا سيّما المعارضين للنظام السابق، حيث تركّزت الانتقادات على الطابع الطائفي الصريح للتجمّع وهوّيته المعلنة، ما اعتُبر محاولة لإعادة إنتاج الاصطفافات القديمة تحت غطاء قانوني وحقوقي.

وتعدّدت أشكال التشكيك، من التساؤل عن الخلفيّات السياسية والمالية للتجمّع وصلاته المزعومة بشخصيّات مرتبطة بالنظام، إلى تهم بـ”التهويل” والتواطؤ مع المخابرات، وصولاً إلى المقارنة بين هذه الدعوى ودعاوى ضحايا نظام الأسد من مكوّنات أخرى. كما طاولت الحملة شخصيّات بارزة في التجمّع، مثل لينا طبال، بسبب مواقف سياسية سابقة اعتُبرت داعمة للنظام، ما عزّز التصوّرات السلبية حول نوايا التجمّع.

وازدادت موجة الرفض بعد تنظيم وقفة احتجاجية في باريس منتصف آذار/ مارس 2025، شارك فيها الشاعر أدونيس، إذ رآها بعض المعارضين تركّز فقط على ضحايا مدنيين من الساحل من دون الإشارة إلى اعتداءات نفّذتها ميليشيات موالية للنظام. كما أدّى ظهور أحد منظّمي الوقفة، ممن سبق تورّطهم في اعتداءات على معارضين في أوروبا، إلى زيادة الريبة من التجمّع ونشاطه. هذا السياق كلّه عكس خشية شريحة واسعة من السوريين في فرنسا من أن تتحوّل هذه الكيانات إلى أدوات سياسية تستعيد الخطاب الطائفي، الذي شكّل أحد أعمدة النظام السابق، بعيداً من أي مقاربة حقوقية جامعة.

جمعية العلويين في الولايات المتّحدة: رفض رفع العقوبات!

تُعدّ جمعية “العلويين في الولايات المتّحدة” (AAUS) من أبرز الكيانات العلوية، التي اتّخذت موقفاً سياسياً واضحاً تجاه التطوّرات في سوريا بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وتأسّست الجمعية في عام 2025، وتهدف إلى الدفاع عن حقوق الأقلية العلوية السورية وكرامتها، وتعزيز الوعي بمعاناتها، ومكافحة الاضطهاد، ودعم السياسات التي تعزّز العدالة والكرامة الإنسانية.

وأعربت الجمعية عن رفضها “رفع العقوبات الأميركية عن سوريا”، معتبرة أن ذلك “قد يُفقد الولايات المتّحدة ورقة ضغط مهمّة، لضمان حماية الأقليات الدينية والعرقية في البلاد”.

وفي بيان أصدرته، دعت الجمعية إلى “تمديد العقوبات لتشمل الجهات المسؤولة عن الهجمات ضدّ المدنيين العلويين في سوريا”، مشيرة إلى أن “رفع العقوبات قد يُفقد الولايات المتّحدة ورقة ضغط مهمّة، لضمان حماية الأقليات الدينية والعرقية في البلاد”، وهو ما أكّدته الناشطة ميساء قباني، المقيمة في أميركا، في أكثر من تصريح إعلامي.

في نيسان/ أبريل 2025، عقدت الجمعية سلسلة من الاجتماعات الرسمية في واشنطن العاصمة، بما في ذلك زيارة مهمّة إلى وزارة الخارجية الأميركية، كما شاركت الجمعية في مؤتمر الديمقراطية السورية الأميركية الذي عُقد في مبنى الكونغرس الأميركي،  وفي أيّار/ مايو 2025، أُلغي فجأة مؤتمر كانت الجمعية تخطّط لعقده في مبنى الكابيتول هيل في واشنطن، بعد أن أعرب أحد أعضاء الكونغرس عن مخاوفه بشأن الجمعية وقيادتها، مشيراً إلى “صلات مزعومة مع النظام السوري السابق”، لكنّ الجمعية نفت هذه التهم، مؤكّدة أن “المؤتمر انتهى كما هو مخطّط له، وأنه تمّ عقد اجتماعات مع أعضاء الكونغرس في اليوم التالي خارج مبنى الكابيتول”.

– صحافي سوري مقيم في برلين

درج

—————————

========================

وقائع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 15 حزيران 2025

متابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

————————–

 تكتيكات الولايات المتحدة في التعامل مع الكُرد/ مهند الكاطع

2025.06.15

لطالما شكّل الكُرد، بوصفهم أمة بلا دولة – بلغة الدكتور عبد العزيز المفتي- ، عقدة معقدة في خريطة الشرق الأوسط السياسية، وتاريخياً، لم تكن علاقة الولايات المتحدة بهذه القومية واضحة الحدود أو المبادئ، بل تبدو، في أفضل توصيف، علاقة تكتيكية مرهونة بالظرف لا المبدأ.

تُعد العمليات القتالية المشتركة حجز الزاوية في العلاقة بين واشنطن والقوى الكردية، فخلال ما سُميّ الحرب على “داعش” وُلد تحالف فعلي بين الولايات المتحدة وما يسمى بقوات حماية الشعب YPG التي طلبت منها الولايات المتحدة تغيير اسمها ليصبح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتي ضمت بالإضافة إلى مقاتلين من حزب العمال الكردستاني المدربين، مقاتلين محليين عرب وأكراد سواء متطوعين أو مجندين قسراً. في هذا الإطار، لم تكن العلاقة قائمة على الاعتراف السياسي أو الالتزام الاستراتيجي، بل على الفعالية العسكري الفورية لتنفيذ مهام قتالية “بريّة” نيابة عن التحالف الدولي.

في أطروحته حول السياسة الأميركية تجاه الحركات القومية، يوضح الباحث محمد سالم من جامعة جورج ميسون، أن العلاقة الأميركية مع الكُرد تُبنى غالباً على ثلاثة أدوات أساسية هي : القتال المشترك، والهوية السياسية المقموعة، والثقة الوجدانية ( (Affective Trust، ويفسر ذلك بأن التحالفات الأميركية مع المجموعات القومية، مثل الكُرد، غالباً ما كانت تقوم على الحاجة الأمنية لا الاعتراف السياسي. فالثقة تتكون في ميدان القتال، لكنها نادراً ما تترجم إلى التزامات طويلة الأجل.

الثقة الوجدانية: انطباع صداقة من دون التزام سياسي

غالباً ما تبني الولايات المتحدة لدى  الحلفاء الكُرد انطباعاً بأنهم “شركاء في المصير”، خصوصاً عند مواجهة عدو مشترك كتنظيم داعش. لكنها، حين تعود لمصالحها الجيوسياسية الأشمل، تتراجع عن أي خطاب التزام، تاركة حلفاءها في حالة من الخذلان المتكرر. ظهرت هذه الديناميكية بوضوح عندما انسحبت القوات الأميركية فجأة من أفغانستان، وكذلك من مناطق سيطرة قسد في شمال شرقي سورية عام 2019، ما سمح لتركيا بشن عمليات عسكرية والسيطرة على مناطق جديدة وطرد قسد منها.

التوظيف التكتيكي لهوية مقموعة

الهوية الكردية، التي طالما كانت مقموعة على المستوى الشعبي في ظل أنظمة إقصائية، تُستخدم في السياسة الأميركية كوسيلة لشرعنة التدخل. تُقدَّم القضية الكردية في الخطاب الأمريكي أحياناً كقضية “ديمقراطية” أو “تحرر قومي”، خاصة في أروقة الكونغرس ووسائل الإعلام. لكن هذا التوظيف لا يتجاوز الطابع الرمزي، ولا يُترجم إلى دعم سياسي حقيقي للمطالب التي ينادي بها الكُرد كحق تقرير المصير -الذي لا ينطبق على الأكراد في سورية- أو الاعتراف بالإدارة الذاتية الكردية “روجافا” على مناطق يشكل العرب فيها الغالبية الساحقة. بل يتم في معظم الأحيان كبح هذا الخطاب عندما يتعارض مع مصالح واشنطن مع حلفاء آخرين مثل تركيا، ما يجعل الهوية الكردية أداة نفعية أكثر من كونها قيمة محمية.

سياسات متعددة .. بحسب موضع الكُرد الجغرافي

الولايات المتحدة لا تتعامل مع القضية الكردية كملف موحد، بل تتبع تكتيكات مختلفة تبعاً للبلد الذي ينتمي إليه الكُرد.

في العراق، حافظت واشنطن منذ التسعينيات على علاقة قوية مع أكراد العراق، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. هذا التحالف تعزّز بعد الغزو الأميركي عام 2003 ، لكن واشنطن عارضت الاستفتاء على الاستقلال الذي أعلن عنه مسعود البرزاني عام 2017، ما شكل خيبة أمل كبيرة لدى الكُرد.

في سوريا، تبرز قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها الشريك الميداني الأساسي ضد داعش. وبالرغم من الدعم اللوجستي والميداني الكبير الذي تلقته هذه الميليشيات، إلا أنه ظل خالياً من الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية المعلنة من قبل هذه القوات أكثر من ثلاث مرات على الأقل، وبالتالي العلاقة هنا استمت بأنها “علاقة وظيفية محضة” تماماً كالعلاقة التي استخدم فيها بشار الأسد هذه الميليشيات منذ بداية الثورة، وكالعلاقة التي جمعت بين حافظ الأسد كذلك وهذه المنظومة التي كان لها شكلاً تنظيمياً واحداً حينها (حزب العمال الكردستاني) قبل تسليم عبد الله أوجلان، وبالتالي العلاقة الأميركية كانت محدودة بالتهديد الأمني من دون التزام، وسرعان ما تم تقليصها فعلاً بعد وصول السلطة الجديدة إلى دمشق وتبدل الواقع السياسي في سورية.

في تركيا، وبعكس سورية والعراق، تبقي واشنطن الملف الكردي بعيداً عن الطرح العلني بسبب حساسيات علاقتها مع أنقرة، وتصنّف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية ورغم الاعتراف الضمني بتعقيدات القضية الكردية داخلياً في تركيا، إلا أن الضغوط التركية، وموقع أنقرة في حلف الناتو، يدفعان واشنطن لتجاهل هذا الملف بالكامل تقريباً.

أما أكراد إيران، فحضورهم في الخطاب الأميركي محدود جداً، بالرغم من أن أكراد إيران لديهم تاريخ نضالي طويل، والسبب ربما يعود إلى غياب القدرة العملية على دعمهم من ناحية، وكذلك نظراً لأولويات واشنطن المتعلقة بالملف النووي من ناحية أخرى.

بعد الأسد نهاية الورقة الكردية

مع التحولات المتسارعة في الملف السوري بعد سقوط نظام الأسد وبروز حكومة جديدة في دمشق، بدأت واشنطن بانتهاج سياسات منفتحة على الحكومة الجديدة على المستوى الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، ومن أبرز مؤشرات هذا التحول قرار رفع العقوبات عن سورية، وتعيين مبعوث أميركي خاص، ولقاء ترمب مع الرئيس الشرع، ودفع واشنطن باتجاه الضغط على قسد لتوقيع اتفاق دمج  قسد في مؤسسات الدولة السورية المدنية والعسكرية، وكذلك إعلان نيتها إغلاق معظم القواعد العسكرية باستثناء واحدة في التنف. هذا التوجه يشير إلى أن التحالف المؤقت مع قسد قد انتهى عملياً، وأن مرحلة جديدة بدأت تقوم على العمل مع الدولة المركزية ستصبح هي الأساس في ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب. وهكذا تطوى صفحة العلاقة التكتيكية، وتًعاد صياغة أولوليات أميركا في سوريا من خلال الدولة، لا الميليشيات.

رهانات التكتيك وحدود الثقة

العلاقة بين الولايات المتحدة والكُرد كما وضحنا، لم تكن قصة تحالف استراتيجي بقدر ماهي سلسلة رهانات تكتيكية متبادلة، استفادت فيها واشنطن في السابق من القدرة الكردية في إدارة ميليشيات منظمة وظيفية تستطيع القتال وتنفيذ المصالح الأميركية من دون نقاش، في حين سعت أطراف الإدارة الكرديّة المرتبطة بحزب العمال الكردستاني بالمقابل، لتحويل الدعم المؤقت إلى اعتراف دائم. لكن هذا التوازن غير متكافئ، لذلك لم ينجح، وانكسر عند أول اختبار سياسي جاد.

تكشف هذه الديناميكيات عن منطق القوة في العلاقات الدولية، حيث تُحدد الجغرافيا والمصالح اللحظية شكل التحالفات، لا القيم أو المبادئ. وهكذا، يبقى الكُرد على هامش الاعتراف الدولي الكامل، في انتظار فرصة قد تأتي… أو تُجهض باسم “الاستقرار الإقليمي”.

تلفزيون سوريا

—————————

هل تتوافق مع سياسات دمشق مع القومية الكردية واللامركزية في حقيبة الوفد الكردي/ أمير حقوق

14 حزيران2025

يتجه الحوار بين النسيج الكردي وحكومة دمشق نحو خطوات عملية، قد تفضي إلى تفاهمات على إدارة مشتركة، أو تحديد آليات لضمان حقوق جميع مكونات النسيج، بما يناسب تطلعات الحكومة، وذلك في إطار خطوات ترسخ فكرة الحل السياسي الشامل.

أقر مؤتمر “وحدة الصف الكردي” الذي عُقد في مدينة القامشلي، في 26 من نيسان الماضي، بتشكيل وفد كردي، مهمته التفاوض حول حقوق الشعب الكردي في سوريا ومستقبله.

وقال قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، إن تشكيل “الوفد الكردي الموحد الذي سيتفاوض مع الحكومة السورية بشأن مخرجات مؤتمر “وحدة الصف الكردي”، يأتي في إطار تنفيذ اتفاقه مع الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع.

وأوضح عبدي في تغريدة نشرها عبر حسابة بمنصة “إكس“، في 5 من حزيران، أن “الوفد الكردي الموحد” يؤكد على تثبيت حقوق الشعب الكردي دستوريًا في سوريا موحدة.

القومية الكردية لبّ المناقشة

 التحركات الأخيرة هذه، تطرح عدة تساؤلات حول طبيعة التفاهمات الممكنة بين الأطراف المختلفة، وكيفية المباحثات التي من شأنها الوصول لاتفاق بين المكون الكردي ككل، وبين الحكومة السورية.

مدير المكتب الكردي للدراسات، نواف خليل، قال لعنب بلدي، إن الوفد الكردي سيناقش بُعدين، أولهما البعد العام لشكل الدولة السورية، وهذا البعد يؤسس لسوريا الغد، وسيتضمن حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية ومؤسسات الدولة، بناء على الكفاءات وبغض النظر عن الخلفية الدينية.

أما الثاني فهو البعد الخاص المتعلق بالقومية الكردية، باعتبار أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الحكومة حقه في المواطنة وجميع حقوقه الدستورية، وهذا “لبّ ما سيتم مناقشته”، بحسب خليل.

وقال إن الهدف الوصول إلى مخرجات، أهمها الاعتراف دستوريًا بالقومية الكردية، والحقوق الدستورية للكرد، إذ طالبت الأحزاب الكردية أن تكون سوريا دولة لامركزية ديمقراطية.

معارضة حول اللامركزية

الباحث السياسي حسن النيفي، يرى أن المسافة بعيدة بين ما يطرحه الوفد الكردي، وما تطالب به وتريده حكومة دمشق.

وأوضح لعنب بلدي أن الوفد الكردي يتمسك بمسألة اللامركزية، ورغم أنها غامضة بعض الشيء، ولا أحد يعلم حدودها، فإن المؤشرات تصب حول اللامركزية السياسية، بناء على مخرجات مؤتمر القامشلي، وهذا ما لا تقره حكومة السورية.

واعتبر النيفي أن المفاوضات الحالية لا تلامس صلب الموضوع، وإنما تتشكل لجان، للتأكيد على أن لغة الحوار ما زالت قائمة بين “قسد” والحكومة المركزية.

ويعتقد أنه بالإضافة إلى اللامركزية، أيضًا يوجد خلاف حول اندماج قوات “قسد” بوزارة الدفاع السورية، إذ تريد “قسد” أن تحافظ على قوتها العسكرية ككتلة واحدة، ولا تحبذ الاندماج كأفراد بوزارة الدفاع، وأن تتموضع بمكانها الحالي بالجزيرة السورية، لتحافظ على مكتسباتها، وهذا ما ترفضه الحكومة السورية.

وفدان مكملان لبعضهما

أكد مظلوم عبدي أن الوفد الممثل لشمال شرقي سوريا (وفد الإدارة الذاتية) والوفد الكردي الموحد، مسار متكامل، يجسدان التزام “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بالحوار الوطني كخيار استراتيجي نحو مستقبل يحقق العدالة والمساواة.

وهنا اعتبر الباحث السياسي حسن النيفي، أن وفد “الإدارة الذاتية” يمثل “قسد” حصرًا، أما الوفد الكردي فيمثل جميع مكونات الطيف الكردي، أي الأحزاب الكردية التي اجتمعت في مؤتمر القامشلي.

أما مدير المكتب الكردي للدراسات، نواف خليل، فيعتقد أن الوفد الكردي سيبحث عن وضع أسس دستورية للاعتراف بالقومية الكردية، وما يترتب على ذلك، وذلك ضمن ما ينضوي عليه الاتفاق القائم بين الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، والجنرال مظلوم عبدي.

وكانت الأوساط الكردية، أوضحت أن وفد “الإدارة الذاتية” يضم في صفوفه العرب والكرد والسريان الآشوريين، ومهمته التفاوض حول كل ما يتعلق بـ”الإدارة الذاتية”، أما الوفد الكردي فيضم فقط مكونات النسيج الكردي، ويبحث عن القضايا المتعلقة بالشعب الكردي.

جدية دمشق و”قسد” بالاتفاقية

شهدت العاصمة دمشق، في 1 من حزيران، زيارة لوفد رفيع المستوى يمثل “الإدارة الذاتية”، حيث عقد اجتماعًا مع اللجنة المختصة بإتمام الاتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

وتم خلال الاجتماع التوافق على عدد من الملفات المهمة، أبرزها تشكيل لجان فرعية تخصصية، لمتابعة تنفيذ اتفاق 10 من آذار الماضي، الموقّع بين الرئيس أحمد الشرع، وقائد “قسد” مظلوم عبدي.

الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، قال لعنب بلدي، إن الاجتماعات والحوارات هي استكمال للاتفاقية التي حصلت في 10 من آذار، وهي تعطي مؤشرين مهمين، أولهما جدية لدى “قسد” ودمشق في تطبيق اتفاقية الاندماج، والثاني أن الدول الراعية لهذه الاتفاقية (تركيا والولايات المتحدة الأمريكية)، تدفع بقوة باتجاه استكمال هذه الاتفاقية، ومع نهاية العام الحالي يفترض أن يكون هناك تقدم كبير بهذا المسار.

ويرى أن الاتفاقية الأصلية لم تحدد بوضوح شكل الاندماج، ولا مستقبل الهيكل العسكري لـ”قسد”، ولا مستقبل “الإدارة الذاتية”، بل أوجدت حالة من الضبابية، وهذه الحالة أوجدت حالة لـ”الإدارة الذاتية” من أجل طرح تصورات خاصة.

علوش يتوقع أن تركز الملفات الكبرى على مستقبل الهيكل العسكري لـ”قسد”، ودمجها كأفراد وكتكتل عسكري، ومستقبل “الإدارة الذاتية” الموجودة في شمال شرقي سوريا، وطرح اللامركزية، وتقاسم الموارد الاقتصادية الموجودة بالمنطقة، وأيضًا المسألة لا تقتصر على العلاقة بين “قسد” ودمشق، بل هناك مصالح تركية في المنطقة، وكذلك مستقبل الوجود الأمريكي وملفات محاربة الإرهاب.

لا تفاصيل

أما مدير المكتب الكردي للدراسات، نواف خليل، فيرجح أن العلاقة بين “قسد” وحكومة دمشق قائمة ومستمرة، وبحاجة للتنسيق بين الجانبين، إذ بدأت المحادثات بين الطرفين منذ بدء عملية “ردع العدوان”.

الباحث السياسي حسن النيفي، قال إن اتفاق 10 من آذار هو اتفاق على مبادئ عامة، وهو خالٍ من التفاصيل، وجاء نتيجة دفع دولي وضغوطات دولية وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، لذلك تضمن بنودًا عامة، ولم يتطرق إلى التفاصيل.

عنب بلدي

———————————-

==========================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 15 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

عن أشتباكات صحنايا وجرمانا

————————–

 مَن يجيب على السؤال الإسرائيلي الكبير؟/ عمر قدور

السبت 2025/06/14

ليس خبراً القصفُ الإسرائيلي لمنشآت إيرانية نووية وأخرى عسكرية، واستهداف شخصيات كبرى ذات صلة بالمضمارين. الخبر هو في تفاصيل الضربات الإسرائيلية فجر يوم الجمعة. فليس تفصيلاً على الإطلاق أن تشارك مئتا مقاتلة إسرائيلية في ضربات على أهداف بعيدة جداً عن تل أبيب، ولا هو بالتفصيل العابر استهدافُ شخصيات من الصف الأول بنجاح، أو مشاركة عناصر كوماندوس في الهجوم، أو مشاركة مسيَّرات انتحارية كانت معدّة على الأراضي الإيرانية في انتظار أوامر الإطلاق، بالتزامن مع القصف الذي نفّذته الطائرات المقاتلة من الجو.

حدث مماثل، من حيث اجتماع العناصر الاستخباراتية والعسكرية، كان عندما نفّذت إسرائيل عملية “البيجر”، وما رافقها وتلاها من استهداف لقيادات في حزب الله. وبعيداً عن المكابرة، يمكن الجزم بأن الحزب لم يعد تلك القوة المرهوبة داخلياً، أو حتى خارجياً بوصفه درّة التاج الإيراني، وبوصف صواريخه أداةً تردع تل أبيب عن استهداف طهران.

وكما هو معلوم، بدأ الأمر كله بعملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حماس في السابع من أكتوبر 2023، ولم يكن أقوى المتشائمين بصيرةً ليتوقع عدم انتهاء الرد الإسرائيلي بعد ما يزيد عن عشرين شهراً. في الأصل، أتى الرد الإسرائيلي غير متناسب إطلاقاً مع عملية حماس، ومن الواضح أن مراميه أبعد بكثير من مجرد الرد، أو من مجرد استئصال قدرات حماس بأكملها. نحن نعجز حتى عن وصف الجحيم الذي عاشه فلسطينيو غزة خلال هذه الفترة، وحتى تمنّي نجاتهم بأي ثمن لا يبدو متاحاً، ولا يُعرف تحديداً الـ(أي ثمن) الذي تقبل به تل أبيب.

على مستوى متدنٍّ، قصفت الطائرات الإسرائيلية هدفاً في الضاحية الجنوبية قبل أيام قليلة، وهي ليست المرة الأولى التي تقصف فيها، مخترقةً وقف إطلاق النار المعلن بينها وبين الحزب. في غزة، حالةُ مدّ وجزر العمليات العسكرية مستمرة، وقد شهدت الأيام الأخيرة أيضاً تصعيداً إضافياً، إلا أن الوصف الأخير فقد دلالته اللغوية لكثرة ما استُخدِم، فلم نعد نعرف ما هو التصعيد الاعتيادي ليُعرَف الإضافي. في سوريا، توغّلت القوات الإسرائيلية مسافة إضافية في الأيام الأخيرة، وأخبار التوغّل صارت معتادة، ويجوز القول إن تل أبيب فرضت حدوداً جديدة لتواجد قواتها منذ سيطرت على المنطقة المنزوعة السلاح في الجانب السوري، بموجب اتفاقية الهدنة لعام 1974، ولم تكترث بالإشارات الإيجابية تجاهها الآتية من دمشق.

في واحد من جوانبها، غير الأساسية أو المقصودة بذاتها، يمكن اعتبار العملية الإسرائيلية الأخيرة رسالة للعديد من الدول في الإقليم، مفادها طول الذراع العسكرية الإسرائيلية عند اللزوم. هذا قد يكون له آثار على العديد من الملفات الإقليمية. ومنذ مدة تسرّبت أخبار عن تراجع أنقرة عن إقامة قواعد عسكرية في سوريا، بعد قصف إسرائيل المواقع المفترضة لإقامتها، قبل الشروع في ذلك.

الضربات الإسرائيلية لطهران وحلفائها مبعثُ فرح للمتضررين من المشروع الإيراني في المنطقة، وفي مقدمهم أولياء الضحايا الذين قتلتهم الميليشيات الإيرانية في سوريا، وهناك في القائمة ذاتها متضررين في اليمن وغيره. وكان ثمة قناعة رائجة من قبل، مفادها أن النفوذ الإيراني يتضخم بلا ممانعة إسرائيلية، وأن تل أبيب قادرة على الإجهاز عليه عندما تحين لحظة المواجهة. لكن، رغم هذه القناعة، لم يكن متوقَّعاً حدوث ذلك بالسهولة التي حدث بها في سوريا ولبنان، حيث يفترض أن النفوذ الإيراني فيهما هو خط التماس بين الجانبين.

أيضاً، كانت هناك فرضية رائجة، خصوصاً مع وجود الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض، فحواها المقايضة بين البرنامج النووي والنفوذ الإقليمي، بحيث تكسب طهران في الثاني بمقدار تنازلاتها في الأول. وظهر خلال حكم بايدن أن طهران تسعى إلى تقويض المساومة التي كانت أيام أوباما، وكسب النووي والنفوذ الإقليمي معاً. الضربات الإسرائيلية الأخيرة تقول بوضوح أن على طهران القبول مرغمة بخسارة الاثنين. والانصياع الإيراني، إذا حدث، سيكون إعلاناً مدوّياً عن فشل حكم الملالي في مضمارين استثمر فيهما على مختلف الأصعدة، ويكفي منها ما أهدره من ثروات طائلة انتُزعت من لقمة عيش الإيرانيين.

ما حدث من ارتدادات بعد “طوفان الأقصى” أكبر بكثير من ربطه بالعملية ذاتها، وإن تسببت به. فإعلان العصر الإسرائيلي يمكن ردّه إلى ربع قرن مضى، تغيّرت خلاله إلى حد كبير نغمة الخطاب الإسرائيلي الموجَّه للمنطقة، وتوارت فيه الدعوات إلى السلام. نشير تحديداً إلى تخلّي النخبة السياسية بأكملها عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وتبنّيها مبدأ “السلام مقابل السلام”، وحتى الثاني منهما من المرجّح أنه صار مصحوباً بشروط من جهة تل أبيب، أو غير مرغوب فيه.

نتوقع أن تكون القوة العسكرية الإسرائيلية قد تطورت منذ ربع قرن إلى مستوى أثّر على التوجهات السياسية للنخبة، فلم يعد لديها من حافز للتخلي عن بعض الأرض مقابل السلام. ما تشير إليه عمليتا البيجر ثم عملية فجر يوم الجمعة هو وجود هوة تكنولوجية شاسعة، ليست ابنة اليوم، ولا يُستبعد ازديادها عمقاً واتساعاً كل يوم مع المزيد من التطور التقني والمعلوماتي. فداحة اختلال التوازن التقني بين إسرائيل والجوار لا تتوقف عنده فحسب، بل تمتد إلى آثاره على مجمل السياسات الإسرائيلية التي نرى مؤشرات على دخولها طوراً جديداً.

مثلاً، قد لا تمانع تل أبيب بقاء الحزب في لبنان، ضمن مستوى لا يهددها، ويُبقي لها ذريعة لإبقاء لبنان في حالة من عدم الاستقرار. ورغم “الإيجابية” التي تبديها السلطة الجديدة في دمشق، مدعومة بجمهورها الذي صار يدعو إلى السلام، فلا يظهر في المدى المنظور أي دافع لدى تل أبيب لإبرام صفقة سلام، بينما تستطيع إبقاء الجار الجديد تحت الضغط، وإبقاء سوريا في حالة من عدم الاستقرار. في المثالين اللبناني والسوري، تستطيع القوة العسكرية الإسرائيلية، بثمن بخس، أن تعيق أي مشروع للتنمية والانتعاش الاقتصادي المستدام.

بالطبع، ليست إسرائيل كلية القوة، لكن الحديث التقليدي عن نقاط ضعفها لم تثبت صحته أيضاً. والحديث السوري عن السلام كأنه ذهاب إلى حيث كانت إسرائيل قبل ربع قرن، وربما كذلك هو حال بلدان الجوار جميعاً التي يفكّر أبناؤها في الانكفاء عن الشأن الفلسطيني، إلا أن الانكفاء لا يضمن حقاً البقاء خارج دائرة السؤال الإسرائيلي الكبير، والذي يطرح تحديات عديدة لا تتعلق بالعجز عن المقاومة، بل وبإفلاس مشاريع السلام كلها، وبعدم القدرة على اقتراح مشروع سلام مقبول إسرائيلياً.

لقد عاشت المنطقة من قبل لعقود حالة اللاسلم واللاحرب، ليس هذا ما يُخشى منه حالياً؛ الخشية هي من حالةٍ دون الاثنين تتحكم بها تل أبيب، وتتحكم تالياً بتفاصيل لم تكن تمسك بمفاتيحها من قبل. قد تجيب طهران يوم الأحد المقبل على الاختبار النووي بما يجنبها جولة جديدة من القصف الإسرائيلي. أما السؤال الإسرائيلي المطروح على دول الجوار فهو مديد ومعقّد، والإجابات السهلة البسيطة لا تصلح، إن كانت لها صلاحية فيما مضى.

المدن

—————————

سوريا الجديدة: سماء مفتوحة لإسرائيل

تستغلّ إسرائيل هشاشة سوريا وتحوّل أجواءها إلى ميدان دعم لعملياتها ضد إيران، وسط صمت رسمي سوري وانفتاح على تل أبيب ومعاداة لطهران.

السبت 14 حزيران 2025

طائرة إسرائيلية تتزوّد بالوقود في سماء سوريا؛ هذا المشهد التقطه ناشطون خلال العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على إيران، والذي تستثمر فيه تل أبيب نفوذها في سوريا، الهشّة المخلوعة الأنياب، لضمان أمنها، وزيادة تحصين مواقعها. وقبيل الهجوم الإسرائيلي على إيران، حلّقت طائرات إسرائيلية حربية فوق سوريا، مستغلّة عدم امتلاك البلاد جيشاً قادراً على حماية سمائه، وعدم امتلاك قدرات عسكرية دفاعية، بعد أن دمّرت إسرائيل معظم القدرات السورية بعيد سقوط نظام بشار الأسد، واستثمرت الموقف الذي تتّخذه الإدارة الجديدة الساعية لعقد اتفاق معها، في تحويل سوريا إلى أحد خطوط «الدفاع».

على أنه خلال الهجمات الإسرائيلية السابقة، وما تبعها من ردّ إيراني، لم تخترق الطائرات الإسرائيلية السماء السوريّة، فيما تجنّبت إيران إقحام سوريا، حليفتها الوثيقة حينها، في معاركها مع إسرائيل، الأمر الذي حوّل الصراع البعيد المدى، آنذاك، إلى مسارات غير مباشرة، اضطرّت خلالها إسرائيل إلى سلك طرق جوية معقّدة. كذلك، اعتمدت إيران على المسارات نفسها، لكنّ هذه النقطة تغيّرت في الوقت الحالي، الأمر الذي يضع سوريا في قلب المعركة.

وفي وقت لم تعلن فيه، صباح أمس، عن بدء أي رد على الهجمات الإسرائيلية، أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية إسقاط نحو 100 طائرة مُسيّرة، قالت إنها إيرانية، في حين شهدت بعض المناطق السورية سقوط أجسام حربية، تسبّبت بعضها باندلاع حرائق، في ريف درعا.

وبينما ذكرت «وكالة الأنباء السورية» (سانا) أن صاروخين إيرانيين سقطا في درعا أثناء عبورهما إلى الأراضي المحتلة، في ما يبدو أنه عملية تصدٍّ إسرائيلية، تجلّي امتلاك تل أبيب نفوذاً عسكرياً كبيراً في سوريا، خصوصاً في قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، التي تعتبرها أحد أبرز الحصون المتقدّمة للدفاع عنها، نفت مصادر ميدانية صحّة هذه المعلومات. وأكّدت المصادر، في حديثها إلى «الأخبار» أن الأجسام التي سقطت عبارة عن خزانات وقود إسرائيلية، موضحة أن «الخزانات سقطت في محيط مدينة الصنمين وفي أحد أحياء مدينة إنخل في ريف درعا الشمالي. كما سُجّل سقوط جسم حربي غير معروف في الأراضي الزراعية المحيطة بمدينة إنخل، من دون تسجيل أي أضرار.

وتسبّب الانتهاك الإسرائيلي للأجواء السورية، والذي تحوّلت سوريا معه إلى أحد ميادين المعركة، بتوقف حركة الطيران، وإعلان سلطات الطيران وقف جميع الرحلات الجوية في الوقت الحالي، من دون تحديد موعد واضح لعودتها. غير أنه لم تصدر عن السلطات السورية الانتقالية أي ردود أفعال أو تصريحات حول العدوان الإسرائيلي، كما لم يصدر عنها أي تعليق على انتهاك إسرائيل الأجواء السورية، والمخاطر الكبيرة لاستعمال سوريا في العمليات العسكرية الإسرائيلية، الأمر الذي يتّسق مع توجهات السلطات الجديدة للانفتاح على تل أبيب، ويتوافق، في الوقت نفسه، مع موقفها المعادي لإيران.

ومع بدء الرد الإيراني، مساء أمس، شهدت السماء السورية انفجارات عديدة في إطار محاولة إسرائيل استهداف الصواريخ الإيرانية في سوريا، قبل وصولها إلى الأراضي المحتلة. وجاء ذلك وسط تحذيرات شعبية من خطورة التواجد في أماكن مفتوحة، في ظل احتمالية سقوط مقذوفات جراء المعارك الجوية الجارية.

——————————-

 الهجوم الإسرائيلي على إيران: لماذا الآن؟/ إياد الجعفري

الأحد 2025/06/15

على مدار ثلاثة عقود، نشأ جيل كامل من سكان المنطقة، في أجواء سردية إسرائيلية تتحدث عن خطر نووي إيراني آتٍ، وعن نيّة إسرائيل تدميره قبل أن يصبح واقعاً. سردية، طال انتظار تحققها، حتى غلب الظن أنها مجرد بروباغندا، وما عاد أحد يعتقد باحتمال وقوعها، حتى حدث ذلك، بالفعل، ليل 14 حزيران الجاري. فما سرّ هذا التوقيت الذي أنهى انتظار ثلاثة عقود؟

تقول الرواية الرسمية الإسرائيلية إن برنامج الأسلحة الإيراني اقترب من نقطة اللاعودة. وأصبحت القنبلة النووية الإيرانية قاب قوسين أو أدنى، من الوجود. تخالف هذه الرواية شهادة أدلت بها مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، تولسي غابارد، أمام الكونغرس، في آذار الفائت، قالت فيها إن مجتمع الاستخبارات الأميركي لا يزال يعتقد أن إيران لا تُصنّع سلاحاً نووياً، في الوقت الحالي. من زاوية أخرى، تتعارض الرواية الرسمية الإسرائيلية مع حالة الاسترخاء الأمني الكبيرة التي طبعت تحركات القادة العسكريين الإيرانيين، رغم بروز معطيات تؤشر إلى هجوم إسرائيلي وشيك، قرأه القادة الإيرانيون على أنه مجرد “دعاية إسرائيلية”، لدفعهم إلى تقديم تنازلات في جولة المفاوضات النووية مع أميركا، التي كان من المزمع عقدها في عُمان، يوم الأحد 15 حزيران. لذلك، لم يتخذ هؤلاء القادة أية إجراءات أمنية استثنائية، بل وعقد فريق منهم اجتماعاً طارئاً، أتاح لإسرائيل استهدافهم بصورة جماعية. وهنا نتساءل: لو كانت إيران على مقربة من امتلاك قنبلة نووية بالفعل، أما كان قادتها تعاملوا بجدية أكبر مع المعلومات التي وصلتهم عن هجوم إسرائيلي وشيك!

في كتاب “التحالف الغادر أو الخائن”، للأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، تريتا بارزي، يمكن قراءة لحظة تاريخية شبيهة بالتي نعيشها اليوم، تأسست قبل ثلاثة عقود. فالخبير في السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز -سابقاً- بذل جهداً استثنائياً في محاولة سبر أغوار العلاقة (الإيرانية- الإسرائيلية)، في كتابه الصادر عام 2006، والذي استند فيه إلى حديث مباشر أجراه مع مسؤولين إيرانيين وإسرائيليين وأميركيين، كانوا خلال عقود، مشاركين في صنع السياسة الخارجية لبلادهم، أو على مقربة منها.

إحدى أبرز النقاط التي يشير إليها بارزي، أن التحولات الكبرى في العلاقات الإسرائيلية- الإيرانية كانت نتيجة لتحولات جيوسياسية، وليس أيديولوجية. ويقلل بارزي من أهمية البعد الأيديولوجي للخطاب العدائي بين الدولتين، معتبراً أنه غطاء للسبب العميق في العداوة بينهما. ويحدد بارزي منعطفاً نوعياً تمثّل في هزيمة العراق وتفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991. يقول بارزي: “بعد أن انجلى الغبار دخل الحليفان الاستراتيجيان السابقان (إيران وإسرائيل) في منافسة شرسة على النظام المستقبلي في المنطقة”.

وهنا بدأت حقبة العقود الثلاثة التي أشرنا إليها في بداية مقالنا. في بداية هذه الحقبة (منتصف التسعينات)، استأنفت إيران برنامجها النووي الذي يعود إلى عهد حكم الشاه. لكن مجتمع الاستخبارات الأميركي كان يرى أن امتلاك إيران لقدرة تصنيع سلاح نووي لن تتحقق قبل العام 2015. في ذلك الحين كان لدى مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي تقييم علني مختلف، بات أشبه باستراتيجية. إذ عمد الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي إلى تضخيم القدرات النووية الإيرانية، حتى أن خبيراً سابقاً في ذلك الجهاز قال لمؤلف كتاب “التحالف الغادر”: “تذكر، لا يزال يفصل الإيرانيين عن امتلاك قنبلة بين خمس وسبع سنوات. سينقضي الوقت، وسيظل يفصلهم عن امتلاك القنبلة خمس إلى سبع سنوات”. كان ذلك تعليق ساخر من جانب الخبير الإسرائيلي حيال استراتيجية تل أبيب في تضخيم الخطر النووي الإيراني. لكن لماذا انطلقت شرارة هذه العداوة بين طهران وتل أبيب في تلك الحقبة تحديداً: مطلع ومنتصف التسعينات؟

تجيب مصادر بارزي أن إيران قرأت في مسار السلام الذي رعته أميركا بين العرب والإسرائيليين حينها، تهديداً بعزلها إقليمياً، وذلك بعد أن تم تجاهل دورها تماماً في مسار السلام هذا. ولطالما كان الهم الإيراني منصباً على اقتناص اعتراف أميركي بإيران، كقوة إقليمية يحق لها المشاركة في صنع التوازنات في شرق المتوسط والخليج. وهو ما لم يحدث. إذ تجاهلت واشنطن يومها، أي دور لإيران. فاتجهت الأخيرة لتصعيد دعمها لحزب الله في لبنان، وطوّرت علاقاتها مع حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس. بالمقابل، كانت إسرائيل تشعر بخطر التحول الطارئ على النظام الإقليمي في مطلع التسعينات. فأميركا باتت متواجدة بصورة عسكرية مباشرة في المنطقة، وأصبحت علاقاتها مع دول عربية بارزة، في أوجها، مما جعل الإسرائيليين يشعرون بالقلق من تراجع الأهمية الاستراتيجية للدولة اليهودية في نظر الأميركيين. إذ لم تعد حليف الغرب الذي يمكن الاعتماد عليه في المياه العكرة لسياسات الشرق الأوسط. بل إن إسرائيل باتت من وجوه عديدة، عبئاً على واشنطن، التي كانت تراهن على قيادة عملية سلام كبرى في الشرق الأوسط، يومها. وفي هكذا أجواء، رأت إسرائيل أن أي خرق في العلاقات الأميركية- الإيرانية، يمكن أن يزيل ما تبقى من أهمية استراتيجية ضئيلة تحتفظ بها إسرائيل. لذلك وجدت ضرورة ملحة في سردية الخطر النووي الإيراني.

يمكن إسقاط كثير من المعادلات التي حكمت تفكير صانع القرار الإسرائيلي، قبل ثلاثة عقود، على ما يحدث اليوم. فخلال الأشهر الثلاثة الفائتة، كان يمكن التقاط مؤشرات كثيرة على التوتر في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، لأسباب عديدة، منها الاستياء الأميركي جراء التعنت الإسرائيلي في إنهاء الحرب بغزة، والاستياء الإسرائيلي جراء وقف الضربات الأميركية ضد الحوثيين خلافاً لرغبة تل أبيب. ومن ثم جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دول الخليج، الشهر الفائت، والتي كشفت عن تطور لافت في العلاقات الأميركية – العربية – التركية، كان في القلب منها، تبني ترامب لموقف الخليج وتركيا من إدارة الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، ورفع العقوبات عن سوريا، خلافاً لرغبة إسرائيل. بالتزامن، كان عقد جولات متتالية من المفاوضات الأميركية مع إيران، مصدر قلق إسرائيلي أيضاً. كل ما سبق، جعل إسرائيل تدرك الحاجة الملحة لإعادة تثقيل قوتها العسكرية والاستخباراتية في نظر الأميركيين، بوصفها القوة الإقليمية الواجب على واشنطن، استمرار المراهنة عليها. فكانت الضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة لإيران.

تستهدف هذه الضربات، على الأرجح، دفع إيران إلى تقديم تنازلات قاسية على طاولة المفاوضات مع الأميركيين. وهو ما يحقق قيمة نوعية للإسرائيلي من أكثر من زاوية. أبرزها، استعادة دوره كلاعب إقليمي لا يمكن لواشنطن تجاهله في ترتيباتها مع حلفائها الجدد بالمنطقة. وفيما استطاعت دول خليجية، تعزيز وزنها لدى صانع القرار الأميركي باستخدام القوة الناعمة والمال، تعمل إسرائيل على تحقيق ذلك، بقوة السلاح والاستخبارات. وهي الأدوات التي ستواصل تل أبيب استخدامها في الفترة المقبلة، لفرض دورها كشريك في أي ترتيبات بالمنطقة، شريطة أن تنجح مساعيها في تحقيق الأهداف المنتظرة من حربها الراهنة ضد إيران.

المدن

————————-

 إعلام ما بعد الأسد: إسرائيل تقصف وإيران ترد…وسوريا تصمت/ مصطفى الدباس

السبت 2025/06/14

منذ عودة التوتر الإقليمي إلى واجهته الأكثر عنفاً مع تبادل القصف بين إسرائيل وإيران، بدا أن سوريا لم تكن ساحة للرد فحسب، بل ساحة لتبدلات أعمق في اللغة والموقف الإعلامي، بعد شهور قليلة فقط من سقوط النظام السوري المخلوع.

واللافت في تغطية وسائل الإعلام السورية الرسمية وشبه الرسمية، ليس فقط غياب الموقف الرسمي من الأحداث، بل التغير الجذري في الخطاب المستخدم، بما يكشف عن تصدعات في المحور التقليدي، وتحولات جذرية في التموضع السياسي للدولة السورية الجديدة.

نجاح إسرائيلي

وقدمت قناة “الإخبارية السورية” الحدث بوصفه نجاحاً إسرائيلياً في تحجيم الرد الإيراني، واستضافت محللين تحدثوا عن ضعف الرد الإيراني، واستعراضيته، وكونه جاء في سياق عزلة متنامية تعيشها طهران وموسكو على الساحة الدولية.

ولم تكتف القناة بعدم التنديد بالقصف الإسرائيلي، بل نقلت حرفياً أخباراً من الإعلام العبري تصب في هذا الاتجاه، وقدّمتها كوقائع نهائية.

واستندت التغطية السورية للحدث بشكل لافت إلى ما تنقله وسائل الإعلام الإسرائيلية، سواء في تقييم “ضعف الرد الإيراني”، أو في إظهار دقة الضربات الإسرائيلية وفعاليتها. حيث تم اقتباس تقارير من “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت” و”القناة 12″، من دون محاولة لتقديم رواية محايدة أو تحليل مستقل.

في المقابل، ركزت التغطية على عرض صور وتقارير عن الدمار داخل إيران، متجنبة بشكل تام الحديث عن الخسائر الإسرائيلية أو أي أثر ملموس للهجمات الإيرانية، ما يعكس موقفاً في السرد الإعلامي، وتوظيفاً للحرب كمادة سياسية داخلية، أكثر من كونها حدثاً إقليمياً يستوجب مهنية أو توازناً.

الردّ الإيراني لم يحدث!

ولم تنتشر وكالة “سانا” الرسمية أي خبر أو بيان أو تعليق حول القصف الإسرائيلي ولا الرد الإيراني في صفحاتها الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنه لم يحدث، حيث بقيت تركز على الأوضاع الداخلية في سوريا. هذا الغياب الممنهج يعكس خطاً تحريرياً يتجنب الدخول في أي مواجهة رمزية مع تل أبيب، أو حتى التلميح إلى إدانة الخروق المتكررة للمجال الجوي السوري.

“الجيش الإسرائيلي” أم “الاحتلال الإسرائيلي”؟

في نشرات قناة الإخبارية ومنشوراتها، برز أيضاً غياب سياسة تحريرية واضحة في توصيف الطرف الإسرائيلي. فتارة يُستخدم مصطلح “الجيش الإسرائيلي”، وتارة أخرى “الاحتلال الإسرائيلي”، من دون التزام بمفردات محددة تعكس موقفاً سياسياً متماسكاً، ما يكشف إرباكاً في خطاب الدولة الجديدة التي تحاول الخروج من عباءة الخطاب العقائدي السابق، دون أن تملك بعد خطاباً وطنياً بديلاً.

صواريخ داخل سوريا

رغم سقوط شظايا ومخلّفات لصواريخ الرد المتبادل داخل الأراضي السورية، لم يصدر أي تنديد أو اعتراض رسمي من وزارة الدفاع أو الخارجية السورية. كما لم يُذكر الأمر في وسائل الإعلام الرسمية، وكأن سقوط المقذوفات داخل البلاد لم يعد مدعاة للرد أو حتى الإدانة، ما يعكس تغيراً واضحاً في تعريف السيادة، وإعادة ضبط للخطوط الحمر.

من تصدير الثورة إلى تصفية الحليف

صحيفة “الثورة”، الناطقة باسم السلطة، اختارت زاوية مغايرة، واعتبرت أن مشروع إيران في المنطقة تلقى أولى ضرباته الحقيقية في سوريا، منذ سقوط نظام الأسد، وأن ما يجري الآن من تصعيد هو استكمال لمسار بدأه “الثوار” ضد النفوذ الإيراني. وهو خطاب جديد كلياً، لم يكن من الممكن تصوره في ظل النظام السابق الذي ربط مصيره بتحالفه الاستراتيجي مع طهران.

إغلاق الأجواء: رسالة بلا توقيع

في موازاة ذلك، أشارت وسائل الإعلام إلى إغلاق المجال الجوي السوري مؤقتاً أمام حركة الطيران، وهو ما قُدّم بوصفه “رسالة أمنية واضحة” بأن الأراضي السورية لن تُستخدم في أي عملية هجومية ضد إسرائيل أو غيرها. وجاء ذلك متسقاً مع تصريح سابق لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أكد فيه أن “سوريا لن تشكل أي تهديد لدول الجوار”، في سياق بدا أقرب إلى خطاب تطمين إقليمي.

خارج المعركة… أم خارج المعادلة؟

ربما المؤشر الأهم في هذا التحول، هو غياب أي صوت دفاعي عن إيران في الإعلام السوري. لا تحليلات، لا تصريحات، لا محاولة للتوازن في السرد، بل على العكس، بدا الحدث فرصة لتصفية الحساب مع حليف النظام السابق، وإعادة تعريف الصراع على الأرض السورية باعتباره مسؤولية إيران وحدها، لا علاقة لسوريا الجديدة به.

المدن

—————————–

 هجوم إسرائيل على إيران.. اغتيالات دقيقة وارتدادات خليجية وسورية/ محمد فواز

2025.06.15

استفاق العالم يوم الجمعة على وقع ضربات إسرائيلية مركّزة وغير مسبوقة في العمق الإيراني، حملت رسائل استراتيجية وأمنية من العيار الثقيل. فقد استهدفت الضربات عددًا من القيادات العليا في الحرس الثوري الإيراني، كان أبرزهم اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى اللواء غلام علي رشيد، قائد مقر “خاتم الأنبياء”، ضمن سلسلة هجمات نُفذت بدقة عالية.

استفاق العالم يوم الجمعة على وقع ضربات إسرائيلية مركّزة وغير مسبوقة في العمق الإيراني، حملت رسائل استراتيجية وأمنية من العيار الثقيل. فقد استهدفت الضربات عددًا من القيادات العليا في الحرس الثوري الإيراني، كان أبرزهم اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى اللواء غلام علي رشيد، قائد مقر “خاتم الأنبياء”، ضمن سلسلة هجمات نُفذت بدقة عالية.

كما طالت الضربات علماء بارزين في البرنامج النووي الإيراني، من بينهم محمد مهدي طهرانجي وأحمد رضا ذو الفقاري. أما الذراع الثالث لهذه الضربة فكان استهداف المنشآت النووية الاستراتيجية، وعلى رأسها منشأة نطنز، التي تُعد من أهم أعمدة البنية التحتية النووية الإيرانية. وقد نُفذت العملية عبر تنسيق استخباري محكم بين الجيش الإسرائيلي والموساد، من خارج وداخل إيران، بخيوط وتفاصيل قد لا تُكتشف إلا مع مرور الوقت.

صحيح أن الضربة في إيران ولكنها أثارت ضجة في العالم كله. ففي عالم مترابط كما نعيشه اليوم، انكبّت كل دولة وكيان نحو مراجعة حساباته، تأثرًا وتأثيرًا بما حدث، وما قد يحدث، في هذا الفصل المتصاعد من الحرب بين إيران وإسرائيل.

الولايات المتحدة، من جهتها، ترى في هذه الضربة فرصة سانحة لفرض اتفاق حاسم على إيران، تتخلى فيه عن مشروعها النووي ونفوذها مقابل الحفاظ على النظام، بعد أن كانت قد رفضت ذلك في السابق. لكن نجاح إسرائيل في تحقيق كامل مساعيها مع إيران، في حال حصل، قد يدفعها إلى الإفلات من الضبط الأميركي ذاته أو قد يدفع واشنطن إلى إعادة النظر في سياستها الإقليمية لتصبح من خلال المنظور الإسرائيلي حصرا.

بشكل أوضح، هناك خطان يتنازعان في النظرة الأميركية تجاه إسرائيل: الأول يتمثل في محاولة الموازنة بين الحلفاء التقليديين في المنطقة (إسرائيل والدول العربية)، والثاني هو ما تسعى إليه إسرائيل نفسها، أي أن يكون العالم العربي بكامله تحت مظلتها السياسية والأمنية والاقتصادية. وبالتالي، فإن تحقّق كامل أهداف إسرائيل في إيران – وهي أهداف لن تكتمل إلا بإسقاط النظام إذا استمرّ هذا المسار – يدفع بشكل أكبر لتثبيت النظرة الثانية للمنطقة وما يُشكّل تحديا استراتيجيًا على الدول العربية قاطبةً، وعلى تركيا أيضًا.

لهذا السبب، سارع عدد من الدول الخليجية إلى إدانة الهجوم الإسرائيلي، في خطوة اعتبرها بعضهم مفاجئة، لكنها تنسجم مع منطق المصالح الخليجية العامة. فالخليج يخشى من أن يؤدي انفلات الأمور إلى تداعيات مباشرة عليه، كاستهداف قواعد أميركية على أراضيه، أو تسربات نووية إلى محيطه، أو حتى ضربات إيرانية غير مباشرة عبر مضائق مائية أو في ساحات اشتباك كاليمن. أي تصعيد إيراني، في إطار الرد على الضربة، قد يتجه نحو استهداف المصالح الأميركية أو عرقلة التجارة العالمية، وكلها سيناريوهات تمسّ أمن الخليج بشكل مباشر.

من هذا المنطلق، ينظر الخليج إلى أن توسّع الضربة الإسرائيلية على إيران كخطر، وهو الذي يسعى في هذه المرحلة إلى تعزيز الاستقرار، وتنويع الشراكات الدولية، والتركيز على التنمية الداخلية، وتصفير المشكلات الخارجية.

العين أيضًا على روسيا والصين، باعتبارهما من المتضررين الأساسيين من انفراد الولايات المتحدة بالتحكم بمصير الشرق الأوسط. فهذه المنطقة تمثّل خزان الطاقة العالمي، وعقدة الوصل الجغرافي بين القارات، وتلعب إيران فيها دورًا محوريًا بالنسبة للصين في مشاريع كبرى مثل “الحزام والطريق” أو تزويدها بالطاقة. ومع ذلك، فإن روسيا المنهكة في أوكرانيا وغير الراضية أساسا عن المشروع النووي الإيراني، والصين التي لم تفعّل أدواتها في السياسة العالمية أبعد من الاقتصاد، تظلّان محدودتي التأثير في هذه المرحلة، ما لم يتطوّر المشهد إلى مستويات أكثر خطورة.

تحت هذا الشد العالمي تعيش سوريا اليوم مرحلة انتقالية دقيقة، فقد عانت طويلاً من كمّاشة جيوسياسية وأمنية بين إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. ورغم أن السوريين نجحوا في إقصاء النفوذ الإيراني في الداخل، يعانون اليوم من تأهّب إسرائيل ضاغط على النظام الجديد، مستغلة بذلك حالة الضعف في هذا الظرف الدقيق.

لكن ارتياح إسرائيل من الخطر الإيراني – إذا ما تحقق بالكامل – سيمنحها قدرة أكبر على تحويل تركيزها نحو ملفات أخرى في الإقليم. فقد كانت حتى الآن مضبوطة نسبيًا في سوريا بفعل ضغط سعودي – تركي مشترك، أثمر مع الولايات المتحدة، لكن هذا التوازن قد يتغيّر تحت وطأة الثور الإسرائيلي الهائج. القلق السوري مشروع في هذا السياق، فالتجربة تُثبت أن إسرائيل ما إن تنهي معركة حتى تبدأ أخرى، وفق منطق استباقي توسعي تبنّاه نتنياهو طوال مسيرته السياسية.

وعليه، فإن التحدي أمام سوريا والعالم العربي سيكون في تثبيت العلاقات العربية، وتوحيد التوجّه والموقف – ليس فقط فيما بينهم، بل أيضًا مع تركيا – من أجل الوقوف أمام المشروع الإسرائيلي التوسعي في المنطقة. فالمعركة المقبلة، إذا ما جرى تحييد إيران بالكامل، قد تتمحور حول تفتيت الكيانات، وتحجيم أي نفوذ مستقل خارج العباءة الإسرائيلية – حتى داخل الولايات المتحدة نفسها في نظرتها للشرق الأوسط.

تلفزيون سوريا

———————————–

==========================

الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش تحديث 15 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش

————————–

الشارع بين مرحب بتجنيس من قاتل إلى جانب الثوار وبين قلق على السلم الأهلي والتعايش المشترك/ جانبلات شكاي

15 جزيران 2025

بين مرحب بالإجراء باعتباره يمثل حالة من الوفاء لمن قاتل إلى جانب الثوار، وبين معارض ومنتقد له باعتباره غير قانوني ويفتح الباب أمام الأجانب، فيما يغلق أمام شرائح مختلفة من المجتمع، اجتاحت موجة جدل بين السوريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على خلفية إعلان الولايات المتحدة الأمريكية موافقتها على خطة لدمج آلاف من المقاتلين الأجانب ضمن صفوف الجيش السوري، وسط صمت رسمي، ظهر وكأنه مقصود.

واعتبر رئيس نقابة المحامين في سوريا أحمد دخان في تصريح لـ«القدس العربي» أن «الانتقادات الواسعة تعكس قلقاً شعبياً مشروعاً تجاه مسألة تتعلق بالسيادة الوطنية والأمن القومي»، معتبراً في الوقت ذاته أن الإجراء «يمكن أن يُنظر إليه كخطوة نحو المصالحة الوطنية وتعزيز الوحدة».

ضوء أخضر

وأعلن مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سوريا، توماس باراك، الإثنين الماضي أن الولايات المتحدة وافقت على خطة طرحتها القيادة السورية الجديدة للسماح لآلاف من المقاتلين الأجانب، الذين كانوا في السابق ضمن المعارضة، بالانضمام إلى الجيش الوطني، شريطة أن يتم ذلك بشفافية.

ونقلت وكالة «رويترز» عن باراك قوله ردا على سؤال عما إذا كانت واشنطن وافقت على دمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري الجديد: «أعتقد إن هناك تفاهما وشفافية»، وأضاف أنه من الأفضل إبقاء هؤلاء المقاتلين ضمن مشروع الدولة بدلا من إقصائهم، ووصف كثيرين منهم بأنهم «مخلصون للغاية» للإدارة السورية الجديدة.

كما نقلت الوكالة عن مسؤولين سوريين أن الخطة تنص على انضمام نحو 3500 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور من الصين والدول المجاورة، إلى وحدة مشكّلة حديثاً، وهي الفرقة 84 من الجيش السوري، والتي ستضم سوريين أيضا.

وذكرت «رويترز» أن مصدرين مقرّبين من وزارة الدفاع السورية قالا إن رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع والمقربين منه حاولوا إقناع محاورين غربيين بأن ضم مقاتلين أجانب إلى الجيش سيكون أقل خطورة على الأمن من التخلي عنهم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى الانضمام مجدداً إلى تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية.

وقال الشرع، حسب الوكالة ذاتها، إن المقاتلين الأجانب وأسرهم قد يحصلون على الجنسية السورية لدورهم في محاربة الأسد.

والمقاتلون الإيغور من الصين ووسط آسيا وهم أعضاء في الحزب الإسلامي التركستاني، وقال المسؤول السياسي في الحزب عثمان بوغرا، لـ«رويترز» في بيان مكتوب، إن الجماعة حلّت نفسها رسمياً واندمجت في الجيش السوري، وتعمل حالياً بالكامل تحت سلطة وزارة الدفاع، وتلتزم بالسياسات المتبعة في البلاد، وتحافظ على عدم الارتباط بأي كيانات أو جماعات خارجية.

لا مكان للأقليات

ومع تداول الخبر الذي يؤشر على إغلاق ملف المقاتلين الأجانب في سوريا، شن ناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي حملة ضد ما وصفه البعض بتدخل صارخ في الشأن السوري الداخلي وبما يتناقض مع تصريحات سابقة لباراك ذاته أعلن فيها أن عصر التدخل الغربي بشؤون الآخرين قد انتهى.

وكتب رئيس حركة البناء الوطني أنس جودة عبر صفحته على «فيسبوك» أن تصريح باراك ليس زلة دبلوماسية، بل هو مؤشر خطير على شكل الدولة التي يُراد فرضها على السوريين تحت عنوان «الانتقال» أو «الاستقرار».

وقال أنس إن أي جيش يُبنى على ولاء عقائدي بدلاً من الولاء الوطني، هو جيش ميليشيا وأن الاستقرار القائم على تحالف الأمر الواقع هو قنبلة مؤجلة، لا مشروع لبناء وطن.

بدوره انتقد الكاتب والباحث السوري روجيه أصفر في منشور على صفحته آلية تسريب الخبر، مؤكداً أن دمج هؤلاء رسالة سيئة لنسبة كبيرة من السوريين، مشيراً إلى أنه ليس من حق سلطة منقوصة الشرعية، في دولة تعيش أوضاعاً معقدة وانقسامات عميقة أن تذهب وتأخذ مثل هذا القرار، ثم نسمع به من الخارج، مشدداً على أن سوريا «بلدنا ونحن لسنا غنيمة نصر تتصرفون بها كما تريدون».

الكاتب والصحافي حسن عبد الله الخلف انتقد التدخل الأمريكي وتساءل: ماذا لو قرّرت غداً دعم تجنيس مقاتلي «قسد» الأجانب بالطريقة نفسها؟ والسابقة أصبحت موجودة، والدعم العلني حصل، وإن قيل إن هناك فيتو تركيا، فإنه كان هناك فيتو أمريكي وأوروبي من قبل وتبخر، مشيراً إلى أن التحالفات في سوريا مؤقتة، والخطوط الحمراء تُرسم بقلم رصاص.

وفي الإطار ذاته اعتبر الصحافي هاني هاشم أن حساسية موضوع ضم الإيغور لصفوف الجيش السوري وتجنيسهم منطلقها ليس سياسيا وأمنا قوميا ومصالح دول وتوجسات دول أخرى فقط، وإنما هناك اعتبارات اجتماعية لا يدركها إلا الشعب السوري ككل، باعتبار أن الموضوع يتعلّق بالولاء والانتماء والحس الوطني والاندماج والتماهي مع كل فئات المجتمع السوري وخاصةً المختلفة عن الإيغور أيديولوجياً.

وتابع: لست ضد منح الإيغور الجنسية السورية طالما هناك ضمانات حكومية وضمانات دولية، ولكن أن يتم كيل الموضوع بمكيالين من أجل مصالح ومكاسب سياسية فقط، فهذا الشيء حتماً سيهدد السلم الأهلي والتعايش المشترك.

وتحدث الكاتب والصحافي عبد الله علي عن حلول أخرى يمكن اتخاذها تجاه المقاتلين الأجانب، مشيراً أن من بينها إحالتهم إلى التقاعد مع إعطائهم رواتبهم المستحقة، أو توظيفهم في وزارة الكوارث على سبيل المثال، أو التفاوض مع تركيا حول ضرورة تحملها مسؤولية هؤلاء لدورها في إدخالهم، علماً أن تركيا لم تمنح الإيغور اللاجئين في أراضيها الجنسية التركية، بل تقوم أحياناً باعتقالهم حسب علاقتها مع الصين.

ومن بين الحلول التي قدمها علي، التباحث مع أفغانستان لأخذهم إلى هناك بحيث ينضمون إلى حركتهم الأم، وبنفس الوقت يصبحون أقرب إلى وطنهم الذي تأسسوا لتحريره حسب قولهم، أو توظيفهم في سوريا ولكن في وظائف مدنية، ويبقى السؤال، حسب عبد الله علي: لماذا في مؤسسة الجيش حصراً؟

الشفافية وثقة المواطن

وفي أول موقف شبه رسمي ورداً على أسئلة «القدس العربي» اعتبر رئيس نقابة المحامين في سوريا أحمد دخان أن الانتقادات الواسعة على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس قلقاً شعبياً مشروعاً تجاه مسألة حساسة تتعلق بالسيادة الوطنية والأمن القومي، مشيراً إلى أنه من الطبيعي أن يثير إعلان المبعوث الأمريكي الخاص بعدم ممانعة واشنطن ضم المقاتلين الأجانب إلى الجيش السوري تساؤلات حول الأبعاد القانونية والسياسية لهذا القرار. وقال: نحن كممثلين عن الجسم الحقوقي، نؤكد على أهمية الشفافية في مثل هذه القرارات، وضمان توافقها مع القوانين الوطنية والمعايير الدولية، بما يحفظ استقرار البلاد ويعزز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.

واعتبر دخان أن دمج المقاتلين الذين ساهموا في الدفاع عن الوطن في مؤسسات الدولة يمكن أن يُنظر إليه كخطوة نحو المصالحة الوطنية وتعزيز الوحدة، مؤكداً في ذات الوقت أن هذا الدمج يجب أن يتم وفقاً لضوابط قانونية واضحة، تضمن التحقق من خلفيات هؤلاء الأفراد والتزامهم بقيم الدولة المدنية، مشيراً إلى أن الهدف هو بناء جيش ومؤسسات أمنية تعكس تنوع المجتمع السوري وتحترم حقوق الإنسان، ما يسهم في تحقيق الاستقرار والسلام المستدام.

وتطرق دخان إلى الآليات القانونية التي يمكن اتباعها لتنفيذ دمج المقاتلين الأجانب بالجيش الوطني وقال: وفقاً للقانون السوري، يمكن منح الجنسية للأجانب عبر التجنيس، بشرط الإقامة المستمرة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، والإلمام باللغة العربية، وحسن السيرة والسلوك، وفي حالات الزواج من مواطنات سوريات، لا يُمنح الزوج الأجنبي الجنسية تلقائياً، بل يجب عليه التقدم بطلب رسمي يُدرس وفقاً للمعايير القانونية، أما بالنسبة لعدد المقاتلين الأجانب الذين يُنظر في دمجهم وهو لا يتجاوز 3500 فرد، مع وجود حالات زواج من سوريات، فإنه من الضروري التعامل مع كل حالة على حدة.

وشدد دخان على أن قضية تجنيس الأفراد ودمجهم في مؤسسات الدولة، يجب أن يتم وفقاً لمعايير قانونية واضحة، تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الدولة العليا، والأمن القومي، والتوازن المجتمعي.

وإن كان دمج هؤلاء الأجانب قد يفتح الباب أمام مطالبة «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» بدمج مقاتليها الأجانب من أعضاء حزب العمال الكردستاني أيضا ومنحهم الجنسية السورية قال دخان: يجب تقييم كل حالة بشكل منفصل، مع التأكيد على أهمية الالتزام بالقوانين الوطنية، واحترام سيادة الدولة، وعدم الانتماء إلى تنظيمات مصنفة كإرهابية.

فرنسا وجيشها الرديف

حملة الانتقادات لموضوع دمج المقاتلين الأجانب، قوبلت برد من آخرين بررت ورحبت بالدمج والتجنيس وقال الصحافي سعيد هلال الشريفي إن الموضوع أثار حنق الفلول.

وتساءل: ألم يمنح الرئيس المخلوع الجنسية السورية (والتي تعمل الحكومة على شطبها) لنحو مليوني عنصر من ميليشيات إيران الطائفية ومرتزقتها العابرة للحدود، ولولا خلع ذاك النظام وطرد تلك الميليشيات لفقدت سوريا هويتها ولظل حوالي 12 مليون سوري مهجر خارج حدود الوطن الى يوم الدين؟

وقال الشريفي: لمن لا يعرف فإن لدى فرنسا منذ القرن التاسع عشر جيشاً رديفاً للجيش الفرنسي فوق أراضيها قوامه 100 ألف عنصر مؤلف حصرياً من مقاتلين أجانب يمنحهم القانون الحق في الحصول على الجنسية الفرنسية في نهاية خدمتهم المتعاقد عليها. وأضاف: ضاق الفلول ذرعا بـ3500 مقاتل لا حل أمام الدولة إلا بدمجهم تحت علم الوطن، على حين لم يسمع أحد صوت الفلول طوال سنوات الحرب عندما كانت الميليشيات الطائفية تسرح وتمرح في طول البلاد وعرضها، تفتك بالمدنيين، تقتل، تعتقل على الحواجز، تهجر، تعفش، تفرض الأتاوات، تنشر الكبتاغون وترتكب أبشع الموبقات، أم حلال عليهم وحرام على غيرهم؟

الناشط الشركسي محمد بشموقة دافع بدوره عن عملية الدمج وقال: إن الإيغور، ليسوا أول قومية تحصل على الجنسية السورية عبر التاريخ، فقد سبقهم العديد من القوميات التي استقرت في سوريا وأصبحت جزءاً من نسيجها الاجتماعي. وأضاف: الأرمن، حصلوا على الجنسية السورية بعد المجازر التي تعرضوا لها في الدولة العثمانية ولجأوا إلى سوريا، حيث أسسوا مجتمعات قوية وشاركوا في بناء البلاد، وكذلك اليونانيون، استقروا في مناطق مختلفة، خاصة في المدن الساحلية، وأصبحوا جزءاً من تاريخ سوريا التجاري والثقافي، والشراكسة، جاؤوا إلى سوريا بعد تهجيرهم من القوقاز في القرن التاسع عشر، وساهموا في حماية سوريا والدفاع عنها وكانوا جزءاً أساسياً من مؤسساتها.

وأكد بشموقة أن التاريخ السوري قائم على التنوع والانفتاح، ولم تكن الجنسية يوماً محصورة بفئة واحدة، بل منحت لكل من ساهم في بناء هذا الوطن وسعى ليكون جزءاً منه، ومن يشعر بالضيق فليعيد قراءة التاريخ، لأن سوريا لم تكن يوماً دولة مغلقة، بل كانت دائماً أرض احتضنت الجميع.

 رد للجميل

الحقوقي والقانوني عارف الشعال اعتبر في تصريح لـ«القدس العربي» أن القيام بدمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري هو نوع من المنطق ورد الجميل لأناس جاؤوا وجاهدوا وحاربوا مع مجموعة من الثوار وانتصروا، مؤكداً أنه من غير المنطق أن يتم رميهم بعدها وبما يدل على عدم وجود الوفاء في هذه الحالة.

وبين أن «هناك سوابق كثيرة في مثل هذه الحالات وليست لدي مشكلة بهذه المسألة لأنه إذا ما تم إقصاء هؤلاء وطردهم فإنهم سيتجهون إلى القاعدة وداعش باعتبار أنهم يحملون الفكر الجهادي وبهذه الحالة فليبقوا تحت نظر الدولة وبكل الأحوال سيبقون في تشكيل واحد، بهدف سهولة مراقبتهم».

الشعال المرحب بعملية الدمج عبر في ذات الوقت عن انتقاده لآلية الدمج والتعاطي القانوني مع الملف وقال: إن منح الرتب اليوم هو مخالف للقوانين، وهذا ربما لا يعتد به لأن الكثير من القوانين الإدارية يتم خرقها.

وعبر عن اعتقاده بأن الأجانب سيمنحون الجنسية طبعاً ومنحهم الرتب العسكرية يشترط مرور خمس سنوات على حصولهم للجنسية، وبالتالي يمكن أن يأخذوا في البداية كأفراد. واستبعد أن يشكل هؤلاء خطراً على الوضع الداخلي في سوريا وقال لن يؤدي دمجهم واستيعابهم ومنح الجنسية لهم إلى أي تغيير ديموغرافي باعتبارهم من السنة والسنة في سوريا يشكلون الأغلبية المطلقة.

القدس العربي»

——————————

إعادة بناء الجيش السوري بعقيدة قتالية متجددة/ معاذ الحمد       

الجيش السوري الجديد: إعادة بناء نحو عقيدة قتالية مختلفة وتحديات متعددة

2025-06-14

بعد سنوات من الصراع، تتجه الجهود نحو إعادة بناء الجيش السوري بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وتطوير عقيدة قتالية جديدة تهدف إلى تجاوز الانقسامات الداخلية وتعزيز الاستقرار. تقوم هذه العقيدة، بحسب محللين سياسيين وخبراء عسكريين، على مفاهيم غير طائفية، وتركز على حماية الشعب السوري واستعادة السيادة، مع السعي لبناء جيش يعكس التعددية المجتمعية. ويُتوقع أن يبلغ عدد قوات الجيش نحو 300 ألف مقاتل موزعين على 20 فرقة، مع تبني نموذج هجين يجمع بين الأساليب التقليدية والتكنولوجيا الحديثة.

يقول سامر خليوي، المحلل السياسي، في تصريحات لـ”963+”: “لا شك أن الوحدة الوطنية ودولة المواطنة تُشكلان حجر الزاوية لبناء سوريا الجديدة واستقرارها في الحاضر والمستقبل”. ويشدد خليوي على أن الولاء يجب أن يكون للدولة السورية، متجاوزاً أي انتماءات طائفية أو عرقية أو مناطقية، بحيث يتمتع الجميع بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات”.

بدوره يقول عبدالله الأسعد، الخبير العسكري والاستراتيجي، لـ”963+”: “في الواقع العقيدة القتالية الجديدة للجيش طبعاً هي تختلف عن العقيدة السابقة. العقيدة القتالية تعريفها هي يعني النهج والخطط القتالية، والإيديولوجية التي يسير عليها الجيش”.

ويضيف: “في الواقع هذا الجيش الجديد لديه خبرات كبيرة جداً في مجال التكنولوجيا الصناعية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات التعامل مع السلاح الحديثة والمتطورة كما هو في موضوع الطائرات المسيرة، وأبدع الجيش الجديد في استخدام الطائرات الشاهدة المسيرة. وهذا الموضوع يعني هام جدًا من جميع الموجودين، يعني حوالي تقريباً 70% من عناصر الجيش هم عناصر طلاب جامعات ولديهم شهادات ليسانس في مختلف المجالات”.

التوجيه السياسي: جيش مدني ودولة قانون

على الصعيد السياسي، يركز الشرع على بناء جيش يتوافق مع رؤية حكومة مدنية جديدة تقوم على مؤسسات راسخة وتُعزز مبدأ سيادة القانون. هذا يتضمن الدعوة إلى تحقيق المصالحة الوطنية بين جميع مكونات المجتمع السوري، وضمان تمثيل عادل للجميع في المؤسسات العسكرية والأمنية.

ومن الخطوات الهامة في هذا الإطار، التأكيد على ضرورة دمج الفصائل المسلحة السابقة في الجيش الجديد. ويهدف هذا الإجراء إلى توحيد العقيدة العسكرية بين جميع العناصر، لضمان الانضباط والفعالية في أداء المهام الموكلة إليهم.

كما تسعى القيادة الجديدة إلى تحفيز التركيز على الجانب الإنساني في العمليات العسكرية، وضمان حماية حقوق المدنيين، وقد أصدرت وزارة الدفاع قواعد سلوك جديدة تهدف إلى بناء جيش وطني محترف وملتزم بحقوق الإنسان، وإن كان التطبيق الفعلي لهذه القواعد لا يزال موضع تساؤل.

ويتحدث خليوي عن دمج الفصائل المسلحة قائلاً: “طالما أن الجيش الجديد لا يمت للطائفية والعرقية والمناطقية بشيء، فلا خوف عليه أو منه. بل على العكس، فإن تجميع الفصائل المسلحة ضمن هذا الجيش سيُحولها من كيانات مقاتلة مستقلة إلى جزء لا يتجزأ من جيش الدولة، تابعاً لأوامرها وملتزماً بها”.

ويوضح أن هذه العملية “ستُذيب كل الفروقات، وتجعل الدولة هي المشرفة الوحيدة على هذه الفصائل من كافة النواحي، مما يُسهم في ضبطها وتصويب عملها”.

وحول حماية المدنيين في الواقع الميداني يقول الأسعد: “التعامل على موضوع حماية المدنيين هو يعني ظهر واضحاً خلال الأشهر التي مضت. الواقع الميداني المدني له حقوق وله كرامة طبعاً مباشرة، ولا علاقة له بالعناصر التي تمارس عملاً ميدانياً قتالياً ضد الحكومة. فهذا يعني الدولة تدخلت به وفصلت موضوع المدنيين عن موضوع المقاتلين، ما يعزز صورة المقاتل كمدافع عن المدنيين وليس كمصدر تهديد لهم”.

تحديات الدمج والتنوع: المقاتلون الأجانب والتوجه الديني

على الرغم من الأهداف الطموحة للتوحيد الوطني، تُواجه عملية بناء الجيش الجديد تحديات معقدة. إحدى هذه التحديات تكمن في التوجه الديني الجهادي الذي بدأ يظهر في المعسكرات التدريبية. حيث يتم تعزيز القيم الإسلامية وتوجيه المتطوعين في المساجد للتدريب على جوانب مثل الفقه والصلاة. هذا التوجه يُثير قلق المراقبين حول الاتجاه الفكري للجيش، ومدى توافقه مع مفهوم “الجيش الوطني اللا طائفي”.

وعلاوة على ذلك، تُشير خطط دمج المقاتلين الأجانب، بمن فيهم المجندون من الإيغور، إلى أن الجيش الجديد سيعتمد على كادر بشري متنوع. وبعض التقارير تُقر أن اللوائح تضمنت تجنيد حوالي 3500 مقاتل أجنبي، مما يُثير تساؤلات حول مدى التجانس والهوية الوطنية الراسخة لهذا الجيش، ويُمكن أن يؤثر على تركيبة الجيش ومستقبل الأمن في سوريا.

ودمج هؤلاء المقاتلين يُعد جزءاً من برامج خاصة لدمج وتجميع الأسلحة من مختلف الفصائل ضمن إطار عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، وهي خطوة حيوية لتعزيز الانسجام بين العناصر المنضمة حديثاً.

المحلل السياسي خليوي يشير في تصريحاته إلى مدى تأثير المقاتلين الأجانب، فيقول: “أولاً عدد المقاتلين الأجانب قليل جداً، 3-5 آلاف، وهؤلاء نقطة في بحر أمام الجيش السوري الجديد. وهذه سابقة حصلت في كل الثورات وحركات التحرر حول العالم، مستشهداً بأمثلة من كوبا، البوسنة، فرنسا، أوكرانيا، وغيرها من الدول. ومن واجب الوفاء تكريم هؤلاء المقاتلين دون تنصيبهم مناصب قيادية عليا”.

ويتفق العميد فايز الأسمر، الخبير العسكري، مع سابقه من ناحية مخاطر هؤلاء المقاتلين، ويشدد في تصريحات لـ”963+”، على أن وجودهم “ليس عامل توتر بل عامل دعم واستقرار”، مؤكداً أن هذا الأمر ليس سابقة، بل حدث في العديد من ثورات العالم وحركات التحرر.

وفي السياق ذاته، يضيف الخبير العسكري الأسعد: “المخاطر التي تتحدث عنها يعني ضمن الجيش طبعاً هي ليست بادرة جديدة في كل دول العالم. كان هناك في فرنسا فيلق أجانب، وكان أيضاً في أمريكا، وكان في البوسنة والهرسك هناك مقاتلين أجانب. هي عموماً يتم يعني في نهاية المطاف يتم وضعهم في تشكيلات خاصة بهم، وهذه التشكيلات لم تدم طويلاً”.

استراتيجية الردع والتحديث: نظرة إلى الداخل والخارج

لقد تم إعادة توجيه العقيدة القتالية للجيش السوري لتكون مركزة على الردع الداخلي، نظراً لعدم القدرة على تحقيق ردع خارجي بالقدر نفسه في المرحلة الراهنة. وصرح الشرع بأن “العقيدة القتالية الحالية ستكون عقيدة ردع داخلي”، مُشيراً إلى أهمية التركيز على تهديدات الداخل بدلاً من الأعداء الخارجيين في ظل الظروف الراهنة.

ومع ذلك، تُشير القيادة الجديدة بشكل متزايد إلى بناء علاقات ديبلوماسية مع قوى إقليمية ودولية، لتمكين الجيش من تعزيز خبراته والتعلم من تقنيات عسكرية جديدة، وهو ما قد ينعكس على العقيدة القتالية بشكل إيجابي. وتُعتبر العودة إلى العلاقات مع الدول العربية وفتح قنوات مع الغرب جزءاً من هذه الاستراتيجية.

وعن أهمية الانضباط في المعارك الحربية، وميثاق وزارة الدفاع السورية، ومتطلبات العقيدة العسكرية الجديدة يقول الخبير العسكري فايز الأسمر: “لا شك أن المبدأ الأساسي في اختبار الكفاءة القتالية العسكرية والتكتيكية للقوات المسلحة هو بلا شك في قدرة هذه القوات على خوض المعارك الحربية الحقيقية بكافة أشكالها وأنواعها. إذا كان من المسلّم به أن الجيوش يلزمها للتفوق على عدوها حيازة واقتناء السلاح والعتاد الملائم والمتقدم، واستثماره بدقة وفعالية عالية، والتدريب الكافي والعالي المستوى للعناصر والوحدات في ظروف قتال حقيقية ما أمكن، وإنشاء فرضيات ومواقف قتالية قد تمر بها القوات، إضافة إلى الروح المعنوية العالية والإصرار، فلا بد من أن يتوفر عنصر هام جدًا وهو الانضباط الصارم عالي المستوى، الذي من شأنه أن يرفع ويزيد من الروح القتالية العالية ويحمل الأفراد الإقدام على القتال”.

وعملياً، وخلال الأيام القليلة الماضية، أصدرت وزارة الدفاع السورية ميثاقاً جديداً للخدمة في الجيش السوري، وذلك في أعقاب الإعلان شبه الكامل عن إنهاء دمج الفصائل المسلحة ضمن هيكلية الجيش الوطني الرسمي.

وبحسب الأسمر: “يسعى الميثاق العسكري الجديد إلى بناء جيش وطني محترف، منضبط وملتزم بالقانون ويحترم حقوق جميع المواطنين دون تمييز، ويدافع عن وحدة الوطن وسيادته، ملتزماً بالقانون الدولي الإنساني. ويرتكز بناء هذا الجيش على عقيدة عسكرية حديثة وهجينة، تمزج بين التكنولوجيا والتفوق العددي، وتستجيب لتحديات ما بعد الصراع، مثل الإرهاب والحروب السيبرانية، مع ضرورة تأمين الموارد، وتطوير القدرات الجوية والبرية والخاصة بما يتناسب مع الجغرافيا والموارد السورية”.

+963

——————————

—————————

==========================

العدالة الانتقالية تحديث 15 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

————————–

 إعادة تدوير رموز الأسد.. ضرورة تفرضها البراغماتية؟/ مهيب الرفاعي

السبت 2025/06/14

منذ سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، تركز النقاش العام في سوريا على أسئلة العدالة والمحاسبة، وعلى كيفية تفكيك بنية الاستبداد التي حكمت البلاد لعقود. وبينما انشغل البعض بالدعوة لاجتثاث شامل لكل من ارتبط بالنظام السابق، ظهرت أصوات أخرى أكثر براغماتية، تدعو إلى النظر في إمكانية “تدوير إيجابي” لبعض الوجوه السابقة، ليس انطلاقًا من التسامح أو النسيان، بل من منطق بناء الدولة والحفاظ على مؤسساتها وعدم الإقصاء وتعزيز انتماء الطوائف وشخصياتها في سوريا الجديدة، على الرغم مما تحمله عبارة “تدوير الشخصيات” من دلالات سلبية في الوعي الشعبي.

إلا أن الواقع السوري المعقد يفرض إعادة النظر في هذا المفهوم، بعيداً عن التصنيفات الأخلاقية الجذرية، ومن منظور وظيفي عقلاني؛ لا سيما في ظل استمرار الخلط بين “الدولة” و”الحزب” و”الرئيس”، ما جعل أي محاولة للتمييز تبدو ترفاً فكرياً. لكن في مرحلة ما بعد الأسد، تبرز الحاجة الملحة للفصل بين من تورّطوا في منظومة القمع والفساد بشكل مباشر، وبين من عملوا في المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية لصالح النظام دون تورط مباشر منهم في العمليات العسكرية في البلاد بصفتهم مجرد أدوات أو منفذين. فبينما يُفترض أن تكون العدالة الانتقالية أداة لتفكيك الإرث الاستبدادي وضمان عدم تكرار الانتهاكات، إلا أن الوقائع في العديد من الدول تُظهر عودة عدد من رموز الأنظمة السابقة تحت عناوين تكنوقراطية أو تصالحية. فالتساؤلات هنا عمّا إذا كان هذا ناتجاً عن غياب البدائل، أم عن تسويات نفعية، أم أنه شكل من أشكال إعادة إنتاج المنظومة القديمة بلباس جديد.

إعادة دمج “غير المجرمين”

مع سقوط الأنظمة الشمولية نتيجة لثورات شعبية أو عمليات عسكرية أو انقلابات سياسية، تظهر عادة موجة من التطلعات الشعبية إلى العدالة، المحاسبة وتأسيس نظام ديمقراطي جديد. غير أن مسار الانتقال غالباً ما يتخلله ضعف في آليات تنفيذ العدالة الانتقالية، أو فراغ في القدرات الإدارية، ما يفتح الباب واسعاً أمام ما يُعرف بـ”إعادة تدوير رموز الأنظمة السابقة” في مواقع السلطة الجديدة، أو حتى تقديمها للمجتمع برؤية جديدة وفق شروط توافقية-تصالحية. ويشمل هؤلاء الرموز السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية الذين شكلوا أعمدة النظام المنهار، وعادوا إلى المشهد العام، سواء بشكل مباشر أو عبر هياكل جديدة بحكم ارتباطهم بملفات حساسة وإشرافهم عليها بشكل أو آخر.

بدأت الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا، بقدر من الحذر، إعادة دمج عدد من المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، شريطة ألا يكونوا متورطين مباشرة في جرائم أو انتهاكات حقوقية، بعد تقارير لجان مسؤولة عن ملف العدالة الانتقالية والتسويات الأمنية التي قادتها الإدارة الجديدة فور تسلمها زمام الأمور في البلاد. أبرز هؤلاء كان اللواء طلال مخلوف قائد اللواء “105” في الحرس الجمهوري سابقاً، وأحد أقرباء الرئيس المخلوع بشار الأسد، والذي كان من أوائل المنخرطين ببرنامج التسوية مع تسليم كافة المتعلقات العسكرية من سلاح وملفات أمنية للاستفادة منها وتعقب تاريخ العمليات المرتبطة بها؛ شريطة التزامهم العلني بمبادئ المرحلة الانتقالية، والمساهمة في بناء المؤسسات الحديثة بعيداً عن الولاءات القديمة.

دروس الربيع العربي

في المقاربات العقلانية لبناء الدولة، تبدو الاعتبارات الأخلاقية مهمة، لكنها لا يجب أن تعيق سير المؤسسات، لا سيما وأن الحالة السورية هي حالة دولة أمنية استخباراتية تتحكم الأجهزة الأمنية بمفاصل الدولة جميعها وتشرف الأفرع الأمنية على ملفات جميع الوزارات والمؤسسات الخدمية. المفتاح في سوريا للوصول إلى خبايا المؤسسات والعلاقات العامة فيها، هو التعامل مع رؤوس الأجهزة الأمنية للحصول على جميع الملفات وإعادة ترتيبها. تتشابه سوريا مع مجموعة من الدول الخارجة من أنظمة شمولية، كما في حالات جنوب أفريقيا وتونس وتشيلي، والتي لم تلجأ إلى اجتثاث شامل لرموز الأنظمة السابقة، بل اعتمدت على مقاربة مزدوجة قائمة على مبدأين: محاسبة شاملة للمتورطين، وإعادة دمج المنظومة الإدارية والفنية في مشروع محلي وطني جامع، على اعتبار انه لا يمكن بناء دولة فاعلة من العدم، ولا يمكن تأهيل قطاعات فعالة دون استثمار في الموارد البشرية القائمة، شرط أن تتوفر الإرادة السياسية، وآليات الشفافية، وخطط إصلاح توافقية.

يقودنا هذا الطرح إلى الحديث عن دوافع تصدير رموز نظام الأسد ورجالاته وإعادة موضعتهم في المشهد العام بين حين وآخر، مع رصد المخاطر وتقديم رؤية منهجية للاستفادة المقيدة والواعية من هذه الرموز في مرحلة بناء الدولة. فعلياً هذه المسألة هي أبرز التحديات التي واجهت دول الربيع العربي، وأفريقيا ما بعد الاستقلال، وشرق أوروبا بعد سقوط الأنظمة الشيوعية. في تونس، رغم الثورة ضد نظام بن علي عام 2011، شهدت البلاد لاحقاً عودة تدريجية لأعضاء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، من خلال العمل السياسي والإعلامي، خصوصاً بعد صعود قوى سياسية براغماتية تعاملت مع هؤلاء كقوة تنظيمية لا يمكن تجاهلها. وفي السودان، ورغم إنشاء لجنة إزالة التمكين ومحاسبة رموز نظام البشير بعد 2019، إلا أن قرارات قضائية لاحقة أعادت عدداً من كبار موظفي النظام السابق، وأطلقت سراح قيادات سياسية بارزة، ما أثار قلقاً واسعاً من عودة النظام في ثوب جديد. هذه الحالات لا تنفصل عن حالات سابقة، مثل انخراط بعض رموز نظام القذافي في ليبيا ضمن أجهزة الحكم بعد الثورة، أو استخدام خبرات أمنية وعسكرية من النظام العنصري في جنوب أفريقيا بعد انتهاء “الأبارتايد”. إلا ان الحالة السورية بتعقيداتها وسرعة إنجاز مهمة إسقاط النظام بعملية عسكرية لمدة 12 يوماً، لا سيما بعد أن ظهرت مؤشرات لعودة دمشق إلى الحضن العربي ووجود مبادرات لتعويم نظام الأسد وإعادة مجموعة دول علاقاتها الدبلوماسية معه، أدت إلى اضطراب في مسار العدالة الانتقالية ومسار تنفيذ متطلبات السلم الأهلي، مع تحديات حول أي المسارين يستلزم نجاح الآخر؛ الأمر الذي شجع مجموعة شخصيات على العودة إلى الواجهة، إما عبر تسويات ومصالحات و تفاهمات أو عودة ذاتية بدون أي محاسبة أو شروط مع استغال عدة عوامل مساعدة بنوا عليها هذا الاستحقاق.

التحالفات مع رموز النظام

ننطلق في فرضية العوامل المساعدة للتعويم من وجود ثغرات في مسار العدالة الانتقالية الناقصة وغير واضحة المعالم رغم وجود الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية واللجنة العليا للسلم الأهلي؛ والتي جاءت خصيصاً لمعالجة آثار أحداث الساحل السوري. يدفع هذا الخلل إلى التركيز على الجوانب الرمزية دون المساءلة الحقيقية أو المحاسبة المؤسساتية ما يُنذر بخلق بيئة رمادية تستثمر فيها الرموز القديمة نقاط الضعف للعودة التدريجية إلى مراكز القرار أو حتى كمنفذين. تؤدي هشاشة الهياكل الجديدة التي تسلمت إرثاً منهكاً للمؤسسات السورية (عسكرية أو مدنية) وتنوع الآراء والخبرات لدى النخب الثورية، إلى فراغات في إدارة الدولة، ما يجعل من ذوي الخبرة الإدارية والتنظيمية – حتى من النظام السابق – خياراً مغرياً أو ضرورياً، خصوصاً وأن الإدارة الجديدة بحاجة إلى الملفات التي يمتلكها مسؤولون سابقون في نظام الأسد وبحاجة إلى إدارة.

تشمل هذه الملفات الضحايا والمغيبين قسرياً وقنوات التمويل والعلاقات الداخلية والدولية وإدارة القوى البشرية وملفات التوجيه السياسي والأمني، الأمر الذي  يدفع  النخب السياسية الجديدة إلى خلق  تحالفات مؤقتة مع شخصيات من النظام السابق لأسباب تنظيمية، ما يؤدي إلى تطبيع سياسي تدريجي مع تلك الرموز في خطوة قد تثير غضب الشارع لكنها مفهومة من ناحية براغماتية نفعية بحتة؛ على اعتبار أن السيطرة على مفاتيح الدولة العميقة تبدأ من رموز الأنظمة الشمولية السابقة الذين كانوا يمتلكون علاقات قوية داخل الأجهزة الأمنية، أو الجهاز البيروقراطي، أو قطاع المال والأعمال، مما يمنحهم تأثيراً فعلياً حتى بعد أن سقط نظام الأسد. بالإضافة، فإن قدرة رموز النظام السابق على إعادة التموقع من خلال شبكات قوية من العلاقات والموارد، تمكنها من إعادة إنتاج نفسها ضمن النظام الجديد بطريقة الأمر الواقع كونها متحكمة ومتنفذة وهي الأقدر على إدارة ملفات اقتصادية وأمنية تساهم في إنشاء مسار نفعي ثنائي مع الإدارة الجديدة، وقد تنجح في التسلل إلى مراكز القرار من خلال اللوبيات أو الاقتصاد الذي يديرونه أو شبكات المصالح المحلية.

المستوى الأعلى لهذه الثغرات هو أن القوانين الخاصة بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية قد تكون فضفاضة أو غير قادرة على تحديد المعايير الدقيقة للإقصاء والمحاسبة، مما يسمح بإعادة تدوير الشخصيات القديمة، الأمر الذي يتيح المجال أمام تأثير القوى الإقليمية والدولية لضمان نسق استقرار معين، ما يدفعها لدعم شخصيات معروفة لها من النظام السابق، خصوصاً في القطاعات الأمنية والعسكرية و الاقتصادية تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو الحفاظ على توازن المصالح الإقليمية.

عودة عقلانية

قد تنضوي تحت هذه الدوافع مجموعة من المخاطر على الرغم من أن عودة بعض الشخصيات، سواء أكانت كفاءة حقيقية أو وهمية،  قد تبدو عقلانية في بعض السياقات، إلا أن الظاهرة عموماً ترتبط بعدد من المخاطر أبرزها إعادة إنتاج منظومات القمع والفساد، خصوصاً حين لا تتم غربلتها بشكل فعّال، وتقويض الثقة المجتمعية في العملية السياسية الجديدة، مما يؤدي إلى عزوف شعبي وارتفاع احتمالات الانتكاسة لا سيما بين الأوساط الثورية التي تطالب بعدالة حقيقية تعوّضهم عن أعوام من القمع تحت حكم آل الأسد، دون أن يشعروا بتآكل العدالة الانتقالية، وتحويلها إلى مجرد أداة سياسية دون أثر فعلي؛ وتشظي الذاكرة الوطنية بين مطالب العدالة ومصالح النسيان، مما يعوق بناء عقد اجتماعي جديد يشارك فيه الجميع على أرضية ثابتة.

إلا أن الواقعية السياسية المستندة إلى الاعتبارات العملية والواقعية، بعيداً عن المبادئ الأيديولوجية أو الأخلاقية؛ والبراغماتية التي تحتّم أخذ الظروف القائمة والقدرات الحالية لسوريا ما بعد الأسد والمجموعات الإثنية والدينية والطائفية فيها تستلزم وتتطلب الاستفادة الإيجابية من شخصيات وأسماء محسوبين بشكل أو بآخر على النظام المخلوع. فعلياً، يمكن الاستفادة من الرموز السابقة في بناء الدولة على اعتبار ان إدارة هذا الملف لا ينبغي أن يتسم بالإقصاء المطلق ولا بالتطبيع الكامل؛ بل إن أفضل الممارسات الدولية تشير إلى إمكانية اتباع مسار توظيف مشروط ومنضبط للرموز السابقة وفق ضوابط دقيقة تبدأ بالتمييز بين الفاعلين والمنفذين.

ليس كل من عمل في نظام شمولي كنظام الأسد مسؤولاً عن جرائمه، إذ يجب التمييز بين من كان فاعلاً مباشراً في القمع والفساد ومن كان منفذاً تقنياً (في أي قطاع كان) دون سلطة قرار، ويأتي بعد ذلك إخضاع هؤلاء للمراجعة المؤسسية التي تشمل التحقق من السجلات الأمنية والذمة المالية والمشاركة في الانتهاكات ودرجة الولاء للدستور الجديد. هذه الآلية تمنح مشروعية لعملية الدمج الانتقائي- الانتقالي وتفتح الباب أمام الاستفادة المحدودة من بعض الرموز في مجالات الخبرة، دون تمكينهم من مواقع تنفيذية أو تشريعية وذلك بصفتهم إما خبراء أو مستشارين تقنيين ولمدد مؤقتة، أو حتى مجرد وضعهم تحت رقابة مباشرة حتى ينهوا تسليم مهامهم وملفاتهم السابقة للجان الانتقال والسلم الأهلي، مع ضرورة وجود رقابة مؤسساتية ومجتمعية واضحة.

يضمن هذا المسار عدم الإقصاء، وتجاوز الطائفية والمناطقية والإثنية. ما قامت به الإدارة الجديدة في دمشق هو ربط أي مشاركة لهم بميثاق أخلاقي يفرض عليهم عدم الانخراط في العمل السياسي، أو العسكري، أو الاقتصادي، أو المدني المباشر لفترة زمنية محددة، ويشترط تعاونهم الكامل مع مسارات العدالة الانتقالية واعترافهم العلني بالأخطاء السابقة. كما يمكن إدماج بعض هذه الشخصيات في مشاريع المصالحة الوطنية بحيث تلعب أدواراً إيجابية في لجان الحقيقة والمصالحة أو في تسهيل المصالحات المجتمعية، كما في حالة فادي صقر الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السورية الثورية والمدنية على اعتباره عرّاب المصالحات المدنية والعسكرية حتى بعد سقوط نظام الأسد، وإعادة تقديمه على انه رجل سلم أهلي وصمام أمان لعمليات انتقالية لاحقة، كونه، بحسب المتحدث الرسمي باسم لجنة السلم الأهلي، قد ساهم في عملية ردع العدوان دون الوصول إلى حمّام دم في مناطق دمشق و ريفها.

المدن،

————————————-

 القضاء السوري.. بين التحديات والحلول الفورية/ ميشال شماس

2025.06.14

ليس بخافٍ على أحد اليوم أن وضع القضاء في سوريا في حالة يُرثى لها من الترهل والفساد، وهو على هذه الحال منذ أن كان نظام الأسد الإجرامي جاثماً على صدور السوريات والسوريين، وحتى سقوطه في 8 كانون الأول من العام الماضي. غالبية القضاة فاسدون، وبعضهم شارك في ارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.

في مواجهة هذا الواقع الكارثي، تبرز أسئلة جوهرية: كيف يمكن معالجة هذا الوضع؟ هل الحل يكمن في صرف جميع القضاة؟ وإذا تم ذلك، هل هناك بديل جاهز وقادر على تولي المسؤولية؟ هذه التساؤلات ظهرت بشكل حاد بعد قرار مجلس القضاء الأعلى بعزل 77 قاضيًا دفعة واحدة.

إن صرف الجهاز القضائي وعزله بأكمله كما يطالب البعض، بحجة أنهم يمثلون مرحلة مظلمة من تاريخ سوريا، ستكون له عواقب وخيمة على الوضع في البلد، في ظل عدم توفر بديل جاهز يؤمّن استمرار المحاكم في عملها، مما سيؤدي إلى انهيار المنظومة القضائية، خاصة في ظل نقص القضاة وضعف البنية التحتية للمحاكم، وصعوبة تجهيز وإعداد قضاة جدد. فمثلاً، تجهيز مئات من القضاة يحتاج إلى سنوات من التدريب والتأهيل.

وإذا سايرنا هذا المنطق الإقصائي بعزل جميع القضاة باعتبارهم معينين من قبل نظام الأسد البائد، وطبقناه على مختلف المؤسسات والإدارات والوزارات، وفصلنا كل الموظفين فيها بحجة أنهم خدموا النظام السابق الذي عينهم، وأنهم أمنوا له الشرعية أيضاً، سيكون الأمر كارثياً. ولنا أن نتصور الأعداد الهائلة التي يمكن أن تذهب ضحية هذا المنطق الإقصائي المدمّر للبلد، ولا يمكن القبول به على الإطلاق، ويمكن، لا بل وأكيد سيؤدي إلى حدوث اضطرابات، وربما ثورة جديدة.

نعم، هناك قضاة وغير قضاة ارتكبوا جرائم، لكن أن نعمم هذا المنطق الجمعي الإقصائي على كل الناس الذين عاشوا في مناطق سيطرة الأسد، وهم بالملايين، ومنهم من هرب من مناطق سيطرة المعارضة المسلحة ليعيش في مناطق سيطرة الأسد الساقط، سيكون هذا التعميم كارثة مدمّرة على البلد.

نحن اليوم بحاجة إلى إصلاح شامل لكل مرافق الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمتها القضاء، لكن يجب أن يكون هذا الإصلاح متوازناً، يجمع بين الحاجة للتغيير وضمان استمرارية عمل القضاء، دون أن نساهم في حدوث فوضى قانونية تزيد الأمر تعقيداً وتعرقل عملية بناء الدولة، وذلك وفق خطوات آنية ومدروسة:

أولاً: إجراء تقييم للقضاة الحاليين على أساس فردي، وذلك من خلال تشكيل هيئة رقابية مستقلة من قضاة ومحامين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، لإجراء تحقيق شامل حول أداء القضاة ونزاهتهم.

وبنهاية المراجعة، يتم الاحتفاظ بالقضاة الأكفاء النزيهين، وإبعاد المتورطين في الفساد أو الانتهاكات المسلكية والقانونية الجسيمة. وليس كما جرى مؤخراً، عندما قرر وزير العدل عزل قضاة محكمة الإرهاب بطريقة أقل ما يُقال فيها إنها “هوشة عرب”، خلافاً للقرار التفتيشي الذي أقرّ بوضوح أن 31 قاضيًا من الذين عملوا في محكمة الإرهاب لم يثبت عليهم سوء سمعة أو ارتكاب أية مخالفة مسلكية أو قانونية، ومع ذلك تم صرفهم. وهذا هو الظلم بذاته، وجريمة بحق القضاء وبحق البلد. فنحن اليوم أشد حاجة إلى هؤلاء القضاة، ولا شك أن قرار إعادة القضاة المنشقين إلى عملهم هو قرار جيد، وسيساهم على الأقل في تعويض القضاة الذين تم صرفهم مؤخراً. ومع ذلك، ستبقى المحاكم تعاني من نقص كبير في أعداد القضاة القادرين على تسيير أمور القضاء.

ثانياً: تفعيل التفتيش القضائي، من خلال رفده بقضاة أكفاء، ومنحه الصلاحيات الكاملة في متابعة القضاة ومراقبة قراراتهم، وضمان شفافية عملية التفتيش من خلال إشراك خبراء قانونيين محايدين أو جهات رقابية مستقلة. وبعدها يمكن تعديل القوانين الخاصة بالقضاء بما يفصل فصلاً تاماً بين القضاء والسلطة التنفيذية، وإعادة هيكلة المحاكم وتنظيمها بما يضمن سرعة الفصل في القضايا ومنع استغلال النفوذ.

ثالثاً: البدء بتدريب وتأهيل قضاة جدد تدريجياً، من خلال وضع برامج تدريبية مكثفة للجيل الجديد من القضاة، بحيث يكون لديهم القدرة على إدارة المحاكم بفعالية.

رابعاً: إنشاء أكاديمية قضائية مستقلة، تختص بتأهيل القضاة مستقبلاً وفقاً للمعايير الدولية للنزاهة والاستقلالية.

خامساً: توفير رواتب عادلة للقضاة لضمان استقلاليتهم، وتقليل احتمالية وقوعهم في الفساد بسبب الضغوط المادية، ومنحهم امتيازات قانونية تحميهم من التدخلات السياسية أو الاقتصادية في عملهم.

سادساً: منح نقابة المحامين ومنظمات المجتمع المدني دوراً في مراقبة أداء القضاء وضمان شفافيته.

سابعاً: اعتماد أنظمة رقمية في المحاكم لتقليل الفساد الإداري، مثل أرشفة القضايا إلكترونياً، واعتماد أنظمة تسجيل الجلسات، مما يُسهم في تعزيز الشفافية والحد من التلاعب في الملفات القضائية.

ثامناً: مراجعة قوانين العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية والإجراءات القضائية، لضمان توافقها مع مبادئ العدالة الحديثة، وتقليل الفجوات التي تسمح للبعض بارتكاب تجاوزات أو انتهاكات.

تاسعاً: إشراك المواطنين في مراقبة القضاة، من خلال إنشاء منصات للإبلاغ عن التجاوزات القانونية بشكل آمن، بحيث يكون للمواطنين دور فاعل في كشف الفساد وضمان المساءلة العادلة.

عاشراً وأخيراً: إعادة النظر بقرار عزل القضاة الـ31، الذين ثبت أنهم لم يرتكبوا زلة مسلكية أو مخالفة قانونية، لتعويض النقص الحاصل في أعدادهم.

هذه الحلول الآنية يمكن أن تساعد، في هذه المرحلة، بتحقيق إصلاح تدريجي للقضاء، دون تعطيله أو خلق مشكلات قانونية أو اجتماعية نحن بغنى عنها اليوم.

تلفزيون سوريا

——————————-

فادي صقر ولجنة السلم الأهلي في سورية/ عمار ديوب

14 يونيو 2025

فادي مجرم حرب، ومسؤول مباشر عن مجزرة حي التضامن جنوبي دمشق، وعن الإشراف المباشر (بعض الوقت) على قصف مخيّم اليرموك والحجر الأسود، وتؤكد تقارير دوره في الاعتقالات التعسّفية. فادي هذا، قال عنه عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، إن القيادة السورية أعطته الأمان، في حديث للإعلام (10/6/2025). أثارت جملته هذه رفض أغلبية السوريين، فالرجل مجرم، ومكانه السجن، والعفو عنه (وعن سواه من مجرمين) من حقّ ضحاياه أو ذويهم فقط. وقد أشار حقوقيون كثيرون إلى أن تصريحات صوفان تتجاوز أعمال لجنته، وتتطفّل على أعمال لجنة العدالة الانتقالية، التي صدر مرسوم جمهوري بها، ولكنّها لم تفعّل بعد، وهناك مطالباتٌ حقوقيةٌ بأن يشارك ذوو الضحايا، والمنظّمات المعنية، في صياغة قانونها وفي الإشراف على تطبيقها، وأن تكون مستقلة في أعمالها وتخضع لمراقبة دولية.

يؤكّد الحقوقيون أن عدم اعتقال فادي صقر بسبب الأمان الرئاسي يؤجّج العداوات بين السوريين، ويترك الباب مفتوحاً للانتقام الفردي، ويزعزع ثقة السوريين بشرعية السلطة، بينما تمرّ سورية في مرحلة انتقالية ومعقّدة للغاية، وتتطلّب عدالةً انتقاليةً للانتقال إلى السلم الأهلي (وليس العكس) وتحقيق الاستقرار، وهذا يتطلّب اعتقال كبار المجرمين من ضبّاط وشبّيحة، وفي مقدمتهم صقر، الذي كان قائداً لمليشيا الدفاع الوطني في سورية كلّها. كانت الشكوك في دورٍ ما لفادي صقر كثيرةً قبل المؤتمر الصحافي لصوفان، ولكن دوره أصبح مؤكّداً من خلال أعمال لجنة السلم الأهلي، التي شكّلها الرئيس أحمد الشرع، إضافة إلى تفاعلات لجنة التحقيق فيما جرى في الساحل في مارس/ آذار الماضي. يظهر صقر حينما يُفرَج عن ضبّاط محتجزين، ويُشاهَد في مدن الساحل، وكأنّه يمثّل السوريين العلويين، وكأنّ السلطة السورية تريد احتجازهم مؤيّدين أبديين للنظام القديم لا يغادرون موقعهم هذا، ولا تريدهم مواطنين في الدولة مثل باقي السوريين، لكن هناك رفضٌ علويٌّ، وليس سنّياً فقط، لدوره، فهو من أذرع بشّار الأسد في الفتك بالسوريين، وفي المذبحة التي حصلت بعد 2011، وقُتلت بسببها كتلة كبيرة من شباب الطائفة العلوية، بحجّة الدفاع عن بشّار الأسد.

أخطأت لجنة السلم الأهلي بإشراك فادي صقر وخالد الأحمد فيها، والأخير كان مستشاراً لدى بشّار الأسد. أي اختير رجال الأسد ليكونوا عوناً للسلطة في ضبط الساحل السوري. ربّما كان لهم دور قبل إسقاط النظام، وفي تسهيل إسقاطه، ولكنّ العلويين، ضبّاطاً وشعباً، لم يتصدّوا بعد سقوط الأسد للسلطة الجديدة، وتُستثنى من ذلك بعض الأعمال الإجرامية في مارس/ آذار الماضي ضدّ الأمن العام من بعض الفلول، انتهت بسرعة. رحّبت أغلبية العلويين بسلطة الشرع في الأيّام الأولى لهروب بشّار، ولكن تأخّر هذه السلطة في البدء بالعدالة الانتقالية دفع إلى حدوث انتهاكات واسعة (خطف وقتل وانتهاكات جسيمة)، وهناك تقارير صحافية تؤكّد مقتل 600 شابّ سوري علوي قبل انفجار أحداث الساحل في 6 مارس. يكمن خطأ السلطة في تجاهلها قيادات علوية، مثقّفين ورجال دين وسياسيين سابقين، ومتضرّرين بشدّة من حكم آل الأسد منذ 1970، كان يمكن الاعتماد عليهم. والآن وغداً، يجب أن تغيّر السلطة سياساتها في احتواء الساحل، ويقع عليها أولاً اعتماد هؤلاء في مسارَي السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وفي التحقيق الجاري في مجازر الساحل. وثانياً، يجب إشراك الضبّاط من غير المشتركين بالإجرام الأسدي في الجيش والأمن والشرطة، وثالثاً، يجب إبعاد الفصائل العسكرية كافّة، التي شاركت في مجازر الساحل، والأفضل تفكيكها نهائياً، نحو “العمشات” و”الحمزات” وفرقة السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى، وهذه فُرضت عليها عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وفرقة المجاهدين الأجانب.

اعتماد السلطة على فادي صقر وخالد الأحمد، وهما شخصان هامشيان لدى العلويين، أمر خاطئ، حتى لو كانت السلطة تريد بذلك إغلاق الباب أمام رامي مخلوف أو العميد سهيل حسن أو آخرين. هناك حالياً بدايات رفض لدورهما (صقر والأحمد) في الساحل، فهما لم يستطيعا حماية العلويين من الانتهاكات التي لم تنتهِ. وأيضاً، هما من رجال الأسد المورّطين لكثيرين من أبناء الطائفة العلوية في المقتلة. ولكن هل هناك ضغط من إحدى الدول من أجل الاعتماد على شخصين كهذين؟… ربّما، ولكن الغضب الشعبي الواسع، إثر مؤتمر حسن صوفان، والمطالبة باعتقال صقر وتطبيق العدالة الانتقالية، قد ينتقل إلى مظاهرات عارمة في حال استمرار السلطة باحتضان هذه الشخصيات، وتأخير البدء بتطبيق العدالة الانتقالية والإفراج عن ضبّاط كُثر في السجون، ومن دون محاكمات علنية، ومن دون تفسير جادّ. تبريرات حسن صوفان للإفراج عن ضبّاط من النظام السابق، أنهم لم يرتكبوا جرائم، وأن الإفراج يعزّز السلم الأهلي، لم يقنع أكثرية السوريين، لهذا يجب أن تتقدّم العدالة الانتقالية، بإعلان أسماء المجرمين، وبما يرضي الضحايا وذويهم. بعد ذلك يتحقّق السلم الأهلي، وهذا لا يُلغي أهمية وجود لجنة السلم الأهلي ودورها في تخفيف الاحتقان في الساحل. ولكن السؤال كان (وما يزال) سؤال الأكثرية، التي تضرّرت منذ 2011، عن حقوقهم قبل البدء بالاهتمام بحقوق أهل الساحل. التساؤل هذا، هو حديث واقعي للذين تضرّروا منذ 2011، وإن تجاهل السلطة له، أدّى إلى كثير من المشكلات الأمنية، وأبقى الوعي العام انتقامياً وثأرياً وطائفياً، وهذا يعني أن الوضع الأمني بأكمله قابل للانفجار.

السلطة معنية، وقد أصدرت مرسوماً للعدالة الانتقالية بالبدء بالحديث الدقيق عن كيفية تطبيقها، ومعالجة حقوق الناس وجبر الضرر، والتخلّص من عقلية احتكارها إدارة شؤون الدولة السورية، وإشراك السورين فيها. إن الرفض الأولي الراهن لتبريرات السلطة تدوير شخصيات مثل فادي صقر، يقابله بدايةً رفضٌ من الطائفة العلوية كذلك. وبالتالي، هناك ضرورة لتنفتح السلطة تجاه الشعب وتثق به، وتفصل بين السلطات، وأن تتيح المجال لأهالي المدن، وفي سورية كلّها، للمشاركة في مؤسّسات الدولة: الجيش والأمن العام، وفي مختلف المناصب، وسيكون أمراً عظيماً إن أتاح الرئيس أحمد الشرع انتخاب مجلس الشعب لا أن يُعيّنه وتعيّنه اللجان التي سيشكلها الشرع، سيّما أن هناك تقارير صحافية بدأت الكلام عن تشكيل هذا المجلس قريباً.

العربي الجديدة،

—————————

العدالة التي تسير على عكاز العفو/ ماهر حمصي

في الدول التي تُخفي دماءها تحت طبقات من التصريحات الرسمية، لا يصدر العفو عن طهرٍ أو رجاءٍ بالمصالحة… بل من موائد السياسة، حيث تُوزَّع الذنوب حسب لون المرحلة.

أحدهم تورّط، وآخر أشرف، وثالث برَّر.

ثم حين تبدّل أصحاب الكراسي، صار المجرم شاهدًا، والشاهد ملفًا، والضحية “ملفًا لم يُستكمل بعد”.

في الحالة السورية، لا حاجة لكثير من التبصّر كي تفهم أن ما يحدث ليس عفوًا بل إعادة جدولة للولاءات.

أن يغيب التحقيق، ويُستثنى الضحايا، ويُنزع الاعتراف… ثم نُبلّغ خبر “التسامح” عبر تسريب صحفي أو لفتة رسمية مريبة؟ فذاك ليس مسار عدالة، بل إعادة ترسيم للخرائط البشرية.

فادي صقر، الاسم الذي التصق بمجزرة حي التضامن، يُعاد تدويره في المشهد العام، من دون محكمة أو اعتراف أو حتى بيان يبرر. وكأن العفو هنا، ليس انعتاقًا بل تبنٍّ قسري من طرف السلطة لرجلٍ تغيّر موقعه لا تاريخه.

لكن سوريا ليست وحدها. العالم جرب العفو عشرات المرات.

خرائط عالمية لما بعد الدم

في تشيلي، احتاجت الدولة إلى عقدين لتتلفظ بجملة: “ما حدث في ظل بينوشيه كان جريمة”، لكنها تلفظتها.

في كولومبيا، لجأت الحكومة إلى عفو مشروط في اتفاق السلام مع “فارك”، حيث لا إعفاء دون جلسات استماع، واعترافات علنية، ومشاركة للضحايا عبر لجان موازية.

على النقيض، في أنغولا صدر عفو شامل بعد الحرب الأهلية، من دون مساءلة أو ذاكرة. كانت النتيجة: عودة التوترات، وتمدد الاحتقان تحت السطح، كما رصد تقرير “أمنيستي” عام 2007.

وفي لبنان… العفو صار مجرد منشار زمني يفصل بين طبقات الحرب، دون أن يمحو أصواتها.

إذا عدنا إلى دمشق اليوم، نرى أن العدالة ليست غائبة فحسب، بل مستبدلة. لا تسوية، لا خريطة طريق، لا مشاركة مجتمعية. بل مجرد إعلان مفاجئ، يُسقط شعور الطمأنينة الأخير لدى الضحايا، ويمنح الجلاد قدمًا جديدة يسير بها في ساحة ما بعد المجازر.

الأسوأ؟ … أن لغة العفو تُروَّج كأنها خطوة نحو السلم… في حين أنها تُغطي آثار الجريمة بطلاء مؤقت، يمحو الحقيقة ولا يُنقّي الذاكرة.

فالعفو النزيه، إن جاز التعبير، لا يأتي إلا إذا تحقق ثالوثه :

الاعتراف، المشاركة، عدم التكرار.

المشاركة تعني إشراك الضحايا والمتضررين في صياغة مفهوم العفو نفسه ، لا أن يكونوا مجرد متلقّين لقرار مفروض عليهم.

وإلا، سنظل نقرأ قصصنا المكتوبة بالدم من جديد،

لكن بلغة تخجل من قول الحقيقة.

ماهر حمصي

مؤسس و مدير بلا رتوش

—————————-

عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان: إجراءات السلم الأهلي ضرورة لتفادي انفجارات أكبر

14 يونيو 2025

في الوقت الذي تواجه فيه سوريا تحديات كثيرة معقدة، لا سيما في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق العدالة، جاءت إجراءات تسوية أوضاع بعض الضباط والشخصيات المرتبطة بالنظام السابق لتثير جدلًا واسعًا، بين مؤيد يراها خطوة ضرورية لتفادي التوترات وتعزيز السلم الأهلي، ومنتقد يعتقد أنها ستكون شكلاً من أشكال الإفلات من العقاب.

وأثار كلام عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، عن القيادي في ميليشيا “الدفاع الوطني”، فادي صقر، التي أسسها النظام البائد مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، موجة من ردود الفعل الغاضبة في أوساط السوريين، الذين أكدوا على ضرورة محاكمة صقر المتهم بارتكاب مجازر وانتهاكات ضد المدنيين في مناطق جنوب دمشق خلال السنوات الماضية.

وقال صوفان، خلال مؤتمر صحفي عقد في دمشق، إن إشراك شخصيات مثيرة للجدل مثل فادي صقر في مسار المصالحة الوطنية يأتي في إطار السعي لتفكيك العقد المتراكمة، ومعالجة الأزمات المعقدة، ومواجهة التحديات التي تهدد استقرار البلاد.

“الترا سوريا” حاور عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، للوقوف على تفاصيل الإجراءات المتخذة وأسبابها، ومناقشة الانتقادات التي أثارتها تصريحاته، في ظل مرحلة انتقالية دقيقة تمرّ بها البلاد.

    بدايةً، ما حقيقة الإجراءات التي اتُّخذت مؤخرًا لتسوية أوضاع بعض الضباط، وما الدوافع وراءها؟

دعوني أوضح أن هذه الإجراءات تتعلق بضباط سلموا أنفسهم منذ عام 2020، خصوصًا في منطقة السخنة، بعد سقوط النظام هناك. جرى استيعابهم ضمن ما يسمى بحالات الاستئمان، بناءً على نداء الأمان الذي أطلقته إدارة العمليات، والذي خُصّص لمن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين ولم يشاركوا في انتهاكات.

هؤلاء خضعوا لتحقيقات دقيقة من قبل المؤسسات المعنية، ولم تُثبت بحقهم تهم تتعلق بجرائم حرب أو تعذيب أو استهداف للمدنيين. وبعد استكمال الإجراءات القانونية، تمّت تسوية أوضاعهم.

    ما هو الهدف من هذه الإجراءات؟ وهل تُعدّ بديلًا عن العدالة الانتقالية؟

إطلاق سراحهم جاء أولًا لعدم وجود مبرر قانوني لاستمرار احتجازهم، وثانيًا لضرورات السلم الأهلي، خاصة في مناطق مثل الساحل التي تشهد توترات عالية. استمرار احتجازهم كان سيؤدي إلى نتائج عكسية، قد تضر بالاستقرار المحلي، ولا تخدم المصلحة الوطنية أو العدلية.

لكن من المهم التأكيد أن هذه الخطوات لا تُغني عن العدالة الانتقالية، بل تُكمّلها. نحن أمام اجتهادات ظرفية تهدف لتهدئة الأرضية الاجتماعية، وهي قابلة للنقاش، لكنها ضرورية ضمن السياق الحالي. العدالة الانتقالية بدأت فعليًا عبر الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بموجب مرسوم رئاسي، وهي المسار الأساس نحو دولة القانون والمواطنة.

    هناك من يرى في هذه التسويات نوعًا من الإفلات من العقاب، خصوصًا مع ورود أسماء مثل فادي صقر. كيف تردون على هذه الانتقادات؟

أتفهم تمامًا هذا القلق. شخصيات مثل فادي صقر محل جدل كبير، لكن أود التوضيح أن الإجراءات لم تشمل من ثبتت بحقه تهم جرائم حرب أو انتهاكات. دور هذه الشخصيات يندرج ضمن محاولات تفكيك التوترات المحلية، وهو دور محدود ومؤقت، ولا يعني تبرئة أو إسقاط التهم.

المحاسبة لن تتم بالفوضى أو الثأر، بل عبر مسار منظم. الهيئة الوطنية تعمل على خارطة طريق واضحة لتحقيق العدالة، ونحتاج إلى صبر مجتمعي كي لا تنفلت الأمور وتتعرقل العدالة بسبب انفجارات غير محسوبة.

    لكن ظهور هذه الشخصيات علنًا، حتى قبل انتهاء التحقيقات، فُسر على أنه استفزاز لأهالي الضحايا، خاصةً بوجود أدلة مصورة.

هذا الإحساس مفهوم، ونحن لا نستهين به. لكن أود التأكيد أن أي شخص سيثبت تورطه في انتهاكات لن يُشمله أي عفو أو تسوية. أما بخصوص الفيديوهات التي وُصفت كأدلة، فهي قيد التحقيق بالفعل، وإذا ثبتت الإدانة، فستتم المحاسبة.

دور هذه الشخصيات في هذه المرحلة مؤقت ومقيد، ويخضع لمتابعة أمنية وقانونية. نحاول التعامل مع الواقع المعقد دون أن نخسر السلم الأهلي أو نغامر باندلاع مواجهات جديدة. لسنا في موقع الدفاع عن أحد، بل في موقع إدارة مرحلة حساسة بكل ما فيها من تناقضات.

    البعض يرى أن هذه الإجراءات تهدد فكرة العدالة بحد ذاتها، ما هو ردكم؟

العدالة لا تتحقق بالانتقام أو بردود الفعل العاطفية، رغم أنها مفهومة. نحتاج إلى دولة قوية ومؤسسات راسخة لإنصاف الضحايا، وإلا فإننا سنقع في فوضى لا تخدم سوى من يريدون دفن الحقيقة. نعم، نطالب بالصبر، لكن نعد أيضًا بالشفافية. لا وطن بلا عدالة، ولا عدالة دون إنصاف.

    في الختام، ما الرسالة التي توجهونها للشارع السوري، وخاصة لعائلات الشهداء والضحايا؟

نؤكد لهم أن غضبهم مشروع، وأننا نعمل لضمان ألا يُضيع حق أحد. هذه مرحلة صعبة، وعلينا أحيانًا اتخاذ قرارات لا تُرضي الجميع، لكنها تمنع تفجّر الأوضاع. نعدهم أننا لن نساوم على العدالة، وأن كل ما يُتخذ اليوم هدفه النهائي هو بناء دولة المواطنة والقانون، دولة لا تفرّق بين ضحية وجلاد.

الترا سوريا

—————————–

دفاعاً عن فادي صقر/ رانيا مصطفى

15 يونيو 2025

بسبب الاحتقان الشعبي لحاضنة الثورة نتيجة تعويم قائد مليشيا الدفاع الوطني في عهد نظام الأسد، فادي الأحمد (فادي صقر)، والذي ارتكب مجازر بحق السوريين، وثّقها بنفسه بالصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، اضطرّت القيادة السورية الجديدة للخروج عن سياسة الصمت والغموض، فدفعت رئيس لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري، حسن صوفان، إلى عقد مؤتمر صحافي مطوّل الثلاثاء الماضي، بمشاركة المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا، وحضور وزير الإعلام حمزة المصطفى. اعتقد صوفان، وهو قيادي سابق في حركة أحرار الشام الإسلامية، أنّ باستطاعته تخدير الشعب بكلامٍ إلهي مقدّس عن طاعة وليِّ الأمر والثقة بالقيادة الفاتحة، وأنّ العدالة الحقيقية ستتحقَّق في الآخرة وليس على الأرض، وغير ذلك من مقولات دينية تصلح لخطبةٍ في مسجد، وليس لعمل مؤسّساتي.

كان الغرض من المؤتمر الصحافي تبرير إعطاء القيادة السورية الجديدة الأمان لصقر أن ثمة دوراً له في حقن الدماء خلال عملية ردع العدوان، من دون الحديث عن تفاصيل هذا الدور، ثم الطلب من السوريين المكلومين الثقة المطلقة بما تفعله القيادة. منذ التحرير في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حظيت القيادة الجديدة بتأييد شعبي واسع، رغم أنّه تأثَّر بسبب مجازر الساحل والغزوات ضدّ السوريين الدروز. قد تكون الأشهر الستة الماضية مدّة قصيرة في عمر السلطة، لتلمّس إنجازات في الملفّات الملحّة، لكنّها ليست قصيرة لظهور معالم الطريق إلى تلك الحلول، عبر خطّة حكومية واضحة، يشارك الشعب في وضعها والرقابة عليها. وتغييب الشعب عن كلّ القرارات هو السمة الواضحة لتعاطي السلطة الجديدة منذ استلامها الحكم، وبات واضحاً ميلها إلى التسلطية، مع كثير من المظاهر الاحتفالية وتضخيم بعض تقوم به، مثل توقيع اتفاق التفاهم على اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالجيش السوري، ولقاء الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأميركي ترامب في الرياض، وقرار الأخير رفع العقوبات عن سورية، وتوقيع مذكّرة تفاهم تركية قطرية أميركية حول استثمار سبعة مليارات في قطاع الطاقة والكهرباء في سورية.

أول مرّة ظهر فيها صقر، بعد التحرير، كانت في فبراير/ شباط الماضي، برفقة وفد حكومي التقى لجنة السلم الأهلي في حيِّ التضامن الدمشقي، الذي اشتهر بمجزرة بشعة شارك فيها صقر بنفسه؛ وكانت هناك احتجاجاتٌ شعبيةٌ في الحي للتعبير عن رفضها مشاركة صقر في السلم الأهلي والمطالبة بمحاكمته، ثم لفلفت السلطة القصة، ليعود ظهور صقر في قاعدة حميميم الروسية مطمئناً المدنيين من السوريين العلويين الهاربين من المجازر الطائفية في مارس/ آذار الماضي. وقبل عطلة عيد الأضحى، أخيراً، ظهر صقر برفقة صوفان في وفد لجنة السلم الأهلي في حي عش الورور، ذي الغالبية العلوية، للتعزية بمقتل سبعة شبان على خلفية طائفية في أثناء عودتهم ليلاً من مطعم يعملون فيه. وكذلك خرج شخص مقرّب من صقر، كان قد أسس فريقاً تطوعياً يقدّم مساعدات في القرى العلوية في الساحل السوري، في بثٍّ مباشر على وسائل التواصل الاجتماعي، برفقة ضبّاطٍ مفرج عنهم حديثاً، شاكراً معلِّمه صقر على جهوده في الوساطة لإطلاق سراحهم. قال صوفان في مؤتمره الصحافي أنّهم غير متورطين في جرائم جسيمة. وهنا نتساءل: إن كانوا غير متَّهمين بجرائم، فلماذا احتاج إطلاق سراحهم إلى مساوماتٍ مع أمثال صقر؟ وإذا كانوا متَّهمين، فليست لجنة السلم الأهلي ولا وزارة الداخلية من يقرّر تبرئتهم، بل القضاء العادل وضمن مسار العدالة الانتقالية. أثار ذلك كله غضباً واسعاً بين كلّ السوريين، خصوصاً ممن كانوا حاضنة للثورة، ودفع عدة تشكيلات ثورية وفروع نقابة المحامين السوريين إلى إصدار بيانات تستنكر ما ورد في تصريحات صوفان، وتعتبره استفزازاً للضحايا وذويهم، المفترض أن يكونوا مشاركين في مسار العدالة الانتقالية، باعتبار هذا شرطاً أساسيّاً لتحقيقها.

من موقعها، كتحالف فصائل إسلامية سلفية، تتعاطى القيادة الجديدة مع المجتمع السوري بوصفه طوائف وإثنيات وعشائر وغير ذلك من البنى التقليدية المتخلِّفة. وبذلك، يَعتبِر قادتُها أنفسَهم ممثِّلين للأغلبية المسلمة السنّية، وفادي صقر ومن معه يمثِّلون العلويين، الذين يطالب الغرب بعدم التعرّض لهم. وهذا يتّفق مع توصيف الإسلاميين نظام الأسد علويّاً، وبالتالي من الطبيعي أن يمثّل صقر الدفاع الوطني السوريين العلويين. لا يمكن لشخصٍ مثل صقر، بسجلّه الإجرامي الصريح أن يعمل لمصلحة العلويين وسلمهم الأهلي، ربّما يعمل لمصلحة المتورّطين منهم بجرائم، لتبرئتِهم عبر تصدّره مشهد السلم الأهلي، بينما يعاني المدنيُّون منهم، نساء وأطفالاً وشيوخاً، من استباحة كاملة، إضافة إلى صغار المقاتلين الذين تطوّعوا في أجهزة الجيش والأمن ومليشيا الدفاع الوطني بدافع إفقار نظام الأسد لهم. وبدلاً من التعاطي مع ما جرى في سورية ثورة شعبية ضدّ نظامٍ مجرمٍ ارتكب بحقّ حواضنها الشعبية المجازر، يرى صوفان ما جرى خلال 14 عاماً حرباً أهلية ارتكب فيها السوريون العلويون مجازر ضدّ السوريين السنّة. وهذا يعني أنَّ السّلم الأهلي يتحقَّق عبر توافقات مع المجتمعات الأهلية، ويعطى فادي صقر دور تمثيل السوريين العلويين، بينما تعطى الجماعة الممسكة بالسلطة في دمشق، ممثَّلَةً بمسؤول السلم الأهلي، صوفان، كلّ الصلاحيات، الفوق مؤسّساتية، لتقاضي المتَّهمين، وتصل إلى حدّ تبرئة مجرمين، الأمر الذي يطيح كل مسار العدالة الانتقالية التي شكّل الرئيس لجنة خاصّة بها. والجدير ذكره أن السوريين العلويين رافضون تمثيل صقر لهم، ويريدون محاكمة المتورّطين، والخلاص من حالة الخوف نتيجة استهدافهم كجماعة.

لن تقود مقاربة السلطة الجديدة مسار السلم الأهلي إلّا إلى مزيدٍ من الأعمال الانتقامية، المستمرّة منذ التحرير، نتيجة غياب الثقة بنية السلطة وقدرتها على السير جدّياً في مسار العدالة الانتقالية. ليست هذه المقاربة إلّا حلولاً ترقيعية، والدليل انفجار المشكلة بوجه السلطة، وفشل كل الجهود لإطفائها، سواء مؤتمر صوفان- البابا، أو تبريرات وزير الإعلام عبر شاشات التلفزة. مسار السلم الأهلي جزء من مسار العدالة الانتقالية، لأن الغاية من البدء ببرنامج الأخيرة طيّ صفحة الصّراع وتحقيق السلم الأهلي. … بالتأكيد، لا يمكن محاسبة كلّ من حمل السلاح، كما قال صوفان، لكنّ الصَّفح عمّن تورّط بالجرائم لا يتمُّ بقرار فوقي من أصحاب النفوذ، فهو مرتبط باعتراف المجرمين بجرائمهم من أجل كشف الحقيقة، وتعويض الضرر للضحايا، وقبول الضحايا بالمسامحة، لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات، سواء عبر القضاء المستقل المختص بملف العدالة الانتقالية أو عبر لجان أهلية تشارك في إدارة هذا الملفّ بإشراف الدولة.

العربي الجديد

—————————-

 السلم الأهلي السوري: اتفاق الصمت؟/ عبير داغر إسبر

الأحد 2025/06/15

لطالما تأرجحت حياتي، كإنسانة وكروائية، بين غايتين متناقضتين: أن أنسى كي أنجو، أو أغرق في التفاصيل علّها تنقذني من الجهل. بين هذين الحدّين الهشّين، تبلورت رؤيتي للعالم، ولما يحدث في هذا البلد “الأم” الذي لم يعد أرضاً أو حدوداً، بل أصبحَنا، وأصبح إيّانا. وسوريا اليوم، تمشي نحو المصالحة وتطرح سؤالها الأهم: كيف نبني “السِّلم الأهلي”؟ هل بهدنة مطوّلة؟ بتوقف ميكانيكي للحرب؟ أم بحالة من التناغم العميق، تتصالح فيها الجماعات المتنافرة مع ذاكرتها، وتلتقي في مساحة من العدالة والثقة؟

أنا، كفرد، أعرف أن السلم الأهلي ليس غفراناً طوباوياً، ولا تسوية آنية، بل هي مسار مؤلم وطويل، يتطلّب هضماً بطيئاً للألم الشخصي والجمعي. لقد عشت، كما كثيرين، تحت خطاب عنيف ومنقسم. وهناك، في الهامش الرمادي، ظلّ السؤال يطاردني: كيف تنشأ مصالحة في ظل صراع مرير بين الذاكرة والنسيان؟ وسوريا كبلد وأفراد ليست استثناءً. فشعوب كثيرة خرجت من الحروب محمّلة بالدروس، وتاهت، مثلنا، بين ضرورة التذكّر كفعل مقاومة، وواجب النسيان كوسيلة نجاة.

بعد ديكتاتورية فرانكو، اختارت إسبانيا طريق “اتفاق الصمت”. لقد آثرت الأمة نسيان الماضي، وطوت صفحات الحرب الأهلية بلا محاسبة أو اعتراف، في محاولة لضمان انتقال سلس نحو الديموقراطية، تم على حساب الذاكرة. فبقيت جراح الماضي تنزف في الخفاء، وتراكمت آلام الضحايا، لتظهر مجددًا بعد عقود، مطالبة بكسر الصمت وكشف الحقيقة.

وفي لبنان، الذي نعرف ونجاور، بُنيت الدولة على أنقاض الذاكرة، وقرر المجتمع الإلتئام بلا عقد اجتماعي حقيقي. وظل السلم الأهلي هشاً، مهدداً بالانهيار عند كل أزمة. في كوسوفو، سلك المجتمع مسارًا جمع بين العدالة الدولية والمحلية، فأُنشئت محكمة خاصة لجرائم الحرب، ترافقت مع مبادرات مجتمعية للمصالحة بين المكونات الإثنية. لقد حاول الكوسوفيون، بجدّية شلالات الدماء التي سكبت، وشبكات الانتقام ذات المسارات المعقّدة فوق آلاف الأجساد التي تمت تصفيتها بلا رفة قلب، بناء سردية تقوم على التوثيق والمحاسبة، لا النسيان أو التسويات السياسية الفوقية.

في جنوب أفريقيا، حيث طوى نظام الفصل العنصري صفحة من الظلم والقمع، لم يكن النسيان هو الخيار الأمثل. لقد اختارت البلد مسارًا شجاعًا عبر “لجنة الحقيقة والمصالحة”. لم تكن هذه اللجنة محكمة بالمعنى التقليدي، بل كانت فضاءً للاعتراف، حيث يُسمح للجناة بالبوح بجرائمهم مقابل فرصة العفو. لم يكن الهدف هو الثأر، بل بناء مرويات وطنية جامعة، تقوم على المصارحة لا التعتيم.

في رواية “العار”، يقدم الأدب سرده الموازي لمرويات التاريخ. إذ يغوص ج.إم.كوتزي في أعماق جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، كاشفًا هشاشة السلم الأهلي الذي لم يُبنَ على أسس العدالة الحقيقية. إذ يجد الأستاذ الجامعي “ديفيد لوريه”، نفسه، مجبرًا على مواجهة عار شخصي ومجتمعي، يُتَّهم ديفيد بالتحرش بإحدى طالباته، لكنه يرفض الاعتذار رغم اعترافه بالجريمة، فيترك الجامعة ويتوجه للعيش مع ابنته في مزرعتها، يعمل في جمعية تختصُّ بالموت الرحيم للكلاب. ولأن للعار لعنة، فقد حلَّت لعنتُه بابنته من خلال مجموعة من المستوطنين السُّود، اقتحموا المزرعة وسرقوها واغتصبوا ابنته اغتصابًا جماعيًّا، لكنَّها ترفض إبلاغَ الشرطة عن حادثة الاغتصاب، أو إجهاضَ الطفل الذي حمَلت به، ليُولَد ابنها هجينًا يحمل دماء البِيض والسُّود معًا.

ومثل جنوب افريقيا، وفي السياق السوري، تتداخل الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، وتتشابك مصائر الأفراد والجماعات. يصبح الحديث عن الوصول إلى السلم الأهلي أكثر تعقيدًا وإلحاحًا. فالحرب السورية لم تكن مجرد صراع داخلي، بل كانت مسرحًا لتفاعلات دولية معقدة، أضافت طبقات من التشظي الجغرافي والاجتماعي، حفر عميقاً في بنية سوريا التاريخية، والوجدانية الحكائية أيضاً. فبات من الصعب تحقق سلم أهلي حقيقي، إن أتى كأجندة مفروضة، أو كخطة بروتكولية للإنقاذ، كونه بحاجة لكل ما لايملكه السوريين الآن: الوقت.

المؤتمر الذي عُقد في دمشق مؤخرًا لنقاش “السلم الأهلي”، وما رافقه من جدل حول الإفراج عن شخصيات متورطة في انتهاكات، يضعنا أمام مفترق طرق حقيقي. فالمبادرات المطروحة اليوم، رغم ما تحمله من نوايا حسنة، تظل عاجزة عن الوصول إلى جوهر السلم، ما لم تُواجه بجرأة ملف العدالة والمساءلة.

تبرير عدم المحاسبة بذريعة “حقن الدماء” أو “المصلحة الوطنية”، من دون تقديم أدلة أو إشراك الضحايا، يُقوّض فرص بناء سِلمٍ فعلي. فالمسامحة حق خاص، لا تملكه الدولة، والعدالة العامة لا تكتمل إلا بالقانون. ولا يمكن الحديث عن مصالحة تَطوي الصفحات من دون قراءتها ومحاسبة مَن لوّثها بالدم والفساد.

غياب قانون واضح لمحاسبة مجرمي الحرب، والاعتماد على مراسيم رئاسية محدودة، يفتح الباب على أخطار كبيرة: من الانتقام الفردي، إلى تآكل ثقة الناس في الدولة، وانهيار شرعية المصالحة. فالسِّلم لا يقوم على تغييب الضحايا ولا على إعادة تدوير أدوات القمع. وأي مسار مصالحة لا يُحسم بوضوح سيكون مجرّد تسوية مؤقتة، لا عقدًا اجتماعيًا يفتح أفقًا جديدًا.

أدرك اليوم أن السِّلم الأهلي لا يُبنى بالقرارات وحدها، بل بالاعتراف الصريح بأن الفقد لا يُمحى، وأن النجاة لا تعني النسيان. المصالحة، كما أتمناها، ليست هدنة عابرة، بل توازناً دقيقاً بين ذاكرة تحفظ الحقيقة ونسيان يُتيح لنا أن نكمل الطريق. فالسِّلم، كالحقيقة، لا يُفرض ولا يُختصر، بل يُنسَج على مهل، بخيوط الألم والمعرفة، وبأنفاس من ذاقوا الخسارة. وإن لم يتّسع لكلّ من اكتوى بجمر الحرب، فلن يصمد.

وأنا، بكل قلقي، لا أبحث عن خلاص، بل عن بداية صادقة تُشبهنا، ولا تُقصي أحداً من الحكاية.

المدن،

——————————-

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى