منوعات

مختبر دمشق للفنون البصرية يسترجع الحرب السورية/ سامر محمد إسماعيل

عروض تبتعد من الفضاء التقليدي وتزيل الحدود بين الأنواع الفنية

الأحد 15 يونيو 2025

أربعة عروض قدمها “مختبر دمشق للفنون السمعية والبصرية” بإشراف الفنان أدهم سفر، مسترجعاً الحرب السورية. كل عرض منها يؤدي بالجمهور إلى الآخر، عبر ممر يصل المسرح بالكواليس.

العرض الأول جاء في الردهة المقابلة للمسرح الدائري داخل المعهد العالي للفنون المسرحية، وحمل عنوان “فيق” لمخرجه نور درّا، وفيه قدم الفنان الشاب توليفة بصرية أدائية عن الحرب السورية، بينما أتى العرض الثاني في مسرح فواز الساجر بعنوان “حرية” لمخرجه حسن حسام الدين، واتكأ على نص “شهرزاد” لتوفيق الحكيم، في حين حقق أكرم دلاور عرضاً بعنوان “الطريق الواحد” داخل كواليس المسرح الدائري، لينتهي المطاف بالجمهور بعرض “الذاكرة” لمخرجه حمزة أيوب، والذي وظف فيه هو الآخر تقنيات الفيديو والغرافيك لمواكبة رحلة شاب عانى الاغتراب في بلاده، مثلما كابد الغربة داخل بلاد المهجر.

العروض الأربعة مزجت بقوة بين الرقص والتمثيل مع تقنيات الإضاءة والشاشات الذكية، إلا أن اللافت في هذه التجارب ابتعادها من الفضاء التقليدي، وإزالة الحدود بين الأنواع الفنية، وصولاً إلى ما يدعى بـ”اللذة الجمالية للعرض المسرحي”. وهذه اللذة التي افتتحها “فيق” بطقسية مهيبة لراقصين يقبعون داخل أقفاص حديدية، فيما تحيط بهم شاشات تلفزيونية تبث نشرات أخبار ومشاهد من مجازر دموية مدمجة مع صيحات تلاميذ مدارس يؤدون تحية العلم الصباحية. الجمهور أيضاً في عرض “فيق” كان عليه أن يقف داخل أقفاص حديدية مقابلة لأقفاص المؤدين والمؤديات، في تناظر بصري جعل من الجمهور جزءاً من اللعبة، والتي تندلع بقوة مع غناء حي (سهير صالح) أقرب إلى أرجوزة تغنيها الأم لابنها “يلا تنام لادبحلك طير الحمام”. الهنهونة التي يقترن فيها النوم بالذبح لم تأت عبثاً، بل أسقطها الدرا على واقع بلاد تهز سرير الطفل بيد وتذبح له حمائم السلام باليد الأخرى.

فهم مختلف

واستطاع مخرج عرض “فيق” تنشيط فاعلية المتلقي في العرض عبر فهم مختلف للأداء المسرحي وربطه بالجسد، وهذا ما دفع المؤدين لتغليف الأقفاص الحديدية الخاصة بالجمهور بنوع من النايلون الشفاف، وجعل المتفرجين أقرب إلى سجناء في صناديق تسلط عليهم الإضاءة، في مشهد أقرب إلى حيوانات سجينة داخل سيرك دموي. مفارقة أفضت إلى معالجة لافتة أيضاً للملف الصوتي لعرض “فيق”، والذي مزج عدة مستويات من أصوات ضحايا تصادت مع أناشيد وصيحات الحرية في تظاهرات ضد نظام الأسد المخلوع. وبهذا تمكن الدرا من إنجاز لحظات مؤثرة من العرض (20 دقيقة)، ناسفاً المسافة بين الحلم والواقع، وتاركاً للمتلقي حرية تمزيق ستائر النايلون التي لُفت حول أقفاص الفرجة، ومن ثم الذهاب نحو العرض التالي بلا تصفيق وبلا صيحات “برافو” التي غالباً ما ترافق نهايات العروض السورية، بل جاء الصمت هنا بمثابة خاتمة للصخب الذي رافق شخصيات لا تلبث أن تصحو من رقدتها الطويلة لتدخل في كوابيسها الراهنة.

العرض الثاني جاء بعنوان “حرية” وهو مقتبس عن نص “شهرزاد” لتوفيق الحكيم (1898-1987). واعتمد مخرجه حسن حسام الدين على الرقص في سرد أحداثه، والتي حققها الكاتب المصري في سبعة مناظر، وتروي تباعاً مشاهد احتفال النساء بقدوم الملك شهريار، وقصة تعرف وزيره قمر إلى شهرزاد، ومن ثم خيانتها لشهريار مع العبد، وصولاً إلى مشهد انتحار الوزير وهرب العبد حراً من سيده. أحداث لعب فيها الضوء دوراً حاسماً في تجسيد مخدع شهرزاد وهربها من الموت عبر السرد. النص الذي اشتغل عليه الناقد مصطفى عبود دراماتورجياً بالتعاون مع رباب الدمني، بدا ذريعة لتجليات السينوغرافيا التي تراكبت أجواؤها مع موسيقى سيمفونية “شهرزاد” للروسي ريمسكي كورساكوف (1844-1908).

وتمكن مخرج “حرية” من تجزئة فضاء المسرح الدائري إلى عدة مستويات عبر توظيفه لتقنية خيال الظل، لا سيما في مشهد اختلاء العبد مع شهرزاد في خدرها. مناخات لونية تضافر فيها الرقص مع الضوء لصياغة أجواء من “ألف ليلة وليلة”، سواء عبر الأزياء التي قاربت ملابس زمن الخلافة العباسية في بغداد، أو حتى عبر الرقص الشرقي الذي يعتمد الإغواء الجسدي من خلال حركات الجذع واليدين. هذا المناخ المشبع قارب مزاج “الليالي العربية” وجعل من لعبة الظلال مع الجسد مساحة للمكيدة التي تبرمها شهرزاد في النص الأصلي، وصولاً إلى تصوير أجواء الصحراء وما ترافقها من مغامرات لأبطال حكايات “ألف ليلة وليلة”، وصولاً إلى ذروة درامية ينتحر فيها الوزير قمر، ويكتشف شهريار خدعة زوجته وخيانتها له مع غلامه.

البحث عن الطريق

وتابع مختبر دمشق للفنون السمعية والبصرية في العرض الثالث، والذي حمل عنوان “الطريق الواحد- إلى أين” للمخرج أكرم دلاور، وفيه اعتمد الفنان الشاب على الإضاءة الخدمية في إنارة الفضاء الذي حاكى مستودعاً بطبقتين تتخلله طرق ومتاهات يروي عنها الممثل سيمون حناوي، فيخاطب الجمهور مشعلاً عشرات الشموع للاهتداء إلى الطريق، لكن كل محاولاته ستبوء بالفشل، ليعود دائماً من حيث جاء. متاهة السلالم المغطاة بجرائد ورقية قديمة ستفضي إلى اعترافات جيل بأكمله وجد نفسه في متاهة نفسية شكلتها الحروب ونزاعات ذات البين. ولا عزاء لمن يضيع الطريق، كما لا لافتات تشير إلى نهاية الدهاليز المتشابكة، وعليه يفقد الممثل أعصابه وينزع عن وجهه قناع الكياسة المفتعلة ليصيغ ما يشبه صراخاً في وجه العنف والموت العبثي.

حالة ممثل عرض “طريق واحد- إلى أين” ستقابلها حالة ذلك الشاب المغترب في عرض “الذاكرة” لمخرجه حمزة أيوب، وفيه يدلف الجمهور إلى قاعة صغيرة في عمق كواليس المسرح، ويتوزع على كراسي قبالة الشاب (أنطونيو طعمة) الذي نجده يجلس إلى كمبيوتر شخصي (لابتوب) مستعرضاً ما يشبه شريط ذكرياته. رحلة أشبه بتجربة سينما الطريق التي ترويها الصور عبر رحلة في قطار ليلي. ويقول المؤدي في الشريط الصوتي للعرض “أخذت نفساً طويلاً بطول الرحلة، الزمن فارغ كاللغة، ركبت القطار مسرعاً، وقعت، استلقيت، وقفت، لم أجد هنالك فرق كي أنجو، غنت لي أمي مرات عدة، ولكن كان صوت الرياح أعلى”.

نبرة عميقة يسوق فيها الممثل تداعيات لصور من ذاكرته البعيدة، ولا تلبث أن تتراكب هذه الصور مع رحلة الشاب، وتجربته في اللجوء إلى ألمانيا، وانقطاعه عن ماضيه الدمشقي نحو غربة دفعته إلى اغتراب مزمن عن المحيط الذي لا يشبهه. ويتكئ العرض على سرد روائي يتواشج مع شريط فيلمي يعتمد تقنية الغرافيك، فنطل على العالم الداخلي لبطل “الذاكرة” الذي لا ينفك يردد “زرعت حلمي شوكة في ظهر الشمس، وكان الزفير يحمل آخر بستان في فمي، ذهبت يوماً باتجاه الشمال، كنت أحمل حقيبة من قماش ممزق مملوءة بضحكات أطفال، في القطار الذي حملني كانت العيون التي قابلتني تبحث عن شيء ضاع مني”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى