أن تجدّف بِمْبضَعٍ نحو النجاة في بحرٍ من دم سوري…/ ابراهيم زرقه

17.06.2025
حين يسيل الدم من جسد أنقذته بيدي، لا يفرق بين نظام ومعارضة، بين راية وراية، بل يسأل سؤالاً واحداً: “لماذا قُتلت؟ ومن سيذكرني؟” أنا أذكره، كما أذكر غيره ممن قتلتهم الحرب اللعينة، وسأحمل موته في قلبي كما حملت حياته في يدي. وسأكتب. ليس من باب الحياد، بل من باب الولاء للضوء الذي يخرج من غرفة العمليات، لا من فوهة البندقية.
إلى “خليل” مريضي…
إلى د. فائز عطاف ود. محمود بكري ود. نور زعتر
يتحوّل الطبيب في زمن الحروب والصراعات المسلّحة، إلى شاهد صامت على مأساة لا تنتهي، تتقاطع مهمة إنقاذ الجسد المُصاب مع محيط العنف والحديد الذي يستهدف الأرض، هذا التناقض الوجودي يجعل المشرط الطبي أداةً لا تقتصر على التشريح الجسدي وحسب، بل تغدو مرآةً لمأساة أعمق، حيث تتشابك مصائر الأفراد مع مصير الوطن. وفي هذا السياق، يُطرح السؤال حول دور الطبيب في الحرب: هل هو المخلّص أم الشاهد على موت مستمر ؟ وهل كل إنقاذ للجسد هو إنقاذ للحياة أم أنه تأجيل للموت وحسب؟
لست طبيباً شرعياً، أنا جراح أطفال، يتمحور عملي كله حول إنقاذ أعمار صغيرة وتسكين الألم. تعلمت أن أقاتل الموت، لا أن أفسّر أسبابه. لكنني اليوم أقف على حافة مشرحة الذاكرة، لا في غرفة العمليات. أكتب هذا النص لا لأحلّل الجريمة، بل كي أفهم نفسي: كيف وصلت إلى هذه اللحظة، حيث أشعر أن المشرط في يدي قد انقلب ضدي، وكيف غدت غرفة العمليات شبيهة بسوريا.
يرمز المشرط في يد الجراح إلى الإنقاذ، يسعى الطبيب إلى بعث الحياة في الجسد المفتوح. وفي زمن العنف، يغدو من المرعب التشابه بين أداة الطبيب في غرفة العمليات وأداة القاتل في ساحات القتال، فالاثنان يتحكمان في مصير الجسد بأداة من حديد، أحدهما يؤجل الموت، والآخر يستحضره برصاصة. يتحول الطبيب هنا إلى شاهد على موتٍ جماعي، يتلمس إيقاع دورة العنف التي تحصد الأرواح.
تكشف هذه الوضعية عن أزمة وجودية ومهنية حادة، حيث يُفرض على الطبيب أن يعمل داخل منظومة عنف لا تنتهي، تضطره إلى التساؤل عن جدوى عمله ومدى تأثيره الحقيقي في إنقاذ الأرواح.
دخلتُ كلية الطب البشري عام 2007، أذكر حين طُلب منا في اليوم الأول في المشرحة الابتعاد قليلاً عن الجثة، التي تنبعث منها رائحة الفورمول القوية. لم أشعر بشيء وقتها، اقتربت أكثر فأكثر، كان ذلك اختباراً على المشاعر المحايدة التي يجب أن يمتلكها الطبيب، هو الشعور نفسه الذي شعرت به في أول يوم حقيقي لي في غرفة العمليات، حين كان يدربني الدكتور فائز عطاف.
قال لي د. فائز: “لا تقترب كثيراً، لعلك لا تحتمل رائحة الدم”، بعد خمس دقائق التفت إلي فوجدني محدقاً في طاولة العمليات، ضحك وقال اقترب وشاهد عن كثب. لم أشم رائحة الدم وقتها، لكن رائحة اللحم الحي المحروق هي ما سدّت أنفي، ففي الجراحة نستخدم “مخثراً” لإرقاء الأوعية النازفة وتنبعث رائحة تشبه رائحة احتراق اللحم.
هل شممتم لحماً يحترق من قبل؟ أكاد أجزم أن السوريين جميعاً اشتموا رائحة لحم أحبّتهم تحترق في كل مدينة سورية، وكان آخر اللحوم المحروقة في الساحل. لكننا، نحن الأطباء نشمّ هذه الرائحة في غرف عملياتنا، ونتعامل مع جسد المريض ككتلة من لحم وعظام وأوعية وأعصاب، لا كروح.
تختفي مشاعر التعاطف داخل غرفة العمليات وتحلّ مكانها المهنية العالية، فالجسد بمثابة ماكينة عاطلة عن العمل وأنت من عليه إصلاحها. هكذا نتعامل مع “اللحم” في غرفة العمليات، ما قد يجعل التشابه بيننا وبين القتلة موجوداً، بصورة ما، كلانا يمتلك “سلطة” إعادة تشكيل الأجساد وتكوينها، أنا أفتح اللحم عن اللحم، وأرتب وأرتق ممرات الحياة، والآخر يفتح وعاء الجسد لتسيل منه الحياة/ الدم، كلانا على تماس مباشر مع هشاشة اللحم البشري، وليس من المستغرب أن يكون بشار الأسد قاتلاً. فأطباء مثل هارولد شيبمان من المملكة المتحدة البريطانية، ومايكل سوانغو وتشارلز كولين من الولايات المتحدة الأميركية، قتلوا مرضى وزملاء للمتعة والهوس فحسب.
“سيّد” أنا في غرفة العمليات، أبعث الروح في اللحم والعظام، وأمارس الجراحة كفعل روتيني. والقاتل، أيضاً ملكُ ساحته ويمارس القتل بشكل روتيني، يضغط على الزناد، المشرط بيدي والبندقية بيده، كلانا نحدد مصير الجسد أمامنا، والفرق ليس في الدور ولكن في الزمن، فالطبيب لا يبعث الحياة في الجسد بقدر ما يؤجّل الموت. في هذا المشهد، يبدو المشرط والرصاصة كأدواتٍ متناقضة في ظاهرها بيد أنها، متشابكة، في جوهرها.
خليل الذي أجّلت موته!
في المذبحة السورية المستمرة يغدو الطبيب ليس المنقذ فحسب، بل شاهداً على مذبحة مفتوحة، شاهداً على مريضٍ نجا اليوم ليواجه الذبح غداً، كما حصل مع مريضي، أو من كان سابقاً مريضي. فأنا لم أنقذه بقدر ما أجّلت موته.
سألتني ممرضة في قسم التلاسيميا: “هل تذكر خليل يا دكتور؟”، كيف لا أذكره وهو من ضمن المرضى الذين أمنت ورفاقي اللقاحات له، قُتل لأنه كان في المكان الخطأ، أو الطائفة الخطأ، أو تحت راية لا تليق به. والأقسى: أن من قتله ليس النظام الذي عارضتُه طوال حياتي، بل من يُفترض أنهم “معي”، في المعسكر نفسه. كأن الحقيقة انشطرت، والأرض تميد بي.
تلاشت في تلك اللحظة الحدود بين الإنقاذ والموت. منحته وقتًا إضافيًا للحياة، لكن المجازر كانت أسرع، تحصد الأرواح التي أنقذتها قبل أن تتاح لها فرصة التنفّس. ومن دون إحساس بدأت أسأل نفسي: أنا والقاتل؛ نملك قرار حياة أو موت، تشابه الى درجة مخيفة ومتناقضة. فهل كنت أمارس الطب بالفعل؟ أم كنتُ مجرد ترسٍ آخر في ماكينة الحياة والموت، متقن في عمله، لكنه عاجزٌ أمام العبث الكلي؟
درج