سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمنوعات

البوركيني والسيادة الشخصية: أزمة الفرد في مجتمعات الوصاية/ عروة محمد

في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت وزارة السياحة السورية فرض ضوابط جديدة على لباس الزوار في الشواطئ والمسابح العامة، حيث يُطلب من النساء ارتداء البوركيني، أو تغطية أجسادهن، بينما يُمنع الرجال من الظهور مكشُوفي الصُّدور في الأماكن العامة خارج حدود السباحة. القرار، الذي جاء بحجة تعزيز «المصلحة العامة» وحماية «الهوية الأخلاقية»، لاقى ردود فعل متباينة على منصات التواصل الاجتماعي، بين مؤيدين يرونه خطوة نحو «احترام القيم الاجتماعية»، وقلة من المعارضين اعتبروا القرار تقييدا للحرية الشخصية.

تدفع هذه الإجراءات إلى السطح إشكاليات أكثر عمقا حول العلاقة ما بين السيادة والاستقلال الشَخصيين، والحرية كمفهوم فلسفي وعملي. كما توضِّح اتخاذ السلطة السورية الحالية نهجا وصَائيا في التعامل مع السوريين.

الوصاية وحماية الأخلاق العامة

ما تقوم به السلطة السورية، من خلال فرض قيود على لباس الأفراد في الشواطئ والمسابح، يمكن فهمه بوضوح باعتباره ممارسة لنوع من «الوصاية» (Paternalism)، بمعنى تدخل السلطة (سواء كانت دولة أو جماعة أو مؤسسة) في حياة الأفراد، بدعوى حماية مصلحتهم أو مصلحة المجتمع، حتى لو تعارض ذلك مع إرادتهم أو حريتهم الشخصية. أصل المصطلح يأتي من «Pater» باللاتينية، أي «الأب»، ما يشير إلى نموذج أبوي تعتبر فيه السلطة نفسها مسؤولة عن حماية الناس من أنفسهم (كمنع المخدرات أو إلزام حزام الأمان)، أو من الآخرين (كمنع التدخين في الأماكن العامة)، أو بدعوى «الحفاظ على الأخلاق العامة»، كما في قرار السلطة السورية الجديد. قد تكون ممارسة الوصاية جيدة كما في المثالين الأولين، حيث إن هذه الممارسة تقوم على حالة إجماع عام بضرورة حماية الحياة من الحوادث في الحالة الأولى، ومبدأ منع الضرر عن الآخرين في الحالة الثانية، وهي حسب الفيلسوف الأمريكي جون رولز، الحالة الوحيدة التي يجوز فيها للمجتمع التدخل في حرية الفرد. فيما عدا ذلك، يصبح من السهل الانزلاق نحو مبررات وصائية، حيث تقرر الدولة نيابة عن الأفراد ما هو مناسب أخلاقيا وما هو ليس مناسبا، بغض النظر عن قناعات الأفراد أنفسهم.

حين تفرض السلطة قواعد (مثل اللباس «المحتشم») بدعوى حماية الأخلاق أو مصلحة الجماعة، فإنها تنزع عن الفرد قدرته على اتخاذ القرار الأخلاقي بنفسه، وتفترض أنه عاجز عن التمييز بين الصواب والخطأ، ما يحوله من فاعل حر إلى مفعول به. فالسُّلطة هنا لا ترى في الفرد إنسانا مكتمل الأهلية، بل تراه كائنا قاصرا، يحتاج دائما لتدخل «أبوي» (من السلطة أو الجماعة) لضَبط سلوكه، ومراقبة خياراته. يشير هذا النوع من التعامل مع الأفراد، وهو شائع جدا في الوسط العربي والشرق أوسطي، إلى غياب جذري لمفهوم «الفرد» بوصفه كيانا مستقلا أخلاقيا وعقليا عن الجماعة وسيدا لنفسه، قادرا على اتخاذ قراراته الخاصة وممارسة حقوقه وواجباته. في غياب هذا المفهوم للفرد يصبح من الصعب التأسيس لأي حرية حقيقية.

كانط وسيادة الفرد والعقل

بالنسبة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الحرية لا تعني غياب القيود، بل تعني أن يكون الإنسان قادرا على الالتزام بالقانون الذي يشرعه لنفسه من خلال عقله. في فلسفته، لا يمكن أن يكون الإنسان حرا، إذا لم يكن قادرا على تحديد ما يفعله وفقا لمبادئ أخلاقية يختارها بعقله، بمعنى أن تكون الحرية مبنية على سيادة العقل، لكن هذه السيادة لا تتحقق إلا في سياق الفرد، بوصفه كائنا مستقلا وسيدا على ذاته. تجذر هذا المفهوم للفرد وسيادته الذاتية في الوعي الأوروبي/الغربي وعليه بنيت مفاهيم الحرية والديمقراطية. في المقابل يعاني الفكر العربي التقليدي من غياب عميق لمفهوم الفرد، حيث يتم التعامل مع الأفراد باعتبارهم جزءا من «الجماعة»، سواء كانت عائلة، قبيلة، طائفة، أو أمة. يتم التعامل مع الأفراد كوقود للجماعة فقط لا غير، ومن يحاول إثبات وجوده كفرد، كذات حرة، يعامل بالنبذ والإقصاء وربما القتل، لأنه مشكوك فيه، فهو خارج عن النص، عن الجماعة والقبيلة، وبالتالي هو تهديد وجودي لنقاء الجماعة وإجمَاعها. يُفهم الفرد كأداة تعمل ضمن المصالح الجماعية، وليس ككيان مستقل يمتلك حقوقا، وقراراته الخاصة. هذا يعني أن الحرية لا تُعتبر حقا فرديا طبيعيا، بل هي غالبا ما تُفهم كـ»امتياز» تَمنحه الجماعة للفرد، بشرط أن يتوافق مع القيم السائدة في المجتمع. لا وجود للحرية كمفهوم فلسفي وعملي، بل فقط «هامش حركة داخل البنية». طالما أن الفرد غير معترف به كمركز للقرار والكرامة والاختيار، فالحرية تتحول إلى حرية مشروطة، مسموحة فقط في حدود الجماعة، بما لا يهدد البنية، وهو ما يتجسد في القرار السوري الأخير، الذي يفرض قيودا جديدة على السلوك الفردي بما يتوافق مع «قيم الجماعة». في السياق العربي يمكن التعبير عن الحرية بـ»اختر ما شئت، طالما أنك تختار ما اخترناه لك»، وهي النسخة الوصائية من الحرية، حرية الامتثال وليس الاختيار.

إذا كانت الحرية تقتضي وجود فرد مستقل، قادر على اتخاذ قراراته، بعيدا عن تأثيرات السلطة والجماعة، فإن غياب هذا المفهوم في الفكر العربي، يعرقل أي مشروع تحرري حقيقي. لا يمكن لأي ثورة أن تحقق حرية حقيقية إذا لم يترافق هذا مع إعادة بناء الفهم الجماعي للفرد ككائن مستقل ذي كرامة وحقوق غير قابلة للانتقاص. في غياب هذه المفاهيم وحيث يسود التصور للفرد كـ»كائن قاصر»، لا حاجة لعقد اجتماعي بين أفراد متساوين، فهؤلاء الأفراد يُفترض أنهم غير مؤهلين للاختيار أصلًا. إن أي مشروع تحرري في العالم العربي، يجب أن يبدأ من إعادة تأسيس مفهوم السيادة الشخصية، من خلال تعميق الوعي الفلسفي بأهمية الفرد كركيزة للحرية. مشروع كهذا لا يمكن أن يكون سياسيا فقط، بل مشروعا فكريا وثقافيا طويل الأمد. وإذا لم يتم بناء عقد اجتماعي جديد يستند إلى هذا الفهم العميق للحرية، فإن الثورات في العالم العربي ستظل معرضة لإعادة إنتاج الأنظمة نفسها التي قامت ضدها، تحت شعارات الحرية التي تبقى بلا مضمون حقيقي.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى