الثقافة التي تحتاج إلى إنعاش لا إلى وزارة/ سوسن جميل حسن

17 يونيو 2025
يمكن القول إن مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم التي شغلت الدارسين من علماء اجتماع، وعلماء لغة، وفلاسفة وغيرهم، ففي مجال العلوم الاجتماعية وحده، يبدو أن تنوع المعاني والاستخدامات واسع جداً، فقد أحصى باحثان أميركيان (أل. كروبر وC. كلاكهون) في عام 1952، أكثر من 150 تعريفاً مختلفاً، صاغها منذ منتصف القرن الثامن عشر علماء، سواء كانوا أنثروبولوجيين، أو علماء اجتماع، أو حتى علماء نفس.
مع الوقت، نشأت علاقة بين الإنسان والثقافة، ربما صارت الكلمة تدغدغ الأسماع وتحرّض معاني متنوعة لدى كل فرد أو مجموعة اجتماعية، على أنها مركّب يشمل المعرفة، والمعتقد، والفن، والقانون، والأخلاق، والعادات، وجميع القدرات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع أو مجموعة ما. فهي طريقة عيش في بيئة ابتدعها الإنسان. بل إن كلمة ثقافة، وما تحمل من مفهوم واسع، باتت وحدها تتوزّع على عدد لا يعدّ من المفاهيم، أو تُحمّل كثيراً من المعاني الخاصة التي تشير إلى حوض معرفي متخصص، أنتجته المجموعات البشرية، فبتنا نسمع مفردات كثيرة: “ثقافة عامة”، “ثقافة جماهيرية”، “ثقافة بدنية”، “ثقافة علمية”، “ثقافة وطنية”، “ثقافة شعبية”، “ثقافة تعايش”، “ثقافة كلاسيكية”، وغيرها كثير.
في الواقع، لا نغالي، أو نبتعد عن الحقيقة لو قلنا إن الثقافة روح الأمة، أو الشعب، أو المجتمع، فهي مشتركة بين مجموعة من الناس، كبيرة كانت في تعدادها، أو مجموعة تمثل جيلاً عمرياً على سبيل المثال، وهي مجال يشمل كثيراً من مجالات النشاط البشري، وهي تنتقل عبر وسائل وطرائق متنوّعة من جيل إلى جيل من خلال وكلاء التنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة على سبيل المثال، فهي “تراث اجتماعي”.
يتعرّض هذا التراث الاجتماعي للهزّات الارتدادية التي تخلفها الزلازل التاريخية، أو الأحداث الكبرى التي تمرّ بها الشعوب والمجموعات البشرية كالحروب، خصوصاً لدى الشعوب التي لم تتحرّر من ماضيها، أو لم تقف منه موقفاً نقدياً وتبنِ لها نهجاً تسير فيه نحو المستقبل بخطى واثقة، كما في الحالة السورية على سبيل المثال. يؤدّي هذا الوضع المضطرب مع الوقت، خصوصاً في حال استثماره من أطراف النزاعات في تجييش مكوّنات الشعب بعضها ضد بعض، إلى انكفاء المجموعات الاجتماعية المكوّنة للمجتمع الكبير، كل واحدة على نفسها، ما يشجّع نمو أنماط من الثقافة: الثقافة الظاهرية، والثقافة المخفية الخاصة بكل مجموعة، ويمكن وصفها بأنها “عقلية المجموعة”. … وبما أنه يمكن عدّ الثقافة روح الشعب أو المجتمع، كما سلف القول، فإن روح الثقافة السورية مأزومة، مجروحة، منتهكة، بحاجة إلى إنعاش وحنوّ كبيرين، من دون تأخير.
وزارة الثقافة جزء أساسي من جهاز الدولة الحديثة، (قد تكون هيئة عليا، أو مؤسّسة وطنية، لا فرق) دورها واسع ويشمل جميع جوانب الحياة الثقافية في البلاد، لذلك كانت لوزارة الثقافة مكانة عليا في الوعي الجمعي للشعوب، وفي أولويات الحكومات، ولديها مهمّات ومسؤوليات كبيرة منوطة بها، من حماية التراث إلى رعاية الإبداع ونشره، إلى رعاية الثقافة الجامعة أو الهوية الحيوية للشعب. هذا لا يتم، ولا يؤدّي دوره كما ينبغي، ما لم يكن هناك هدف وتوجه حكوميان واضحان، واستراتيجية وخطط مدروسة، وهذا لا يتحقّق من دون التنسيق والعمل المشترك بين الوزارات المعنية في جهاز الدولة، وقبل كل شيء تطبيق قاعدة بسيطة وجوهرية وأساسية في نجاح أي إدارة، وهي: الشخص المناسب في المكان المناسب.
وبما أن المنصّات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم، في ظل الثورة الرقمية وتغلغل الذكاء الاصطناعي في حياة البشرية كلها، مرايا تعكس واقع حال كل مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وبالتالي: ثقافته، فإن حال الثقافة السورية تبدّى في المرحلة الراهنة من خلال ظواهر كثيرة في هذه المواقع، كان جديدها أخيرا فيديوهات ظهر فيها وزير الثقافة السوري، وأثارت موجات من الصخب والضجيج حولها.
ففي سؤاله طفلاً في الصف الثالث الابتدائي، ما يعني أن عمره ثمانية أعوام فقط، عن أبي العلاء المعري، كان دون مستوى المسؤولية المهنية والثقافية، بل حتى العاطفية، ما دام أنه لم يكترث بالارتباك والحزن الباديين على وجه الطفل، بل بدموعه التي تكاد تنفجر من صدره، وليس من عينيه فحسب، فهذا الطفل، عدا عن أنه في بداية طريق تكوينه اللغوي والمعرفي، يمثل جيلاً من أطفال سورية المنتهكة، جيلاً محروماً من أبسط حقوق الطفولة، جيلاً جرّحته الحرب وأدمت أحلامه، هذا ما كان واضحاً على ملامح الطفل المقهور الذي راحت شفتاه ترتجفان وخدّاه يختلجان أمام الملأ. ولم يلتفت سعادة الوزير إلى الروح المأزومة لهذا الطفل، بل تابع هازئاً أنه لا يعرف ماذا يسأله فقد أعيته بساطة الأسئلة والمعلومات التي “يذهله” أن الطفل لا يعرفها. بعد هذا الفيديو المحزن والمؤسف، شاع فيديو آخر يظهر فيه طفل بكامل عافيته وانشراحه يسأل “سعادة الوزير” بتظارف، عن مقولة له راجت أخيراً: طبق الكرامة، في مسابقة ثقافية “سمجة”، ويجعل الوزير يفوز فتشغله الجائزة عن الكاميرا التي عليه من خلالها أن يحيي “الجمهور”.
هذا جديد ما حرّر عن وزير الثقافة السوري في الحكومة الانتقالية، وكان قبلها قد ظهر في مشاهد تتنافى مع المسؤولية المنوط بها وزيراً للثقافة، كأن يظهر وهو يتناول وجبة سريعة جالساً على أحد الأرصفة، أو جالساً على منسف في مضافة شخص يلبسه عباءة. وسورية يلزمها رجال ونساء من أبنائها الذين يحملون مسؤولية بناء وطن مدمر مشرذم منتهك، وليست بحاجة إلى “ترند”، من دون محتوى يشكل رافعة ثقافية أو روحية لهذا الشعب، وهذه الأجيال المتعبة.
سورية، قبل كل شيء، بحاجة إلى رأب الصدوع بين نخبها الثقافية التي شرذمتها الحرب، وبحاجةٍ إلى العناية بالجروح الثقافية التي بات بعضها مفتوحاً على ألم جبار، وفي الوقت نفسه، لديها قضايا كثيرة تنتظر معالجة حكيمة واعية، لا تحتمل التأخير، فبعد عقد ونصف العقد من الحرب، استشرى التمزق الثقافي بين مكوّنات الشعب، وهو في الأصل لم يكن منيعاً في تماسكه بما استثمرت أنظمة القمع والطغيان في تكريسه لمصلحة تمكّنها من المجال العام، وتعرّضت المواقع الأثرية للدمار والنهب والسرقة، بل عادت عصابات الآثار لتزدهر وتنشط، وليس هناك من يحمي المعالم التاريخية والمواقع الأثرية، لا جهات حكومية ولا سلطات محلية أو منظّمات مجتمع مدني أو متطوعين، كما أن الحياة الثقافية شبه مشلولة في جوانب كثيرة منها، كدور السينما والمسرح والأوبرا، والمعهد العالي للموسيقى، والهيئة العامة للكتاب، والمراكز الثقافية وغيرها كثير من المنابر الثقافية. وأمامها مسؤولية ضرورية، وهي وضع رؤى وأهداف عامة وتطوير التشريعات والأنظمة والقوانين الخاصة بهذه الرؤى، خصوصاً بعد عقود من النخر في جسد الثقافة والتدخل السياسي والأمني من نظام الأسد وفرض الرقابة على المنتج الثقافي بكل أشكاله، وتقييده وخنق الطاقة الإبداعية فيه.
لا تنهض أمة، ولا ينهض شعب من دون تعافيه الثقافي والروحي، وإدراكه هويته الوطنية، وهي بالأصل هويته الثقافية، هذا التعافي يلزمه عملٌ منسّق بين وزارات عدة في الحكومة، كوزارة الثقافة والتربية والتعليم العالي والإعلام والسياحة وغيرها، ما يحقق كفاءة أعلى في إنتاج أهداف مستقبلية تتلاقى الجهود مجتمعة من أجل تحقيقها، بدلاً من ترك المجتمع السوري مقسماً إلى مجتمعات ومكونات، كل مكون يسعى إلى تعزيز ثقافته الخاصة وفق “عقلية” تخصه، غالباً ما تترجم إلى ثقافة مخفيّة.
معالي الوزير، جيل الغد السوري المتطّلع إلى مكانة له بين الشعوب والأمم في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي ليس بحاجة إلى “ترندات”، بل هو بحاجة إلى “تفجير” طاقاته الإبداعية، بالإقرار بها واحترامها، وتأمين الأدوات التي يحتاج إليها من أجل بناء مشروعه. العربي الجديد