سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمنوعات

الشهادة الثانوية في سوريا.. نهاية مرحلة خوف للشباب السوريين أم إعادة إنتاجها؟/ فاطمة عبود

2025.06.17

لطالما شكَّلت الشهادة الثانوية في سوريا، أو ما يُعرف بالبكالوريا، محوراً مركزياً في مصير الأفراد وخياراتهم المستقبلية، من خلال بعدها التعليمي من جهة، وتداخلها مع نظام الدولة السياسي والأمني والاجتماعي من جهة أخرى، ومن هذا المنطلق فإنَّ فهم الحالة الراهنة لهذه الشهادة، يتطلَّب تفكيك بنيتها السابقة ضمن منظومة الاستبداد التي رسَّخها نظام الأسد لعقود، إذ لم تكن الامتحانات المدرسية، ولاسيما امتحان البكالوريا، مجرد أدوات تقييم معرفية، بل كانت جزءاً لا يتجزَّأ من منظومة ضبط اجتماعي وسياسي شديد المركزية، جعل من التعليم وسيلة للانتقاء والتصفية والتحكم في مصائر الأفراد.

اكتسبت نتائج البكالوريا في السياق السوري بعداً إضافياً يرتبط مباشرةً بالخدمة العسكرية، وذلك خلال سنوات الحرب، حيث كان النجاح في الشهادة الثانوية كفيلاً بتأجيل التجنيد الإجباري، في حين أنَّ الرسوب كان بمنزلة أمر مباشر بالتوجُّه إلى شُعب التجنيد، ما حوَّل هذه الشهادة إلى جدار صدٍّ مؤقَّت في وجه المصير العسكري القسري، وبالتالي فإنَّ آلاف الطلاب كانوا ينظرون إليها باعتبارها وثيقة قانونية تسمح لهم بالبقاء في الحيز المدني فترة أطول، وتجنِّبهم الانخراط الفوري في جهاز الدولة العسكري، ما خلق امتداداً لانهيار العملية التعليمية في مراحل التعليم العالي أيضاً، لأنَّ الطلاب كانوا يستهدفون المراوحة لسنوات إضافية في هذه المرحلة التعليمية التي ما استطاعوا الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد. ومع تعمُّق هذه الوظيفة غير الأكاديمية، باتت البكالوريا أقرب إلى معركة بقاء منها إلى اختبار معرفي، وأصبحت مصدر رعب يتجاوز القلق الامتحاني الطبيعي إلى خوف وجودي حقيقي، مرتبط بتغير جذري في مصير الفرد.

وهكذا تحولت المؤسسات التعليمية إلى ساحات تدريب على الخوف والطاعة، فالأسر كانت تنفق كلَّ مواردها النفسية والمادية لضمان عبور أبنائها هذا الامتحان، وبأيِّ وسيلة، لا بهدف الدخول إلى الحرم الجامعي، بل لتأخير موعد دخولهم إلى الميدان العسكري، وفي هذا السياق المشوّه انقلبت العلاقة بين الطالب والمدرسة من علاقة بحث عن معرفة إلى علاقة دفاع عن النفس، في حين فقدت الشهادة معناها الأصلي بوصفها تمثيلًا للتحصيل الدراسي، وتحوَّلت إلى أداة قسرية لإعادة توزيع الأفراد على وظائف الدولة الأمنية.

إنَّ كلَّ ذلك خلق شبكة علاقات مشوهة داخل المنظومة التعليمية نفسها، ما أدَّى بدوره إلى نشوء سلوكيات طلابية قائمة على القلق المزمن، وانهيار في مفهوم العدالة التربوية الذي يفترض أن يكون أساساً لكل نظام تعليمي، فلا يمكن فهم سلوكيات مختلفة مثل؛ الغش الامتحاني، والشهادات المزورة، والدروس الخصوصية في سوريا خارج هذا الإطار، إذ لم تكن هذه الظواهر مجرد مشكلات تربوية تقليدية، بل انعكاساً مباشراً لحالة رعب بنيوي تأسس منذ ربط النظام بين شهادة الثانوية والتجنيد، ولذا فإنَّ الطالب لم يكن فقط مطالباً بتحصيل المعرفة، بل كان مجبراً على الفوز في سباق ماراثوني مع الزمن ومع سياسات الدولة.

وإذا تأملنا في التوزيع الاجتماعي والاقتصادي لنتائج البكالوريا خلال سنوات النظام الأسدي نجد أنَّها كانت تتناسب طرداً مع قدرة الأسرة على الإنفاق على التعليم الموازي والخصوصي، وهو ما يعني أنَّ النجاح لم يكن دوماً مؤشراً على الجدارة العلمية، بل على القدرة على البقاء ضمن دائرة الحماية من التجنيد، المرتبط أصلاً بالحالة الاقتصادية للأسرة، ومن هنا نشأت علاقة ملتوية بين المجتمع والمؤسسات التعليمية، علاقة قائمة على الخوف والتواطؤ والتنازلات، عوضاً عن أن تكون المدرسة فضاءً لبناء الذات، ومن ثم المجتمع.

لقد ترسَّخ هذا الوضع وتراكم لسنوات في الوعي الجمعي السوري، فشهادة البكالوريا هي مجرد قدر ومصير، وهو ما يفسر حجم الرعب الذي يسبقها، والطقوس الاجتماعية التي ترافقها، من الدعاء الجماعي إلى حالات الانهيار النفسي، وحتى الأحاديث المتوارثة عن ضحايا البكالوريا، والتي لم تكن مجازية في بعض الأحيان، إذ شهدت البلاد حالات انتحار أو انهيارات عصبية حادة بسبب هذا الامتحان، كلُّ ذلك كان نتيجة مباشرة لتسييس التعليم وتجنيد نتائجه في خدمة أجهزة الدولة.

وعلى الرغم من أنَّ البنية الشكلية للتعليم لم تتغير بعد اندلاع الثورة، فإنَّ سقوط النظام الأسدي مثَّل بداية انفكاك رمزي على الأقل بين التعليم والتجنيد، وهو ما فتح الباب أمام نقاش واسع حول ضرورة استعادة وظيفة الشهادة الثانوية بوصفها وثيقة أكاديمية تعكس استحقاقاً معرفياً فقط، لا علاقة لها بسياسات السيطرة أو الاستثناء، إذ إنَّ إحدى أولويات الحكومة الانتقالية والمؤسسات التعليمية يجب أن تشمل إعادة تعريف العلاقة بين الطالب والدولة، غير أنَّ هذا المسار لا يزال في بدايته، وما زال محكوماً بتراكمات رالعقود السابقة، إذ لا تزال النظرة السائدة إلى البكالوريا تنطوي على قلق نفسي بنيوي لا يرتبط فقط بنتائج الامتحان، بل بإرث سياسي واجتماعي طويل من الرعب المؤسسي. كما أنَّ انعدام الثقة الكامل بالنظام السابق قد انعكس أيضاً في رفض أيِّ شكل من أشكال الإدارة المركزية التعليمية، ما خلق بيئة غير مستقرة لإعادة بناء النظام التربوي، ومع ذلك فإنَّ فرصة بناء نظام تعليمي متكامل يؤمن بتعدد المسارات، ويربط التعليم بحاجات المجتمع، لا بمخاوفه، ويرتكز إلى العدالة في التقييم، لا تزال قيد الدراسة والتنفيذ. وفي حال تمكَّنت المؤسسات التعليمية الجديدة من تحقيق هذا التحوُّل فإنَّ الشهادة الثانوية يمكن أن تستعيد معناها الأصلي بوصفها تمثيلاً للجدارة والتعلُّم، لا بوصفها صكَّاً للنجاة من تجنيد قسري، وهو ما يشكل الأساس لأي إصلاح تعليمي حقيقي في سوريا ما بعد الاستبداد.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى