“الفنُّ يُوثِّقُ والأرشيفُ يتحدَّثُ”: عن معرض “مُعتَقلون ومُغَيَّبون” بدمشق/ أنور محمد

16 يونيو 2025
الرسمُ، أو الفنونُ، عمومًا، تُشكِّل قوَّة مؤثِّرة في تكوين وعي الإنسان؛ أو تثيرُ الاحتجاجَ، والدهشة. وهي كذلك هُنا في معرض “مُعتقلون ومُغيَّبون… الفنُّ يُوثِّقُ والأرشيفُ يتحدَّثُ”، الذي تُنظّمه منصة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية” برعاية وزارة الثقافة، والمديرية العامة للآثار والمتاحف، في صالة المتحف الوطني بدمشق، ويضم حوالي 200 عمل فني لتخليد ذكرى المُغيَّبين والمخفيين قسرًا على يد نظام عائلة المُستأسِد بشار خلال الأعوام الـ14 الأخيرة. هي صورٌ/ لوحاتٌ لا تقفُ ساكنةً بل تتحرَّك. تحاولُ فَكَّ جنازير الطغيان السياسي والاقتصادي التي جنزرَ بها بشارُ وزوجتُه السوريين، وحَبَسَهم داخل صناديق صلبة. صورٌ تبعثُ على الحزن، ولكنَّها تُولِّدُ شعورًا انفعاليًا بإثارة أحاسيس المأساة/ المآسي التي عاشها وعانى منها السوريون من حُكْمِ عائلةٍ مَحَتِ الفرحَ، وكلَّ قيمِ الجَمالِ، من قلوبِ، ومِنْ على وجهِ السوريين.
المعرضٌ في جانبٍ من صوره يحكي عن اختراع الرئيس/ النظام الذي يُمسك بالسلطة ولا يفلتها، فيتحوَّل إلى قوَّة قهرٍ وأذى للناس، قوَّة لا يتحمَّلُها ولا يستسيغها العقلُ الذي لن يقف ساكنًا ثابتًا. وهذا ما حدا بالسوريين لأن يثوروا وقد فقدوا كلَّ إحساسٍ بالكرامة. رئيسٌ؟ ومن قبلُ (أبيه)، وهو الذي (ابن أبيه)، بدا وَغْدًا وهو يحكم السوريين بأساليب متوحشَّة ـ ما تفضحه صُوَرُ المعرض. وكأنَّه وأفرادُ عائلته قَدْ وُلِدوا حين وُلِدوا ليحكمونا؛ يتميزون عن باقي الشعب بأنَّهم يتمتعون بمواهب وقدرات وملكاتٍ عقلية خارقة غير متوفرة في خمسة وعشرين مليون سوري إلاَّ في هذه العائلة!
معرضٌ وأنت تقرأ صُوَرَه التي وثَّقتها الفنانة سناء اليازجي، مديرة منصَّة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية”، التي تأسَّست عام 2013، كأرشيف رقمي مستقل يهدف إلى توثيق التعبير الفني والفكري في سورية خلال الثورة، للحفاظ على الإبداع السوري ضد محاولات التعتيم، والذي سبق أن أطلقت المنصَّة العام الماضي كتابًا بعنوان “مُعتقلون ومُغيَّبون”، تشعر بأنه يتناول قضية الاعتقال والتغييب في سورية، كقضية مشتركة بين السوريين، ويؤكِّد البعد السياسي والحقوقي لهذه القضية، ويدعم الدعاوى القضائية والأحكام الصادرة ضد مرتكبي الجرائم في سورية. كتابٌ وثيقةٌ، كما أعمال المعرض التي كانت تحقيقاتٍ لجرائم سياسية ليس فيها تخييل. بل تمَّ التخلي عن الخيالي لصالح الواقعي. صورٌ تُعبِّر عن مشاعر صادقة لا تُعظم ولا تقزِّم. صورُ ذاكرةٍ تُجَرِّمُ قَتَلَةً ثَملين هائجين تحوَّلوا في تعذيبهم للسوريين في زنازين وأقبية الأفرع الأمنية والسجون إلى وحوش، إلى قوى أسطورية أنتَجَت رُعبًا أحدثَ صدماتٍ في الفكر، حتى عُدنا غير قادرين على التفكير؛ فَتَسأل: أَيُعْقلُ أن تفتكَ بِنا، تسحلُنا، تُقشِّرُ جِلدنا عن لحمِنا، وتنزعُ اللحمَ عن عظامنا، سلطةٌ تدَّعي أنَّها تَمُتُّ للبشر؛ للإنسانية؟
الأعمال في المعرض توزّعت على قاعات عدة من المُتحف، ورُتّبت بدءًا من انطلاق الثورة السورية عام 2011 عام الاعتقال الأوَّل، إلى عام 2012: الفن في المعتقل، ثمَّ عام 2013: التدهور الكبير الذي رافقه كيماوي الغوطة، وقيصر أعوام 2014 ــ 2015، 2016 ــ 2017: المسالخُ البشرية، مرورًا بعام 2018: قوائمُ الموت، حتى عامي 2019 ــ 2020: محاكمات لانتزاع العدالة، وصولًا إلى عامي 2024 ــ 2025: سقوط الطاغية.
وهي أعمالٌ وإنْ كانت من بُنياناتٍ هندسية عشوائية، ولكنَّها على مدى ثلاثة عشر عامًا من 2011 ــ 2024 تحاولُ أن تُحوِّلَ الكمَّ إلى كَيْف، تُراكِمُ صورَ التراجيديا السورية بمشاهِدِها الجهنمية في البراري والشوارع والمعتقلات وبرَّادات الموتى، فتعكسُ صورَ الحياة والموت والأمل لدى الناس/ البشر، فلا يموتُ ذاكَ الفعل البطولي في أعماقهم؛ ذاك الفعلُ السامي الذي يُدافع عن الحق والعدالة والحريَّة. وأنَّ الفن الحق هو حدسٌ موضوعي يُعبِّرُ عن الفرح كما عن الحزن.
اللوحات، وإن كانت تقليدية، لا ابتكارات تكنيكية في أشكالها، هي أقربُ إلى الواقعية التسجيلية والواقعية التعبيرية، إلاَّ أنَّ هنالك تنسيقًا عفويًا، وربَّما فطريًا، بين مواضيعها وألوانها التي اقترحها مُشتغلوها، أَو أنَّها انفجرت في أعماقهم وفرشوها على مساحات الأعمال وأحجامِها، لأنَّها في الأساس من رؤية ثورية ذاتية مُضطربة مُتمرِّدة، تكشفُ عن عواطف شخصية؛ عن انفعالاتٍ عنيفةٍ غاضبةٍ تحملُ مطالبَ روحية بالحريَّة. بل سنرى فيها أكثر من ذلك، سنرى أنَّها مشغولة بإحساس أخلاقي واجتماعي وفلسفي، وهي تجابه سلطة ديكتاتور دموي. ولمَّا يقرأها المُشاهِدُ تُضاعفُ من الصدمة الحواسية عنده. وكلَّما أمعنتَ النظرَ فيها تراها تنشر فيضًا من التمثلات الحسيَّة، كأنَّ نيرانًا تندلع منها. بل تحسُّ أنَّها صورٌ مُدْمَجةٌ بالفكر وفي لهيبه الثوري، وكلُّ صورة هي قصَّةٌ موضوعها الإنسانُ السوري، وكيفَ صارَ ضحية.
لذا جاءت الأعمال مليئة بعناصر درامية قاسية؛ مؤلمة. صورٌ من فكر ــ فعل. مع إنَّها في جانبٍ من بنائها الفني أقرب إلى الإعلان ــ الدعاية. ولكنَّها هنا لتفضح جهاز النظام الضبعي وحيوانيته المفترسة في التعامل مع بني وطنه الذين حوَّلهم إلى أهدافٍ وضحايا. لقد علَّبَ الناس، وأنا أكتب هذا المقال ظَهَرَ خَبَرٌ يكشفُ عن مدى توحُّش وتغوُّل الدولة السورية أيام حكم الضبع بشار بأنَّ هناك 8500000 مطلوبون لأفرع الأمن!!!. لقد حوَّل هذا المُفرط في بهيميته أكثر من بهيمية نظام بول بوت، ونظام بوكاسا، سورية إلى مُعسكرات اعتقال ومذابح/ مسالخ. وهذه الأعمال ــ كما صُوَرُ (قيصر) على ما تحملُ من كمٍّ هائل وقاسٍ من الألم ــ لا تُصوِّرُ سوى جزءٍ قليل من جرائمه. أيُّ بشرٍ هؤلاء؟ أيُّ وحوش؟ أين ضمائرهم.
معرضُ “مُعتَقلون ومُغَيَّبون… الفنُّ يُوثِّقُ والأرشيفُ يتحدَّثُ” معرضٌ صُوَرهُ كانت ذات تأثيرٍ أكثر قوَّةً من تأثير الرواية والقصيدة، لأنَّ فيها صورةُ روحٍ تُزْهَقُ ولا تحتاج إلى سردٍ قصصي أو شعري. لأنَّها مشغولة بقلق، حتى لَتَمْسِكَ فيها رعشة القلق فيسكت الكلام. فالذاكرة الجمعية ممتلئةٌ بالصور المتسلسلة والمتواترة، والتي تريد أن تَتَمسْرَح، أو تُمَسْرِح الفواجع/ الفاجعات التي عاشها الشعب السوري، فنتفرَّج على مَشاهِدَ بصرية، وإن خَلَتْ من الكلام والنطق، إلاَّ أنَّها تفرضُ علينا الإصغاء والإنصات للأصوات؛ أصوات الضحايا في سيرها نحو الحريَّة.
ضفة ثالثة