الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

 النسيج الاجتماعي السوري.. واقع متغيّر وآمال بالنجاة/ وفاء علوش

2025.06.16

هل انتهت الحرب في سوريا؟ سؤال على بساطته يفتح باباً لنقاشات طويلة مازال السوريون مختلفين بخصوصها، فعلى الرغم من توقف الآلة العسكرية التي كانت تفتك بالسوريين ما زال الانفلات الأمني في بعض المناطق موجوداً وما زال المجتمع السوري هشاً وغير منسجم ولم يصل بعد إلى مرحلة التماسك، الأمر الذي يجعل أي عملية سياسية أو إصلاح اقتصادي صعب التطبيق حتى تحقق تماسك النسيج المجتمعي المنشود.

لا تزال التحديات الاجتماعية تشكّل أحد أبرز عوائق الاستقرار، حيث أعادت الأزمة تشكيل بنية المجتمع السوري على مستويات متعددة، بدءًا من العلاقات الأسرية، مرورًا بالهجرة والتهجير، وصولاً إلى تبدّل القيم والأولويات.

لقد فرضت الحرب واقعًا جديدًا، تغيّرت فيه القيم التقليدية، وبرزت النزعة الفردية مكان الروح الجماعية، وأصبح البقاء على قيد الحياة هدفًا يتقدم على كل شيء، مما أثار نقاشًا واسعًا حول الهوية والولاء والانتماء، في هذه الأثناء برز دور النساء بشكل ملحوظ، حيث اضطلع أكثرهن بدور المعيل والمربّي والفاعل في المجتمع المدني، ومع هذا، ما تزال المرأة تواجه تحديات اقتصادية وثقافية مضاعفة في ظل بيئة غير مستقرة.

بعد سقوط نظام الأسد وتحرير سوريا أيضاً بدأت ملامح المجتمع السوري بالتغير، فقد عاد كثير من الناس إلى مدنهم وقراهم، وبدأت محاولات إعادة بناء العلاقات الاجتماعية المتضررة، ومواجهة آثار التهجير والانقسام.

لم تكن مسألة الاندماج في المجتمع بعد العودة سهلة بسبب تفتت الروابط الاجتماعية والعائلية، فقد أدت سنوات الحرب إلى تفكك عدد كبير من الأسر بسبب النزوح الداخلي أو الهجرة إلى الخارج، إذ تغيرت العلاقات بفعل الغياب الطويل، أو بسبب المواقف السياسية المختلفة التي فرّقت أفراد الأسرة الواحدة.

عدا عن وجود عوائق أخرى حالت دون ذلك فالشباب الذين عاشوا طفولتهم في ظل الحرب، يكبرون اليوم في واقع مليء بالصعوبات، ويواجهون ضعفًا في التعليم الرسمي، وندرة في فرص العمل، لكن كثيرين منهم يشاركون في مبادرات تطوعية ومشاريع صغيرة تهدف إلى إعادة بناء مجتمعاتهم.

أثرت سنوات القتال والخوف على مفهوم الثقة بين الناس، وغيّرت بعض القيم التي كانت سائدة سابقًا، وظهرت مواقف فردية جديدة تعكس الرغبة في الحماية الشخصية قبل أي شيء آخر، لكن على المقلب الآخر هناك عودة تدريجية لبعض مظاهر التضامن والمبادرة المجتمعية وتبذل النساء في هذا المجال دوراً بارزاً، سواء من خلال العمل أو من خلال تأسيس مبادرات محلية،كذلك انتشرت في مناطق عديدة مشاريع أهلية تهدف إلى تقديم الدعم النفسي والتعليمي والغذائي، وإعادة تأهيل المدارس والمنازل، ما ساعد في تخفيف أثر الانهيار الخدمي والفراغ المؤسساتي.

مازال السوريون يحاولون استعادة حياتهم، وإعادة بناء علاقاتهم ومجتمعهم مع وجود تحديات كبيرة، إلا أن هناك فرصة حقيقية لإعادة تشكيل مجتمع سوري متماسك، قائم على التعاون والمشاركة، بعيدًا عن القمع والخوف الذي فرضه النظام السابق.

سنوات القهر غيرت الناس، صار بعضهم يرى في الخبز معركة، وفي كلمة “ثقة” أمنية، كثيرون فقدوا الإيمان بالآخر، ونسوا كيف يكون الجار سندًا لا خطرًا، لكن مع الزمن ستُنسج العلاقات من جديد وإن تحقق ذلك ببطء، فالسوريون يعيدون حياكة نسيجهم الاجتماعي كما تحوك الجدات السجاد القديم خيطًا خيطًا، وذكرى بذكرى.

إن محاولات السوريين التعالي فوق جراحهم لا يعني نسيانها، لا يزال كثيرون يحملون في قلوبهم صور أحبّاء لم يعودوا، لكنهم شعب حيّ محب للحياة على الرغم من كل شيء، يحاولون أن يكتبوا في سوريا اليوم فصلًا جديدًا، بمداد من الألم، لكنه خالٍ من الخوف، فربما تحررت سوريا لكنها ما زالت تحبو باتجاه التعافي ومن أجل ذلك يجب أن يتعلّم السوري أن يغفر، أن يثق، أن يحلم بلا وصاية فالمجتمع السوري الآن لا يبحث عن وطن فقط، بل عن ذاته التي نكّستها الحرب، لكن لم تُطفئها.

لا يزال المجتمع السوري ينبض بالحياة، ويحاول التكيّف مع واقع متغيّر فرضه النزاع والحرمان، وتبقى الحاجة ماسّة إلى دعم حقيقي لإعادة بناء الإنسان فالنسيج الاجتماعي هو الركيزة الأساسية لمستقبل سوريا ويبدو أن الطريق الأكثر أمناً هو خلق مساحات حوار مشتركة بين السوريين أنفسهم من دون وصاية ولا رعاية سلطوية أو خارجية.

لطالما كان التنوع الثقافي والاجتماعي في سوريا مصدر غنى وثراء، لكنه في السنوات الأخيرة تحول إلى ساحة انقسام حاد، غذّته الصراعات السياسية والعسكرية، وأنتج خطاب كراهية خطيرًا يهدد بنسف فرص التعايش، ومع استمرار الأزمة بعد التحرير، أصبح من الضروري بناء حوار سوري-سوري حقيقي قادر على تجاوز الماضي، والتأسيس لمستقبل مشترك يقوم على المصالحة والتفاهم، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك وسط هذا الكم الهائل من الجراح والعداوات؟

لا بد من الاعتراف بالعقبات وتذليلها بإنهاء الاستقطاب الحاد بين مختلف الأطراف، وتجريم الخطاب الإعلامي المشحون الذي يعزز الكراهية بدلًا من التهدئة، وبناء ثقة متبادلة بين السلطة والشعب وبين مكونات الشعب أنفسهم.

لا يمكن لأي حوار أن ينجح من دون الاعتراف بمظالم الضحايا مع التنويه إلى أن معظم السوريين بغض النظر عن موقفهم السياسي، قد فقدوا أحبّاءهم، أو تم تهجيرهم، أو عاشوا الفقر والقهر، لذا على السوريين اليوم التفكير بوحدة الهوية السورية وتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية والبناء على أساس المواطنة.

لا بد من التنويه كالعادة أنه لا يمكن بناء مصالحة حقيقية من دون معالجة جرائم الماضي بطريقة عادلة، تضمن المحاسبة من دون انتقام وتعطي الضحايا حقهم، من دون أن تؤدي إلى استمرار دائرة العنف بتطبيق مسار واضح وعلني للعدالة الانتقالية

وتمكين فئة الشباب لأنهم الفئة الأكثر قدرة على كسر الحواجز النفسية التي خلقها الصراع، وإشراكهم في مبادرات الحوار والمصالحة، وتشجيع الحركات المدنية التي تعمل على تقريب وجهات النظر.

قد يصبح الإنسان هشاً في المصائب،  فما بالنا إذن بالسوريين الذين أنهكتهم كوارثهم وحظهم العاثر؟ فأصبحوا يريدون العثور على جانٍ يحملونه وزر مأساتهم لذلك من السهل في الوقت الحالي اصطياد مشاعرنا الهشة جميعاً وقد نقع في فخ الكراهية بحيث تمنعنا المأساة من التفكير العقلاني وتجعلنا نضيع على أنفسنا فرصتنا الثمينة.

لقد خرجت سوريا من نفقٍ طويل، لا صوت لطائرات، لا فروع أمنية، ولا لعنة نظام الأسد التي تربصت بنا خلف كل باب كما اعتدنا، ومع سقوط واحدة من أعتى ديكتاتوريات العالم، تحتاج الأرواح وقتًا لتشفى، فالشارع السوري الذي كان يخاف من الهمس، بات اليوم يصرخ، يضحك، يتجادل، يروي حكاياته ولا يخشى أن تُنكأ جراحه فهي لا بد في طريقها للتعافي.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى