سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 حزيران 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————
هل أنقذت أميركا الشرع من محاولة اغتيال؟
الإثنين 2025/06/16
هل أنقذت الولايات المتحدة الأميركية الرئيس السوري أحمد الشرع من محاولة اغتيال كان يتم إعدادها له؟ كثيرة هي المؤشرات التي تفيد بذلك وفق ما تكشف مصادر ديبلوماسية. وتضيف هذه المصادر إن عملية اغتيال كان يتم تحضيرها لاستهداف الشرع هي الثانية منذ دخوله إلى قصر الشعب في دمشق، وتؤكد المصادر أن العملية الأخيرة كانت قبل حوالى الأسبوعين. أما محاولة الاغتيال الأولى كانت في شهر آذار الفائت. هذه المحاولات هي التي دفعت المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك إلى الإعلان بشكل واضح من احتمال تعرض الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع لمحاولات اغتيال، في ظل مساعيه لتعزيز الحكم الشامل والانفتاح على الغرب.”
وقال باراك:” نحن بحاجة إلى تنسيق نظام حماية حول الشرع”، مشدداً على ضرورة تبادل المعلومات الاستخباراتية بين حلفاء الولايات المتحدة لردع “الأعداء المحتملين” دون اللجوء إلى تدخل عسكري مباشر. ورأى باراك أن فصائل المقاتلين الأجانب التي قاتلت إلى جانب قوات الشرع في “الحملة الخاطفة” التي أطاحت ببشار الأسد، تمثل تهديداً متزايداً، لا سيما في ظل محاولات تنظيم “داعش” إعادة تجنيدهم، وأضاف “كلما تأخرت المساعدات الاقتصادية، زادت فرص المجموعات المنقسمة لتعطيل العملية السياسية”.
وبحسب ما تشير المصادر فإن مجموعات جهادية تابعة لتنظيم داعش هي التي كانت تحاول اغتيال الشرع رفضاً للمسار السياسي الذي ينتهجه. وتكشف المعلومات أن داعش تعمل على تكثيف نشاطها وتحاول استقطاب الكثير من قادة سابقين في جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام من الذين يعترضون على التغيرات التي أقدم عليها الشرع، بالإضافة إلى محاولات داعش استقطاب الكثير من المقاتلين الأجانب في سوريا.
وتشير المعلومات إلى أن الأميركيين يتهمون جهات عديدة بالعمل على التخلص من الشرع، سواء إيران وروسيا إما عبر عملية اغتيال، أو من خلال تحريك خلايا عسكرية في الساحل السوري أو في مناطق أخرى لمنعه من بسط سيطرته الكاملة على الجغرافيا السورية. وفي ضوء كل هذه المعلومات فإن الأميركيين أكثروا من الضغوط على جهات مختلفة لعدم الإقدام على أي هز للاستقرار في سوريا. وفي هذا الإطار جاء التصريح الأميركي بضرورة توفير الحماية للشرع، فيما تكشف المصادر أن الأميركيين يعرضون تولي المسؤولية الأمنية عن أمن الشرع وتنظيم جهازه الأمني بشكل كامل، بالإضافة إلى العمل على تعزيز التنسيق الأمني مع الأجهزة السورية ولا سيما مع وزارة الداخلية وأنس خطاب بالتحديد.
وفي هذا السياق، فإن التحركات الأميركية تهدف إلى تكريس الاستقرار في سوريا وعدم السماح بحصول أي مشكلات داخلية قد يقدم عليها المتشددون بالإضافة إلى إبقاء الاستعداد كاملاً لمواجهة أي تحرك سيقدم عليه تنظيم داعش. وتكشف المصادر الديبلوماسية أن أميركا ستعمل على تعزيز عدد قواتها في سوريا، ولن تقدم على سحب هذه القوات في هذه المرحلة قبل الانتهاء من مسألة النفوذ الإيراني، بالإضافة إلى تثبيت الاستقرار وتحويل سوريا إلى منطقة اقتصادية وصناعية منفتحة على استثمارات متعددة، لا سيما أن واشنطن لا تريد للصين أن تحقق أي تقدم استثماري أو اقتصادي على الساحة السورية.
المدن
——————————-
مرسوم رئاسي بتشكيل لجنة عليا للإشراف على انتخابات مجلس الشعب
2025.06.13
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025، القاضي بتشكيل لجنة باسم “اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب” برئاسة محمد طه الأحمد.
ويشغل عضوية اللجنة كلٌّ من: حسن إبراهيم الدغيم، عماد يعقوب برق، لارا شاهر عيزوقي، نوار إلياس نجمة، محمد علي محمد ياسين، محمد خضر ولي، محمد ياسر كحالة، حنان إبراهيم البلخي، بدر الجاموس، أنس العبده.
وكلف المرسوم اللجنة العليا بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، حيث تنتخب تلك الهيئات ثلثي أعضاء مجلس الشعب.
150 عضواً في مجلس الشعب
ووفقاً لما نقلت وكالة “سانا”، نص المرسوم على أن يكون عدد أعضاء مجلس الشعب 150 عضواً، موزعين حسب عدد السكان على المحافظات، وفق فئتي الأعيان والمثقفين، ووفق شروط تقرها اللجنة العليا للانتخابات.
وكذلك نصّ المرسوم على أن يُعيَّن ثلث الأعضاء من قبل رئيس الجمهورية، وأن يُنتخب ثلثا الأعضاء وفق لجان انتخابية معتبرة، موزعين على المحافظات كالآتي: حلب (20) مقعداً، دمشق (11) مقعداً، ريف دمشق (10) مقاعد، حمص (9) مقاعد، حماة (8) مقاعد، اللاذقية (6) مقاعد، طرطوس (5) مقاعد، إدلب (7) مقاعد، دير الزور (6) مقاعد، الحسكة (6) مقاعد، الرقة (3) مقاعد، درعا (4) مقاعد، السويداء (3) مقاعد، القنيطرة مقعدان.
—————————–
مرحلتان وهيئات محلفة.. رئيس لجنة انتخابات مجلس الشعب يوضح آلية الترشح
2025.06.15
قال رئيس اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا محمد طه الأحمد، إن الترشح لعضوية المجلس سيتم على مرحلتين، تبدأ الأولى باختيار الهيئات الناخبة في المناطق التابعة لكل محافظة، بحيث يُخصَّص لكل مقعد ما بين 30 إلى 50 شخصية اعتبارية تحددها اللجان الفرعية في المحافظات، على أن تكون هذه اللجان محلفة.
وأضاف الأحمد في تصريح لموقع تلفزيون سوريا أن المرحلة الثانية من الآلية تتضمن ترشح الأعضاء من داخل تلك الهيئات، ليتم انتخابهم لاحقاً من قبل الهيئات الناخبة ذاتها، مؤكداً ضرورة تمتع المرشحين بجملة من المواصفات التي يقرها قانون الانتخابات المؤقت، والذي أعدت اللجنة مسودته الأولية.
وأشار إلى أن هذه المسودة ستُعرض لاحقاً على شرائح مجتمعية متنوعة في المحافظات بهدف الوصول إلى صورة نهائية للقانون الانتخابي.
ولفت إلى أن عملية الترشح ستبدأ عقب الانتهاء من تشكيل الهيئات الناخبة، مضيفاً أن الإعلانات المتداولة على بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي عن الترشح للمجلس هي نشاطات فردية، إذ لم يُعلن بعد عن بدء قبول طلبات الترشح، لأنه لم يتم اختيار الهيئات الناخبة حتى الآن.
وشدد على أن توزيع المقاعد في مجلس الشعب جرى استناداً إلى عدد سكان كل محافظة من عدد السكان الإجمالي وفقاً لإحصائيات عام 2010.
تشكيل لجنة عليا للإشراف على انتخابات مجلس الشعب
وقبل أيام، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025، القاضي بتشكيل لجنة باسم “اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب” برئاسة محمد طه الأحمد.
ويشغل عضوية اللجنة كل من: حسن إبراهيم الدغيم، عماد يعقوب برق، لارا شاهر عيزوقي، نوار إلياس نجمة، محمد علي محمد ياسين، محمد خضر ولي، محمد ياسر كحالة، حنان إبراهيم البلخي، بدر الجاموس، أنس العبده.
وكلف المرسوم اللجنة العليا بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، حيث تنتخب تلك الهيئات ثلثي أعضاء مجلس الشعب.
اقرأ أيضاً
بيدرسون
بيدرسن يرحّب بتشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا
ونص المرسوم على أن يكون عدد أعضاء مجلس الشعب 150 عضواً، موزعين حسب عدد السكان على المحافظات، وفق فئتي الأعيان والمثقفين، ووفق شروط تقرها اللجنة العليا للانتخابات.
كما نص المرسوم على أن يُعيَّن ثلث الأعضاء من قبل رئيس الجمهورية، وأن يُنتخب ثلثا الأعضاء وفق لجان انتخابية معتبرة، موزعين على المحافظات كالآتي: حلب (20) مقعداً، دمشق (11) مقعداً، ريف دمشق (10) مقاعد، حمص (9) مقاعد، حماة (8) مقاعد، اللاذقية (6) مقاعد، طرطوس (5) مقاعد، إدلب (7) مقاعد، دير الزور (6) مقاعد، الحسكة (6) مقاعد، الرقة (3) مقاعد، درعا (4) مقاعد، السويداء (3) مقاعد، القنيطرة مقعدان.
——————————–
تريّث كردي واعتراض درزي بعد تشكيل لجنة انتخابات برلمان سوريا/ جانبلات شكاي
15 – يونيو – 2025
شفت مصادر حقوقية لـ»القدس العربي» أن اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري عقدت أمس الأحد أول اجتماعاتها لاختيار الهيئات الناخبة، متوقعة أن يتم اختيار أعضاء مجلس الشعب خلال شهر، وفي حين رفضت مصادر كردية التعليق على مرسوم تشكيل اللجنة لعدم انتهاء التداول بين القوى السياسية الكردية حول الأمر، انتقدت بشدة مصادر من محافظة السويداء المرسوم، مشككة في شرعيته.
المرسوم 66
ويوم الجمعة، أصدر رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع المرسوم رقم 66 لعام 2025، القاضي بتشكيل لجنة باسم «اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب» مهمتها الإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، على أن تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب.
واجتمع بأعضاء اللجنة في قصر الشعب السبت، من دون أن يذكر الخبر الرسمي أي تفاصيل أخرى.
وحسب المرسوم فإن اللجنة يترأسها محمد طه الأحمد، الذي كان وزير الزراعة السابق لعدة دورات في «حكومة الإنقاذ» وفي حكومة تصريف الأعمال اللاحقة بعد سقوط النظام، ثم عُيّن مديراً لإدارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية.
وتضم اللجنة أيضا محمد ياسر كحالة، وهو مدير الأمانة العامة للشؤون السياسية، وحسن الدغيم وكان متحدثا باسم اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني ومدير التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري، إلى جانب سبعة أعضاء كانوا ضمن الائتلاف الوطني لقوى المعارضة في سوريا، وهم عماد برق، محمد علي ياسين، محمد خضر ولي، حنان البلخي، بدر جاموس، أنس العبدة، إلى جانب كل من نوار الياس نجمة (مسيحي) لارا عيزوقي (علوية) وهي صحافية وعضو في الحركة السياسية النسوية السورية.
بيدرسون يرحب
ورحب مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسون، أمس الأحد، بمرسوم تشكيل اللجنة.
وفي منشور له عبر منصة «كس» وصف المرسوم بأنه خطوة مهمة تتفق مع الإعلان الدستوري الذي ينص على إنشاء مجلس شعب جديد باعتباره السلطة التشريعية الانتقالية على أن يتم انتخاب ثلثي أعضائه بشكل مباشر.
ولفت إلى أنه يشجع اللجنة العليا للانتخابات على بذل جهود جوهرية نحو الشمولية والشفافية والانفتاح في عملية إنشاء مجلس الشعب لضمان اعتباره أساساً للتوافق السياسي.
وشجع على اتخاذ التدابير التي تمكن من المشاركة والتمثيل الفعال للمرأة في هذه العملية، وأشار إلى أنه يتطلع إلى التواصل مع السوريين من جميع مناحي الحياة لسماع وجهات نظرهم بشأن هذه التطورات وتطلعاتهم الأوسع نطاقاً فيما يتعلق بالعملية السياسية.
وعلمت «القدس العربي» من مصادر حقوقية، أن لجنة الانتخابات عقدت أمس الأحد أول اجتماعاتها لاختيار الهيئات الناخبة من دون أن تذكر تفاصيل أخرى عن الموضوع، مشيرة إلى أن هذه الهيئات هي المعنية في اختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب المئة، على أن يختار الرئيس الشرع الثلث الباقي.
وتوقعت المصادر أن يتم اختيار أعضاء مجلس الشعب خلال شهر باعتبار أن هناك العديد من القوانين يتم حالياً تعديلها وتحتاج إلى سلطة تشريعية لإقرارها، مؤكدة أنه لا يمكن أن يكون هناك تعطيل طويل لهذه السلطة.
ودعت إلى أن يتم اختيار ثلث أعضاء المجلس من الحقوقيين باعتبار أن مهمة المجلس الرئيسية هي تشريع القوانين، مشددة في الوقت ذاته على ضرورة أن يكون هناك ممثلون عن كافة النقابات في مجلس الشعب لما لها من دور كبير في تمثيل شريحة عريضة من السوريين.
وأعربت المصادر عن تفاؤلها بالمجلس المقبل، خصوصاً وأنه سيكون أول مجلس بعد سقوط نظام الأسد، متوقعة بأن يكون سقف المجلس مفتوحا وليس كما كان في زمن النظام المخلوع مقيدا حسب مصالح ذلك النظام.
وعن الموقف الكردي من المرسوم، قالت مصادر كردية إن القوى الكردية السياسية فضلت التريث وعدم إصدار أي تعليق إلى حين بلورة موقف كردي موحد.
وإن كان الأمر مرد التريث في التصريح، بانتظار معلومات من دمشق تجاه تشكيل مجلس الشعب، وخصوصا أن الشرع لديه حصة خمسين صوتا سيقوم بتعيينهم، وقد تكون حصة للأكراد في مثل هذه التعيينات، قالت المصادر إننا بصدد مناقشة هذا الموضوع ضمن المجلس الوطني الكردي وأيضا مع شركائنا الكرد (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي.
وردا على سؤال حول سبب غياب ممثلين في اللجنة العليا للانتخابات من المسلمين الموحدين الدروز، قال صالح علم الدين بصفته الشخصية وكمحام وليس بكونه رئيسا للجنة السياسية في حراك السويداء، إن المرسوم الصادر عن الشرع «غير قانوني وغير شرعي باعتباره رئيسا غير شرعي وغير منتخب، بل هو رئيس أمر واقع ولمرحلة مؤقتة» حسب قوله.
وزاد: «في ظل غياب دستور ديمقراطي في سوريا فإن أي انتخابات أو مراسيم أو اتفاقيات هي كلها مخالفة للقانون وباطلة وليس لها أي مفعول».
وتابع أن «الإعلان الدستوري هو مشروع دستور وليس دستورا تم التصويت عليه من الشعب، ولا يمتلك الإعلان الدستوري المشروعية والسلطات التي تعتمد عليه، بالتالي لا تمتلك أي مشروعية».
وزاد: «أما فيما يتعلق بتمثيل أعضاء اللجنة للطوائف السورية فلا أحد منهم من الطائفة الدرزية، إضافة إلى أن غالبية اللجنة هم كانوا سابقا من الائتلاف السوري المعارض الذي رفضته القاعدة الشعبية بشكل شبه مطلق وحتى قبل سقوط نظام الأسد وبعد سقوطه، وعندما يتم تشكيل اللجنة بمثل هذه الآلية فإن ذلك يعني أن الإدارة الجديدة تضع يدها مع جهة محددة، لتنفيذ مشروع يخصها ولا يخص أحدا آخر، ما يؤشر إلى أن هذه الإدارة لا تفكر بتطبيق الديمقراطية».
وعن وجود أسماء من طوائف أخرى من الأكراد والعلويين والمسيحيين قال إن «مشاركة هؤلاء ستكون رمزية معدة للتصدير الخارجي».
خطوة متأخرة
في حين اعتبر الحقوقي ورجل القانون عارف الشعال أن المرسوم تأخر صدوره أكثر من اللازم.
ولفت إلى أنه كان يحمل تاريخ الثاني من حزيران/ يونيو الجاري ولم يتم الإعلان عنه إلا بعد أكثر من 10 أيام يوم الجمعة الماضي.
وقال كان هناك خلل في الأصل في الإعلان الدستوري الذي جاء فيه في المادة 24 أن رئيس الجمهورية هو من يشكل لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، وتقوم هذه اللجنة بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، وتقوم تلك الهيئات بانتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب، على أن يعين رئيس الجمهورية ثلث أعضاء مجلس الشعب لضمان التمثيل العادل والكفاءة.
وبين أن المادة السابقة تركت للرئيس الشرع اختيار اللجنة الانتخابية من دون أي ضوابط وبتفويض مطلق، كما تركت له اختيار ثلث أعضاء المجلس، والرئيس هو من حدد في المرسوم أن يكون الأعضاء القادمون من الأعيان والمثقفين، وهذه مصطلحات مطاطة وفضفاضة.
وفيما يتعلق بنسبة توزيع الأعضاء حسب المحافظات، أوضح الشعال أنها عادلة بنسبة كبيرة وهي ذاتها تقريبا التي كانت معتمدة في زمن النظام السابق حسب عدد أعضاء سكان المحافظات السورية
وحسب المرسوم، فإن الأعضاء المئة الذين ستقوم اللجان الفرعية بانتخابهم موزعون كالتالي: حلب 20، دمشق 11، وريفها 10، حمص 9، حماة 8، إدلب 7، اللاذقية والحسكة ودير الزور 6 لكل منها، طرطوس 5، درعا 4، السويداء 3، الرقة 3، والقنيطرة 2.
وعن إمكانية المحافظة على النسب ذاتها فيما يتعلق بالخمسين عضواً الذين سيقوم بتعيينهم الشرع، قال الشعال: هو مفوض بشكل كامل ويستطيع توزيعها كيفما يشاء، وبالتأكيد ستذهب في اتجاه ضمان نصف الأعضاء زائد واحد أي 76 عضوا ستكون حصة هيئة تحرير الشام أو غرفة العمليات المشتركة في أحسن الأحوال.
وقال إن من أكثر المآخذ على المجلس الذي تأخر تشكيله كثيرا هو أنه سلطة تشريعية فقط، ولن يمارس أي سلطات رقابية على السلطة التنفيذية، كما أنه لا يمتلك حق منح الثقة.
الحاجة لحقوقيين
واعتبر أن من المآخذ أيضا على اللجنة العليا للانتخابات أنها لا تضم أي حقوقي في صفوفها، رغم كل المسؤولية الملقاة على المجلس في المرحلة المقبلة، ونتمنى أن يتم تطعيم اللجان الفرعية الانتخابية برجال قانون معروفين بنزاهتم وخبرتهم، أو أن يتم التعويض في أن يحضر الحقوقيون بقوة بين أعضاء المجلس ذاته.
وحسب المادة 26 من الإعلان الدستوري، فإن مجلس الشعب يتولى السلطة التشريعية حتى اعتماد دستور دائم، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة وفقا له، وأن مدة ولاية مجلس الشعب ثلاثون شهرا قابلة للتجديد.
وتقول المادة 29 إن مجلس الشعب يُعِدّ نظامه الداخلي خلال شهر من أول جلسة له، أما المادة 30 فأوضحت أن مهام المجلس هي اقتراح القوانين وإقرارها، وتعديل أو إلغاء القوانين السابقة، والمصادقة على المعاهدات الدولية، إقرار الموازنة العامة للدولة، وإقرار العفو العام، قبول استقالة أحد أعضائه أو رفضها أو رفع الحصانة عنه وفقا لنظامه الداخلي، وعقد جلسات استماع للوزراء، على أن يتخذ المجلس قراراته بالأغلبية.
القدس العربي»
—————————–
الجيش السوري الجديد وعقيدة “الجماعة المؤمنة”/ مالك الحافظ
16 يونيو 2025
شهدت التيّارات الجهادية العابرة للحدود، في العقود الماضية، تحوّلاتٍ نوعية، بدأت مع تجربة “الجهاد الأفغاني” في ثمانينيّات القرن العشرين، حين تبلورت أولى ملامح “العقيدة الجهادية الدولية” في سياق مقاومة الاحتلال السوفييتي. ثمّ في تسعينيّات القرن نفسه، اتّخذت هذه التيّارات مساراتٍ تنظيميةً وعقديةً أكثر راديكالية، مع صعود تنظيم القاعدة، ومنظّري السلفية الجهادية. ضمن هذا التصاعد، ظهرت أنماطٌ من “الهجرة الجهادية” إلى بؤر النزاع، تستند إلى مرجعياتٍ دينيةٍ سلفية، وتسعى إلى بناء جماعاتٍ مؤمنةٍ تتجاوز فكرة الدولة الوطنية وحدودها.
وفي السياق السوري، شكّلت الثورة نقطةَ تحوّلٍ مفصلية، سرعان ما دخلت منعطفاً معقّداً بفعل تدخّل قوى إقليمية، وتعدّد الفواعل المسلّحة في الأرض. وفي ظلّ هذا الانكشاف، وجدت التيّارات المتشدّدة فرصةً لتوسيع نفوذها، مستفيدةً من خطاب تعبوي، ومن شبكة تنظيمية عابرة، سرعان ما جعلت من سورية منطلقاً محورياً لمشروعها الديني المؤدلج.
استثمرت الحركات السلفية الجهادية هذا الانفتاح، فبنت شبكاتٍ عقائدية وتنظيمية باسم “الجماعة المؤمنة”، ممهّدةً الطريق لمدّ سيطرتها عبر شعار “الحكم الشرعي”، ومرسّخةً الجغرافية السورية ساحةً مركزيةً في مشروعها العابر للحدود.
اليوم، لم يَعُد حضور الجماعات الجهادية الأجنبية محصوراً في التمركز العقائدي أو في الانتشار العسكري المستقلّ، ففي سياق متغيّر لم تُحسَم فيه بعد ملامح الهُويَّة الوطنية، بدأت الحكومة الانتقالية السورية تروّج مقترحات تقضي بإعادة هيكلة بعض الفصائل الجهادية ضمن تركيبة الجيش الوطني الجديد. وقد كشفت تقارير صحافية حديثة مستندة إلى وكالة رويترز وجود موافقة أميركية على ضمّ عناصرَ متشدّدة، منها الكوادر الميدانية التابعة للحزب الإسلامي التركستاني، المنحدرون من الإيغور الصينيين، في البنية العسكرية الرسمية الناشئة. وتجسّد هذه الخطوة مؤشّراً واضحاً على تحوّل أعمق نحو إعادة تعريف الدولة، عبر إدخال منطق العقيدة الجهادية أحدَ مكوّنات التكوين السلطوي البديل، بما يُعيد خلط الانتماءات بين ما هو إيماني وما هو وطني، ويطرح إشكالات بنيوية حول مشروعية السلطة، واستقرار النموذج الأمني العسكري، الذي يُراد له أن يحكم سورية في مرحلتها الجديدة.
ما يستدعي الانتباه في تجربة الحزب الإسلامي التركستاني في سورية، أنه لم يدخل المشهد بوصفه جماعةً مقاتلةً فحسب، وإنما أيضاً واحدةً من حلقات ما تسمّى “الجماعة المؤمنة” العابرة للحدود، منطلقاً من نسق أيديولوجي يرى أن الجهادية السلفية لا تُقيَّد بإطار سيادي تقليدي، وإنما تتعاطى مع الجغرافية أداةَ تعبئةٍ لا حدوداً وطنيةً، وتُعيد تشكيل الولاء على أسس مرجعية متشدّدة تتجاوز الانتماء الجغرافي إلى منطق فوق وطني. وتستند فكرة “الجماعة المؤمنة” إلى تصوّر سلفي جهادي يرى أن الولاء يجب أن يكون للعقيدة وليس للدولة الوطنية، ما يعزّز منطق الطاعة المطلقة، ويعيد صوغ مفاهيم السيادة والانتماء.
تنبني السلفيةُ الجهاديةُ على خطاب مؤدلج يرى أنّ معظم الدول القائمة في المجال الإسلامي لا تُجسّد “حاكمية الله” كما ترد في منظومتهم الفكرية، وأنّ الولاء لأيّ بنية سياسية لا تتبنى هذا الفهم انحرافٌ عن المنهج القويم. وقد أسهم هذا التصوّر في بلورة خطاب تعبوي عسكري يحثّ على “الجهاد في سبيل إقامة الشريعة”، ويعمل، بالتوازي، على بناء سلطة تنظيمية بديلة. في السياق السوري، لعبت قياداتٌ أجنبية من التيّار السلفي الجهادي دوراً محورياً في ترسيخ هذا النهج، عبر منظومات إعلامية ودعوية عابرة للحدود، ما مهّد لتأسيس كيانات عسكرية عقائدية تعمل تحت عناوين متعدّدة، يجمعها منطق الطاعة المطلقة للشيخ القائد بوصفه مرجعيةً شرعيةً مطلقة.
يمكن تأطير هذا التحوّل ضمن ما يُسمّيها الباحث جيل كيبل “السلفية الجهادية الطبعة الثالثة”، والتي تنتقل من صدام مباشر مع الغرب إلى بناء سلطوي موازٍ داخل الفوضى السياسية للدول الضعيفة. كما يربط الباحث أوليفيه روا بين هذه التحوّلات و”أفول الإسلام السياسي” مقابل صعود “إسلام ما بعد الدولة”، إذ تتحول الجماعة إلى نواة بديلة للشرعية والسلطة.
يُعدُّ “الحزب الإسلامي التركستاني” أحد أكثر التعبيرات وضوحاً عن تشكّل البنية السلطوية السلفية الجهادية المتخطّية للجغرافيا الوطنية. فالحزب، الذي تأسّس في مطلع الألفية بوصفه امتداداً لتنظيم الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، حمل معه تصوّراً مشبعاً بفكرة “الأمّة المظلومة” و”الخلافة المؤجّلة”. ويُعدّ هذا التصوّر تمثيلاً واضحاً لمفهوم “الشرعية ما قبل الدولتية”، فهو يستمدّها من مرجعية إيمانية متشدّدة تستحضر مفاهيم مثل الخلافة والبيعة والتمكين، بوصفها مصادر تفوق شرعية الحدود والسيادات الوطنية. وقد مهّدت له البيئات غير المستقرّة أرضيةً خصبة لتحويل سردية المظلومية جهازَ تعبئة عقائدي وميداني شديد الانضباط. وتكمن خطورة هذا التوسّع في أنه يُعيد تفعيل فكرة “التمكين المرحلي”، كما نظّر لها أبو مصعب السوري، التي ترى أن كلّ ميدان مواجهة يُنظر إليه بوصفه “إمارة مؤقّتة”. وهذا ما يمنح الجماعة مشروعيةً ذاتيةً لا ترتبط بالدولة السورية، بل تتعالى عليها، وتربط وجودها بسياقاتٍ أمميةٍ مفتوحة، ما يجعلها قابلةً للتدوير الجيوسياسي في كلّ لحظة احتياج.
لم يكن تحوّل الحركات الجهادية من مجموعات تعبئة عقدية إلى هياكل حكم فعلية خاصّاً بالحالة السورية، بل يأتي ضمن نمط أوسع من إعادة تشكيل الفاعلين العقائديين قوىً حاكمةً داخل الفوضى السيادية، وقد أشار الباحث توماس هيغهامر في دراساته عن الحركات الجهادية إلى ما يُسمّيها “نقلة البندقية إلى البيروقراطية”، إذ تسعى التنظيمات المؤدلجة إلى بناء أجهزة حُكم، من التعليم إلى القضاء، من دون المرور بشرعية صناديق الاقتراع أو المبادئ الدستورية.
هذه النقلة، التي وصفها هيغهامر بأنها “عسكرة الحكم من خارج الدولة”، تُعيد تعريف السلطة بوصفها امتداداً للعقيدة، وتُعزّز منطق “السيطرة الإيمانية” داخل الفراغات السيادية. بهذا المعنى، يسمح إدماج تلك الحركات داخل بنية الدولة من دون نزع هذا المنطق المؤسّس، لها بإعادة إنتاج نفسها داخل قلب النظام، بما يهدّد بتفجير داخلي مستمرّ للكيان السيادي من داخله.
يتمثّل خطر الإدماج والتجنيس للقوى القتالية الأجنبية في سورية بما يكتنفهما من نسق عَقَدي يُقصي مفهوم الدولة الحديثة، فحين تُمنح الجنسية بوصفها تشريفاً جهادياً رمزياً يُحيل إلى قيمة استحقاق عقائدي لا انتماء قانوني. ومن هنا، تبدو خطورة أيّ مشروع لإلحاق عناصر من الحزب التركستاني في تشكيلات الدولة السورية الجديدة، بسبب استحالة انصهارهم في إطار وطني يحتكم إلى منطق الدولة ومؤسّساتها، فالحزبُ لم يكن يُخفي رؤيته إلى ما بعد سورية؛ بوصفها محطّةً في صراع أيديولوجي عالمي ضدّ “الطغاة والمرتدّين”، تُجيّره خطبه وأدبياته من حيث هي مرحلة في تحقيق السطوة. وبالإمكان تلمّس هذا التصوّر بوضوح في خطب منشورة لقادة الحزب في منصّاتٍ مثل “صوت الجهاد” و”مؤسّسة الفرقان” (منصّات تُعرف بانتمائها لتنظيمات راديكالية مثل القاعدة أو الجماعات المرتبطة بها)، إذ كان يُؤطَّر وجود الحزب في سورية مقدّمةً لاستعادة تركستان الشرقية، وإقامة ما يسمّونها “ولاية الأمّة” لا “الدولة”. هذا الخطاب لا يُبقي على الانفصال العقائدي، وإنما يُكرّس رؤية استبدالية شاملة للسلطة.
في سياقات دولية عدة عرفت صعود فصائل جهادية سلفية، لم يُشكّل انخراط الفصائل القتالية أو التعايش معهم داخل مؤسّسات الدولة حلاً ناجزاً. ففي أفغانستان مثلاً، أدّى احتضان حركة طالبان المقاتلين العرب إلى تعقيدات سيادية وتداخلات أمنية، أفضت إلى عزل الدولة دولياً. وفي الشيشان، ظلّ المقاتلون القادمون من الخارج خارج الإطار المؤسّسي، وأُعيد توظيف تجربتهم لاحقاً في مسارح نزاع أخرى. لا يتعلّق الأمر بمنح الجنسية فقط، بقدر ما يتّصل بالتماهي الأيديولوجي مع سرديةٍ لا ترى في الدولة الوطنية إطاراً نهائياً للانتماء، وإنما واحدةً من مراحل الجهاد الأممي. تصوّرات كهذه، حين تدخل المؤسّسة العسكرية من دون تفكيك، تُحدث تضارباً وظيفياً داخل المؤسّسة، فيتقدّم الولاء العقائدي على الانضباط الوطني المؤسّسي، وتتآكل مرجعية الدولة سلطةً عليا في اتخاذ القرار.
ما يثير القلق بشأن دمج المقاتلين الأجانب في سورية إمكانية قابليتهم المستمرّة للتحوّل قوّةً منفصلةً في القرار، مترابطةً في التكوين العقائدي، جاهزةً للاستدعاء في المساحات الرمادية من الجغرافية الإقليمية. فهؤلاء لا يستقرّون في الانتماء المؤسّسي كما يُفترض، إنما يظلّون كتلةً تعبويّة يُمكن تحريكها خارج النسق الوطني، لا لخدمة الدولة، وإنما لتلبية مشروعات تتجاوزها. وهكذا لا يُعاد تدوير “المجاهدين” جنوداً وطنيين، وإنما يُحتفظ بهم قوّةً كامنةً، مستعدّةً للانتقال إلى بؤر نزاع جديدة كلّما استدعتها حسابات النفوذ.
قد لا تكون السلطة الانتقالية في سورية في منأى عن نماذج الدولة الهشّة التي أنتجتها النزاعات المعاصرة، إذ تتآكل فيها الحدود الصلبة بين الدولة والمجتمع، ويتحوّل الجهاز السيادي، في سياقات كهذه، مجرّد وسيط لتوزيع الامتيازات على أساس الولاء لا المواطنة، في مشهدٍ يُحاكي ما يسمّيه برتران بادي “الدولةَ الوكيل”، إذ تفقد الدولة وظيفتها السيادية المستقلة، وتتحوّل أداةً لتجسير مصالح القوى المهيمنة وشبكات النفوذ غير الرسمية، بدل أن تكون ضامناً للعقد الاجتماعي. وهنا تبرز أيضاً مقاربة “الدولة الزبائنية” بوصفها نموذجاً تفسيرياً لطبيعة السلطة الناشئة، التي تقوم على شبكات الانتماء التعبوي والمصلحي، المرتبطة بشخصيات نافذة، أو مرجعيات دينية عسكرية.
لم تعد المواجهة اليوم محصورة بالمقاتل الأجنبي، ولا بمشروع دمجه في المؤسّسة العسكرية السورية، وإنما تتجاوز ذلك إلى جبهة أعمق متمثّلة بتفكيك المنظومة الذهنية التي ترى في الجهادية نواة لدولة بديلة. فحين تُبنى الجيوش على أساس الطاعة العقدية، لا نكون بصدد ترسيخ مؤسّسات سيادية بقدر ما نعيد إنتاج نسخة معولمة من العنف، تخفي بداخلها مشروعاً يتخطّى مفاهيم الدولة وحدودها، ويرتكز على مرجعية دينية لا تعترف بشرعية السيادة الحديثة.
العربي الجديد
————————————-
عبد الرحيم عطّون شرعيّ الرئاسة/ حسام جزماتي
2025.06.16
قبل عام فقط من تعيينه «رئيساً للمكتب الاستشاري للشؤون الدينية لدى رئاسة الجمهورية»، في أيار الماضي، لم يكن الشيخ أبو محمد عطّون في أحسن حالاته على الإطلاق، فقد كانت «قضية العملاء» الشهيرة ما تزال تتفاعل. ولم تصل إليه فقط لأن مرافقه كان أحد المعتقلين للاشتباه بهم، فهذا أمر عارض بالقياس إلى مهمات عطّون الكبيرة في «هيئة تحرير الشام» عندئذ؛ فقد كان «مسؤول المتابعة العامة»، وهو منصب تنفيذي هام، ورئيس «المجلس الأعلى للإفتاء». ونتيجة لذلك صار عضواً في لجنة التحقيق التي شكلها وقتئذ أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وضمت كذلك أبو أحمد حدود (أنس خطاب) وزيد العطار (أسعد الشيباني). وقد أنيطت بعطّون مسؤولية الإفتاء للجهاز الأمني بممارسة التعذيب للحصول على الاعترافات. ولما انكشف ذلك، بعد الإفراج المفاجئ عن العسكريين المعتقلين، أصبح مصدر إحراج للجماعة بشكل عام ولعطّون كأحد المسؤولين المباشرين. فعمد إلى الخروج عن صمته، كما قال، وكتب على منبره الوحيد، قناته على تليغرام
، نصاً طويلاً بعنوان «نقوش على جدار المرحلة»، في سلسلة من المنشورات المتتالية.
بغض النظر عن الجوانب الآنية في «النقوش» فإن أهم ما ورد فيها هو شرح عطّون لركائز «المشروع» الذي كانت «الهيئة» تبرر وجودها وسلوكها بذريعة بنائه. وهو «الكيان السني الثوري الجهادي المؤسسي» على حد تعبير كبير شرعييها الذي شرح أن أهم سمات «المشروع» هي:
٭ مرجعية الشريعة: فالشريعة الإسلامية هي الحاكم والمرجع لكل قوانيننا وملفاتنا.
٭ البوصلة العسكرية: القتال حتى إسقاط النظام ودحر حلفائه.
٭ ضرورة الحفاظ على مكتسبات الثورة: من خلال توظيفها في مشروع متكامل يصلح أن يكون قاعدة انطلاق لمعركة التحرير المستمرة.
٭ القرار: ينبغي أن يكون موحداً، وقوياً، وداخلياً لا يتبع لأجندات الدول، مع مراعاته للتحديات ومواقف الدول.
وبناء على ذلك فإن ركائز «المشروع» هي التالية:
أولاً- الركيزة العسكرية: وهي العمود الفقري في المشروع، ولها الأولوية، لأننا في حالة جهاد وثورة مستمرة.
ثانياً- الركيزة الأمنية: وتمثل الدرع الواقي للمحرر وسكانه ومؤسساته من كل خطر يتهدده.
ثالثاً- الركيزة السياسية: يتحرك العمل السياسي وفق ثلاث محددات هي: ضوابط الشريعة، والمصالح العامة للشعب ومصلحة الثورة والجهاد. ويأتي العمل الإعلامي ضمن المسار العام للخط السياسي المعتمد، داخلياً وخارجياً.
رابعاً- الركيزة الاقتصادية.
خامساً- الركيزة الشرعية: وتمثل آليات تحويل مرجعية الشريعة من النظرية إلى التطبيق، سواء من خلال مؤسسات كالقضاء والإفتاء والأوقاف، أو غيرها من المؤسسات العلمية والدعوية.
سادساً- الركيزة الإدارية: (الحوكمة): وكانت تتمثل بحكومة الإنقاذ السورية بوزاراتها المتعددة.
أما بعد سقوط النظام فيقترح عطّون
أن الطموح قد اتسع إلى هدف جامع هو بناء سوريا وفق مسارات أربعة:
1- الدعوة إلى الله، ونشر الدين وتبليغه للناس، وتعليمهم أحكامه.
2- تنمية المجتمع، وخدمة الإنسان فيه، بما يصلح أحواله في حياته وبعد مماته، وبما يجعله مستقراً (الأمن) ومعافىً (الصحة).
3- تقوية سوريا وتوحيدها، وصناعة هيبتها، والدفاع عنها، وتحصينها مادياً ومعنوياً ضد أعدائها، وجهادهم والتغلب عليهم ودفع صائلتهم.
4- الإحسان إلى المحتاجين، ونجدة المتضررين والمنكوبين، والعمل على تخفيف آثار الجوائح والحروب والتهجير والنزوح، ومنع الفوضى حال اضطراب المجتمعات.
ولتحقيق تلك المسارات يمكن تشكيل كل المؤسسات اللازمة (التشريعية والقانونية والعسكرية والأمنية والدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية…) مع التشبيك المجتمعي المناسب، بحيث يتكامل دور كل من الفرد والمجتمع والدولة وفق التصور الذي رسمه الدين.
اخترنا هذه المقتبسات لأنها تمثل الطبعة الأخيرة التي استقر عليها مستشار الرئاسة الديني بعد رحلة تقلب منهجي في فضاء «السلفية الجهادية»، منذ أن انتسب إلى «جبهة النصرة» عام 2012 وعرف بلقب «أبو عبد الله الشامي»، وألّف، في هذا الخط، عدداً من الكتب أشهرها «في ظلال دوحة الجهاد»، الذي كان «يُدرَّس في دورات الانتساب» إلى الجماعة كما جاء في مقدمته. وكتب «اللطائف في مفهوم وأحكام الطوائف» و«مسائل مهمة في أحكام الإمامة» و«جزء في الغنائم».
أما عن المرحلة قبل ذلك فيفيدنا محضر التحقيق معه، والذي أصبح متاحاً بفضل الوثائق الأمنية التي حصل عليها موقع «درج»
. ومنها نعرف أن عبد الرحيم بن محمد عطّون، من مواليد [قرية طعوم بمحافظة] إدلب 1981، تخرج في كلية الشريعة بجامعة دمشق في العام 2002، وعمل مدرّساً [للتربية الإسلامية] في مدينة الثورة [الطبقة] بمحافظة الرقة. وهناك أوقف لصالح الفرع 235 التابع لشعبة المخابرات [فرع فلسطين]، في أيار 2008، ضمن مجموعة جرى تحويلها إلى نيابة محكمة أمن الدولة العليا بتهمة التخطيط للمغادرة إلى العراق بغرض القتال، وتبني منهج متطرف وحيازة أدبياته. وكان في المرفقات كتباً وأشرطة كاسيت «لبعض دعاة المنهج المتشدد» عُثر عليها في منزل عطّون عندما فتشه الفرع 271 [للمخابرات العسكرية بإدلب] الذي أرفق تقييمه: «من منبت طبقي عمالي كادح – بعثي نصير – متدين من أتباع المنهج المتشدد – استدعي سابقاً من قبل الفرع 243 [للمخابرات العسكرية بدير الزور، وتتبع له الرقة] للاشتباه بوضعه».
في العام 2022 حاول عطّون أن يتابع تحصيله العالي في الدراسات الإسلامية من دون أن يتمكن من ذلك بسبب مهماته الكثيرة. غير أن هذا لم يمنعه من تدريس «فكر الثورة» في جامعة إدلب، وأخيراً من الجلوس في صدر لجنة من المسؤولين، أحدهم وزير التعليم العالي، لفحص المرشحين لرئاسة الجامعات السورية، قبل أسبوعين، في دلالة لافتة إلى صلاحياته.
تلفزيون سوريا
————————————-
دمشق ليست لكم وحدكم/ بشير البكر
17 يونيو 2025
يحسّ بعض السوريين بنشوة، وهم يستمعون إلى زجليّة “دمشق لنا إلى يوم القيامة”، التي وردت في نظم، فشل في أن يرتقي إلى مقام الشعر في خطاب القسم لوزير الثقافة محمد صالح. لغة تنضح شعبويةً، صادرة عن رجل بيده مصير البلد ثقافياً، وليس عن شعار في لحظة يأس، يتوسّل صاحبه التعويض عن فترة من الإقصاء والتهميش.
دمشق ليست لأحد، كما كل المدن الكبرى، تصهر كل من أقام فيها أو عبر، وتقوده بما تمتلكه من قوة مدن التاريخ وسحرها. منها انطلق التبشير بالمسيحية، وانتشر الإسلام في العالم، وابتدأ “عزّ الشرق”، على حد قول الشاعر سعيد عقل.
هي ذات خصوصية، لكنها ليست منغلقة على ذاتها. منفتحة على قدر سعة صدور أهل الشام، وما تتسم به بضاعتهم من جودة، ولذلك لم تنجح مدينة في الشرق على منافستها، أو احتلال مكانها، ومصادرة مكانتها. كلما اعتراها وهن، نهضت من جديد بقوة، لتلقن الحاكم درس الجغرافيا، التي تصنع التاريخ.
ليس ضيق أفق فحسب، أن يدّعي بعضهم امتلاك دمشق إلى يوم القيامة. إنها صرخة صمّاء في برّية قاحلة، لا صدى لها، ترتطم بجدار من سوء الفهم، ولا تنتج سوى العقم والتيه الإنساني والثقافي.
2
حين تنزل الأكثرية عن مكانتها، بوصفها جماعةً بلا ضفاف، لتتحوّل إلى فريق يتمترس في حارة صغيرة، فإن ذلك يعكس خللاً في القراءة والحساب. يعني أن من يقرأ المرحلة يراها بطرف العين، وليس على مستوى اتساعها. يكتفي بأن يلقي نظرة عابرة، لا يتأمل المشهد من زواياه كافة، وبالتالي، ستكون نتيجة الحساب كارثية، لأنها لم تعتمد على تقديرٍ دقيقٍ للموقف. وقد سبق لبلدنا أن وقع في هذين المطبين الخطرين، ودفع ثمن ذلك من نهوضه العام، وتنميته، ووحدته الداخلية.
خسرنا حروبنا على مستوى الدفاع عن الوطن بوجه عدوٍّ احتل أجزاءً واسعة من أرضنا. لم ننجح بإقامة بنى اقتصادية متينة، تمكّننا من استقلال خياراتنا السياسية، وبقينا نعرج عدة عقود. ومنذ الاستقلال، ونحن أسرى تجارب ارتجالية لحكّام، أغلبهم من العسكر. والنتيجة اليوم أن سورية بلد ضعيف سياسياً واقتصادياً، وليس في وسعه الدفاع عن سيادته، أو تحقيق الكفاية في الطعام والماء والضوء.
ما لم نقرأ التاريخ جيداً لن تقوم لنا قائمة. سنظل ندور في حلقة مفرغة، طالما أننا لم نراجع، بحكمة، تاريخ الفشل، الذي بدأ مع جلاء فرنسا عن سورية منذ 80 عاماً. لن تحصل الصحوة من تلقاء ذاتها، إنها تحتاج قرارات استراتيجية، ممن بيده مفاتيح البلد.
تقف سورية اليوم عند اللحظة التاريخية الحرجة، التي سبق لها أن واجهتها في يوم الاستقلال عن فرنسا، ولأنها اختارت، في حينه، الطريق الخطأ، بقيت تراوح في مكانها، ولم تتقدم بشجاعة لمواجهة المصير.
3
لن نخرج من النفق بالطائفية والعشائرية والحزبية الضيقة، بل بالدولة الحديثة، ولن نخترع العجلة من جديد، فالحلول واضحة، وسبق لشعوبٍ عدّة أن عاشت وضعاً شبيهاً بالذي وجدت بلادنا نفسها فيه، بعد انهيار نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر (2024). لسنا بعيدين اليوم عما كان عليه حال إسبانيا والبرتغال، عندما أسقط شعبا البلدين ديكتاتورية فرانكو وسالازار.
أوجه التشابه كثيرة بين سورية وهذين البلدين، لجهة الاحتقان الداخلي، بسبب الدكتاتورية التي قسّمت المجتمع، وعلى صعيد الأحوال الاقتصادية المتردّية. وقد كان الحل الوحيد للنهوض هو العمل على طيّ صفحة الماضي، وفتح أبواب المستقبل، من خلال اتباع نهج الحكم القائم على ترك الشعب يقرّر مصيره عبر صناديق الاقتراع. وفي وضعنا السوري الهشّ، ليس المطلوب إجراء انتخابات، قبل إرساء البنية التحتية المناسبة، ويتطلب ذلك أن نتقدّم خطوة إلى الأمام، بوضع دستور ينظم الحياة السياسية، ويشرّع الحرّيات العامة والفردية، ويحترم حرية التعبير، وإنشاء وسائل إعلام مستقلة.
4
المطلوب من الإدارة الجديدة أن تتعامل بحرصٍ شديد مع الفرصة التاريخية التي بيدها، وتُحدث الفارق بسرعة، بينها وبين النظام السابق. وأبرز نقطة هنا ألا تفرّط بالتأييد الشعبي، الذي حازته بفضل إسقاط النظام، بل أن تعمل على تعزيزه، وفق أسس جديدة قائمة على الشفافية والثقة، وضمان حقوق المواطنين الأساسية في الأمن وحماية الأرواح، ووضع حدٍّ للفلتان واستباحة دماء سوريين أبرياء، وخصوصاً في الساحل. والخطوة الأولى إلى ذلك مغادرة منطق الغنيمة والثأر، وإنصاف ضحايا الأبد الأسدي.
العربي الجديد
—————————
معولاً على التوترات الطائفية.. تنظيم الدولة يخطط لزعزعة استقرار سوريا
ربى خدام الجامع
2025.06.15
في الوقت الذي تشهد سوريا مرحلة انتقالية حساسة بعد سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، بدأ تنظيم الدولة باستغلال هشاشة الوضع الأمني والسياسي لإعادة بناء نفوذه وشنّ هجمات متصاعدة، وفق ما ورد في تقرير تحليلي حديث صادر عن مركز صوفان المتخصص بالأمن والاستراتيجيات. يشير التقرير إلى أن التنظيم، الذي تلقى ضربة قوية بانهيار النظام، عاد ليكثّف عملياته مستهدفًا المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مستغلًا تأخر دمج هذه القوات في الجيش السوري الجديد، والفراغ الناتج عن انسحاب القوات الأميركية. وفي خضم هذه التحديات، يحذّر مركز صوفان من أن التنظيم يعوّل على تأجيج التوترات الطائفية وتقويض شرعية الحكومة الناشئة، مستفيدًا من الثغرات في الحكم والتنسيق الأمني، ومن الصراعات الجيوسياسية التي تعقّد جهود الاستقرار في البلاد.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية المركز ومصادره، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
بعد انخفاض شديد في وتيرة العمليات منذ أواخر عام 2024، ومطلع عام 2025 مع انهيار نظام الأسد، زاد تنظيم الدولة في سوريا من وتيرة هجماته شهراً إثر شهر، إذ استهدف قوات الأمن وأهدافاً ناعمة ضمن المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والحكومة السورية الانتقالية. وفي الوقت الذي تلوح أمام سوريا اليوم فرصة مشروعة لنشر الاستقرار في البلد عقب عقود من القمع والعزلة الاقتصادية، والتدخل الخارجي، والأزمات الإنسانية، يستغل تنظيم الدولة هذه الفترة الانتقالية ليعيد تموضعه بعد أن تلقى ضربة قاصمة عند انهيار نظام الأسد، والذي كان يمثل طوال فترة طويلة سبباً وجيهاً لتجنيد الشباب ضمن صفوفه.
وتهدف حملة تنظيم الدولة في سوريا إلى إذكاء العنف الطائفي، وتفتيت اللحمة الوطنية، وتقويض شرعية الحكومة الانتقالية. وقد تسبب التأخر في دمج قوات قسد ضمن الجيش السوري الجديد، وسحب القوات الأميركية، واستمرار دعاية تنظيم الدولة في استهداف الحكومة السورية الجديدة، والمجندين الأجانب، في ظهور بيئة استراتيجية مناسبة لمزيد من الاستغلال، ومن خلال وجوده، أثبت تنظيم الدولة من جديد بأنه مايزال قادراً على استغلال الفرص ليظهر من جديد، مستغلاً الثغرات والنقائص في الحكم وفي نشر الأمن، وفي التعاون على مكافحة الإرهاب، وذلك ليجند مزيداً من الأتباع، وليزيد من تطرف القاعدة التي تؤيده.
في 18 أيار الماضي، نفذ تنظيم الدولة هجوماً ناجحاً ضد الحكومة السورية الجديدة للمرة الأولى بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، فقد استهدف مقراً أمنياً بمحافظة دير الزور ضمن الجزء الذي يقع تحت سيطرة الحكومة، وأتى هذا الهجوم بعد عدة عمليات لمكافحة الإرهاب نفذتها الحكومة الجديدة ضد خلايا التنظيم ومخططاته. واللافت في الأمر هو أن الحكومة التي يترأسها أحمد الشرع أحبطت مخططاً كان يستهدف مقام السيدة زينب قرب دمشق، وهو مرقد مقدس عند الشيعة تعرض لهجمات من تنظيم الدولة في السابق، كان أعنفها ذلك الذي تم في عام 2016. وذلك الهجوم الذي أحبطته الحكومة الجديدة كان سيسهم في حال نجاحه بدعم دعاية تنظيم الدولة بشكل كبير، بما أن مطامح هذا التنظيم تشبه ومن نواح كثيرة مطامح تنظيم القاعدة سيء الصيت في العراق من خلال الهجوم الذي نفذه في شباط عام 2006 على العتبة العسكرية المقدسة بسامراء، والتي تعتبر أحد أقدس الأماكن عند الشيعة. ولذلك تسبب ذلك الهجوم بإذكاء العنف الطائفي بين السنة والشيعة بالعراق، بما أن ذلك كان أحد الأهداف الرئيسية التي وضعها أبو مصعب الزرقاوي، زعيم تنظيم القاعدة آنذاك.
قسد ومناطقها.. الضحية الكبرى لداعش
منذ شهر كانون الثاني من هذا العام جرى إحباط ما لا يقل عن عشرة مخططات مماثلة، كان من بينها تلك المخططات الساعية لتفخيخ مقامات دينية، وخطة لاغتيال الرئيس السوري أحمد الشرع. وفي الوقت الذي زاد تنظيم الدولة من هجماته ضد الحكومة الجديدة، نكتشف بأن المناطق التي تسيطر عليها قسد في شمال شرقي سوريا هي من تحمل القدر الأكبر من تلك الهجمات. وبحسب البيانات التي جمعها الباحث تشارلز ليستر المختص بالشأن السوري، فإن 94% من هجمات تنظيم الدولة التي نفذها في سوريا خلال عام 2025 نفذت ضمن مناطق سيطرة قسد.
ومع تأخر اندماج قسد بشكل كامل ضمن الجيش السوري الجديد، وعدم وضوح المستقبل بالنسبة لإدارة مقار الاحتجاز التي تؤوي مقاتلين في شمال شرقي سوريا، تظهر فراغات عديدة في الحكم بوسع تنظيم الدولة استغلالها، إذ ترى بعض المصادر بأن الولايات المتحدة اشترطت على قسد الاندماج ضمن الجيش السوري الجديد وذلك حتى نهاية شهر آب من هذا العام، وذلك قبل الموعد النهائي الأصلي الذي حدد بنهاية عام 2025. وفي هذه الأثناء، يمكن لتنظيم الدولة استغلال مواضع الفراغ بين المناطق التي تسيطر عليها قسد وبين المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، وقد يتجلى ذلك بزيادة في وتيرة الهجمات، كما قد يتمثل أيضاً بتحسن في الشبكات اللوجستية وطرقات التهريب التي تعطل كثير منها بفضل الغارات الجوية الأميركية التي نفذت في كانون الأول في عام 2024 عقب إسقاط النظام على يد هيئة تحرير الشام.
الخوف من هروب مقاتلي داعش من السجون
بدأت الولايات المتحدة بسحب قواتها من شمال شرقي سوريا في نيسان الماضي، كما قررت تخفيض عدد قواعدها العسكرية من ثمان إلى واحدة، في حين عين الرئيس الأميركي دونالد ترمب سفيراً إلى تركيا، وهو توم باراك، كما نصبه مبعوثاً أميركياً إلى سوريا في أواخر شهر أيار، وهنا لا يجوز أن ننظر إلى الأمر على اعتبار أنه عودة للالتزام الأميركي بمزيد من التعاملات مع سوريا، بل بوجود حالة من المد والجزر في الوجود العسكري الأميركي بسوريا منذ عام 2015، فإن عمليات مكافحة الإرهاب أصبحت أولوية، ومن المتوقع للحكومة الانتقالية أن تترأس العمليات القتالية التي تستهدف تنظيم الدولة حال عودته للظهور. ثم إن استجابة الحكومة الانتقالية، إثر انضمام قسد للجيش السوري الجديد، ستصبح ضرورية لتأمين السجون التي تؤوي نحو عشرة آلاف مقاتل تابع لتنظيم الدولة، إلى جانب أربعين ألفاً من النساء والأطفال الموجودين في مخيمي الهول والروج.
ومع ازدياد جرأة تنظيم الدولة وجسارته، وتدهور الظروف الإنسانية في المخيمين، واحتمال ظهور عقيدة أكثر تشدداً ضمن تلك السجون، فإن تنظيم الدولة قد يستهدف السجون والمخيمين، على اعتبار أن الفرصة المناسبة قد حانت لتسهيل عمليات الهروب من السجن، تماماً كما فعل التنظيم في عام 2022. غير أن هذا الهروب لن يحرر المقاتلين الأشداء فحسب، بل إنه سوف يخلق أجندة مناسبة لتجنيد مقاتلين جدد.
سياسات دمشق المعتدلة والترويج لدعاية داعش
وإضافة لذلك، فإن دعاية تنظيم الدولة تستغل وبشكل كبير السياسات التي تروج لها الحكومة السورية الجديدة، والتي يراها بعضهم معتدلة، أو مراعية لمصالح الغرب، وقد يصبح هذا الوضع مقلقاً بالفعل، في حال لقيت تلك السرديات أصداء بين صفوف العاملين لدى الحكومة أو الجيش ممن لديهم تعاطف تجاه وجهات النظر المتشددة بنسبة أكبر. فالمقاتلون الأجانب الذين حاربوا في السابق إلى جانب هيئة تحرير الشام ضد نظام الأسد ثم اندمجوا في الجيش السوري الجديد هم الأكثر عرضة للتعاطف ولتبني هذه الدعاية. ولهذا تحدث المحلل السوري حسام حمود عن قنوات تيليغرام التابعة لتنظيم الدولة والتي استغلت غضب الشارع تجاه قيام الحكومة الجديدة بإطلاق سراح عناصر سابقة قاتلت ضمن ميليشيات تابعة للنظام السوري.
من خلال نظام الدعاية الموسع الذي يتبعه تنظيم الدولة، والذي يتضمن إصدار مجلة أسبوعية تعرف بـ”النبأ”، تعرضت الحكومة الانتقالية وقسد للاستهداف عدة مرات، تماماً كما كان يحدث عندما كان التنظيم يعرض بالنظام البائد، ويصفه بأنه ألعوبة بيد الولايات المتحدة، كما يتهم الحكومة الانتقالية وقسد اليوم. ففي إحدى صفحات عدد صدر مؤخراً من مجلة”النبأ”، جرى الحديث بشكل مباشر عن المقاتلين الأجانب في سوريا، مع التذكير بأن الدعوة للانضمام إلى تنظيم الدولة ماتزال قائمة، والتحذير من عدم التحول إلى بيدق يحركه الشرع كيف يشاء ليحصل على موافقة دولية.
في الوقت الذي نرى بأن الرياح المعاكسة أخذت تهب على المنطقة مقدمة للشرع فرصة لتغيير التاريخ الحديث لسوريا الحافل بالشقاء والتعاسة، هنالك عدة عوامل، خارجية وداخلية، بوسعها تخريب تلك الفرص التي يمكن لدمشق من خلالها خلق مستقبل أفضل للبلد. فاستمرار العنف الطائفي بين الحكومة الانتقالية والطائفة العلوية سيبقى مشكلة كبرى خلال المستقبل المنظور. وهنالك عدد من العناصر الخارجية التي اجتمعت على مصلحة زعزعة الاستقرار في سوريا من أجل تحقيق مكاسب تخصها. فلقد اعترضت الحكومة السورية عدداً من شحنات الأسلحة التابعة لإيران أو المصنعة فيها، والتي كان من المزمع أن تصل إلى حزب الله، كان بينها شحنة قذائف مدفعية. ونظراً لتراجع نفوذ حزب الله بشكل كبير خلال العام والنصف الماضيين، فإن طهران أصبحت تسعى جاهدة لإمداد هذا الحزب من جديد بالعتاد مع الحفاظ على موطئ قدم لها في سوريا مهما صغر ذلك الموطئ. كما أن إسرائيل ستنشط هي أيضاً في سوريا، ليس فقط ضمن الجنوب السوري، بل في مختلف أنحاء البلد. أما روسيا فستسعى للاحتفاظ بنفوذها العسكري في سوريا سعياً منها لتأمين وصولها إلى شرقي المتوسط. وكل هذه المتغيرات الخارجية تعقد وبصورة أكبر الجهود الساعية لمحاربة تنظيم الدولة، بما أن بعض الدول، بمن فيها تلك التي لديها مصلحة متأصلة في القضاء على تنظيم الدولة، تعمل على تحقيق أهداف متعارضة متناقضة، وهذه المصالح المتعارضة قد تخلق فرصة ومجالاً لتقدم الجهاديين.
تلفزيون سوريا
——————————–
لوفيغارو: هكذا يأمل نتنياهو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.. لكن إيران ليست سوريا والعراق
16 – يونيو – 2025
في مقال تحت عنوان: “نتنياهو يأمل في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط”، قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إنه منذ هجوم السّابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، كان من الواضح أن حكومة بنيامين نتنياهو ستدفع بالحرب حتى طهران. فقد تم إبعاد التهديدات المباشرة، التي يجسدها كل من حركة حماس التي نظّمت الهجوم انطلاقًا من غزة، وحزب الله اللبناني الذي دعمها، من خلال الرد العسكري الإسرائيلي. إذ تم إلى حدّ كبير قطع رؤوس قيادات الحركة الفلسطينية والجماعة اللبنانية، وإضعاف قدراتهم العسكرية بشكل كبير. غير أن “قطع الأطراف لا يفيد إن بقي الرأس حيًّا”، كما تنقل الصحيفة الفرنسية عن أحد الدبلوماسيين الفرنسيين.
أضافت “لوفيغارو” القول إنه في هذه الحرب متعددة المراحل، كان لا بد من التوجه نحو “الأصل”: أي الجهة التي تخوض الحرب بالوكالة ضد إسرائيل من خلال أذرعها في المنطقة، والتي تقوم بتدريبهم وتسليحهم ودعمهم، وهي: الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وذلك لتحقيق عدة أهداف: منع تكرار 7 أكتوبر جديد، وجعل إسرائيل مجددًا ملاذًا منيعًا ضد جيرانها، وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من خلال تحرير الإيرانيين من قبضة النظام الذي يحتجزهم كرهائن.
بالنسبة لإسرائيل، يعد التهديد وجودياً – تتابع الصحيفة الفرنسية – فمنذ ثورة عام 1979، لم يتوقف قادة إيران عن الدعوة إلى تدمير الدولة العبرية. وقد أشعلت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران الشرق الأوسط بالحروب والدمار. واليوم، باتت إيران على عتبة امتلاك السلاح النووي. وفي حال امتلكت القنبلة النووية، فإنها ستوفر مظلة أمنية للجماعات المسلحة في المنطقة، مما سيجعل إسرائيل معرضة بشدة لهجمات جديدة من أعدائها العديدين.
منع إيران من امتلاك السلاح النووي كان دائمًا أولوية قصوى لبنيامين نتنياهو، توضّح “لوفيغارو”، مُشيرة إلى تصريحات هذا الأخير التالية: “لن نسمح لأخطر نظام في العالم بامتلاك أخطر سلاح في العالم”. كما حذّر من “كابوس نووي” لا يهدد إسرائيل فقط، بل أوروبا والولايات المتحدة أيضًا.
لكن هذا الموقف ليس حكرًا عليه، توضّح الصحيفة الفرنسية، مذكِّرةً أن العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين شاركوه فيه منذ “عقيدة بيغن”، التي تنص على فعل كل ما يلزم لمنع أي دولة في الشرق الأوسط من حيازة السلاح النووي. وقد صاغ هذه العقيدة رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن في يونيو/حزيران عام 1981، عقب الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي في أوزيراك. وقد صرّح آنذاك: “لن نقبل تحت أي ظرف أن يطور العدو أسلحة دمار شامل ضد أمتنا. سندافع عن مواطني إسرائيل في الوقت المناسب وبكل الوسائل المتاحة”. ومنذ ذلك الحين، أصبحت عقيدة بيغن أحد أركان استراتيجية الردع الإسرائيلية، وتم تطبيقها مجددًا في سبتمبر/أيلول عام 2007 عندما قصفت القوات الإسرائيلية المفاعل النووي في “الكبر” بمحافظة دير الزور في سوريا، تواصل “لوفيغارو”.
تحدّثت الصحيفة الفرنسية عن احتمال قوي لتدخل عسكري إسرائيلي كترجمة حديثة لعقيدة بيغن، كشفت عنه حدود الاتفاق النووي لعام 2015، الذي أبطأ البرنامج النووي الإيراني دون أن يوقفه، والانسحاب الأحادي لدونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، والصدمة التي أحدثها هجوم 7 أكتوبر، ثم فشل المفاوضات الأخيرة التي قادها ترامب مع النظام الإيراني.
كما رأت “لوفيغارو” أن بنيامين نتنياهو يُلقي بالمنطقة في المجهول، من خلال ضرب النظام الإيراني بهذه الشدة؛ متسائلةً إن كان هذا الأخير يأمل في نتائج إيجابية من هذه المبادرة، التي يمكن -حسب اعتقاده– أن تخلص العالم من التهديد النووي الإيراني وتعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، وخصوصًا إذا أدّت هجماته إلى سقوط النظام؟
واعتبرت الصحيفة الفرنسية أن هذه الهجمات التي تشنها إسرائيل على جميع مكونات البرنامج النووي الإيراني يُفترض أن تمنحها والدول الغربية، التي لم توفر جهدًا في مواجهة الانتشار النووي، بضع سنوات إضافية. لكن هذا الرهان لم يُحسم بعد. فهناك مخاطر فورية، من بينها خطر حدوث تسريبات إشعاعية، وتخوّف من تصعيد عسكري واسع.
في هذا السياق، ذكَّرَت “لوفيغارو” أن الغزو الأمريكي للعراق بقيادة صدام حسين في عام 2003 كان يهدف هو الآخر إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال نشر الديمقراطية. وقد رأينا منذ ذلك الحين الكوارث التي سبّبتها تلك الأوهام.
إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية قد نجحت في تدمير البرامج النووية في سوريا والعراق، فإن هذا الهدف يبدو بعيد المنال في إيران، حيث وصلت المعرفة والخبرة إلى درجة لا يمكن محوها، تشدد الصحيفة الفرنسية، مُشيرة إلى أن إسرائيل فكّرت في عام 2008 بالفعل في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، لكنها تراجعت بسبب رفض الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش. ومنذ ذلك الحين، توسّع البرنامج العسكري الإيراني ليشمل جميع مكوناته.
يقول مارك فيتزباتريك، الخبير في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: “من المؤكد أن إيران ستسعى لإعادة بناء قدراتها النووية المفقودة، لكنها ستفعل ذلك في السر، ومن المرجّح أن تنسحب من معاهدة عدم الانتشار النووي”. ولكن، من دون القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات، هل ستنجح إسرائيل في تدمير المواقع النووية المحصّنة تحت الأرض، مثل موقع فوردو؟ تتساءل “لوفيغارو”.
مضت الصحيفة الفرنسية قائلةً إنّه إذا كانت القدرات النووية الإيرانية لا يمكن استئصالها بالكامل، فقد تجد إسرائيل نفسها مضطرة للتدخل مجددًا خلال عامين أو ثلاثة، بعد أن تكون إيران قد أعادت بناء قدراتها النووية. وبذلك تحكم عليها، بشكل أو بآخر، بخوض حرب دائمة. إلّا إذا أدى ظهور نظام جديد في طهران إلى تغيير المعادلة، من خلال كسر الإجماع في صفوف الطبقة السياسية في البلاد بشأن البرنامج النووي؛ وإلّا إذا أتاح الوضع الجديد فرصة جديدة للمفاوضات، التي ما يزال دونالد ترامب يتطلع إليها.
في الانتظار – تختتم “لوفيغارو”- فإن إسرائيل، وفي ظل عجزها عن فرض هدفها النهائي المتمثل في سياسة أمنية مستدامة، فإنها ستعدّ الهدوء الذي توفره غاراتها نجاحًا بحد ذاته. وكما كتب الخبير في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إميل حُكيم، في مقال له في صحيفة فايننشال تايمز: “إسرائيل لا تبني غدًا أفضل، بل تدمر كل ما يمكن أن يشكل تهديدًا لها”. وفي انتظار “نهاية الحروب”، يعتبر العديد من الإسرائيليين أن هذا وحده يُعد إنجازًا.
القدس العربي”
—————————
خامنئي ونتنياهو ومفاتيح ترمب/ غسان شربل
16 يونيو 2025 م
ليس بسيطاً أن تقيمَ طهران تحت دويّ المقاتلات الإسرائيلية. وأن يعلنَ الجيش الإسرائيلي فتحَ ممر مضمون لطائراته إلى أجواء العاصمة الإيرانية. وأن تقيمَ تلُ أبيب تحت مطر الصواريخِ الإيرانية. وأن يخرجَ سكانُها من الملاجئ ليعاينوا خراباً غيرَ مسبوق. وأن يقولَ وزير الدفاع الإسرائيلي إنَّ «طهران ستحترق» إذا كرَّرت استهداف المدنيين. وأن يتابع الإيرانيون صور منشآتِهم أسيرة النَّار والركام.
لسنا أمام مجرد تبادلِ ضربات بين دولتين لا تجمعهما حدود مشتركة. إنَّنا أمام زلزال عابر للخرائط. بعد الضربات المدوية التي وجهها الجيش الإسرائيلي في الشهور الماضية في غزةَ ولبنان، توهَّم إسرائيليون أنَّهم يقيمون في قلعة حصينة. استيقظوا فاكتشفوا أنَّ القلعة هشَّة على رغم امتلاكها ترسانة استثنائية. اكتشفوا أنَّ جدرانَ القلعة تبقى مصابة بالثقوب، وأنَّ الصواريخ الإيرانية قادرة على التسلل منها.
وبعد عقود من التوسع في الإقليم، اعتقد إيرانيون أنَّهم يقيمون في قلعة حصينة. وأنَّ حروب الإقليم ستدور دائماً على أراضي الآخرين. وأن ما سبق من تبادل الضربات المباشرة مع إسرائيلَ لا يتعدَّى تبادل الرسائل. اكتشف الإيرانيون هشاشة القلعة وحجمَ الثقوب التي سمحت لإسرائيل بالسيطرة على أجوائهم ولـ«الموساد» بالتسلل إلى أرضهم وأسرارهم. مجزرة الجنرالات والعلماء النوويين كشفت أنَّ الاختراق في طهران أعمق ممَّا كان في بيروت.
أقسَى المعارك معركة الصورة. حين تبدو الحكومة ضائعة أو مرتبكة. ويظهر الجيش عاجزاً أو ضائعاً. ويستولي على النَّاس الخوف من أيام أدهى بعدما تتراجع ثقتهم بحراسهم.
في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أصيب الإسرائيليون بالهلع والعالم بالذهول. على مدى ساعات بدتِ الحكومة الإسرائيلية غائبة أو مشلولة وبدا الجيش عاجزاً عن حماية القلعة. في الثالث عشر من الشهر الحالي بدت إيرانُ في وضع مشابه. في التاريخ الأول لم يكن سهلاً إبلاغ بنيامين نتنياهو بما فعله هجوم يحيى السنوار. في التاريخ الثاني لم يكن بسيطاً على الإطلاق إطلاع المرشد الإيراني على ما حلّ بالقيادات العسكرية والرموز النووية. لم يكن بسيطاً على نتنياهو مراقبة الجنازات التي أنجبها «طوفان» السنوار. ولم يكن بسيطاً على خامنئي رؤية جنازات الجنرالات والعلماء ومقتل من تولَّى ترقيتهم وتزيين صدورهم بالأوسمة تقديراً لأدوارهم وولائهم.
أطلق الهجوم الإسرائيلي على إيرانَ عملية تدمير متبادل. أوقع البلدين والمنطقة في ما يشبه النفق. لا قدرة لإيران على وقف الغارات الإسرائيلية. ولا قدرة لإسرائيل على وقف تساقط الصواريخ الإيرانية. والذهاب أبعد في مبارزة التدمير يمسّ الأمن الإقليمي وأسعار الطاقة وينذر بمشاهدَ لم يعاين أهل المنطقة مثلها على رغم تمرسهم بالأهوال.
هذه بجدٍّ «أمُّ المعارك» في الإقليم. إنَّها أخطرُ من كلّ الحروب التي عاشها الشرق الأوسط في نصف القرن الماضي. أخطر بترساناتها وبعواقبها أيضاً.
هل أخطأت إيران بعدم الالتفات إلى ساعتها حين عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض؟ وحين تحدَّث عن فرصة الستين يوماً وعن أهوال ستعقب عدم الاتفاق؟ هل كان عليها أن تلتفت إلى ساعتها بعد فرار المستشارين الإيرانيين من سوريا وجلوس أحمد الشرع على كرسي الأسدين وغيابِ لاعب بارز اسمه حسن نصر الله؟ هل أخطأت في عدم تطمين الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟ هل أساءت تقدير خطورة لاعب خطر ومغامر اسمه نتنياهو ومعه تصاعد عدوانية المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية بعد «الطوفان»؟
يصعب على العالم احتمال الإقامة طويلاً في نفق الضربات المدمرة المتبادلة بين إسرائيل وإيران. لن يتأخر في مطالبة نتنياهو بالالتفات إلى ساعته. سيفعل الأمر نفسه مع المرشد. لا تملك إيران خياراتٍ كثيرة. توسيع النزاع باستهداف قواعد أميركية يضاعف مأزقَها ومثله إغلاق مضيق هرمز. الحلّ الوحيد الممكن هو العودة إلى طاولة ترمب وربما بمساعدة روسية وصينية. وطاولة ترمب تعني التنازلَ عن الحلم النووي وفتح الباب لتطبيع علاقة إيران بأميركا والغرب والعالم. وهذا يعني تغيير إيران من دون تغيير نظامها.
مشهد الشرق الأوسط مقلقٌ ومخيف. تنتهك المقاتلات الإسرائيلية أجواءَ دول للانقضاض على أهداف في إيران. تنتهك الصواريخُ والمسيرات الإيرانية أجواءَ دول لمهاجمة أهداف في إسرائيل. حجبتِ المنازلة الإسرائيلية – الإيرانية مشاهدَ أهوال غزة وأزمات أخرى. يحتاج الشرق الأوسط إلى الخروج من أنفاق القتل والتدمير والظلم. يحتاج إلى العودة إلى احترام حدود الدول وسيادتها وحقوق الناس. يحتاج إلى إسرائيل بسياسة مختلفة وإلى إيران بخيارات مختلفة. يحتاج إلى معرفة حدود دولة اسمها إسرائيل. ومعرفة حدود دور إيران في الإقليم.
لا يملك نتنياهو تفويضاً بحرب مفتوحة طويلة. ويصعب الاعتقاد أنَّ إيران قادرة على خوض نزاع طويل يهزُّ ركائز هيبتها واقتصادِها ويكشف ضعفات نظامها. الانتصار الساحق صعبُ التحقيق. المبارزة مكلفةٌ وترمب ينظر إلى ساعته. يبدو سيد البيت الأبيض واثقاً أنَّ إسرائيل لا تستطيع النَّوم على غير الوسادة الأميركية وأنْ لا خيار أمام إيران غير سلوك طريق «الشيطان الأكبر».
يحمل ترمب المفاتيح. وحده يستطيع ترجيحَ كفة إسرائيل في المعارك. ووحده يستطيع استدعاء نتنياهو إلى طاولة التفاوض. ووحده يستطيع إنقاذ إيران من ضربات الطائرات الإسرائيلية بـ«سلام قريب». لكنَّ حامل المفاتيح ليس جمعية خيرية وعلى إيران أن تدفع ثمنَ التفاوض برعايته. لا مبالغة في القول إنَّ على المرشد ونتنياهو الالتفاتَ إلى ساعة ترمب.
الشرق الأوسط
——————————
سورية بين اقتصادَي الخدمات والإنتاج/ مالك ونوس
17 يونيو 2025
لم تعلن الحكومة السورية الجديدة بعد عن نهجها الاقتصادي الذي تعمل على تكريسه والسير بهَديه، بعدما صرّح عدد من أقطابها مبكراً، عن نيتها تبنّي اقتصاد السوق الحر، بعد القطع مع نهج “الاقتصاد الاشتراكي” الذي قالوا إن النظام السابق كان يتَّبعه.
مع ذلك صدرت إشاراتٌ تُظهر وجود ترجيح لاقتصاد الخدمات على اقتصاد الإنتاج، منها الأخبار التي انتشرت على نطاق واسع حول بناء عمارة شاهقة ستعرف باسم “برج ترامب” التي تُعد، إن صحّت الأنباء حولها، ملمحاً لاقتصاد السوق والخدمات الذي يبدو أنه لن يكتفي بإشادة عمارات كهذه، بل بهدم أخرى تراثية قائمة وبحالة سليمة، وإشادة أبنية جديدة مكانها. ويشير هذا الأمر إلى احتمال تعويم نشاط قطاع المقاولات سريع الربح، ورديفه قطاع البنوك، على حساب قطاعات أخرى تحتاجها البلاد أكثر.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت، في 12 مايو/ أيار الماضي، عن جوناثان باس، رجل الأعمال المقرّب من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قوله إن الرئيس السوري، أحمد الشرع، أخبره عن توجهٍ إلى إقامة برجٍ يحمل علامة “برج ترامب” في دمشق، وهو ما فُسِّر محاولةً سورية للتقرّب من ترامب. وكان باس قد التقى الشرع في دمشق نهاية إبريل/ نيسان الماضي ساعاتٍ، تحدّثا خلالها عن علاقات سورية مع المحيط والغرب والعقوبات والتحدّيات التي تواجه الحكم الجديد، والتي تمنع الاستثمارات واستغلال الثروات الطبيعية وإعادة بناء البلاد. وقد تزامن الحديث عن هذا البرج مع أنباء متداولة عن نياتٍ بهدم مبنى محافظة دمشق التاريخي العريق وتشييد بناء عصري مكانه. وقد أدّى انتشار هذا الخبر إلى استياء كبير بين أبناء المدينة الذين استغربوا الأمر، لأن البناء القائم حالياً من الذاكرة البصرية للعاصمة، إضافة إلى عدم وجود أي خللٍ يُوجب هدمه. وأصدر فنانون وكتاب وحقوقيون سوريون بياناً دعوا فيه إلى وقف المشروع، والعدول عمّا سموها “المشاريع الشكلية” التي تتضمن هدم أبنية ومدارس تراثية أخرى، والالتفات إلى إعادة بناء المناطق المدمّرة مثل داريا وجوبر وغيرها.
ربما يكون ملف إعادة بناء المدن والبلدات التي دمّرتها حرب بشّار الأسد على الشعب السوري، من أجل تسريع عودة النازحين واللاجئين من الخيام ومن دول الجوار إلى مدنهم وإغلاق هذا الملف، من أكثر الأمور إلحاحاً، والتي يجب إيلاؤها الأهمية في هذه الفترة. غير أن هذا يتطلب موارد لا يمكن توفيرها، إلا بعد إصلاح قطاع النفط والغاز واستغلال الثروات الباطنية الأخرى لتوفير السيولة الضرورية لذلك. وتوفير السيولة يتطلب المحافظة على ما هو متوفر من العملة الأجنبية عبر الحد من استنزافها بالاستيراد، وهو الأمر الذي لا ينجح إلا عبر إعادة تشغيل المعامل المتوقفة، وتحديث تلك القديمة، من أجل الاستعاضة عن السلع الأجنبية بالوطنية، وبالتالي، توجيه الكتل النقدية إلى مطارح أخرى تحتاجها، ومنها قطاع الطاقة. ويبقى قطاع الإنتاج الزراعي، لكونه الأوسع في سورية، وتعمل فيه نسبة كبيرة من الأيدي العاملة بشكل ثابت وبشكل متقطّع تبعاً للمواسم، من أهم القطاعات، وذا مردودية معتبرة. وسيوفر تنشيط هذا القطاع وإعادته إلى سابق عهده على خزينة الدولة مبالغ هائلة كانت ستذهب إلى استيراد السلع الإستراتيجية، خصوصاً القمح والذرة، وغيرهما من البقوليات التي تستوردها الدولة هذه الفترة، بعدما كانت تصدّرها وتخزن الفوائض منها.
معروف أنه في عالم الأعمال، سريعاً ما يحتذي مستثمرون بمشروعات أقامها زملاؤهم. لذلك، في حال جرى البدء بمشروع من قبيل برج ترامب الذي قيل إنه سيكلف مائتي مليون دولار، وسيتنطع له رجل أعمال سوري مقيم في الإمارات، ستظهر علينا مشروعات أخرى كثيرة مماثلة، وربما تزيد عن الحاجة، على الأقل في مرحلة إعادة البناء الحالية. وبالتالي ستذهب الاستثمارات إلى مطارح غير شعبية وغير ضرورية وبلا مردودية سريعة على البلاد، لأنها لا تلامس حاجات واهتمامات أحد من السوريين، إلا نسبة قليلة ثرية، أو أثرت خلال الحرب، بعدما كان المأمول من الاستثمارات، أو يأمله فقراء البلاد الذين يشكلون نسبة 90% من سكان البلاد، أن تركّز على مشروعات الطاقة والصناعة والزراعة والبنية التحتية والتعليم والصحة، وإعادة بناء المناطق المهدمة، علاوة على مشروعات التنمية التي تساهم في التعافي والنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل.
ليس من الوارد الانتقاص من اقتصاد الخدمات، غير أن سورية الخارجة من حرب مدمّرة على كل الصعد، تحتاج أكثر إلى اقتصاد الإنتاج لرفد الخزينة بالقَطع الأجنبي والاستغناء عن استيراد السلع من الخارج والتحوّل إلى التصدير، خصوصاً أن البلاد شهدت تجربة إنتاجية في قطاعات الزراعة والصناعة والصناعات التحويلية، كانت رائدة في المنطقة، وكان عمادها القطاع العام المملوك من الدولة والقطاع الخاص العريق والمرن. والهدف من التركيز على اقتصاد الإنتاج الاستغناء عن الاقتراض الذي يمكن أن يؤدّي، في حال سوء توظيف المبالغ المقترضة في أماكنها المناسبة إلى العجز عن الإيفاء، وبالتالي الوقوع في المحظور مثل الفشل في التسديد، كما حدث في مصر وسيريلانكا ولبنان وغيرها، من أجل رد الدين، وهي الدول التي عجزت عن تسديد خدمات الدين وصارت تسعى للحصول على قروض جديدة من أجل تسديد القروض القديمة، فلجأ بعضها إلى بيع الأصول والقطاعات السيادية.
قد يؤدّي احتذاء نموذج برج ترامب وتعميمه إلى توسع قطاع المقاولات والعقارات وتوجيه الرساميل إلى هذا القطاع، ومن ثم الدخول في الفقاعة العقارية. وسيؤدّي توسّع هذا القطاع إلى توسّع الاستثمار في قطاع البنوك وزيادة حجم تلك الفقاعة، وبالتالي التعرّض للخسائر الكبيرة عند أول أزمة مالية عالمية، مثل التي تحصل دورياً، وتؤثر على الدول الهشّة اقتصادياً، أو الخارجة من جحيم حروب، مثل سورية. وإذا ما وضعنا العامل الأمني في الحسبان، فإن عدم اندماج بقية الفصائل في الجيش، وعدم التعجيل في حل المشكلات المعيشية، عبر إعادة دوران عجلة الإنتاج، وإعادة المفصولين من الخدمة إلى أعمالهم، سيفاقم المشكلات الأمنية، وستزداد عمليات السرقة والخطف التي تحدث هذه الأيام وتؤثر على استقرار البلاد. لذلك يصبح رفع العقوبات غير كافٍ لإخراج البلاد من أزماتها، إذا لم يتبعه إقرار دستور عصري وسيادة قضاء مستقل، يساهم في تعزيز عامل الاستقرار، الأمني والسياسي، هذا العامل الذي تضعه الشركات الاستثمارية في قمة سلم أولوياتها قبل الدخول إلى أي سوق من تلك التي تُصنَّف واعدة.
العربي الجديد
————————-
مصير قاآني يعيد سيرة كواليس ما قبل سقوط دمشق/ مصطفى رستم
شارك في اجتماع سري مع استخبارات الأسد انعقد في مقر لـ”الحرس الثوري” قبل أيام قليلة من عملية “ردع العدوان” وتركز حول دفع المفاوضات مع القطريين
الأحد 15 يونيو 2025
لم يكن الحديث عن المصير الغامض لإسماعيل قاآني هو الأول من نوعه، إذ تداولت تقارير في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أنباء غير مؤكدة عن اغتياله بضربات إسرائيلية على لبنان، بالتزامن مع اختراقات أمنية أدت حينها إلى اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، أو لأسباب أمنية تتعلق بالتحقيق معه بدعوى التجسس، ولكنه ظهر مجدداً ليدحض كل هذه الأنباء.
تضاربت الأنباء حول مصرع قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني، في الضربة الإسرائيلية التي شُنت على إيران أخيراً، فيما غبارها لم ينقشع من كلا جبهتي الصد أو الرد المتبادلتين بين تل أبيب وطهران، ولعل قاآني من أبرز الشخصيات العسكرية المستهدفة، حيث أثار الحديث عن مصرعه أو نجاته من الهجمات جدلاً خلال الساعات الأخيرة الساخنة.
ولم يكن ذلك الحديث عن مصيره المتضارب والغامض هو الأول من نوعه، إذ تداولت تقارير في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، أنباء غير مؤكدة عن اغتياله بضربات إسرائيلية على لبنان، بالتزامن مع اختراقات أمنية أدت حينها إلى اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، أو لأسباب أمنية تتعلق بالتحقيق معه بدعوى التجسس، ولكنه ظهر مجدداً ليدحض كل هذه الأنباء.
ويعد قآاني، وهو خليفة قاسم سليماني، من أبرز القادة العسكريين في إيران، وعينه المرشد في يناير (كانون الثاني) 2020 بعد استهداف سليماني بعملية اغتيال نوعية، كما أنه إحدى أكثر الشخصيات التي تطلبها تل أبيب وتضعها على لوائح الموت، لذا تحاط تحركاته بالسرية الشديدة، وهو قليل الظهور الإعلامي.
لقاء سري
في معرض الحديث عن إسماعيل قاآني (مواليد 1957) نستعرض تفاصيل أبرز الاجتماعات السرية الاستخباراتية التي جمعته مع وفد أمني سوري زار طهران في الـ24 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، والتقى شخصيات من كبار قادة أجهزة الاستخبارات والحرس الثوري، وحصلت “اندبندنت عربية” على تفاصيل الاجتماع الذي دار بين قاآني والوفد السوري في طهران، والذي انعقد قبل أيام قليلة فقط من اندلاع عملية “ردع العدوان” في الـ27 من نوفمبر، وأدت إلى تحرير مدينة حلب شمال سوريا من قوات النظام، ومن ثم هرب الرئيس المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
الاجتماع الأمني جرى بسرية تامة في أحد المقرات التابعة للحرس الثوري، وكان بشار الأسد على اطلاع بتفاصيله قبل هربه من البلاد إلى روسيا، وأبرز ما جاء به تمحور حول تقديم الدعم لسوريا، فضلاً عن ملفات تتعلق بقوات العشائر السورية، وقضية الكرد، وعمليات التفاوض مع الأتراك والقطريين بغية الدفع بعملية تفاوض وتنسيق لاجتماعات عالية المستوى.
إزاء ذلك تشير المعلومات المتوفرة إلى تأكيد قائد “فيلق القدس” خلال الاجتماع على وقوف إيران وروسيا إلى جانب سوريا (في ظل حكم الأسد)، وأن “حزب الله” سيستمر بتنفيذ خططه كصاحب الدور الرئيس بالميدان في لبنان.
وتطرق الاجتماع إلى المشكلات الموجودة في سوريا، وقال قاآني بوجود مساعٍ لحل مشكلات العشائر والأكراد، مضيفاً “هم يعرفون أنه يجب عليهم حلّ هذه المشكلات من طريق الدولة السورية”.
دفع عجلة التفاوض
اللافت للنظر عدم تطرق الاجتماع المنعقد قبل أيام من عملية “ردع العدوان” إلى أي تهديدات أمنية من الشمال السوري، بل دار حول دفع المفاوضات مع القطريين، وجاء في حديث قاآني “أن الاجتماعات مع القطريين مثمرة، ويجب أن تستمر، ويمكن استئنافها لحل المشكلات معهم، وهم يعرفون أنهم أخطأوا بموقفهم، ويريدون تصحيح هذا الخطأ، ويبدو أن حل المشكلة مع قطر سيسهم بحل المشكلات مع المسلحين، وفي ما يتعلق بالأتراك فهم لا يزالون يريدون أن يلعبوا ببعض المواضيع، وهم مستعدون في هذه الظروف لإعادة العلاقات مع سوريا، ويعلمون أن المسلحين في الشمال من الممكن أن يشكلوا بعض المشكلات لتركيا”.
ولم يخف رجل “الحرس الثوري” في الاجتماع دعم بلاده للسوريين في هذه المواضيع في وقت حرج، إذ تشي المعلومات بتحضيرات قبل أشهر تعمل عليها سلطة أمر الواقع في إدلب (هيئة تحرير الشام) بقيادة أحمد الشرع، المعروف بقربه من إسطنبول قبل أن يصبح رئيساً للدولة في سوريا ويقود حكومتها الانتقالية بعد إسقاط الأسد.
في المقابل أفصح الوفد السوري عن عقد ثلاثة لقاءات مع الجانب القطري برعاية إيرانية، وعلى رغم عدم تحقيق نتائج مثمرة “بقينا مستمرين بعقد اللقاءات، وطلبنا رفع تمثيل سوريا في تلك اللقاءات لتكون على مستوى رؤساء الأجهزة، ووعد الجانب القطري بأن يكون ذلك خلال اللقاء المقبل”.
وأضاف الوفد الأمني السوري (في عهد الأسد) “لاحظنا أن القطريين يريدون التدخل في الشأن السوري، ويبحثون عن دور لهم، كما أنهم ينسقون مع الأتراك، وهذا سبب مماطلتهم، وهم يجتمعون معنا نتيجة الضغط الإيراني”.
خطوة متأخرة للأمام
في غضون ذلك بدا وفد الاستخبارات السوري خلال الاجتماع متلهفاً لانتزاع أية خطوة في طريق المفاوضات سواء مع أنقرة أو الدوحة، وكشف محضر الاجتماع (السري للغاية) عن فتح دمشق قنوات تواصل مع تركيا من طريق موسكو، وحل مشكلات الفصائل المسلحة بإجراء تسويات معها، وإخراج المسلحين الأجانب من شمال سوريا إلى حيث أتوا، مع القضاء على المسلحين من الرؤوس “الحامية”.
ومع كل هذا الدفع من قبل الوفد الأمني، والإلحاح بترتيب المفاوضات وتحريكها، فإنهم ألحوا على قاآني أن تكون عودة العلاقات مع تركيا مرتبطة بالانسحاب من الأراضي السورية، وعندما يصبح الانسحاب كاملاً تعود العلاقات بصورة كاملة كما كانت.
وأظهر الوفد توجسه من بناء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ما يقارب 30 برج مراقبة على نهر الفرات مشابهة للأبراج الإسرائيلية، وتمتد من البوكمال حتى دير الزور لمراقبة ما وصف بـ”قوات العشائر وقوات الأصدقاء”، والمقصود بهم الميليشيات الإيرانية والحليفة لها.
في الأثناء لم تكن الزيارة الأخيرة للوفد الأمني السوري لقاآني مرتبطة بتفاصيل استخباراتية، بل بدا التدخل الإيراني في الشأن الداخلي السوري جلياً حتى في شأن مواسم القمح، إذ رأى قائد “فيلق القدس” أنه يجب التخطيط لنقل القمح فضلاً عن النفط الذي يباع بأثمان قليلة.
وأردف في سياق حديثه مع الوفد “يمكن التخطيط لشرائه عبر الوسطاء أو المهربين، وليس بصورة مباشرة، لأنه في النهاية سيصل تركيا، وفي حال قبول الفكرة يمكن المساعدة بتحديد أشخاص يمكنهم شراء القمح والنفط من (قسد)”.
بالنتيجة خرجت كافة الميليشيات الإيرانية من دمشق وبقية التراب السوري مع عملية تحرير البلاد من نظام البعث (1970 ـ 2024)، ويرى مراقبون في الميدان السوري أن طهران خسرت الساحة السورية واللبنانية، وهو ما أفقدها أذرعاً فاعلة في الحرب الأخيرة التي تدور حالياً، إذ كانت هذه الساحات ستمثل منصات إطلاق صواريخ قريبة من جبهة إسرائيل الشمالية عبر مناطق متاخمة للجولان أو الجنوب اللبناني.
———————————–
النسيج الاجتماعي السوري.. واقع متغيّر وآمال بالنجاة/ وفاء علوش
2025.06.16
هل انتهت الحرب في سوريا؟ سؤال على بساطته يفتح باباً لنقاشات طويلة مازال السوريون مختلفين بخصوصها، فعلى الرغم من توقف الآلة العسكرية التي كانت تفتك بالسوريين ما زال الانفلات الأمني في بعض المناطق موجوداً وما زال المجتمع السوري هشاً وغير منسجم ولم يصل بعد إلى مرحلة التماسك، الأمر الذي يجعل أي عملية سياسية أو إصلاح اقتصادي صعب التطبيق حتى تحقق تماسك النسيج المجتمعي المنشود.
لا تزال التحديات الاجتماعية تشكّل أحد أبرز عوائق الاستقرار، حيث أعادت الأزمة تشكيل بنية المجتمع السوري على مستويات متعددة، بدءًا من العلاقات الأسرية، مرورًا بالهجرة والتهجير، وصولاً إلى تبدّل القيم والأولويات.
لقد فرضت الحرب واقعًا جديدًا، تغيّرت فيه القيم التقليدية، وبرزت النزعة الفردية مكان الروح الجماعية، وأصبح البقاء على قيد الحياة هدفًا يتقدم على كل شيء، مما أثار نقاشًا واسعًا حول الهوية والولاء والانتماء، في هذه الأثناء برز دور النساء بشكل ملحوظ، حيث اضطلع أكثرهن بدور المعيل والمربّي والفاعل في المجتمع المدني، ومع هذا، ما تزال المرأة تواجه تحديات اقتصادية وثقافية مضاعفة في ظل بيئة غير مستقرة.
بعد سقوط نظام الأسد وتحرير سوريا أيضاً بدأت ملامح المجتمع السوري بالتغير، فقد عاد كثير من الناس إلى مدنهم وقراهم، وبدأت محاولات إعادة بناء العلاقات الاجتماعية المتضررة، ومواجهة آثار التهجير والانقسام.
لم تكن مسألة الاندماج في المجتمع بعد العودة سهلة بسبب تفتت الروابط الاجتماعية والعائلية، فقد أدت سنوات الحرب إلى تفكك عدد كبير من الأسر بسبب النزوح الداخلي أو الهجرة إلى الخارج، إذ تغيرت العلاقات بفعل الغياب الطويل، أو بسبب المواقف السياسية المختلفة التي فرّقت أفراد الأسرة الواحدة.
عدا عن وجود عوائق أخرى حالت دون ذلك فالشباب الذين عاشوا طفولتهم في ظل الحرب، يكبرون اليوم في واقع مليء بالصعوبات، ويواجهون ضعفًا في التعليم الرسمي، وندرة في فرص العمل، لكن كثيرين منهم يشاركون في مبادرات تطوعية ومشاريع صغيرة تهدف إلى إعادة بناء مجتمعاتهم.
أثرت سنوات القتال والخوف على مفهوم الثقة بين الناس، وغيّرت بعض القيم التي كانت سائدة سابقًا، وظهرت مواقف فردية جديدة تعكس الرغبة في الحماية الشخصية قبل أي شيء آخر، لكن على المقلب الآخر هناك عودة تدريجية لبعض مظاهر التضامن والمبادرة المجتمعية وتبذل النساء في هذا المجال دوراً بارزاً، سواء من خلال العمل أو من خلال تأسيس مبادرات محلية،كذلك انتشرت في مناطق عديدة مشاريع أهلية تهدف إلى تقديم الدعم النفسي والتعليمي والغذائي، وإعادة تأهيل المدارس والمنازل، ما ساعد في تخفيف أثر الانهيار الخدمي والفراغ المؤسساتي.
مازال السوريون يحاولون استعادة حياتهم، وإعادة بناء علاقاتهم ومجتمعهم مع وجود تحديات كبيرة، إلا أن هناك فرصة حقيقية لإعادة تشكيل مجتمع سوري متماسك، قائم على التعاون والمشاركة، بعيدًا عن القمع والخوف الذي فرضه النظام السابق.
سنوات القهر غيرت الناس، صار بعضهم يرى في الخبز معركة، وفي كلمة “ثقة” أمنية، كثيرون فقدوا الإيمان بالآخر، ونسوا كيف يكون الجار سندًا لا خطرًا، لكن مع الزمن ستُنسج العلاقات من جديد وإن تحقق ذلك ببطء، فالسوريون يعيدون حياكة نسيجهم الاجتماعي كما تحوك الجدات السجاد القديم خيطًا خيطًا، وذكرى بذكرى.
إن محاولات السوريين التعالي فوق جراحهم لا يعني نسيانها، لا يزال كثيرون يحملون في قلوبهم صور أحبّاء لم يعودوا، لكنهم شعب حيّ محب للحياة على الرغم من كل شيء، يحاولون أن يكتبوا في سوريا اليوم فصلًا جديدًا، بمداد من الألم، لكنه خالٍ من الخوف، فربما تحررت سوريا لكنها ما زالت تحبو باتجاه التعافي ومن أجل ذلك يجب أن يتعلّم السوري أن يغفر، أن يثق، أن يحلم بلا وصاية فالمجتمع السوري الآن لا يبحث عن وطن فقط، بل عن ذاته التي نكّستها الحرب، لكن لم تُطفئها.
لا يزال المجتمع السوري ينبض بالحياة، ويحاول التكيّف مع واقع متغيّر فرضه النزاع والحرمان، وتبقى الحاجة ماسّة إلى دعم حقيقي لإعادة بناء الإنسان فالنسيج الاجتماعي هو الركيزة الأساسية لمستقبل سوريا ويبدو أن الطريق الأكثر أمناً هو خلق مساحات حوار مشتركة بين السوريين أنفسهم من دون وصاية ولا رعاية سلطوية أو خارجية.
لطالما كان التنوع الثقافي والاجتماعي في سوريا مصدر غنى وثراء، لكنه في السنوات الأخيرة تحول إلى ساحة انقسام حاد، غذّته الصراعات السياسية والعسكرية، وأنتج خطاب كراهية خطيرًا يهدد بنسف فرص التعايش، ومع استمرار الأزمة بعد التحرير، أصبح من الضروري بناء حوار سوري-سوري حقيقي قادر على تجاوز الماضي، والتأسيس لمستقبل مشترك يقوم على المصالحة والتفاهم، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك وسط هذا الكم الهائل من الجراح والعداوات؟
لا بد من الاعتراف بالعقبات وتذليلها بإنهاء الاستقطاب الحاد بين مختلف الأطراف، وتجريم الخطاب الإعلامي المشحون الذي يعزز الكراهية بدلًا من التهدئة، وبناء ثقة متبادلة بين السلطة والشعب وبين مكونات الشعب أنفسهم.
لا يمكن لأي حوار أن ينجح من دون الاعتراف بمظالم الضحايا مع التنويه إلى أن معظم السوريين بغض النظر عن موقفهم السياسي، قد فقدوا أحبّاءهم، أو تم تهجيرهم، أو عاشوا الفقر والقهر، لذا على السوريين اليوم التفكير بوحدة الهوية السورية وتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية والبناء على أساس المواطنة.
لا بد من التنويه كالعادة أنه لا يمكن بناء مصالحة حقيقية من دون معالجة جرائم الماضي بطريقة عادلة، تضمن المحاسبة من دون انتقام وتعطي الضحايا حقهم، من دون أن تؤدي إلى استمرار دائرة العنف بتطبيق مسار واضح وعلني للعدالة الانتقالية
وتمكين فئة الشباب لأنهم الفئة الأكثر قدرة على كسر الحواجز النفسية التي خلقها الصراع، وإشراكهم في مبادرات الحوار والمصالحة، وتشجيع الحركات المدنية التي تعمل على تقريب وجهات النظر.
قد يصبح الإنسان هشاً في المصائب، فما بالنا إذن بالسوريين الذين أنهكتهم كوارثهم وحظهم العاثر؟ فأصبحوا يريدون العثور على جانٍ يحملونه وزر مأساتهم لذلك من السهل في الوقت الحالي اصطياد مشاعرنا الهشة جميعاً وقد نقع في فخ الكراهية بحيث تمنعنا المأساة من التفكير العقلاني وتجعلنا نضيع على أنفسنا فرصتنا الثمينة.
لقد خرجت سوريا من نفقٍ طويل، لا صوت لطائرات، لا فروع أمنية، ولا لعنة نظام الأسد التي تربصت بنا خلف كل باب كما اعتدنا، ومع سقوط واحدة من أعتى ديكتاتوريات العالم، تحتاج الأرواح وقتًا لتشفى، فالشارع السوري الذي كان يخاف من الهمس، بات اليوم يصرخ، يضحك، يتجادل، يروي حكاياته ولا يخشى أن تُنكأ جراحه فهي لا بد في طريقها للتعافي.
تلفزيون سوريا
—————————–
180 يوماً للاختبار.. هل تنجح واشنطن ودمشق في صياغة معادلة تفاهم جديدة؟/ مالك الحافظ
2025.06.16
منذ اللقاء المعلن بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، منتصف أيار/مايو الفائت، برزت تحولات لافتة في السياسة الأميركية تجاه سوريا، أعادت طرح الأسئلة حول طبيعة الدور الأميركي خلال المرحلة المقبلة، وحدود الانفتاح الأميركي الممكن على السلطة الانتقالية في دمشق.
اتّخذت واشنطن، في أعقاب لقاء الرياض، سلسلة إجراءات متدرجة يُستشف منها توجّه جديد يقوم على إعادة ضبط ما كان يُعدّ خطوطاً حمراء، وتكييف أدوات العقوبات بما يتناسب مع تعقيدات المرحلة الانتقالية. ومع تتابع هذه الخطوات، بدأت تتّضح ملامح مقاربة أميركية جديدة في إدارة العلاقة مع الحكومة الانتقالية السورية.
بين المطالب الأميركية واستجابة دمشق المرحلية شكّل لقاء الرياض (منتصف أيار/مايو الماضي) بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع أول اجتماع مباشر بين رئيسين للبلدين منذ ربع قرن، وقد جاء عقب إعلان مفاجئ من ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، ما أضفى على اللقاء طابعاً استثنائياً من حيث الرمزية والتوقيت.
وفي بيان رسمي أعقب الاجتماع، صرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، بأن الرئيس ترامب تعهّد بالعمل إلى جانب المملكة العربية السعودية من أجل “تشجيع السلام والازدهار في سوريا”، مشيرةً إلى أن ترامب قدّم خلال اللقاء خمسة مطالب رئيسية إلى الشرع؛ تمثّل أولها في التوقيع على اتفاقية أبراهام للتطبيع مع إسرائيل، وثانيها مطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة الأراضي السورية، وثالثها ترحيل عناصر من فصائل فلسطينية مسلحة، أما رابع المطالب فتمثل في التعاون مع الولايات المتحدة في منع عودة تنظيم “داعش”، في حين انصبّ المطلب الخامس والأخير على تحمّل المسؤولية عن مراكز احتجاز عناصر التنظيم في شمال شرقي البلاد. جاءت نقطة الانطلاق في التحول الأميركي الأخير بإعلان رفع جزئي ومؤقت للعقوبات المفروضة على سوريا، في خطوة اعتبرها مراقبون تحولاً نوعياً في مقاربة واشنطن للملف السوري. وفي 24 أيار/مايو الفائت، صرّح وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بأن الولايات المتحدة منحت إعفاءً لمدة 180 يوماً من العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، مؤكداً أن هذا الإجراء يهدف إلى “اختبار النوايا والقدرة على الوفاء بالالتزامات الدولية”. وبالتوازي، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية الترخيص العام رقم (25)، والذي يسمح بتخفيف القيود المفروضة على التعاملات المالية والاقتصادية في سوريا.
وفي مقاربة تحليلية لمسار التعامل السوري مع هذه المحددات الأميركية، يتّضح أن دمشق قد استجابت بدرجات متفاوتة، اتّساقًا مع تعقيد الملفات وتفاوت حساسياتها السياسية والأمنية. فعلى صعيد المقاتلين الأجانب، وافق المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في مطلع حزيران/يونيو الجاري، على خطة لدمج نحو 3500 مقاتل أجنبي – معظمهم من الإيغور المنضوين ضمن تنظيمات كـ”حزب تركستان الإسلامي” – ضمن صفوف الفرقة 84 التابعة للجيش الوطني السوري، وذلك بشرط إخضاعهم لرقابة أمنية صارمة. وقد عُدّت هذه الخطوة تراجعاً ملحوظاً عن موقف أميركي سابق كان يرفض دمج المقاتلين الأجانب في مؤسسات الدولة. وبرر باراك القرار بالقول إن هذه المقاربة أكثر أماناً من إبقائهم خارج السيطرة التنظيمية.
أما فيما يتعلق بمسار التطبيع مع إسرائيل أو الانخراط في اتفاقيات إبراهام، فقد برزت خلال الأسابيع الأخيرة مؤشرات تفيد بتقدم محدود لكنه ملموس. فقد نقلت وكالة “رويترز” في 11 حزيران/يونيو الجاري عن قس أميركي مقرّب من ترامب أن “السلام بين سوريا وإسرائيل ممكن جداً”، مشيراً إلى لقائه – إلى جانب حاخام أميركي مؤيد لإسرائيل – بالشرع في القصر الرئاسي في دمشق. وفي تقارير أخرى، أفادت “رويترز” بأن البلدين أجريا خلال الأسابيع الماضية، محادثات غير مباشرة، تلتها أخرى مباشرة، بهدف تهدئة التوتر بينهما، ما يشي بوجود مسار دبلوماسي قيد التبلور، وإن بقي خارج الإعلان الرسمي حتى اللحظة.
وفي ملف الفصائل الفلسطينية، أظهرت دمشق تجاوباً سريعاً مع أحد أبرز المطالب الأميركية، حيث أفادت وكالة الصحافة الفرنسية في أواخر أيار/مايو بأن قادة فصائل فلسطينية مدعومة من طهران غادروا العاصمة السورية بعد تضييق السلطات عليهم، وقيام بعض الفصائل بتسليم أسلحتها. ونقلت الوكالة عن قيادي فلسطيني قوله إن “معظم قادة الفصائل الفلسطينية التي تلقت دعماً من طهران غادروا دمشق”، مشيراً إلى انتقال بعضهم إلى لبنان ودول أخرى. ويُعدّ هذا التطور
بمثابة تغيير ميداني مهم في خارطة تموضع ما يسمى بـ “محور المقاومة” داخل سوريا، في سياق ما يبدو أنه تكيّف مع متطلبات المرحلة الجديدة.
أما في ما يخص ملف تسلّم مراكز احتجاز عناصر داعش، فقد شهد يوم 24 أيار/مايو الفائت زيارة رسمية أجراها وفد من الحكومة الانتقالية إلى مخيم الهول شمال شرقي البلاد، بمرافقة قوة من التحالف الدولي. ووفق ما تم تداوله، ناقش الوفد مع إدارة المخيم – التابعة للإدارة الذاتية – أوضاع قاطني المخيم، وسبل إخراج العائلات السورية منه ضمن آلية تدريجية منسقة.
وفي الرابع من حزيران/يونيو، أدلت وزارة الدفاع الأميركية بتصريحات لقناة “الحدث”، أكدت فيها استمرار التعاون مع “شركائها السوريين” لمواجهة أي تهديد من قبل داعش، معتبرة أن “داعش لا يزال يسعى لاستغلال أي حالة من عدم الاستقرار في سوريا”، وأن واشنطن تعمل على تمكين شركائها المحليين من تنفيذ المهام المتبقية في مكافحة الإرهاب. تكشف القراءة المتأنية لاستجابة دمشق للمطالب الأميركية عن نمط سلوك براغماتي يتقاطع مع ما يمكن تسميته بـ”الانفتاح المشروط” من الطرف الأميركي، والذي لا يرقى بالضرورة إلى مستوى الاعتراف السياسي الكامل، لكنه يُجسد تحولاً تدريجياً في كيفية إدارة العلاقة مع السلطة السورية الجديدة. فواشنطن التي لا تزال حذرة في خطابها العلني، بدأت فعلياً في اختبار مدى التزام دمشق بشروط تعتبرها أساسية لإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي.
ولعل المفارقة الأبرز أن هذه المحددات الأميركية لم تأتِ بوصفها شروطاً تفاوضية كلاسيكية، وإنما كمصفوفة سياسية–أمنية ترسم مفهوم “الخطوط الحمراء” في التعامل مع السلطة الانتقالية في سوريا، حيث ركّزت واشنطن على قضايا ذات طبيعة أمنية–جيوسياسية.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى استجابات دمشق بوصفها تنازلات مجانية، بقدر ما هي جزء من إعادة تموضع محسوبة تسعى فيها السلطة إلى تجاوز الطوق السياسي المفروض عليها، من دون إثارة استفزازات مباشرة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على هامش من الاستقلال السيادي الظاهري.
في المقابل، تبدو واشنطن كأنها تختبر نموذجاً جديداً للتعامل مع الأنظمة غير المعترف بها رسمياً، من خلال اعتماد سياسة “الاعتراف المؤجل”، أي التعامل العملي والمؤسساتي من دون إعلان سياسي رسمي وكامل، بما يسمح لها بالاستفادة من الترتيبات الأمنية والميدانية، من دون دفع ثمن سياسي داخلي أو خارجي.
هذا النهج إذا استمر، قد يؤدي إلى تراكم مؤشرات من شأنها أن تنتج لاحقاً حالة أمر واقع، تتجاوز شروط الاعتراف التقليدية، وتُمهّد لمسار تطبيع تدريجي تحت سقف التحفّظات، لكنه خالٍ من التصعيد أو العزل.
إعادة التموضع الأميركي في الفراغ السوري
في السادس من حزيران/يونيو الحالي، أجرى المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، مباحثات مع الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو، تناولت الملفات المتعلقة بسوريا وتركيا.
وفي 29 أيار/مايو الفائت، زار باراك دمشق، والتقى الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، في أول زيارة رسمية له منذ تكليفه بمنصب المبعوث الخاص إلى سوريا.
وخلال زيارته إلى دمشق، أعلن باراك أن الرئيس ترامب يعتزم إزالة اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب قريباً، مؤكداً أن الهدف الأساسي للإدارة الأميركية هو تمكين الحكومة الحالية في دمشق. وفي وقت سابق زار باراك إسرائيل بهدف مناقشة تطورات الملف السوري والوضع الإقليمي، بحسب وسائل إعلام عبرية.
وذكرت صحيفة “إسرائيل هيوم” أن باراك اطّلع على الأوضاع الأمنية في الجولان، وزار عدة مواقع استراتيجية برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ووزير الأمن الداخلي رون درمر، إلى جانب عدد من القادة العسكريين.
وفي الـ 23 من أيار الفائت أعلن السفير الأميركي لدى تركيا، توم باراك، أنه تولى دور المبعوث الخاص إلى سوريا.
وقال باراك في تغريدة على منصة “إكس” إنه سيدعم وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في رفع العقوبات عن سوريا، بعد أن أصدر الرئيس دونالد ترامب إعلاناً تاريخياً في وقت سابق من الشهر الماضي بأن واشنطن ستخفف هذه الإجراءات.
الواضح أن واشنطن لا تسعى في الوقت الراهن إلى فرض مسار سياسي تقليدي من أعلى، وإنما تعمل على إعادة تشكيل البيئة السياسية والأمنية من خلال مجموعة أدوات “ليّنة” تعتمد على رفع العقوبات الجزئي، إشارات ديبلوماسية مدروسة انطلقت من تعيين مبعوث رئاسي خاص إلى سوريا، ودفع الحكومة السورية الحالية إلى مزيد من الخطوات التي تصب في خانة بناء الثقة.
وبذلك، يمكن فهم المرحلة الحالية على أنها انتقال من منطق الضغط القصوى إلى منطق “الاحتواء التفاعلي”، الذي يُبقي أوراق الضغط حاضرة، لكنه يُتيح في الوقت ذاته اختبار الفاعلين الجدد وفق شروط متغيرة.
أمام هذا المشهد، يبرز تساؤل جوهري؛ هل تمثل مدة الـ180 يوماً فرصة سياسية حقيقية لإعادة ضبط العلاقة بين واشنطن ودمشق، أم أنها مجرد نافذة مؤقتة للاختبار؟
في حال استمر التنسيق في الملفات ذات الأولوية بالنسبة للإدارة الأميركية، لا سيما مكافحة الإرهاب، فإن من المرجّح أن تذهب واشنطن نحو تمديد العمل بآليات تخفيف العقوبات أو توسيع نطاق التراخيص الخاصة، مع احتمالية الإبقاء على الإطار المؤسسي القائم الذي يفصل بين التعامل الإجرائي والاعتراف السياسي الكامل.
وفي المقابل، إذا تباطأت وتيرة الاستجابة أو طرأت مستجدات داخلية أو إقليمية تُقيد هامش الحركة الأميركية، فقد تتجه واشنطن إلى إعادة تقييم مؤشرات الانفتاح، من دون العودة إلى سياسات التصعيد السابقة، وذلك في ظل ما يظهر من إدراك أميركي لتعقيدات المرحلة الانتقالية في سوريا، وتوازنات الإقليم التي تفرض مرونة تكتيكية في إدارة هذا النوع من الملفات.
ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم يمكن وصفه بأنه سياسة إعادة تموضع ذكية، تحاول من خلالها واشنطن استعادة تأثيرها داخل الملف السوري، من دون دفع كلفة سياسية أو عسكرية مباشرة، مستفيدة من نضج ظروف إقليمية ملائمة، وواقع دولي يتطلب ضبط الساحات المتروكة من دون إشعالها.
بين انتظار ما ستؤول إليه الأشهر القادمة، تبقى العلاقة بين واشنطن والحكومة السورية الانتقالية محكومة بمبدأ الانفتاح المشروط والتقدّم التدريجي. وفي ضوء هذه التحولات، تبدو السياسة الأميركية في سوريا أمام مفترق دقيق يتمثل في الحفاظ على التماسك الإقليمي من دون التفريط بملف ظل خارج أولوياتها لسنوات. أما دمشق، فهي بدورها تتحرك في مساحة اختبار لا تزال غير محددة السقف، تسعى عبرها لتثبيت حضورها الإقليمي عبر بوابة التعاون الأمني والبراغماتية السياسية، في انتظار ما إذا كانت النوافذ المؤقتة ستُفتح على أفق أطول مدى.
تلفزيون سوريا
———————————–
الحرب الإسرائيلية على إيران والرد الإيراني: من الظل إلى الصدام المباشر
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2025.06.16
أطلقت إسرائيل فجر الجمعة، 13 حزيران/ يونيو 2025، عملية عسكرية كبيرة ومنسّقة ضد إيران تحت اسم “الأسد الناهض” شاركت فيها أكثر من 200 طائرة حربية، بما في ذلك مقاتلات “إف-35” نفذت خلالها خمس موجات من الغارات الجوية على نحو مئة هدف داخل البلاد.
وتبيّن أنها بداية حرب شاملة تتجاوز هدفها المعلن المتمثل في ضرب القوة النووية الإيرانية، إلى محاولة ضرب الاقتصاد وإسقاط النظام الإيراني. وقد أسفر الهجوم الذي برز فيه التفوق الاستخباري والتكنولوجي الإسرائيلي (والأميركي بطبيعة الحال) خلال اليوم الأول عن اغتيال نحو عشرين من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، بمن فيهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري، وتسعة علماء نوويين. كما استهدف الهجوم مواقع البرنامج النووي الإيراني في نطنز (أصفهان) وفوردو (قم) وبارشين (شرق طهران) وآراك (غرب وسط البلاد)، فضلًا عن مراكز تصنيع الصواريخ البالستية وقواعد إطلاقها، ومنشآت إنتاج الطائرات المسيّرة. وفي المقابل، ردّت إيران بإطلاق عملية “الوعد الصادق 3″، حيث أطلقت أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيّرة في اتجاه إسرائيل تمكّن العديد منها من تجاوز المنظومات الدفاعية الإسرائيلية والأميركية، التي شاركت في محاولات صدّ الهجوم الإيراني، وأصابت مناطق مختلفة من إسرائيل، بما فيها حيفا وتل أبيب. وجاءت هذه المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية عشية انتهاء مهلة الستين يومًا التي حددها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإبرام اتفاق حول برنامج إيران النووي، وبعد الإعلان عن جولة جديدة من المفاوضات كان مقررًا عقدها بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان.
توقيت الهجوم الإسرائيلي
جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ عودته إلى الحكم عام 2009، تدمير البرنامج النووي الإيراني هدفًا رئيسًا لكل الحكومات التي شكّلها، سواء من خلال عمليات أمنية تخريبية، أو عبر استهداف العلماء النوويين الإيرانيين بالاغتيال. وفي هذا السياق، عارض أيّ تسوية سلمية لملف إيران النووي، ووقف بقوة ضد اتفاق عام 2015 الذي أبرمته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والذي عُرف رسميًا باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وسعى لإجهاضه، وهو ما حصل عندما قرر الرئيس ترمب الانسحاب منه في أيار/ مايو 2018 وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران في إطار سياسة عُرفت إعلاميًا بسياسة “الضغوط القصوى” التي استهدفت دفعها إلى القبول باتفاق جديد أكثر تشددًا في مراقبة نشاطاتها النووية[1]
. وفي العام نفسه، تمكّنت إسرائيل من سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني، وعرضت أجزاء منه للعلن[2]. ونجحت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 في اغتيال محسن فخري زاده، الذي تعدّه إيران بمنزلة “أب” لبرنامجها النووي[3]
. وعلى الرغم من استئناف المفاوضات بين واشنطن وطهران في عهد إدارة جو بايدن بهدف العودة إلى اتفاق عام 2015، فإن تلك الجهود لم تكلّل بالنجاح، قبل أن تتوقف تمامًا عقب عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وفي سياق التصعيد بين إسرائيل وإيران بعد طوفان الأقصى، شهد عام 2024 مواجهتَين جويتَين كبريَين بينهما؛ وقعت الأولى في نيسان/ أبريل بعد أن قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت قادة الحرس الثوري في سورية ولبنان، وردّت إيران حينها بإطلاق نحو 200 صاروخ ومسيّرة في اتجاه إسرائيل[4]
، أما المواجهة الثانية فجرت في تشرين الأول/ أكتوبر؛ وذلك ردًّا على اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران[5]، واغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت[6]. وحاولت إسرائيل استغلال ردّ إيران في المواجهة الثانية لتوجيه ضربة إلى برنامجها النووي، لكنّ الضغوط التي مارستها عليها إدارة بايدن، مخافة جرّها إلى حرب مع إيران، جعلت إسرائيل تكتفي بضرب الدفاعات الجوية الإيرانية، خصوصًا تلك التي تحمي المنشآت النووية في أصفهان، وكذلك تدمير منشآت تصنيع الوقود الصلب للصواريخ البالستية[7]
ومع وصول ترمب مرة أخرى إلى السلطة مطلع عام 2025، ونجاح إسرائيل في إضعاف حلفاء إيران في المنطقة، صار توجيه ضربة إسرائيلية إلى البرنامج النووي الإيراني مسألة وقت لا أكثر. فقد اعتمدت إيران على مدى عقود طويلة، لا سيما بعد حرب تموز/ يوليو 2006 التي أثبت فيها حزب الله قدرته على التصدي للآلة العسكرية الإسرائيلية، على استراتيجية تُعرف بـ “الدفاع المتقدم”، تقوم على بناء القدرات العسكرية لحلفاء أو وكلاء إقليميين (في لبنان والعراق، ولاحقًا في سورية واليمن) واستخدامهم جزءًا من منظومة الردع لأيّ استهداف إسرائيلي لإيران أو لبرنامجها النووي. وشكّل حزب الله، خصوصًا، عائقًا كبيرًا أمام أيّ هجوم إسرائيلي ضد إيران، إذ إنه كان يمتلك ترسانة واسعة من الصواريخ المختلفة التي يصعب على إسرائيل صدّها، نظرًا إلى القرب الجغرافي والوقت الذي يستغرقه وصولها من جنوب لبنان. لكنّ هذه الاستراتيجية انهارت تمامًا بعد أن نجحت إسرائيل في تدمير القدرات العسكرية لحزب الله، واستهداف قياداته العسكرية والسياسية، وفرض اتفاق لوقف إطلاق النار على لبنان في إطار قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024[8]
، وبعد سقوط النظام السوري وخروج إيران وحلفائها من سورية، في كانون الأول/ ديسمبر 2024؛ فبات الطريق إلى أن تهاجم إسرائيل إيران مفتوحًا. وكان ذلك مخططًا القيام به، وفقًا لنتنياهو، قبل نيسان/ أبريل 2025، لكنّ إصرار ترمب على فسحة تفاوضية تفرض فيها الولايات المتحدة وقف التخصيب على إيران أجّل الهجوم مدة ستين يومًا.
أهداف إسرائيل
أعلنت إسرائيل أنها تهدف من وراء هذه العملية العسكرية إلى تفكيك (تدمير) برنامج إيران النووي والقضاء على فرصها في الحصول على سلاح نووي. وهي تحاول بذلك الاحتفاظ بوضعها الراهن باعتبارها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، في إطار سياسة مكّنتها حتى الآن من تدمير البرنامج النووي العراقي (1981)، وتفكيك البرنامج النووي الليبي (2003)، وضرب البرنامج النووي السوري (2007). لكن يبدو من خلال طبيعة الأهداف التي استهدفتها إسرائيل في اليومين الأوّلين من العملية العسكرية أن حكومة نتنياهو تسعى، إضافة إلى إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية، لإسقاط النظام في طهران، عبر إضعاف شرعيته وكسر هيبته داخليًا، وهو هدف صريح ومعلن دأب نتنياهو على تبنّيه وسعى مرارًا لإقناع واشنطن به، كما دعا صراحة، خلال خطابه الذي ألقاه بعد هجمات يوم الجمعة، الشعب الإيراني إلى الثورة على النظام[9]
. ويُعتقد أن استهداف إسرائيل للبنية التحتية النفطية ومنشآت الطاقة في إيران يصبّ في هذا الاتجاه، وذلك من خلال إثارة التذمر في الداخل من سياسات النظام وتشديد الخناق على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني أصلًا عقوبات شديدة فرضتها إدارة ترمب.
الموقف الأميركي
اتخذ ترمب في رئاسته الأولى (2017-2021) موقفًا متشددًا من إيران، إذ إنه انسحب من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه، على أمل إبرام اتفاق جديد يحمل اسمه، وتبنّى سياسة الضغوط القصوى ليدفعها إلى الموافقة على اتفاق جديد. وبعد عودته إلى السلطة، جدد اهتمامه بعقد اتفاق مع إيران، وفي نيسان/ أبريل 2025، وجّه إنذارًا إليها، منحها فيه مهلة مدتها ستون يومًا للتوصل إلى اتفاق جديد، وإلا ستواجه “عواقب مدمرة”، بما في ذلك احتمال تنفيذ ضربات عسكرية أميركية أو إسرائيلية ضد منشآتها النووية. وجاءت المهلة عبر رسالة مباشرة وجّهها إلى المرشد الإيراني، علي خامنئي، حملها مسؤول إماراتي، وتضمنت شروطًا صارمة تشمل من بين طلبات عدة تفكيك برنامجها النووي، ووقف تخصيب اليورانيوم، ووقف دعم الحوثيين في اليمن وتسليحهم. وفي المقابل، أبدى ترمب استعداده لرفع العقوبات الاقتصادية وإنهاء عزلة إيران الدولية. لكنّ خامنئي رفض الإنذار وعدّه “خدعة” تهدف إلى فرض شروط أميركية على إيران، غير أنه وافق على إجراء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، بدأت في نيسان/ أبريل 2025 في سلطنة عمان، ثم تواصلت في روما، في خمس جولات، إلا أنها لم تسفر عن تقدّم ملموس؛ بسبب إصرار واشنطن على منع إيران من القيام بأيّ عمليات تخصيب على أراضيها. وطلب ترمب من نتنياهو، الذي كان يستعد لتوجيه ضربة عسكرية إلى برنامج إيران النووي، إعطاء فرصة للدبلوماسية التي كان يقودها مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف. ويبدو أنّ اتفاقًا حصل بينهما في هذا الإطار يقضي بأن يدعم الأول خطط الثاني لمهاجمة إيران في حال فشل التوصل إلى اتفاق معها خلال مهلة الستين يومًا. ومع انتهاء المهلة في حزيران/ يونيو 2025 من دون التوصل إلى اتفاق، شنّت إسرائيل عمليتها العسكرية، التي أشاد بها ترمب ووصفها بأنها “ناجحة جدًا”، متباهيًا بالأسلحة الأميركية التي استُخدمت فيها، محذّرًا إيران من أنّ “ما هو قادم سيكون أكثر تدميرًا” إذا لم تعد إلى طاولة المفاوضات[10]
.
وبناء عليه، يبدو من الواضح أن ترمب يستخدم العملية العسكرية الإسرائيلية أداةَ ضغطٍ على إيران لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بشروطه؛ فهو لا يريد إسقاط النظام فيها، بل يريد ضمّه إلى المعسكر الأميركي بعد التخلص من احتمال التسلح النووي. لكنه، في الوقت ذاته، يتحسب من احتمال أن تورّطه إسرائيل في مواجهة عسكرية لا يريدها مع إيران، وخاصة أنها لن تكون قادرة وحدها على تدمير المنشآت النووية الإيرانية بالكامل باعتباره أحد أهم أهداف عمليتها العسكرية، ولا سيما تلك المدفونة عميقًا تحت الأرض في فوردو تحديدًا. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة سمحت بهذه الحرب ودعمتها، إذ لم يكن خوضها ممكنًا من دون هذا الدعم، فإنّ من الخطأ الاستنتاج أن ترمب يستخدم إسرائيل، فالأخيرة تستخدمه أيضًا، ونتنياهو يستغل الفرصة المتاحة لتوسيع نطاق الحرب بما يخدم تحقيق أهدافه، لا أهداف ترمب، ويصعّد من وتيرتها على نحو يضطر الولايات المتحدة إلى الانضمام إليها، وهو ما لم ينجح في تحقيقه بعد.
خاتمة
شكّل الهجوم الإسرائيلي على إيران الحلقة الأخيرة في سلسلة مواجهات عسكرية بدأتها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى بهدف تفكيك “محور المقاومة”. وكان واضحًا أنّ إيران باتت مكشوفة تمامًا بعد تدمير القدرات العسكرية لحزب الله وإسقاط النظام السوري وتصفية وجود الفصائل الموالية لها في سورية على الحدود، ومن ثم صار هجوم إسرائيل عليها هجومًا مباشرًا مسألة وقت، وزاد احتماله مع عودة ترمب إلى الحكم. ومن غير الواضح ما ستسفر عنه المواجهة بين إيران وإسرائيل، ويتوقف الكثير فيها على الموقف الأميركي، ومدى استعداد ترمب للتورط فيها، خاصة إذا فشلت إسرائيل في تدمير البرنامج النووي الإيراني، أو ارتفعت أسعار النفط بشدّة في ضوء توجّهها إلى تدمير صناعة النفط والغاز في إيران لزيادة الضغوط عليها. ويمكن أن تصمد إيران بثمن مرتفع جدًا (عسكري واقتصادي وبشري) إذا لم يحصل تدخّل أميركي مباشر. ولكن، من الواضح أنها لا تدفع الثمن وحدها.
[1]
Mark Landler, “Trump Abandons Iran Nuclear Deal He Long Scorned,” The New YorkTimes, 8/5/2018, accessed on 15/6/2025, at: https://acr.ps/1L9zRHL[2] Loveday Morris & Karen DeYoung, “Israel Says it Holds a Trove of Documents from Iran’s Secret Nuclear Weapons Archive,” TheWashington Post, 30/4/2018, accessed on 15/6/2025, at: https://acr.ps/1L9zS6A[3] David E. Sanger et al., “Gunmen Assassinate Iran’s Top Nuclear Scientist in Ambush, Provoking New Crisis,” The New YorkTimes, 27/11/2020, accessed on 15/6/2025, at: https://acr.ps/1L9zRQU[4] ينظر: “رد فعل إسرائيل المحدود على الهجوم الإيراني: دوافعه وأهدافه”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 25/4/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zRDa[5] ينظر: “المواجهة بين حزب الله وإسرائيل واحتمالات اندلاع حرب شاملة”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 3/7/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zSas؛ “اغتيال إسماعيل هنية وتداعياته”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 31/7/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zRt4[6] ينظر: “العدوان الإسرائيلي على لبنان بعد استهداف مقر القيادة المركزية لحزب الله واغتيال أمينه العام”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 29/9/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zSax
[7]
ينظر: “قراءة في موقف إدارة بايدن من الهجوم الإسرائيلي المحتمل على إيران”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 9/10/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zRKG[8] ينظر: “اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله: الدوافع والتحديات”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2/12/2024، شوهد في 15/6/2025، في: https://acr.ps/1L9zRCA[9] “Netanyahu Calls on Iranians to Unite Against ‘Evil and Oppressive Regime’,” Arab News Pakistan, 13/6/2025, accessed on 15/6/2025, at: https://acr.ps/1L9zSg2[10] “Trump Said US was Aware of Israel’s Plans to attack Iran, WSJ Reports,” Reuters, 13/6/2025, accessed on 15/6/2025, at: https://acr.ps/1L9zSdG
————————–
العرب بين جبهتين/ عبد الله مكسور
2025.06.16
في قلب مواجهة ميدانية بين إيران وإسرائيل، يجد العرب أنفسهم محاصرين بجبهتين تتنازعان الهيمنة على الإقليم، بينما تتآكل قدرتهم على البقاء خارج مرمى النيران.
هذه ليست حربًا بالوكالة فحسب، بل اختبار وجودي لمكانة العرب في معادلة أمنهم الإقليمي، حيث تُرسم الخطوط الحمراء فوق أجوائهم، وتُخاض المعارك على أراضيهم، وتُعقد التفاهمات بمعزل عنهم. لم يعد الحياد مجديًا، ولا الصمت ممكنًا.
فإيران تُقاتل من داخل العمق العربي عبر شبكة حلفاء ووكلاء، بينما تصوغ إسرائيل أمنها من فوق الجغرافيا العربية. بين منطق “الردع المسبق” الإسرائيلي و”الردع الميداني” الإيراني، تضيع السيادة العربية وتُختزل الجغرافيا إلى ممرات أو ساحات. العرب يسيرون في صراع لا يملكون مفاتيحه، لكنه يرسم مستقبلهم. يحاولون وضع المقاربات الممكنة بالصمت أمام غياب المشروع، ويستعرضون عبر الشاشات مخاطر الانفجار الكامل. إنها لحظة مفصلية، لا تقبل التردد: إما أن ينهض العرب باستراتيجية استباقية، أو تُفرض عليهم شروط القوة من دون استئذان.
إسرائيل ترى في المشروعين العربي والإيراني تهديدين مختلفين من حيث الطبيعة، لكنهما يتقاطعان في تقويض رؤيتها للأمن الإقليمي. فالمشروع الإيراني يُقرأ إسرائيلياً كتهديد وجودي، نووي وعقائدي، يستهدف التفوق الإسرائيلي المباشر. أما المشروع العربي، حين يتماسك أو يبدي نزعة استقلال، فتتعامل معه إسرائيل كخطر سياسي طويل الأمد يعيق هيمنتها على المنطقة وتنفيذ مشروعها الصهيوني. لذلك، تسعى تل أبيب إلى تفكيك العمق العربي عبر التطبيع الانتقائي من جهة، وتطويق النفوذ الإيراني من جهة أخرى. فأي مشروع عربي جامع يُعامل كقوة ممانعة، بينما يُستثمر الانقسام العربي لضرب طهران دون أن يتوحد العرب على موقف سيادي يُحاصر الهيمنة الإسرائيلية أو التمدد الإيراني.
إسرائيل ترى في إيران خصماً استراتيجياً شاملاً، يتجاوز حدود النزاع التقليدي إلى مستوى تهديد وجودي متعدد الأبعاد. فإيران، بمنظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تجمع بين العقيدة الثورية والسعي لحيازة سلاح نووي يشكل تهديداً مباشراً لإسرائيل. مشروع طهران النووي يُعد “نقطة اللاعودة”، واستكماله يُفسر في تل أبيب كمحرك لتغيير موازين القوة في المنطقة. لذلك، تعتمد إسرائيل نهج الضربات الاستباقية، وتتمسك بعقيدة “السلام بالقوة”، معتبرة أن الردع وحده لا يكفي، بل يجب تحطيم القدرة الإيرانية قبل أن تُترجم إلى نتائج ميدانية. إيران هي خصم لا يُحتوى، بل يجب تفكيك مقوماته الاستراتيجية وفق المنطق الإسرائيلي.
التحول من الاغتيالات إلى المواجهة المباشرة
بدأت إسرائيل تطبيق هذا النموذج منذ سنوات عبر حرب الظل: اغتيال العلماء الإيرانيين، بدءًا من مجيد شهرياري إلى محسن فخري زاده، ثم عبر هجمات سيبرانية مركّزة استهدفت منشآت نووية حساسة مثل نطنز وأراك. لم تكن هذه العمليات تسعى لتغيير شامل، بل لخلق حالة استنزاف مستمرة تمنع إيران من تجاوز ما تصفه تل أبيب بـ “الخط الأحمر”.
توسعت هذه الحرب لاحقًا إلى ضرب الأذرع الإقليمية لطهران – في سوريا ولبنان والعراق – بهدف تعطيل ما يمكن وصفه بـ “الجغرافيا الإيرانية الممتدة”. عقيدة الجيش الإسرائيلي أصبحت ترتكز على “الضرب الوقائي” دون الحاجة لتبني الفعل، وهو ما انعكس في أكثر من 1500 غارة على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا وحدها خلال العقد الماضي.
ومع تعقّد الموقف النووي وارتفاع ثقة إيران بإمكانياتها الدفاعية والهجومية، قررت إسرائيل الدخول في المرحلة الرابعة والأكثر خطورة: الاشتباك المباشر. الضربة الأخيرة، بغض النظر عن حجمها أو نتائجها العسكرية، جاءت كمحاولة لتكريس مبدأ أن إسرائيل تحتفظ بحق الضربة الاستباقية في العمق الإيراني متى شعرت بأن “النافذة الزمنية للإجهاز على الخطر” قد بدأت تُغلق. طبعاً فرضت هذه المعادلة كثير من الأسباب بالنسبة لإسرائيل، منها انكفاء إيران عن الإقليم بعد تقليم أظافرها في سوريا ولبنان والعراق، وكذلك الحسم الأميركي الذي طرحه ترمب وإدارته بالحديث عن اتفاق عبر مفاوضات في سلطنة عمان، ومهلة الستين يوماً التي منحها لطهران. بالإضافة إلى الضغط الذي يمثله ملف قطاع غزة المدمّر الذي مارست فيه إسرائيل إبادة جماعية وتسعى لتطبيق التطهير العرقي والتهجير الجماعي لسكانه.
القوة وسيلة لإعادة تشكيل الواقع
السلوك الإسرائيلي ينبع من منظومة أيديولوجية–عسكرية يتبنّاها صناع القرار الإسرائيليون وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، الذي وصف البرنامج النووي الإيراني بأنه خطر وجودي لا يخضع للتفاوض أو التأجيل. ولهذا، فإن فشل الضربة الواحدة لا يعني إعادة تقييم الجدوى، بل فقط تعزيز القناعة بأن الضربات المتكررة هي وحدها القادرة على تحقيق الهدف في التدمير. في هذا السياق، يمكن تلمُّس عودة منطق “عقيدة الضاحية” – التي طُوّرت أثناء حرب لبنان 2006 – لتصبح مرجعية أساسية في السلوك الإسرائيلي العسكري، من خلال استخدام قوة نارية مفرطة ضد العمق المدني أو البنية الحيوية لخلق حالة من الرعب تؤدي إلى تغيير سلوك الخصم. وهو ما نراه الآن في استهداف المدن الإيرانية مباشرة بعد فشل منظومة الردع غير المباشرة.
إسرائيل تدرك أن المواجهة مع إيران لن تُحسم في ضربة واحدة، وأن طهران تمتلك بنية ردع متعددة المستويات. ومع ذلك، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية مستعدة – بل مهيّأة نفسيًا – لـ خوض معركة استنزاف طويلة الأمد. الهدف ليس فقط تحجيم البرنامج النووي، بل كسر إرادة إيران على الاستمرار فيه، حتى وإن كلف الأمر إعادة هندسة المشهد الإقليمي بأكمله. بمعنى آخر، المبدأ الصهيوني لم يعد خطابًا دعائيًا، بل محرّكًا فعليًا لاستراتيجية تراكم القوة، وهو ما يجعل أي تسوية مرحلية لا تُفضي إلى نزع القدرات النووية الإيرانية مجرد “فاصل زمني” في رحلة طويلة من التصعيد المستمر.
الصراع أداة هندسة إقليمية
إسرائيل لم تعد تتعامل مع إيران بوصفها خصمًا بعيدًا، بل بوصفها مهددًا داخليًا للمنظومة الأمنية الداخلية. وبالتالي فإن المنطق السائد في تل أبيب اليوم هو: الصراع ضرورة استراتيجية، لا خيارًا اضطراريًا. ولذلك، فإن كل ضربة، وكل اشتباك، وكل تصعيد، هو جزء من مشهد أكبر يراد له أن يُعيد ترسيم حدود القوة في المنطقة، حتى لو تطلّب الأمر الانزلاق إلى حرب واسعة. أو دفع أطراف أخرى تحت أي ظرف إلى الدخول في المواجهة.
هذا ما يجعل المواجهة الحالية أخطر من سابقاتها: إنها ليست رد فعل، بل تجسيد ممنهج لمبدأ قديم لا يزال يحكم العقل الصهيوني: القوة لا تُمارس فقط للدفاع، بل لإعادة تعريف الواقع وفق موازين إسرائيلية خالصة. ففي العقل الإسرائيلي السياسي والأمني، سقف المفاوضات ليس مسألة مرونة أو تكتيك، بل صيغة نهائية غير قابلة للتأويل. تل أبيب لا ترى في التفاوض مع إيران وسيلة للوصول إلى تسويات مرحلية أو تفاهمات تكتيكية، بل أداة لإجبار طهران على الانصياع الكامل لشروط الردع الإسرائيلي. في هذا السياق، ما يُسمّى “المفاوضات” ليس سوى شكل من أشكال الضغط، لا منصة لتنازلات متبادلة. والسؤال هنا: على ماذا سيتفاوض الأطراف إذا ما جلسوا إلى طاولة المفاوضات؟، أعتقد أن ملف التطبيع أو الاعتراف المتبادل “الإيراني بإسرائيل” و “الإسرائيلي بحق إيران بالطاقة النووية السلمية تحت إشراف دولي” سيكونان قطبان أساسيان في أي عملية مفاوضات مقبلة بعد انتهاء هذه الحرب التي تسعى إدارة نتنياهو لإطالة أمدها، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر من خلال تمديد حالة الطوارئ في إسرائيل حتى نهاية الشهر الجاري. وأيضاً لا قدرة للطرفين – وفق المنطق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني- على تحمُّل كلفة وتبعات الاستهداف المباشر لمراكز حيوية وحساسة وسيادية في ذات الوقت.
العقل الأمني الإسرائيلي
الخط الأحمر الذي يضبط الحركة السياسية الإسرائيلية واضح ومحدد: “لا صفقة بدون تفكيك”، والمقصود بذلك هو التفكيك الكامل غير القابل للعكس للبنية النووية الإيرانية، مع إخضاع كل مراحل الدورة النووية – من التخصيب إلى البحث العلمي – لرقابة دولية صارمة. لا مكان هنا لسيناريوهات مثل العودة إلى الاتفاق النووي السابق، أو تطوير نموذج تفاوضي جديد يكتفي بتجميد مرحلي أو تعطيل جزئي. وفقاً للصحافة الإسرائيلية التي تنقل تقديرات المؤسسة الأمنية في تل أبيب، فإن أي اتفاق لا يمنع إيران من امتلاك القدرة النووية، حتى لو لم تصل إلى إنتاج السلاح فعلياً، هو تهديد وجودي مؤجل. وهذا ما يُفسّر تشدد نتنياهو في كل خطاباته: “لن ننتظر حتى تُشهر إيران السلاح في وجوهنا”، و”البرنامج النووي الإيراني لا يُمكن احتواؤه، بل يجب تدميره جذرياً”. بالتالي، فإن أي حديث عن مفاوضات يظل مشروطًا بتنفيذ مسبق لا بتفاهم لاحق. وليس الملف النووي وحده هو محل الاشتراط، بل تُضيف إسرائيل شرطًا ثانيًا جوهريًا: وقف كامل ونهائي للدعم الإيراني لأذرعها الإقليمية – من حزب الله في لبنان، إلى الميليشيات في سوريا والعراق، وصولاً إلى الحوثيين في اليمن. في تقدير الإسرائيليين، البرنامج النووي هو التهديد الاستراتيجي، أما الوكالات الإقليمية فهي سلاح إيران التكتيكي الذي يجب نزعه بالتوازي. لذلك، عندما تتحدث أطراف محسوبة على إسرائيل عن “اتفاق”، فإنها لا تشير إلى صفقة دبلوماسية بالمعنى الكلاسيكي، بل إلى استسلام كامل للمطالب الإسرائيلية الأمنية، وهو ما يجعل السقف التفاوضي فعليًا أقرب إلى إنذار استراتيجي منه إلى أرضية حوار. هذا الإنذار يقوم على معادلة واضحة في تل أبيب: تفكيك البرنامج ووقف الدعم الإقليمي لأذرع طهران.
العقل الاستراتيجي الإسرائيلي يرفض كلياً نموذج “الاحتواء الناعم” الذي تؤمن به بعض العواصم الغربية، القائم على ضبط توقيت الوصول إلى القنبلة النووية دون تفكيك البنية التحتية. فبالنسبة لإسرائيل، مجرد امتلاك المعرفة والقدرة التقنية هو تهديد وجودي، سواء استُخدمت القنبلة أم لا. لذلك، فالمعيار الوحيد المقبول إسرائيلياً هو عدم الامتلاك المطلق، لا عدم الاستخدام، فتل أبيب ونتنياهو تحديداً ضد “الاحتواء الناعم لإيران” رافعاً شعاراً لهذه المواجهة يقوم على مقولة: لا مساومات على الزمن. والمفاوضات التي تجري في أماكن مختلفة وفقاً للإعلان الأميركي هي بمثابة غطاء للضغط، ففي تل أبيب، لا يُنظر إلى التفاوض كفرصة دبلوماسية، بل كأداة ضمن منظومة الردع المتكاملة. الضغط العسكري، التهديد السيبراني، العمليات النوعية، والدبلوماسية الصارمة، كلها أدوات متداخلة في عقل الأمن الإسرائيلي. والمطلوب إسرائيلياً واضح: لا تفاوض بدون تفكيك – لا تخفيف عقوبات دون وقف التموضع – ولا شرعية لأي تراجع تكتيكي من طهران. وبناء على هذا الهرم الثلاثي فإن السقف التفاوضي الإسرائيلي لا يُبنى فوق طاولة المفاوضات، بل يُرسم في غرف العمليات العسكرية، وأروقة الأمن القومي، ومختبرات التقدير الاستخباراتي.
المنطق الإيراني
إيران في هذه المواجهة المفتوحة التي فُرِضت عليها، توظِّف استراتيجية الردع قبل التفاوض، ما يجعل الحدث الحالي يمثِّل منعطفاً نوعياً. فالمعادلة تغيّرت في طهران: لم يعد الحديث عن ميزان رعب غير متماثل، بل عن دستور شرعي عالمي تصرّ عليه إيران مهما كانت كلفته، يقول بأن الرد الفوري والمباشر هو شرط أولي لوجود أية دبلوماسية. ولا مفاوضات في ظل العدوان، ولا طاولة دون إشعال جبهة الرد. يمكن تلمس هذا السلوك في خروج إيران من نمط الحرب بالنيابة إلى استراتيجية الردع الثنائي المباشر. الصواريخ التي أطلقت من أراضٍ إيرانية باتجاه العمق الإسرائيلي لم تكن رسالة رمزية، بل إعلان ميداني عن أن الجمهورية الإسلامية باتت صاحبة اليد العليا في تقرير مستوى الاشتباك. الرد جاء بصيغة مدروسة: إصابة نقاط ذات طابع عسكري وشبه مدني في الداخل الإسرائيلي، بالتزامن مع تهديد واضح وعلني من قائد الحرس الثوري بأن “إيران فتحت أبواب جهنم على إسرائيل”، في توصيف يُحاكي البُعد العقائدي والعسكري في آنٍ معًا. هذه التحوّلات ليست ظرفية. إنما تعبّر عن قرار مؤسسي في طهران بأن كلفة الاستهداف الصهيوني لم تعد تُواجه بضبط النفس الإيراني، بل بالتصعيد الميداني المتدرِّج، بما يُعيد تعريف حدود الاشتباك وقواعده، ويضع الردع الإيراني على قدم المساواة مع “عقيدة الضاحية” الإسرائيلية.
نهاية مرحلة وبداية مبدأ
وبهذا بات واضحاً أن إيران تبنّت قاعدة جديدة تقول إنه لا تفاوض دون رد، فلا يمكن العودة إلى طاولة المفاوضات من موقع الضعف أو تحت ضغط نيران الطائرات والمسيِّرات الإسرائيلية. الردّ يأتي أولاً، ليُنهي اختلال ميزان الردع، ثم يُمكن الحديث عن شروط الدخول في تسوية. بهذا المعنى، المفاوضات لم تعد سبيلاً لاحتواء التصعيد، بل نتيجةً حتميةً له. ومن هنا، يمكن فهم لماذا سارعت طهران إلى الرد الميداني على الاستهدافات الإسرائيلية الأخيرة لمنشآتها النووية أو الاغتيالات التي طاولت قياداتها العسكرية والعلمية، قبل أن يتم الحديث عن أي هامش للمبادرات الدبلوماسية لخفض التصعيد. وهي بذلك تفرض مشهد جديد في منطق قواعد الاشتباك مع إسرائيل: من يهاجم يُضرب، ومن يريد تسوية لا بد أن يدفع ثمن العدوان أولاً. هذا المبدأ نابع من إدراك إيراني مركزي يؤمن أن الضغوط العسكرية لا تسبق الاتفاقات، بل تفجّرها. لذا، فإن الدبلوماسية الإيرانية باتت تجري تحت ظل الصواريخ، لا ظل التنازلات.
وسقف التفاوض الإيراني يُبنى بأن طهران تريد ضمانات لا وعوداً في رفع غير مسبوق لسقف التفاوض النووي، يطيح بشكل نهائي وتام بعقيدة الضربات الاستباقية التي تروّج لها تل أبيب دائماً. في هذا السياق، تبدو كل التصريحات الأميركية الأخيرة. بما فيها الحديث عن أن الوقت لم يفت بعد أمام إيران، مجرّد استغاثات تفاوضية في ظل واقع سياسي وعسكري تجاوز قدرة واشنطن وتل أبيب على إدارة الإيقاع.
وأمام هذا لا تستند الاستراتيجية التفاوضية الإيرانية المقبلة إلى أوراق سياسية فقط، بل إلى ردع مرحلي متراكم. الهجوم لا يكون شاملاً دفعة واحدة، بل يُقسّم على مراحل، كل مرحلة تحقّق هدفًا تكتيكيًا وتُمهّد لتنازل تفاوضي من الطرف الآخر. هذا ما يُسمّى في العقل الأمني الإيراني بـ”التفاوض بالنار”، أو “الكرّ الاستراتيجي”. وفي هذا تسعى إيران إلى تحقيق الاحترام القسري للقوة: فكما أنّ إسرائيل تحشد طيرانها لضرب المنشآت، فإن إيران تُعلن بكل وضوح: لدينا القدرة على إسقاط قواعد الاشتباك التقليدية، والذهاب إلى ما هو أبعد مما يتوقّعه العدو. وهذا ما يمكن تسميته بدبلوماسية ما بعد اللهب الإيراني، عبر التفاوض بالقوة لا بالرموز والشعارات ليكون الردع المرحلي القوي والممكن والواقع في آنٍ معاً أداة ضغط أساسي في الصورة الجديدة. وما يجري ليس استعراض عضلات، بل إعادة تأسيس للإقليم. ومن هنا فإن طهران وتل أبيب تسعيان لفرض شروط التهدئة بمعادلات غير تقليدية. إن لم يتم الاعتراف بالقواعد الجديدة، فإن الطريق نحو تصعيد طويل الأمد سيُصبح قدَر المنطقة.
العرب.. تموضع وسط النار
لم تعد المواجهة بين إسرائيل وإيران شأنًا ثنائيًا يمكن مراقبته من الشرفة العربية. فالمسافة بين المتفرّج والمتورط قد تلاشت تماما، ولم يعد العرب قادرين على التموضع في “منتصف النار” دون أن تحترق أطرافهم. لقد تحوّلت الجغرافيا العربية، بحكم تداخل المصالح والمساحات والمجالات السيادية، إلى امتداد فعلي لجبهة الحرب. إنهم في قلب الصراع، لا على هامشه. فالغارات الإسرائيلية أو الصواريخ الإيرانية التي تخترق الأجواء السورية أو العراقية أو الأردنية لا تمر دون أثر. وصمت العواصم العربية لم يعد يُشكّل عزلة دبلوماسية آمنة، بل صار يُفهم كاصطفاف مضمر أو تواطؤ ضمني. والثنائية مستحيلة هنا إما إسرائيل أو إيران؟ وبذلك فإن الاصطفاف لم يعد خيارًا بسيطًا. فالخيار بين إسرائيل وإيران أشبه بالاختيار بين زلزال وحريق. إيران، وإن حملت في ظاهر خطابها شعارات “تحرير القدس” و”محور المقاومة”، فإنها عمليًا أنهكت البنى السياسية والأمنية في العراق وسوريا ولبنان، وحوّلت أراضي هذه الدول إلى “منصات تهديد متقدمة” في مواجهتها الطويلة مع إسرائيل. فضلاً عن عبثها بالعقد الاجتماعي والسياسي لتلك الأقطار العربية عبر العقود الماضية. أما إسرائيل، فبعقيدتها الأمنية القائمة على الردع الاستباقي وتفوق السلاح، فإنها تتعامل مع العرب كـفراغ أمني قابل للتوظيف، لا كأطراف مستقلة. تضرب في العمق السوري، تخترق العمق اللبناني، وتُراكم نفوذًا استخباراتيًا في المشرق ككل، تحت عنوان “محاربة التهديد الإيراني. أمام هذه الثنائيات، يضيع الصوت العربي، وتتآكل السيادة، وتصبح كل عاصمة مرشحة لتكون ضحية جديدة.
أزمة المشروع لا الموقع
الخلل الأكبر ليس في الموقع العربي ضمن الصراع، بل في غياب مشروع عربي مستقل تجاهه. العرب ككتلة بشرية وسياسية يفتقرون إلى القدرة والقرار. التحالفات تتصدع تحت وطأة الأولويات الأمنية. دول الطوق منهكة داخليًا وغير قادرة على التأثير. لا توجد صيغة ردع عربية، ولا إطار تفاوضي عربي جامع، ولا حتى لغة سياسية موحّدة تجاه تطورات تمسّ مباشرة الأمن القومي لكل دولة. والصمت العربي في هذا الصراع ليس موقفًا عقلانيًا، بل دليل عجز استراتيجي. فإسرائيل تقاتل لفرض هندسة أمنية إقليمية تتجاهل العرب، وإيران تقاتل على أرضهم، عبر وكلاء ينتسبون لها أكثر مما ينتسبون لعواصمهم الأصلية. وبالتالي فإن الحياد في هذه الحرب وهم. وتحييد الذات مستحيل. للخروج من هذا المأزق يراهن البعض على سياسة النأي بالنفس أو الحياد الإيجابي، لكن ما يجري اليوم يتجاوز تلك الحسابات. كيف يمكن الحياد وإسرائيل تستخدم الأجواء العربية لتنفيذ غارات على الأراضي السورية؟ كيف يمكن الحياد وإيران تُسلّح ميليشيات داخل الجغرافيا العربية تحت عنوان الردع؟ كيف يمكن الحياد ولبنان مهدد بالانفجار في أي لحظة، وسوريا التي تغرق في أزماتها الداخلية مهددة بتفكك نسيجها الاجتماعي؟.
العرب أول من يدفع الثمن
إذا انزلق الصراع إلى مواجهة شاملة بين إيران وإسرائيل، فالعرب سيكونون أول من يدفع الكلفة الباهظة لذلك، عبر انهيار الهياكل الهشة في لبنان وسوريا والعراق. فضلاً عن استهداف المنشآت النفطية والموانئ الخليجية. وما يليه من تعطيل خطوط التجارة البحرية في باب المندب والخليج. وهذه الظروف بطبيعة الحال ستؤدي إلى تصاعد حركات التطرف المسلّح التي تجد في الفوضى الكبرى فرصة للعودة. فالفراغ الاستراتيجي العربي سيتحوّل إلى حفرة تمتصّ الاستقرار الهش الذي ما زال قائمًا.
هل يمكن تجاوز كل ما سبق عربياً؟ نعم، أو ربما من خلال تشكيل أو إطلاق مبادرة عربية استباقية، تتجاوز فكرة الوساطة إلى هندسة جديدة للأمن الإقليمي، منطلقين من قاعدة أنهم ليسوا جزءاً من الحرب لكنهم في جغرافيتها وميدانها، فالمطلوب ليس الانحياز، بل فرض قواعد اشتباك إقليمية تُمنع فيها الأطراف الدولية من استباحة المجال العربي. المطلوب ليس الصراخ السياسي، بل مأسسة موقف دبلوماسي عربي منضبط، يجرّ الصراع نحو آلية تفاوض لا تتجاوز العواصم العربية. فالمعركة اليوم أكبر من البيانات، وأعمق من الحسابات الثنائية، وأخطر من الانتظار. ورغم حساسية وجود إسرائيل في الثنائية ” إسرائيل وإيران” فإن الواقع الحالي يفرض معادلة جديدة إن لم ينتبه لها العرب فإن المشروع الصهيوني قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال في حال انتصار إسرائيل، وكذلك المشروع الفارسي قاب قوسين أو أدنى في حال انتصار إيران، لذلك فإن البحث عن الحلول الوسط التي تضمن وجود مشروع عربي قابل للموازنة هو الملاذ الأخير الذي يمكن الاشتغال عليه الآن، و إلا سنكون جميعاً وقودًا لصراع لا نملك فيه اليد العليا. العرب مطالبون بالعودة إلى مركز الطاولة، لا كمجرد مراقبين، بل كصانعي وفارضي الشروط. وفي لحظة يتكثف فيها التصعيد وتغيب فيها التفاهمات. إن لم يحصل ذلك الآن وليس غداً أو بعد ساعات، فإن المنطقة مقبلة على خرائط جديدة لن تكون فيها العواصم العربية الكبرى أكثر من نقاط عبور أو نقاط اشتعال. وبالتالي يكون المشهد الختامي إما أن يصوغ العرب معادلتهم، أو سيُصاغوا في معادلة الآخرين.
تلفزيون سوريا
——————————-
الرمال المتحرّكة في الشرق الأوسط… ما بعد تفكيك “الممانعة”/ محمد أبو رمان
17 يونيو 2025
تعكس الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحوّلاً في نمط الديناميكيات التي تحكم العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، وهي ترجمة لتطوّر مهمّ على صعيد النظرية الأمنية الجديدة في إسرائيل، والتحوّل من المنظور الدفاعي في الأمن إلى مفهوم الهجوم والهيمنة، والتوسّع في القدرة على الردع إلى مسافات بعيدة، تمتدّ من شرق إيران إلى جنوب اليمن، وإزالة مصادر التهديد الرئيسة، التي تشكّلت بصورة متدحرجة منذ احتلال العراق، وصعود النفوذ الإيراني، وصولاً إلى معركة طوفان الأقصى، التي شكّلت (قبل نحو عامين) الانعطافة الكبيرة لانتقال إسرائيل نحو المفاهيم الأمنية الإقليمية الجديدة.
لم يكن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يبالغ عندما أعلن منذ بداية “طوفان الأقصى”، ثمّ حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، أنّه سيغيّر وجه الشرق الأوسط، فقد كانت تلك اللحظة بمثابة “صافرة البداية” لإطلاق مشروع اليمين الإسرائيلي، ومشروع نتنياهو تحديداً، على صعيد الداخل الإسرائيلي والعلاقة مع الفلسطينيين، وحتى في الإقليم، والانتقال به من مرحلة التفكير والتخطيط إلى برنامج عملي قيد التنفيذ، بدايةً من تدمير غزّة، وإنهاء دور “حماس” والقضاء عليها، ثمّ حزب الله، لكنّ الجائزة الكُبرى التي كان يسعى إليها “رأس البرنامج النووي الإيراني”.
قضى نتنياهو على أذرع إيران وأطرافها، وبدأ أخيراً بـ”رأس الأخطبوط”، وقد تمكّن (حتى اليوم) من تأخير البرنامج النووي الإيراني أعواماً أخرى، وفق تقديرات مُعلَنة من إسرائيليين، وعلى الأغلب سيعمل مع الإدارة الأميركية، بعد انتهاء الحرب، على الضغط على النظام الإيراني للقبول بتنازلاتٍ أخرى على صعيد البرنامج النووي، ثمّ تحييده إقليمياً، وربّما التخلّص منه من الداخل، عبر إضعاف مصادر شرعيته الأيديولوجية.
صحيحٌ أنّ طهران تمكّنت من الصمود، وتجاوزت بدرجة نسبية النتائج الكارثية للضربة الأولى، ووجّهت ضربات قاسية لإسرائيل، لكن “هيكل موازين القوى” الدولية، والدور الأميركي الذي يراقب وينتظر لحظة التدخّل المناسبة، دبلوماسياً أو عسكرياً، يجعل من الأفق المقبل محدوداً أمام المدى الذي يمكن أن تحقّقه إيران في مواجهة إسرائيل.
المرحلة المقبلة في “المشروع الإسرائيلي الأميركي” في المنطقة تتمثّل في إنهاء النفوذ الإيراني في العراق، بعد لبنان، وسقوط النظام في سورية، وتدمير البنية العسكرية لحركة حماس في غزّة، وإنهاء حكمها، وستعمل أميركا على إضعاف النفوذ الإيراني، وقد بدأ (بمنطق التطوّرات الجارية) يتراجع لأسباب تتعلّق بطبيعة النفوذ الإيراني، والأخطاء في إدارته وتعامله مع جيل الشباب العراقي، أولاً، وثانياً بتخلّي إيران الواضح عن حلفائها، ما أثار لديهم تساؤلاتٍ عن معنى العلاقة مع طهران طالما أنّهم أدوات وليسوا شركاءَ حقيقيين في الغنم والغرم، وطالما أنّ إيران لا تستطيع حمايتهم في نهاية اليوم. تفكيك محور الممانعة إذاً هو أحد أهم متغيّرات المرحلة الإقليمية الجديدة، فإيران لم تعد قائمةً قوةً إقليميةً، وستتّجه في المرحلة المقبلة إلى معالجة مشكلات داخلية كبيرة، وربّما فوضى سياسية، وتعزيز حالة الاستقطاب مع تراجع قوة الاتجاه المحافظ ونفوذه، بعد النكسات العسكرية والسياسية.
في الجهة المقابلة، صعود دور القوى ما دون الدولة (Non State Actors) أو أشباه الدولة (Semi- State Actors)، الذي ميّز المرحلة الانتقالية السابقة، سينتهي هو الآخر كذلك، أو بدأ بالتراجع، إذ كانت الاستراتيجية الإيرانية تعتمد بدرجة كبيرة على دور المليشيات المزدوج، عسكرياً وسياسياً، من جهة، وتستثمر حالة الفوضى وتفكّك وفشل عدد من الدول، من جهةٍ أخرى، فدور حزب الله يعاد تأطيره ضمن الحالة اللبنانية، وهيئة تحرير الشام تحوّلت من إمارة في إدلب إلى حكومة يفترض أن تسيطر على الإقليم السوري بكامله، وانتهى دور المليشيات القريبة من إيران في سورية، وحركة حماس انتهت عملياً حكومةً في غزّة، والحشد الشعبي والقوى التي تضع قدماً في السلطة، وتتمتّع بمليشيات عسكرية خارجها، هي أيضاً تحت طائلة التنظيم والتأطير في المرحلة المقبلة. ويبقى الحوثيون، وهم خارج الإطار الجغرافي السياسي لمنطقة الشرق الأوسط، لكنّهم سيكونون أيضاً جزءاً من عملية ترتيب الأوضاع. ماذا عن قواعد اللعبة الإقليمية وسؤال الهيمنة والقوة وموازين القوى؟
يريد نتنياهو (بالسياسة الراهنة) توليدَ نموذجٍ جديد لإسرائيل، “وحشاً إقليمياً” في المنطقة، يمتلك القدرة على الردع، ولا منافس له على الصعيد العسكري، وهو الأمر الذي يسعى إلى تحقيقه من خلال تدمير قدرات إيران العسكرية، وتقزيم دورها الإقليمي، ما يمهّد الطريق للعودة إلى فكرة “السلام الإقليمي” (Regional Piece)، التي تبلورت قبل أعوام، وأنجبت الاتفاقات الإبراهيمية، التي تتجاوز شرط إنهاء القضية الفلسطينية، كما كانت الحال سابقاً في شرط التطبيع العربي، الذي تكرّس مع المبادرة العربية للسلام في العام 2002 (الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة مقابل تطبيع العالم الإسلامي مع إسرائيل).
يقوم المنظور الإسرائيلي الجديد على أنّ القوة العسكرية تكرّس دوراً جديداً لإسرائيل، وتطوير علاقتها مع الجوار، وتتويج ذلك بالتطبيع والسلام مع السعودية، لكن ذلك يقفز عن التحوّل الكبير في الإدراك لدى السعودية، منذ أحداث 7 أكتوبر (2023)، وقد رصده الباحث الأميركي المعروف ولي نصر في مقالة مهمّة له (نشرها في Foreign Affairs أخيراً)، بعنوان: “توازن القوى الجديد في الشرق الأوسط”، إذ إنّ الدور الإقليمي المتصاعد للسعودية، والتقارب السعودي الأميركي في عهد ترامب، يقوم اليوم على إعادة تأسيس ميزان قوى جديد في المنطقة، ليس مع إسرائيل، بل في مواجهة إسرائيل والسلوك العدواني لنتنياهو، وكان واضحاً على سبيل المثال الحرص السعودي على إدانة العدوان الإسرائيلي على إيران، وعلى التعزية بالشهداء الإيرانيين الذين سقطوا في الهجمات الإسرائيلية، وعلى النقد المستمرّ لنتنياهو، وجعل شرط التطبيع إقامة الدولة الفلسطينية.
لا يمكن القفز بالضرورة عن العامل العسكري في موازين القوى، وهو اليوم (إذا تمّ تحييد إيران وإضعافها)، يميل لصالح إسرائيل بالكلّية، مع تخلّي العرب منذ فترة طويلة عن خيار الحرب والصراع المسلّح، على مستوى الحكومات والأنظمة، إلّا أنّ الانفراد الإسرائيلي سيكون عسكرياً، ولن يكون مقبولاً ولا شرعياً من دول المنطقة، بل يعزّز اليوم حالةً من التقارب الملحوظ بين السعوديين والأتراك والأردن ومصر وقطر والإمارات، وهي حالة إقليمية تقودها السعودية اليوم، التي تمتلك علاقات جيّدة وقوية مع أوروبا وأميركا، وحتى مع الصين وروسيا، وقد تتضاعف الأزمة مع إسرائيل بخاصة إذا ما انتقل نتنياهو في المرحلة المقبلة خطوات أخرى في تدمير مفهوم الدولة الفلسطينية في القدس والضفة الغربية.
لا تزال الرمال متحركةً في منطقة الشرق الأوسط، والديناميكيات في مرحلة التحوّل والتغيّر المستمرّة، وقواعد اللعبة غير راسخة ولا مستقرّة، لكن بالضرورة حلم الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة لن يجلب سلاماً إقليمياً ولا استقراراً، بل مزيداً من الأزمات والمشكلات والفوضى.
العربي الجديد
———————————
الشرق الأوسط في زمن التحولات.. تحالفات القوة الناعمة أم مواجهة الهيمنة الصلبة؟/ عدي محمد الضاهر
2025.06.16
يشهد الشرق الأوسط في الوقت الراهن مرحلة مفصلية تتسم بإعادة تشكيل موازين القوى وتداخل المصالح الدولية والإقليمية، وسط تراجع واضح لدور بعض الفاعلين وصعود نسبي لآخرين. غير أن هذا التحول لا يمكن قراءته من زاوية تقليدية تعتمد على نظريات العلاقات الدولية الكلاسيكية، فهذه النظريات كثيرًا ما تعجز عن تفسير الخصوصية الجيوسياسية للمنطقة.
منطق التوازن التقليدي
في السياقات الغربية، يُفترض أن النظام الدولي يعمل على أساس توازن القوى بين الفاعلين. إلا أن هذا المنطق يتعطل عند إسقاطه على مشهد الشرق الأوسط. فبدلًا من تحقيق توازن مستقر، تسود المنطقة ديناميكيات كسر التوازن وإعادة تشكيله قسرًا عبر فرض واقع جديد يكون فيه الطرف الأقوى – سياسيًا وعسكريًا – هو من يحدد معايير اللعبة.
في هذا السياق، تُبرَز إسرائيل من قِبَل القوى الغربية كقوة مركزية لا غنى عنها لضمان الاستقرار النسبي في منطقة الشرق الأوسط، وهو طرح يُحاكي إلى حدّ كبير صورة الولايات المتحدة كقطب أوحد في النظام الدولي. هذا التمركز الإسرائيلي في قلب معادلات القوة يتم تعزيزه عبر التفوق التكنولوجي والعسكري والاستخباراتي، إضافة إلى شبكة علاقات ممتدة تشمل تطبيعًا متسارعًا مع عدد من العواصم العربية، ما يمنحها غطاءً شرعيًا يتجاوز البعد الأمني.
تركيا والسعودية: قوتان متمايزتان ضمن المساحة الرمادية
رغم محاولة بعضهم قراءة تراجع الدور الإيراني كنتاج مباشر لصعود قوى إقليمية مثل تركيا والسعودية، إلا أن هذا التفسير يتسم بالتبسيط. فتركيا، على الرغم من حضورها الجيوسياسي المتزايد، تواجه تحديات اقتصادية بنيوية تجعل من قدرتها على الاستمرار في ماراثون النفوذ الإقليمي محل تساؤل. ومع ذلك، فإن تموضعها الذكي داخل فضاء المصالح الأميركية لا سيما في الملفات الأمنية والطاقة يمنحها هامشًا معتبرًا من التأثير، ولو كان محدودًا بحجم اقتصادها المتقلب.
أما السعودية، فقد اختارت طريقا مختلفا يتمثل في دبلوماسية مرنة وواقعية، قادرة على التكيف مع المتغيرات، مع تركيز واضح على الاستثمار في الاستقرار والتنمية. فهي لا تسعى إلى تصدير أيديولوجيا أو فرض هيمنة فكرية، بل إلى بناء شرق أوسط جديد يسوده السلام والنمو الاقتصادي، وهو توجه يلقى قبولًا متزايدًا إقليميًا ودوليًا.
نحو تحالف إقليمي يوازن الهيمنة
السؤال المحوري الذي يُطرح اليوم هو: كيف ننتقل إلى مرحلة القوة الحقيقية؟
الجواب لا يكمن في سباق تسلح جديد أو اجترار شعارات راديكالية، بل في بناء تحالف إقليمي جماعي، يضم السعودية وتركيا ودول الخليج ودول الطوق (الأردن، مصر، سوريا ولبنان) تحالف يتجاوز التباينات الثانوية ويوحّد المصالح الأمنية والاقتصادية تحت مظلة استراتيجية واحدة.
مثل هذا التحالف يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز جديدة لتوازن قوى حقيقي في المنطقة، توازن لا يتحدى إسرائيل فقط، بل يعيد ضبط العلاقة مع القوى الدولية الكبرى، ويوفر بديلًا عمليًا للنظام الإقليمي المتهالك. إذ إن القوة هنا ستكون جيوسياسية، اقتصادية، عسكرية وناعمة في آن واحد، قادرة على التفاوض من موقع الندية، لا التبعية.
إيران.. نموذج يجب تجاوزه
في المقابل، فإن النموذج الإيراني في إدارة النفوذ الإقليمي يبدو أنه بلغ نهايته. لقد اعتمدت طهران على سياسة منفردة ومتغطرسة، وظفّت أدوات طائفية للتمدد داخل دول المنطقة، تحت راية “مقاومة إسرائيل”، لكنها في الواقع أنهكت اقتصادات وشعوبًا، وزرعت الفوضى والاقتتال الأهلي.
ظنّ النظام الإيراني أنه قادر على ابتلاع المنطقة، متجاهلًا التحولات الدولية ومصالح القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي وإن تغاضت لفترة عن تمدد طهران، فإنها لم تكن لتقبل يومًا أن يتحول ذلك التمدد إلى واقع دائم. ويبدو أن المرحلة المقبلة تشهد بداية تفكيك هذا المشروع، وتهيئة المجال أمام فاعلين جدد يتسمون بالمرونة والواقعية.
نموذج إيران بدأ بالتشكل بعد الفراغ الذي خلّفه سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وقد سمحت له الولايات المتحدة بالتمدد في إطار سياسة “ملء الفراغ”. لكن اليوم، يتكرر المشهد بشكل مختلف، إذ أن القوى الدولية تسعى إلى تعزيز استقرار شامل لا يسمح بإعادة إنتاج الهيمنة تحت شعارات جديدة.
المستقبل لمن يتحكم بالقوة الناعمة
المرحلة المقبلة ستتسم بانتقال ميزان التأثير من القوة الصلبة (العسكرية) إلى القوة الناعمة المسالمة، المتمثلة في الاقتصاد المستقر والعلاقات الدولية المتوازنة والمشاريع التنموية العابرة للحدود، مع التأثير الثقافي والإعلامي المدروس. فالقوة في المستقبل لن تكون لمن يملك أكبر عدد من الصواريخ، بل لمن يستطيع بناء شبكات مصالح تحاكي منطق الاقتصاد العالمي وتتكامل معه. من يتقن هذا النموذج، يستطيع فرض نفسه كفاعل إقليمي ودولي فاعل، أما من يصر على سلوك طريق الهيمنة والصدام، فسيجد نفسه معزولًا أو هدفًا مباشرًا في مواجهة قادمة.
إننا أمام مشهد جديد قيد التبلور في الشرق الأوسط، تتحدد فيه مواقع اللاعبين لا بناءً على الشعارات أو موازين العسكر فقط، بل على أساس القدرة على خلق بيئة مستقرة، متطورة، متصلة بالعالم، ومحترِفة للعبة التوازنات.
الفرصة متاحة اليوم أمام الدول العربية وتركيا لتقديم بديل إقليمي متماسك يضع حدًا لعقود من الاستقطاب والتدخلات. وإذا لم يتم التقاط هذه اللحظة التاريخية، فقد نجد أنفسنا بعد عقد من الزمان أمام صراع عسكري منفرد جديد، طرفه الأول دولة تتوهم أنها قادرة على ابتلاع المنطقة، وطرفه الآخر وكيل غربي إسرائيلي يفرض نفسه مجددًا كصاحب الحل والربط.
تلفزيون سوريا
—————————————–
أول الحقائق… وآخر الأحلام/ إبراهيم الزيدي
15 – يونيو – 2025
«أتمنى أن يكون خروجي من الدنيا ممتعا، وأتمنى ألا أعود إليها ثانية»، مذ قرأت هذه العبارة في مذكرات الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، وأنا أراجع موقفي من الحياة، ومن وجودي في هذه البقعة التي اسمها سوريا. أحيانا أخشى أن يخونني الصمت، وفي أغلب الأحيان أخشى أن يخذلني صوتي ويخونني الكلام، لذلك أكتب. فالورقة البيضاء هي مساحة حريتي التي لا أستطيع التنازل عنها. أحيانا أكتب كلمات تمشي على رؤوس أصابعها خشية أن تستيقظ صورة تلك المرأة النائمة في مرآة روحي. وأحيانا أكتب شهادات تفتح باب الغياب «فالإنسان مسؤول، ليس عن أقواله فقط، بل عن كل ما سكت عنه أيضا». وقد سكتّ طويلا، ولا عجب، فأنا ابن رجل خائف، تزوج من امرأة خائفة، فأنجبا وريث خوفهما.
في تلك الغابة التي اسمها «سوريا» كان الخوف ثقافة عامة! الموظفون خائفون، العمال خائفون، الطلاب خائفون، التجّار، المزارعون، الأطباء، الصيادلة، القضاة، المحامون، الشيوخ، النساء، الأطفال، وعناصر الأمن الذين زرعوا في نفوسنا الخوف، خائفون أيضا! الجميع خائف من الجميع، على مدار الساعة، ولم يكن متاحا لأحد أن يأخذ إجازة من ذلك الخوف، إلا إذا غادر الحياة.
البعض قادهم خوفهم إلى الحياد، والحياد كما تصفه آين راند (هو مرحلة مؤقتة، بعد ذلك تبدأ الناس تدريجيا بالتطبيع مع الرذيلة)، وهذا ما حصل. أربعة عشر عاما والتطبيع مع الرذيلة لم يتوقف، في كل مرة يتمظهر، حسب مقتضى الحال، لدرجة أن أحد أعضاء مجلس الشعب، في جلسة بث وقائعها التلفزيون الرسمي، أعلن على الملأ أن قيادة سورية قليلة على الرئيس الهارب، واقترح عليه قيادة العالم!
كان الخوف جدارا أصمّ، عشنا خلفه في عزلة تامة، قبل أن تثقبه بضع كلمات كتبها أطفال درعا على جدران المدرسة، فانهار الجدار، وارتبكنا. لم نعد نعرف ماذا سنفعل بخوفنا،
أعرف أن الموت لا شريك له في المساواة، وليس بإمكاننا أن نسأل الذين ماتوا، لماذا ماتوا؟ يجب أن نسأل كيف ماتوا؟ إذ لا توجد طريقة مشرّفة للقتل، «والضمير الذي يصمت فترة طويلة، يصبح شاهد زور». يقول فنست فان غوخ: ما أردت التعبير عنه، ليس شيئاً وجدانياً، أو كآبة، ولكنه لوعة عميقة. هذه اللوعة تعاني منها غالبية الشعب السوري، باستثناء أولئك الذين غادروا برفقة امتيازاتهم، وأشباههم من أصحاب الامتيازات الذين – مع الأسف – ما زال الكثير منهم يعيشون بيننا!
لقد تعب السوريون من السير خلف الأسئلة التي لا جواب لها، ولم يبق أمامهم إلا أن يكنسوا النفايات التي عملوا على تدويرها طيلة العقود الماضية، قبل أن نتحول إلى حيوانات أليفة، تقتادنا الفتاوى والأيديولوجيات إلى حظائرها.
كاتب سوري
القدس العربي”
————————-
السوريات في فرنسا والأعياد/ سلوى زكزك
14 يونيو 2025
في مدينة فرنسية تشكل تجمعاً لعائلات سورية لاجئة، تحاول السوريات رأب صدع الغربة عبر محاولات تشاركية تبدو بسيطة، لكنّها تصنع فارقاً كبيراً، خاصّة في ظل صعوبات اللغة وارتفاع الأسعار المتلاحق وغياب الرجال مع وجود أطفال في سن الرعاية الأسرية.
تقاسمت مروة ولبنى ترتيبات عيد الأضحى بالتفاصيل اللازمة كافّة، اشترت مروة لوازم معمول الجوز والعجوة، وانصرفت لبنى لشراء المواد اللازمة لتحضير الكبب بنوعيها المقلية واللبنية، صنعوا المعمول في بيت مروة، لأن الفرن الذي تمتلكه أفضل لصناعة الحلويات، والتأم شمل العائلتين قبل الغداء وبعده في منزل لبنى الماهرة في إعداد الكبب، ولأنها تمتلك ماكينة خاصة بطحن اللحم والبرغل، ومن ثم تقاسمت العائلتان كل ما تبقى مناصفة.
وصلت السيدتان مع أطفالهما الخمسة إلى المدينة الفرنسية منذ أقل من عام، كل شيء يبدو غريباً ومكلفاً وثقيلاً، لكنّهما كانتا قد عقدتا العزم معاً ومنذ قرارهما بمغادرة سورية أن تمدا يد العون لبعضهما البعض، السيدتان ترملتا وفقدتا زوجيهما منذ حوالى خمس سنوات، لم تعد البلد متسامحة مع حالتهما المستجدة، تدخّل من الأهل خاصة أهالي الزوجين، نقص حاد في السيولة، خاصّة بعد أن جرى حرمان العائلتين من الدعم البسيط من العائلة الكبيرة، وبقرار من الجد والأعمام للضغط عليهم للعودة إلى القرية بعد الترمل!، فجأة بدأت المساحة تضيق بشدة على العائلتَين فاقدتَي الدعم وعوامل القوة الذاتية، شعرت المرأتان أنّ مدخول عملهما لا يكفي للأساسيات، كما أن الاحتياجات تتزايد ومستوى الأطفال التعليمي يتراجع بسرعة.
في لحظة يأس أو اشتداد للمعاندة قرّرتا الرحيل، باعتا كل ما تملكان، حتّى إنّ مروة دعمت لبنى بمبلغ لتكمل قيمة تذاكر الطائرة كاستدانة لأنها تملك بيتاً لها الحق في بيعه.
يظن البعض أنّ قرار الهجرة يتوقف عند توقف الرصاص، لكنّ للنساء أسباب أخرى للهجرة وحيدات وسراً إلى البلاد الغريبة. وهنا تنشأ حاجة ماسة للدعم، حاجة تفصيلية قد تزداد يوماً بعد يوم، مثل عوائق تأمين سكن مناسب ومستقل، وفي حال عدم توفره يغدو السكن المشترك واقعاً يستوجب الحذر والاهتمام الشديد، وفي حال وجود الدعم تكون المشاكل أقل صعوبة وأقل تكلفة.
اليوم، وفي السوق الشعبية كانت زينة تقف على بسطة مرتجلة لبيع الملابس الداخلية النسائية وربطات الشعر والحجابات، يفتح السوق أبوابه مرتين في الأسبوع، واليومان هما خارج أيام العطلة، لذلك تستعين زينة بجارتها السورية الستينية، التي تنتظر الأطفال في بيت زينة عند استراحة الغداء، تشاركهم غداءهم في بعض الأيام، وربما تكمل تحضير الوجبات قبل مجيئهم من المدرسة، بالأمس دعت زينة جارتها أمل لقضاء العيد معها ومع أطفالها في بيتهم، لكن أمل وافقت بشرط وهو تحضير طبخة يحبّها طفلا زينة، كان وجود أمل في يوم العيد هدية مفرحة لأمل الوحيدة، والمفاجأة أن زينة وطفليها قدموا لأمل هدية طالما فكرت بشرائها، لكنّها عجزت مادياً عن ذلك، وهي عبوة عطر المسك ذات النوع الجيّد الذي تفضله أمل.
تعني الأعياد أولاً وأخيراً لمّة الأحبّة، وباقي التفاصيل تبدو مجرد ترتيبات إجرائية لاحقة.
ولأن الغربة تحضر فجأة بظلها الثقيل أيام الأعياد وتجثم على صدور النساء الوحيدات، تلجأ السوريات للتضامن معاً ولو بأشكال نظنّها بسيطة، لكنّها تحمل الجوهر الاحتفالي الحقيقي للعيد.
يوماً بعد يوم تبدو البلاد أكثر بعداً ممّا تعتقد اللاجئات، وتتغير الأولويات، وتكثر الاحتياجات المادية والعاطفية، وما الأعياد إلّا فرصة للتلاقي، على أمل تجاوز مشاعر الغربة ثقيلة الوطأة.
كلما بالغ اللجوء في فرض سيطرته الحادة، لجأت النساء والسوريات حديثات العهد باللجوء إلى ابتداع كل التفاصيل الممكنة لتبديد الوحشة، وجعل الحياة أكثر لطفاً وإنسانية.
العربي الجديد
—————————————–
البوركيني والسيادة الشخصية: أزمة الفرد في مجتمعات الوصاية/ عروة محمد
في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت وزارة السياحة السورية فرض ضوابط جديدة على لباس الزوار في الشواطئ والمسابح العامة، حيث يُطلب من النساء ارتداء البوركيني، أو تغطية أجسادهن، بينما يُمنع الرجال من الظهور مكشُوفي الصُّدور في الأماكن العامة خارج حدود السباحة. القرار، الذي جاء بحجة تعزيز «المصلحة العامة» وحماية «الهوية الأخلاقية»، لاقى ردود فعل متباينة على منصات التواصل الاجتماعي، بين مؤيدين يرونه خطوة نحو «احترام القيم الاجتماعية»، وقلة من المعارضين اعتبروا القرار تقييدا للحرية الشخصية.
تدفع هذه الإجراءات إلى السطح إشكاليات أكثر عمقا حول العلاقة ما بين السيادة والاستقلال الشَخصيين، والحرية كمفهوم فلسفي وعملي. كما توضِّح اتخاذ السلطة السورية الحالية نهجا وصَائيا في التعامل مع السوريين.
الوصاية وحماية الأخلاق العامة
ما تقوم به السلطة السورية، من خلال فرض قيود على لباس الأفراد في الشواطئ والمسابح، يمكن فهمه بوضوح باعتباره ممارسة لنوع من «الوصاية» (Paternalism)، بمعنى تدخل السلطة (سواء كانت دولة أو جماعة أو مؤسسة) في حياة الأفراد، بدعوى حماية مصلحتهم أو مصلحة المجتمع، حتى لو تعارض ذلك مع إرادتهم أو حريتهم الشخصية. أصل المصطلح يأتي من «Pater» باللاتينية، أي «الأب»، ما يشير إلى نموذج أبوي تعتبر فيه السلطة نفسها مسؤولة عن حماية الناس من أنفسهم (كمنع المخدرات أو إلزام حزام الأمان)، أو من الآخرين (كمنع التدخين في الأماكن العامة)، أو بدعوى «الحفاظ على الأخلاق العامة»، كما في قرار السلطة السورية الجديد. قد تكون ممارسة الوصاية جيدة كما في المثالين الأولين، حيث إن هذه الممارسة تقوم على حالة إجماع عام بضرورة حماية الحياة من الحوادث في الحالة الأولى، ومبدأ منع الضرر عن الآخرين في الحالة الثانية، وهي حسب الفيلسوف الأمريكي جون رولز، الحالة الوحيدة التي يجوز فيها للمجتمع التدخل في حرية الفرد. فيما عدا ذلك، يصبح من السهل الانزلاق نحو مبررات وصائية، حيث تقرر الدولة نيابة عن الأفراد ما هو مناسب أخلاقيا وما هو ليس مناسبا، بغض النظر عن قناعات الأفراد أنفسهم.
حين تفرض السلطة قواعد (مثل اللباس «المحتشم») بدعوى حماية الأخلاق أو مصلحة الجماعة، فإنها تنزع عن الفرد قدرته على اتخاذ القرار الأخلاقي بنفسه، وتفترض أنه عاجز عن التمييز بين الصواب والخطأ، ما يحوله من فاعل حر إلى مفعول به. فالسُّلطة هنا لا ترى في الفرد إنسانا مكتمل الأهلية، بل تراه كائنا قاصرا، يحتاج دائما لتدخل «أبوي» (من السلطة أو الجماعة) لضَبط سلوكه، ومراقبة خياراته. يشير هذا النوع من التعامل مع الأفراد، وهو شائع جدا في الوسط العربي والشرق أوسطي، إلى غياب جذري لمفهوم «الفرد» بوصفه كيانا مستقلا أخلاقيا وعقليا عن الجماعة وسيدا لنفسه، قادرا على اتخاذ قراراته الخاصة وممارسة حقوقه وواجباته. في غياب هذا المفهوم للفرد يصبح من الصعب التأسيس لأي حرية حقيقية.
كانط وسيادة الفرد والعقل
بالنسبة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الحرية لا تعني غياب القيود، بل تعني أن يكون الإنسان قادرا على الالتزام بالقانون الذي يشرعه لنفسه من خلال عقله. في فلسفته، لا يمكن أن يكون الإنسان حرا، إذا لم يكن قادرا على تحديد ما يفعله وفقا لمبادئ أخلاقية يختارها بعقله، بمعنى أن تكون الحرية مبنية على سيادة العقل، لكن هذه السيادة لا تتحقق إلا في سياق الفرد، بوصفه كائنا مستقلا وسيدا على ذاته. تجذر هذا المفهوم للفرد وسيادته الذاتية في الوعي الأوروبي/الغربي وعليه بنيت مفاهيم الحرية والديمقراطية. في المقابل يعاني الفكر العربي التقليدي من غياب عميق لمفهوم الفرد، حيث يتم التعامل مع الأفراد باعتبارهم جزءا من «الجماعة»، سواء كانت عائلة، قبيلة، طائفة، أو أمة. يتم التعامل مع الأفراد كوقود للجماعة فقط لا غير، ومن يحاول إثبات وجوده كفرد، كذات حرة، يعامل بالنبذ والإقصاء وربما القتل، لأنه مشكوك فيه، فهو خارج عن النص، عن الجماعة والقبيلة، وبالتالي هو تهديد وجودي لنقاء الجماعة وإجمَاعها. يُفهم الفرد كأداة تعمل ضمن المصالح الجماعية، وليس ككيان مستقل يمتلك حقوقا، وقراراته الخاصة. هذا يعني أن الحرية لا تُعتبر حقا فرديا طبيعيا، بل هي غالبا ما تُفهم كـ»امتياز» تَمنحه الجماعة للفرد، بشرط أن يتوافق مع القيم السائدة في المجتمع. لا وجود للحرية كمفهوم فلسفي وعملي، بل فقط «هامش حركة داخل البنية». طالما أن الفرد غير معترف به كمركز للقرار والكرامة والاختيار، فالحرية تتحول إلى حرية مشروطة، مسموحة فقط في حدود الجماعة، بما لا يهدد البنية، وهو ما يتجسد في القرار السوري الأخير، الذي يفرض قيودا جديدة على السلوك الفردي بما يتوافق مع «قيم الجماعة». في السياق العربي يمكن التعبير عن الحرية بـ»اختر ما شئت، طالما أنك تختار ما اخترناه لك»، وهي النسخة الوصائية من الحرية، حرية الامتثال وليس الاختيار.
إذا كانت الحرية تقتضي وجود فرد مستقل، قادر على اتخاذ قراراته، بعيدا عن تأثيرات السلطة والجماعة، فإن غياب هذا المفهوم في الفكر العربي، يعرقل أي مشروع تحرري حقيقي. لا يمكن لأي ثورة أن تحقق حرية حقيقية إذا لم يترافق هذا مع إعادة بناء الفهم الجماعي للفرد ككائن مستقل ذي كرامة وحقوق غير قابلة للانتقاص. في غياب هذه المفاهيم وحيث يسود التصور للفرد كـ»كائن قاصر»، لا حاجة لعقد اجتماعي بين أفراد متساوين، فهؤلاء الأفراد يُفترض أنهم غير مؤهلين للاختيار أصلًا. إن أي مشروع تحرري في العالم العربي، يجب أن يبدأ من إعادة تأسيس مفهوم السيادة الشخصية، من خلال تعميق الوعي الفلسفي بأهمية الفرد كركيزة للحرية. مشروع كهذا لا يمكن أن يكون سياسيا فقط، بل مشروعا فكريا وثقافيا طويل الأمد. وإذا لم يتم بناء عقد اجتماعي جديد يستند إلى هذا الفهم العميق للحرية، فإن الثورات في العالم العربي ستظل معرضة لإعادة إنتاج الأنظمة نفسها التي قامت ضدها، تحت شعارات الحرية التي تبقى بلا مضمون حقيقي.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————
سوريون يخافون الأغاني/ شعبان عبود
17 يونيو 2025
قبل فترة وجيزة، تعرّضت صالة فنية في مدينة سرمدا شمالي إدلب لهجوم من مجموعة متشددة. أُحبط الحفل، وحُطّم الأثاث، وفُرّق الحاضرون تحت تهديد السلاح. لم يُكمل المغنّي وصلته، وانسحب الجمهور في صمت مشوب بالذهول. لكنّ الأسئلة بقيت معلقة في فضاء المدينة، وربما فضاء سورية كلها: لماذا يُخيف الغناء بعضهم؟ وما الذي تعنيه الفنون حقاً في بلد خرجت للتوّ من واحدة من أعقد حروب العصر؟
بصراحة شديدة، ربما لا يُعبر الهجوم على حفل سرمدا عن موقف من الموسيقا فقط، بل عن صراع عميق على شكل المجتمع القادم، فثمّة من يرى في الفن خطراً على “نقاء” الدين، ويغفل أن التراث الإسلامي نفسه زاخر بالغناء والموشحات والموسيقا الروحية، من بغداد إلى حلب. حكى لي مرّة الروائي نهاد سيريس عن مشاهد من ذاكرته، حين كان يشاهد مشايخ الدين في حلب يشاركون ويندمجون في حفلات الغناء الطربي الأصيل في المدينة.
المفارقة أن من يرفع السلاح ضد الموسيقى لا يتورّع عن مشاهد الدماء والانقسام والدمار، لكنه يعتبر أن أغنية رومانسية أو عرضاً مسرحياً تهديد لنسيج المجتمع. وهذا يُظهر مدى الانفصال عن المعنى الحقيقي للدين الذي يُفترض به أن يكون مرادفاً للرحمة، لا التوحش.
واليوم في سورية، حيث مات أكثر من مليون إنسان، وتهجّر الملايين، وتحطّمت المدن، ثمّة حاجة إلى إعادة إعمار الإنسان نفسه قبل إعادة الإعمار المتعلقة بالحجر والإسمنت والحديد. ليس الفن، هنا، ترفاً، بل ضرورة نفسية واجتماعية. الغناء، تحديداً، يعيد إلى الناس حسّ الحياة، يمسّ وجدانهم، ويفتح نوافذ في جدران الخوف التي شيدها القمع، وزادتها الحرب سماكة.
الإسلام الحضاري لا يعادي الفن، بل يحتضنه. وإذا كانت القيادة الجديدة في سورية تنادي ببناء دولة مؤسّسات وعدالة، فعليها أن تحمي الفضاء الفني والثقافي من عسف السلاح وخطاب الكراهية.
ليس الفن بعد الحرب مجرد ممارسة فردية، بل نوع من العدالة الرمزية. أغنية تُغنّى في إدلب عن حصار داريا، أو مسرحية تُعرض في حلب عن المعتقلات، تساهم في كتابة سردية وطنية بديلة، تُعيد الاعتبار للضحايا وتُحفّز الحوار الأهلي. كما أن الفنون تخلق فضاءات للقاء المختلفين، وتُرمم الشروخ الطائفية والمناطقية التي عمقتها الحرب.
لقد نظر المستبدّون عبر التاريخ إلى الفنون على أنها إما وسيلة ترفيه فارغة، وإما أداة للدعاية. لكن في اللحظات التاريخية الحرجة، يجب أن تكون الفنون أكثر من ذلك بكثير. إنها لغة الألم والشفاء، سجل الذاكرة، وأداة بناء الوعي الجماعي، وما لا يمكن قوله في السياسة يمكن أن يُقال في القصيدة، وما يُقمع في الساحة يمكن أن يُغنّى على الخشبة.
على الدولة الجديدة أن تدرك أن الفنون جزءٌ من العقد الاجتماعي الجديد. حماية الحفلات، تمويل المسارح، دعم الأفلام، ليست أفعالاً تكميلية، بل مؤشّراتٌ على الانتقال من دولة الخوف إلى دولة الحياة. الدولة التي لا تحتمل أغنية، لن تحتمل اختلافاً، ولن تُنتج مواطنة.
ليس الغناء ترفاً. في بلاد أنهكتها الحرب والنزوح والمجازر، يصبح الغناء حاجة، والفن ضرورة، والموسيقى مقاومة ناعمة لليأس. ما حدث في سرمدا ليس مجرد اعتداء على أمسية، بل رفض صريح لحق السوريين في أن يحلموا من جديد، أن يفرحوا، أن يجدوا في الفنّ مساحة للتنفّس بعد سنوات من الخنق.
لقد أنهك الصراع السوري الناس أجساداً وأرواحاً. فقد الملايين أحباءَهم، مدن دُمرت، وسنوات مضت كأنها كابوس جماعي طويل. واليوم، حين يُحاول بعضهم ترميم الحياة بوسائل بسيطة، كحفل غنائي أو أمسية شعرية، تظهر قوى ترفض ذلك، كأنها تُريد للألم أن يستمر، وللموت أن يظل هو الصوت الأعلى.
العربي الجديد
——————————
سنّ لومومبا/ عبير داغر اسبر
17 يونيو 2025
شهد العالم في يونيو/ حزيران 2022 لحظة رمزية عميقة الدلالة، حين أعادت بلجيكا إلى الكونغو الديمقراطية سنّاً واحدة من رفات الزعيم الأفريقي باتريس لومومبا، الذي دبِّرت اغتياله في عام 1961. كانت هذه السنّ كل ما تبقّى من جسد رجلٍ رفض أن يبيع حلم الاستقلال أو أن يُروَّض ليلائم شروط المستعمِر. قُتل، قُطِّع، وأُذيبت جثته في حامض الكبريت، في محاولة لإخفاء أثر الفكرة التي جسّدها. لكن الرمز، كما تُعلّمنا الحرية، لا يموت، وإن بدا ذلك مؤقتاً. حتى إن تلك “اللفتة” التطهيرية البلجيكية المتأخّرة، بكل سخريتها، كشفت عن حقيقة أن الذاكرة لا تموت، وأن التاريخ لا يُدفن بسهولة، خاصة حين تتولى السينما مهمة استعادته وإعادة تقديمه للأجيال. ولأن السينما هي ضمير الأمم وذاكرتها، فقد جرى حديثاً (2024) إخراج فيلم وثائقي يؤرّخ للدور الاستعماري لبلجيكا وأميركا في اغتيال باتريس لومومبا. في فيلم “Soundtrack to a Coup d’État”، وبترجمة حرفية يصبح العنوان “موسيقى تصويرية لانقلاب”، لا يُقدَّم لومومبا زعيماً أفريقياً منعزلاً، بل يُدرَج ضمن مشهد عالمي لزمن التحرّر، حيث تشكّلت جبهة من زعماء وشعوب كانت تحلم بكسر النظام الكولونيالي من الداخل. يوثّق الفيلم لحظة صعود جمال عبد الناصر رمزاً لحركات التحرّر الوطني وسياسة عدم الانحياز، ويستقرئ حضوره في مؤتمرات باندونغ ولقاءاته مع نكروما وسوكارنو وتيتو، كجزء من محاولة تأسيس “عالم ثالث” مستقل. يحفر الفيلم ضمن تيار متدفّق لسينما الذاكرة، وهو تيار يعيد تمثُّل الماضي بوصفه تجربة معيشة، حيث تتحوّل الصورة إلى وسيلة استعادة وتأويل، من دون أن تكون مجرّد استعادة مُتْحفية للزمن، بل مساءلة له، إذ يفتح الفيلم مساحات للنقاش العام حول المخفي في الذاكرة الفردية أو ذاكرة البلاد التي حازت نصيبها من خرابٍ عام. لهذا، في السياقين العالمي والسوري، تكتسب سينما الذاكرة أهمية استثنائية؛ فهي لا تؤرشف فقط، بل تنقّب في الحزن المنسوج في تاريخ الأوطان، وتُعيد ترتيب مشاعر الخسارة خارج مرويات المستبدّين. وهي، ربما، الشكل الفني الأصدق لاستمرار الرواية، حين يخفت صوت المؤرّخين، وتكفّ السياسة عن طرح الأسئلة الكبرى. أين سورية من هذا كله؟ في الستينيات، حضرت سورية شريكة في الحلم الناصري الوحدوي، العروبي، والأممي ربما، اشتعلت بحماسة الشارع، وأنّت من مرارة الانفصال. وحين جاء حزيران 1967، لم تكن الهزيمة عسكرية فحسب، بل روحية ووجودية. سقط الحلم القومي في لحظة، أمام أعين من صدّقوا أن التحرّر ممكن، وأن القاهرة ودمشق تستطيعان تشكيل جبهة في وجه الاستعمار والصهيونية. كان سقوط الجولان، وذلّ الانسحاب، وموت الأمل، امتداداً لاغتيال لومومبا وحركات التحرّر العالمية معاً، حيث حضر الخذلان في الروح السورية بعد النكسة، التي لم تُدعَ هزيمة أبداً، وحضر بأدب النكسة وسينماها أيضاً. واليوم كما الأمس، تحتاج سورية سينما الذاكرة، لأنها أداة حيوية لحفظ التجارب المعقّدة التي مرّت بها البلاد في سنوات الصراع منذ 2011، لا لكونها مجرّد توثيق بصري للأحداث، بل باعتبارها أداة لتشكيل الهوية، وطريقة للتسامح مع الذاكرة التي شوّهها العنف والمجازر، والتهجير الذي أدّى إلى تغييرات ديموغرافية عميقة، فسينما الذاكرة، بوصفها جنساً فنيّاً، تتجاوز السرد التقليدي لتصبح شهادة حيّة على آلام الحرب وتجارب المهزومين والمنتصرين، حيث تعمل على إعادة تركيب مغاير لأنماط الانهيارات الفردية والجماعية. كأنّ سورية اليوم، إن في سينماها أو في مروياتها جميعاً، تلاحق سنّ لومومبا، شاهداً وحيداً على ذاكرة وطن أذابته الحرب، لكنه يرفض التلاشي.
العربي الجديد
———————–
عن سينما سورية لم تؤثر في أحد/ جيب نصير
17 يونيو 2025
يستوعب موضوع السينما السورية مقالات ودراسات عدّة. لكنّ المسألة صارت جزءاً من الماضي، وبديهي أنْ يُنظَر إليها من زاوية تاريخٍ يجب التعلّم من أخطائه.
الخطأ الأول يكمن في التسمية، فهناك “أفلام” سورية، لا سينما بالمعنى الحديث للكلمة. هذا إنْ لم تنتمِ الأفلام المُنجزة إلى مدارس وأساليب فنية مستوردة. من هذه التأثّرات ما سُمّيَت لاحقاً بـ”سينما المؤلّف”، وهذا موضوع تصحّ مناقشته في حال استمرّت هذه ” السينما” حَيّةً. لأنّه، كما تبدو عليه عقلية صانعي الأفلام، ستستمر “سينما المؤلّف” عرفاً ثقافياً، يتبوأ فيه المخرج ـ الكاتب موقع السلطة العليا للفيلم، منذ الفكرة الأولى إلى عرضه الأخير، بغضّ النظر عن بقاء السينما نفسها من عدمه.
اعتمد الجمهور تعريفاً يخصّه للسينما. بالنسبة إليه: فيلم ناجز + صالة + جمهور. أما باقي عملية الصنع فلا تعنيه، إذْ ليست هناك بيئة سينمائية في الثقافة العامة، ولا مراكز بحوث سينمائية، ومعارف ثقافية عامة تُشكّل سلوكنا نحوها، ولا عملية اقتصادية يمكن للجمهور الانحياز إليها على أنّها منتج محلي.
منذ عودة سينمائيين سوريين من بعثاتهم إلى الخارج أواخر الستينيات، طرأت على تعريف السينما تغيّراتٌ عدّة، أوّلها هجاء هؤلاء السينمائيين الأفلام المعروضة آنذاك، فأُلصقت تُهَم السينما التجارية والهابطة والرأسمالية والتافهة على تلك الأفلام، في طلب مُبطّن لإتاحة الفرصة لهم لتقديم “تُحفهم” الفلميّة، ليفهم هذا الجمهور ما السينما الراقية. أوجدت أفكارهم هذه وليداً، ليس لقيطاً، اسمه “سينما المؤلّف”، قياساً بتاركوفسكي وفلّيني وبونويل وغيرهم. أي من حيث أتوا بمعارفهم السينمائية، من دون أي اعتبار لثلاثية “فيلم، صالة، جمهور”، وقدّموا أفلامهم بفردانية، تشبه قصائد الشعراء، نوعاً ثقافياً جديداً، مُشترطين على الجمهور أنْ يكون جاهزاً له، من دون اعتبارات الفشل والنجاح. فالمهم في هذا كلّه أنْ يُقدّم “المخرج” قصيدته مخربشاً على جدران الحياة. سار الأمر هكذا إلى الآن، مع استثناءات قليلة.
لن أذكر الأفلام التجارية الكثيرة التي أنتجها المنتجون السوريون وحدهم، أو بالشراكة مع لبنانيين ومصريين، فبمجملها أفلام ترفيهية أحبّها الجمهور، وقُصِفت بأقلام هؤلاء السينمائيين المتعلّمين. ربما كانت بداية طريق سينمائية، يُموِّل فيها الترفيهي الفيلمَ “الجاد”. هذه معادلة معروفة، يُعمل بها في كلّ العالم. لكنّ هؤلاء السينمائيين طاردوا هذه الأفلام، وكلّ فيلم لا يُثبت تقدّميته وأكاديميته. في محصلة هذه المطاردة، ماتت السينما نفسها، وبقي “فيلم المؤلّف” يتيماً، رغم وجود أب يتباهى به، ما يعني موت صالة السينما، وانتقالها إلى صفحات الجرائد التي تذكر جوائز الفيلم ومحاسنه.
طبعاً، هناك كواليس صنع هذه الأفلام، ليس صعباً التقاط أخبارها. فهذا فيلمٌ وحيد يُنجز في عام أو عامين، وحوله حشدٌ من المهتمّين المتلصّصين، يتلقّفون كل شاردة وواردة، ويتهامسون بها من دون إعلانها. تفاصيل مخجلة، مضحكة ـ مبكية، ناتجة عن الغيرة والتنافس غير الشريف بين هؤلاء المؤلّفين المخرجين، ما يُفقد النقد مهمّته الإبداعية التنافسية، وهذه بحدّ ذاتها ممارسة هدّامة، لم ينتبه إليها هؤلاء المتعلّمون. في الأحوال كلّها، لم يدرك هؤلاء أنّ بقاءهم السينمائي مرتبطٌ تماماً ببقاء السينما، لكنّ السينما نفسها، بمشاركة جهودهم، غادرت منذ زمن طويل. في آخر الأمر، أفشت هذه الكواليس أسرارها عن عملية فردانية، تؤول برمّتها الى المخرج، القائد الأعلى لصنع فيلم.
في السينما العالمية، هناك مخرجون مؤلفون كثيرون، يكتبون سيناريوهات أفلامهم، كفيلّيني وبونويل. لكنّ الملاحظ هنا أنّهم لم يكتبوا بمفردهم، ولم يهيمنوا على المشاريع التي صنعوها، رغم استعادات كثيرة من أقوال لهم، وتصرّفات قاموا بها. لم نشهد في “سينما المؤلّف” السورية تاركوفسكي واحداً، أو فلّيني حاذقاً. من جهة أخرى، كانت المشاريع الفيلمية لهؤلاء من ضمن الحراك السينمائي الغني لكلّ أنواع الأفلام، وليس لإنتاج فيلم واحد في العام، في خروج صالة السينما من الاستخدام العام.
أخيراً، يمكن السؤال عمّا قدّمت هذه الأفلام، وأينها الآن. فباستثناء “رسائل شفهية” (1991) لعبد اللطيف عبد الحميد، و”كومبارس” (1993) لنبيل المالح، اللذين حقّقا حالة ترفيهية ومشاهدة ممتعة للجمهور، يصعب القول إنّ هناك فيلماً حقّق نجاحاً بالمعايير السينمائية المتداولة، وربما أتطرّف في قول “حتى في المعايير النخبوية”، التي تبنّاها هؤلاء، لم تُعطِ نتائج مقبولة. ففيلمٌ مبنيّ على هجاء جمال عبد الناصر والناصرية، بحسب الأقوال المُسرّبة من الكواليس، يخرج إلى الجمهور بعكس ذلك: “أحلام المدينة” (1984) لمحمد ملص. أمّا “علاقات عامة” (2005) لسمير ذكرى، فكنتُ أنا مُشاهده الوحيد في الصالة. من دون نسيان تحميل الجمهور ذنب عدم الاستيعاب، فيما الجمهور نفسه شاهد حينها أفلاماً كبيرة ومشهورة.
لم تبدُ “سينما المؤلّف” السورية سينما حقيقية، ولا أفلاماً مُكتملة الأركان، رغم مشاركتها في مهرجانات صغيرة كثيرة، ونيلها جوائز عدّة، والاحتفاء بأصحابها مخرجين واعدين. إلاّ أنّ الحال المحلية بمآلاتها لم تعطِ أهمية تُذكر لهذه “الجهود” الفردية، فلن يأتي يومٌ يقول أحدهم فيه “كما قال أو فعل فلان” في “تراب الغرباء” (1997) لذكرى أو “الليل” (1992) لملص، بينما ستصادف حتماً من يستشهد بكلام دون كورليوني في “العرّاب”.
هذا النوع من الأفلام وصنّاعه، أحد أنواع التعالم، يفرضه المتعلّمون من دون أنْ يعرفوا، أو يعترفوا بتأثير نوازعهم الفردانية على فعالية أكثر من جماعية. فهذا أولاً إنتاج ثقافي من المجتمع.
العربي الجديد
——————————–
حمص… مدينة الحب والحجارة السود
العربي الجديد
17 يونيو 2025
حين تتجه إلى حمص، لا بد لك من الابتسامة، فأنت تدخل مدينة تذخر بالأساطير والحكايات، والتفاسير المثيرة، فحمص المرصودة كما يقول أهلها، استطاعت أن تنجو من غزو المغول الذين أطاحوا أخواتها، في حبكات غريبة ومتناقضة.
حمص لا تعيش بها العقارب، ربما لتربتها المشبعة بالزئبق، وإن كان هذا الأمر لن يقنع الحماصنة، والرواية الحقيقية عندهم أن حمص مرصودة.
هي مدينة ابن الوليد، نسبة إلى القائد الإسلامي الكبير خالد بن الوليد، الذي دفن فيها وصار من رموزها الخالدة، فمن النادر أن تذكر المدينة من دون أن يقترن اسمها باسم الصحابي الجليل، فقد اختار أن يُدفن فيها بعد أن اختارها لقضاء أواخر حياته، وأوصى بذلك، فصار قبرُه ومشهدُه من أبرز معالم المدينة وأكثرها قداسةً لدى أهلها، فرمزية ابن الوليد لدى الحمصيين لا تنبع فقط من مكانته الإسلامية والتاريخية، بل أيضاً من شخصيته التي تمثل صفات الفروسية والبطولة والانتصار، إنهم يرون في خالد امتداداً لروح مدينتهم المحتضنة أكثر من 450 صحابياً، دفنوا في ثراها، ففي قلب الشام وعلى ضفاف نهر العاصي، تنتصب مدينة حمص شاهدة على تعاقب الحضارات، وصراع القوى وتعايش الأديان، حاملة على كاهلها إرثاً عريقاً، وجغرافيا ذات أهمية استراتيجية لا تقلّ عن عظمتها التاريخية، فتاريخ حمص يعود إلى آلاف السنين، أو إميسا كما كانت تعرف قديماً، من حين تأسيسها من جديد على يد الإغريق في العصر الهلنستي، كان لها مكانة كبيرة إدارية واقتصادية، ما تزال بعض آثارها الرومانية قائمة، فالمملكة المهمّة جعلتها مركزاً دينياً لعبادة إله الشمس، أو ما يعرف بإل غابال، امتداداً للإله الآرامي ايل جبال، اعتماداً على دراسات أشارت إلى المعبد الأكبر في قلعة حمص، بحسب الرحالة الإنكليزي روبرت كير بورتر عند العثور على عدة قطع من حجر سماقي صلب، هى بلا ريب بقايا الهيكل الضخم الذى كان يشغل هذا الموقع في وقتٍ ما بحسب بورتر، وإن كان هناك اعتقاد آخر يرجّح الجامع النوري الكبير، المقام فوق معبد كبير تحول إلى كنيسة، لتصبح خلال العصور الإسلامية، واحدة من أبرز مدن بلاد الشام، لما تمتعت به من مكانة عسكرية واقتصادية، لكونها نقطة وصل بين شمال سورية وجنوبها، وبين الداخل والساحل، فازدهرت في العهدين الأموي والعباسي، ومرّ بها علماء وفقهاء كثيرون، وإن تقلصت أهميتها في العصرين المملوكي والعثماني، في لعب دورها الحضاري، أمام مدن كبرى كدمشق وحلب، إلا أنها ظلت مركزاً حيوياً، وسوقاً زراعية وتجارية هامة، ومعبراً للقبائل والمقاتلين.
صدى العشق في الحروف
لطالما كانت حمص مدينة للشعراء، تُلهمهم بحجارتها السود وأزقتها القديمة ونهرها ومناخها، ومن أكثرهم شهرة: ديك الجن الحمصي (عبد السلام بن رغبان) من شعراء العصر العباسي، عاش حياة غريبة ومليئة بالتقلبات، كتب شعراً مفعماً بالوجد والحزن واللذة، وارتبط اسمُه بقصته الشهيرة مع زوجته ورد، والتي انتهت بمأساتها بسبب غيرته، وكم كان يرى في حمص مدينة للحب والتراجيديا، متّخذاً من شوارعها وأحيائها خلفية لقصائده المتأجّجة بالعاطفة والندم، وقصته التي كتب فصولها الشاعر الحمصي الشهير نسيب عريضة، شاعر المهجر وأحد أعلام الرابطة القلمية في نيويورك، والذي رغم اغترابه تغنّى بحمص في شعره وكتاباته، ولم يكتب فقط عن جمال المدينة، بل عن الحنين إليها، وعن طيبتها وبساطة أهلها وجمالهم، وخلدها في ذاكرة الأدب المهجري، فقال: أعرفتها؟ تلك الربوع العالية/ ما بين لبنان وبين البادية
وفي موضع آخر صاغ عشقه لها فقال: يا جارة العاصي/ لديك السؤدد… لبنان دونك/ ساجد متعبـد
أم الحجارة السود
يطلق على حمص لقب أم الحجارة السود لطبيعة بنائها التقليدي بالحجارة البازلتية السوداء، التي منحت المدينة طابعاً خاصاً، ليس فقط في الجدران، بل في تفاصيل الحياة الحمصية في الحارات، في نوافذ البيوت، في المساجد والحمّامات القديمة، في حميمية فريدة بين الإنسان والمكان، تربط الذاكرة بالبصمة البصرية، بما يميزها عن سواها من المدن السورية، لون ربما انعكس على المزاج الفني والوجداني لأبنائها، فصارت المدينة ملهمة للحزن والحنين في آن، ذكرها ابن جبير الأندلسي حين مرّ بها، فقال: حمص فسيحةُ الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، وأهلها موصوفون بالنجدة والتمرّس، كما ذكر أن أسوارها غاية في العتاقة والوثاقة، مرصوصٌ بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها سامية الإشراف، هائلة المنظر رائعة الأطلال والأناقة، تكتنفها الأبراج المشيّدة الحصينة، وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بُعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض الشبه بمدينة إشبيلية في بلاد الأندلس. وهنا الإشارة إلى أن إشبيلية إحدى أجمل المدن الإسبانية، كانت تسمّى في الأدب الأندلسي حمص، بسبب تشابه الموقع والتربة.
حمص وحماة: مزاح الأشقاء
من الظواهر الثقافية الظريفة التي تتردّد في سورية، المزاح المستمر بين أبناء حمص وحماة، على الرغم من القرب الجغرافي والتداخل الكبير بين المدينتين، نشأ نوع من المناكفة اللطيفة، التي تتخذ شكل نكاتٍ وسجالاتٍ طريفة، تحكي عن الفوارق في الطباع واللهجة وحتى الطعام، يتبادل فيها أهل المدينتين النكات من دون ضغائن، ويميل الحماصنة إلى تصوير أنفسهم الأكثر طرافة، في حين يصفون جيرانهم بالجدّية المفرطة. وعلى الرغم من أن هذا المزاح قد يحمل أحيانا طابع التنافس، إلا أنه يظل في إطار المودة، في تنافسٍ يعود، في جزء منه، إلى التماثل بين المدينتين من حيث الحجم والموقع الجغرافي، إضافة إلى تقارب الثقافتين، ما جعلهما مرآتين لبعضهما بعضاً في نواحٍ كثيرة، ومن التاريخيين من يرجع المسألة إلى طبيعة من سكن المدينتين من اليمنية والقيسية.
الجغرافيا السياسية
تقع حمص في منتصف سورية تقريبا، وتربط بين الشمال والجنوب، وبين الساحل والداخل، وبين العاصمة دمشق والمنطقة الشرقية. لهذا كانت منذ القدم عقدة مواصلات، ومعبراً للطرق التجارية والعسكرية. كما أن قربها من الحدود اللبنانية أضفى عليها أهمية إضافية، وجعلها مركزاً للتفاعل الثقافي والاجتماعي، ما انعكس على طبيعة أهلها بخفة الظل، والنكات التي أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية السورية، وما انعكس على علاقات أهلها اجتماعياً وتسامحهم الطائفي والديني، حيث عاش في المدينة المسلمون والمسيحيون عبر قرون من دون توترات تُذكر.
ليست حمص مجرد مدينة سورية. إنها لوحة فسيفساء من التاريخ والدين والفن والجغرافيا.
العربي الجديد
———————————-
ولكن مهلاً.. ما هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية؟/ آلاء عامر
17 يونيو 2025
تتردّد العبارة بأشكال مختلفة، وفي مناسبات مختلفة، فكل ظهور تلفزيوني، أو عبر “السوشيال ميديا” لسيدة ما، تفعل شيئاً ما، أو تلبس بطراز معيّن، تتصاعد صرخات: هذه المرأة تشبهنا، هذا هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية. ولكن مهلاً. هل هناك نموذج واحد للمرأة السورية الحقيقية؟ وإن كان فأي نموذج هو؟
لم يتخيّل الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي ارتبط اسمه بفرض الانتداب الفرنسي على سورية واحتلال دمشق، يوماً أن نساء الشام سيواصلن ذمَّه ولعنه مع كل مصيبة صغيرة أو كبيرة… رغم أن غورو غادر دمشق في أواخر عام 1923، أي قبل ثلاث سنوات من وفاته، فإن لعنة الدمشقيات ما تزال تلاحقه إلى قبره وكأنها لن تنتهي، كيف لا، وهو في نظرهن لا يمثل سوى الاحتلال والقمع وتفكيك الهوية الوطنية. وإن تساءل أحد أحفاد غورو يوماً عن ماهية “اللعنة الدمشقية”، فليعلم أنها تتجسّد في تلك العبارة التي ترددها نساء الشام بعد كل كارثة: “ولي على غورو!” أي: الويل لغورو.
سواء احترقت طبخة، انسكبت القهوة، أو انقطع الإنترنت، يبقى غورو في وجدان الشاميات هو أصل كل البلاء وسببه.
نازك العابد.. الجنرال الفخري
لكن نساء سورية لم يواجهن غورو باللعنات وحدها، فنازك العابد، الدمشقية الشابة، ما اكتفت بالشجب ولا ارتضت بالدور الرمزي للثورة، بل دخلت تاريخ النضال من أوسع أبوابه، ففي صيف عام 1919، وبينما كان الجنرال غورو يستعد لإطباق قبضته على سورية، كانت نازك تجلس أمام لجنة كينغ – كرين الأميركية، التي جاءت لتستطلع رأيَّ السوريين والسوريات بالانتداب، لتُدلي نازك بشهادتها الرافضة للانتداب الفرنسي، بلهجة واثقة لا تقبل المواربة.
وحين جاءت معركة ميسلون، لم تكن نازك بين المتفرّجين، إذ خرجت بلباس عسكري، وسارت جنباً إلى جنب مع الجنود والضباط، تحمل على ذراعها شعار جمعية “النجمة الحمراء” التي أسستها بنفسها لخدمة الجرحى، واقفةً إلى جانب وزير الحربية يوسف العظمة وجنوده في المعركة، وتكريماً لها لشجاعتها منحها الملك فيصل لقب “الجنرال الفخري”، في مشهد ما كانت مدينة دمشق قد عرفته من قبل: امرأة تلبس الزي العسكري، تمشي في مواكب الجند، وتصرّ على أن مكانها بينهم، لا خلفهم.
لكن الهزيمة جاءت، واحتُلّت دمشق، فتوارَت نازك عن الأنظار، تنقّلت بين إسطنبول وعمّان، ثم عادت فيما بعد، بهدوء المقاتلة التي لم تنسَ ولم تُهزم. رفضت عروض الانتداب الفرنسي، التي حاولت شراء موقفها بمخصصات مالية سخية لدعم مدرستها “مدرسة بنات الشهداء”، بشرط أن تكتب وتُعلّم باسمهم.
توفيت نازك العابد في بيروت عام 1959، عن عمر ناهز 72 عاماً، لكنها ستظل حاضرة كشامةٍ بارزة في تاريخ سورية، واليوم يقف تمثال وزير الحربية الشجاع يوسف العظمة منتصباً بشموخ في ساحة المحافظة في قلب العاصمة، وكأن المدينة ترد له التحية على وفائه وتضحياته.
تمثالٌ جميل، يليق بمن وقف في ميسلون وقال “لا للانتداب”، لكنّه لا يكتمل من دون نصفه الآخر. فأين نازك؟
أين تمثال المرأة التي وقفت إلى جانبه في ذات المعركة، ترتدي البزة العسكرية، معلنةً أن النساء لا يُراقبن النضال بل يصنعنه إلى جانب الرجال؟ من هنا، ومن قلب دمشق، أطالب بتمثالٍ لنازك العابد يجاور تمثال يوسف العظمة، لا تكريماً فقط، بل تصحيحاً للتاريخ وإعادة للتوازن في الذاكرة، لأن نازك لم تكن أقلّ شجاعة، ولا أقلّ تضحية، بل كانت بصوتها وجسدها وقلمها جزءاً لن يُفصل عن تاريخ سورية وذاكرتها.
ماري عجمي.. صوت الحرية في بيت الأدب
لم تكن نازك العابد وحدها، فصوت دمشق طالما كان نسائياً بامتياز، ماري عجمي، مثلاً، كانت من أوائل السوريات اللواتي فهمن أن مقاومة المستعمر تبدأ من الكلمة، من تشكيل الرأي، من إعادة صياغة الوعي. في عام 1910، أسّست ماري عجمي المنتدى الأدبي في بيتها، ذلك الصالون الذي صار ملتقى المثقفين والوطنيين والكتّاب في دمشق، رجالاً ونساءً، وكان بمثابة المدرسة الأولى التي خرّجت أجيالاً من الحالمين بالحرية.
ما كانت ماري تخشى السلطة، كتبت في الصحف، ألقت الخطب، واجهت الرقابة. وفي عام 1919 أصدرت مجلة العروس، أول مجلة نسائية سورية، كتبت فيها عن التعليم، الاستقلال، حقوق المرأة، وكأنها تنبّه الجميع إلى أنّ الاستعمار والقمع لا يُحاربان فقط على الأرض، بل أيضاً في العقل واللغة والهوية.
فلك الطرزي ترفع صوتها
لم تقف السوريات مكتوفات الأيدي أمام الظلم، بل صنعن مقاومةً متنوّعة الأوجه، حمل قسم منهن البندقية، وقسم آخر القلم والورقة، وجميعهن شكّلن معاً نسيجاً من العزم والإصرار على استعادة الحرية والكرامة، فالكاتبة فلك الطرزي كانت واحدة من الأصوات الأدبية النسائية البارزة التي نشرت موادها في صحف سورية ولبنانية متعدّدة، أبرزها مجلة الأديب في بيروت، وقد انخرطت في الحياة الثقافية من خلال حضورها المنتظم في الندوات والصالونات النسائية التي بدأت تتشكّل منذ منتصف الثلاثينيات، أول ظهور لمقالاتها كان في صحيفة القبس عام 1937، بعنوان: “اللغة العربية وموقف شبابنا منها”.
نساء جبل العرب.. شهداء البطولة والتضحية
شهدت الثورة السورية الكبرى التي قادها المجاهد سلطان باشا الأطرش من جبل العرب مشاركة نسائية في مختلف المجالات، إذ استُشهدت في جبل العرب وحدَه خمسٌ وتسعون امرأة خلال المعارك، وكان للنساء دورٌ أساسيٌ في النضال بطرق وأساليب متعددة، ومنهن المناضلة “بستان شلغين” التي تولّت تجهيز المؤن للثوار، وعندما نفدت مدخراتها المالية، قامت ببيع مصاغها الذهبي لشراء الطحين الذي كان ضرورياً لإطعام الثوار في ظروف القتال الصعبة.
أم الساروت وأم غياث مطر.. نساء بحجم وطن
وفي الزمن السوري المعاصر، حين لم تعد التضحيات فردية بل صارت بحجم الوطن، برزت وجوه نسائية أعادت تعريف البطولة، أم الشهيد عبد الباسط الساروت، والدة المنشد الثائر وحارس الثورة، لم تكن فقط أمّاً لأربعة شهداء، بل صارت أمّاً للثورة كلها، ظهرت تودّع أبناءها بكبرياء، وتحمد الله على الشهادة، وكأنها تواسي كل الأمهات وتلهم كل الأبناء، لم تكن والدة عبد الباسط الساروت مجرّد داعمة لابنها، بل كانت حاضرة في قلب الحراك الثوري، ويقال إنها كانت تساعد الساروت في كتابة بعض أغاني الثورة، تشاركه الكلمة والموقف، وتنسج معه شعارات الهتاف وأهازيج الساحات، لم يكن دورها محصوراً بالأمومة، بل كانت شريكة في المعركة، تثبت أن النساء أيضاً في الخطوط الأمامية، وإن وقفن في بعض الأحيان خلف الكواليس.
من داريا إلى جبل العرب.. إرث غياث مطر في صوت أمّه
في داريا، حيث واجه الشهيد غياث مطر الرصاصَ بالماء والورد، وبعد سقوط النظام سارت أم غياث على خطى ابنها، إذ لم تكتفِ بأن تكون أمّاً ثكلى، بل تحوّلت إلى صوتٍ يُكمل ما بدأه غياث في حياته القصيرة، بعد سقوط النظام لم تدفعها فاجعة الفقدان إلى الانتقام، بل دفعَتها لتكون جسراً بين السوريين، تحمي ما تبقّى من نسيجهم المشترك.
حين بدأت حملات التحريض والتجييش الطائفي ضد أهلنا في السويداء، ظهرت أم غياث في لقاء مؤثر، لتروي كيف لجأت إليهم هرباً من الملاحقة، وكيف استقبلوها بكرمهم واحتضنوها كأنها واحدة من بناتهم. قالتها ببساطة صادقة: “السويداء حمتني.. وما شفت منهم غير الكرم والنخوة”. شهادتها لم تكن فقط تجربة شخصية، بل كانت امتداداً عملياً لمشروع غياث في السلم الأهلي، وكانت محاولة شجاعة لإطفاء نار أراد لها البعض أن تحرق كل شيء.
رزان زيتونة وسميرة خليل.. نضال لن يُخطف من الذاكرة
رزان زيتونة ورفيقتها سميرة الخليل هما أيضاً خير نموذج للمرأة السورية، رزان المحامية والصحافية التي أسّست لجان التنسيق المحلية في بدايات الثورة، لم تحمل فقط ملف المعتقلين، بل حملت صوت الثورة النقي، كما هو، من الشارع إلى العالم، بلا تزييف ولا مساومة.
ظلّت رزان تكتب وتوثّق وتواجه، حتى وهي محاصرة في دوما، وحتى اللحظة الأخيرة قبل اختطافها في ديسمبر/ كانون الأول 2013، كانت تؤمن أن الكلمة موقف، وأن العدالة لا تسقط تحت الركام. أما سميرة خليل، فكانت وجهاً آخر للمقاومة المدنية، سُجنت في ثمانينيات القرن الماضي سنوات بسبب نضالها ضد نظام حافظ الأسد، وخرجت لتواصل المشوار من دون كلل، فصارت صوتاً للنساء المهمّشات، ويداً ممدودة لمساعدة من كسرهم الفقر أو السجن أو الحرب، حين ذهبت إلى الغوطة، لم تبحث عن ضوء الكاميرا، بل عن الناس الذين لا يُرى وجعهم، أولئك الذين قاوموا الجوع والحصار والخذلان، ووقفت إلى جانبهم كما لو أنها واحدة منهم.
رزان وسميرة اختُطفتا، لكن أثرهما باقٍ، ليس في الذاكرة فقط، بل كجزءٍ حيّ من تاريخ الثورة التي بدأت سلمية.
مي وفدوى ويارا. حين يصبح الفن موقفاً
لم يكن نضال المرأة السورية محصوراً في الخنادق أو السجون، بل تمدّد أيضاً إلى خشبات المسرح وشاشات التلفزيون، حيث أكدت فنانات سوريات أن الفن الحقيقي لا يصمت حين يعلو صوت القمع، بل يتحوّل إلى سلاح.
كانت مي سكاف من أوائل الفنانات اللواتي انضممن علناً إلى الثورة، رفعت صوتها في المظاهرات، شاركت في التنسيقيات، اعتُقلت، وهُدّدت، لكنّها أصرّت على أن تكون في صف الشعب، إلى أن نُفيت قسراً، وتوفيت في منفاها عام 2018.
فدوى سليمان، ابنة الطائفة العلوية التي كسرت جدار الطائفية بجسدها وصوتها، حين وقفت في قلب حمص إلى جانب عبد الباسط الساروت، وهتفت للحرية بين الناس، متحدية كل محاولات التشويه والتهديد وكانت تجسيداً حقيقاً للثورة التي كانت تهتف “الشعب السوري واحد”، فصوت مي سكاف كان يجمع الناس، مؤكداً أن الانتماء الحقيقي هو لسورية فقط، لا للطائفة ولا للمذهب. في حين استخدمت يارا صبري شهرتها للدفاع عن المعتقلين والمعتقلات، وتحمّلت نتائج موقفها الجريء بمغادرتها سورية وتعرضها لحملات تخوين وتشويه، لكنها بقيت ثابتة على دربها، مؤمنة بأن الفنان الحقيقي لا ينفصل عن وجع شعبه.
الجندي المجهول
كل هذه الأمثلة وسواها، لا تعدو أن تكون نصباً تذكارياً لملايين النساء السوريات، في كل مكان، وفي كل قطاع، وفي كل زمن. وخصوصاً في سنوات الثورة، حيث تعرّضت مئات الآلاف من النساء للاعتقال والتضييق الأمني، والتهجير القسري. ومن هؤلاء خرجت آلاف المبادرات، والمؤسسات، التي واكبت الثورة. فعملت النساء السوريات في التوثيق، والإعلام، والإغاثة، وفي العمل السياسي المباشر، والعمل المدني على اختلاف تفرعاته.
بالإضافة إلى قائمة النساء اللواتي ذُكرن آنفاً توجد ملايين النساء اللواتي ناضلن في صمت، في الظل، في المطبخ، في الزنزانة، في عتمة الخوف، وفي المخيم، فبين معركة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي ومعركة الكرامة ضد نظام الأسد، تسلسل نضال السوريات ما انكسر ولا تراجع يوماً، حتى لو لم تُدوّن أسماء جميع المناضلات السوريات في الكتب أو لو لم تُرفع صورهن في الساحات.
وقد برز نشاط الحركة النسوية السورية، وتصدّر المنابر الدولية، بدءاً من قاعات الأمم المتحدة، وحتى أصغر حي في سورية، او أصغر خيمة سكنها سوريون مهجّرون في الشمال أو في دول الجوار.
ومن بين هؤلاء النساء كانت جدّتي عائشة سعيد. لعلّ هذه السطور تكون فرصةً لأُخبرها، هي التي توفّيت في التسعينيات، أن نظام الأسد قد سقط، وأنني أحاول السير على دربها. جدتي عائشة، ابنة مدينة النبك، كانت أمّية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، لكنها كانت تعرف كيف تطبخ بحب، وكيف يكون الطعام رسالة مقاومة، جدتي كانت تُعدّ أطباقها الشهية وترسلها مع جدي المجاهد محمد محسن عامر إلى ثوار دمشق المرابطين في غوطة الشام الشرقية حيث كانوا ينظمون أنفسهم لمهاجمة جنود الانتداب الفرنسي، جدتي لم ترفع شعارات، ولم تكن تعرف كيف تُكتب البيانات، لكنها كانت تعلم أن طبق المجدرة قد يسند مجاهداً، دورها كان جزءاً من خيط النضال النسائي الطويل الممتد منذ الأمس البعيد.
النموذج
لا أعرف حقاً من أين يأتي بعضهم بتلك القدرة على التصنيف، والجزم النهائي، والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتقديمها رأياً وحيداً، حين يقولون أمام صورة ما، أو في مناسبة ما: هذا هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية؟. وهذا ما قادنا إلى هذه الرحلة التي وصلت بنا، إلى نتيجة أن النموذج الحقيقي للمرأة السورية، هو كل النماذج الموجودة والممكنة والمحتملة، وأنه لا يمكن حصر المرأة بشكل واحد، أو بنموذج واحد، وأن المرأة السورية، امرأة وسورية، مهما كان ما تلبسه، ومهما كان ما تعمله، وأنه لا يمكن حصر البشر عموماً، والنساء خصوصاً داخل إطار أو قالب واحد. فالبلاد التي قامت على التنوع العرقي والطائفي والديني والثقافي، تتسع لكل النماذج، ولكل طرائق التفكير، وأنواع الثقافات، وسورية تفخر بنسائها، كما تفخر برجالها، ومفهوم البطولة في بلد مثل سورية، مرّت بكل هذه التجارب القاسية، هو مفهوم واسع يستوعب اشكالاً لا تنتهي من البطولة.
هي الوطن
هكذا يتجلّى النموذج السوري للمرأة السورية: امرأة لا تُختصر في صورة نمطية، ولا تُحصر في دور محدد، بل تتجاوز كل التصنيفات الضيّقة التي حاولت الأنظمة والمجتمعات فرضها عليها، هي الأم التي ربّت أجيالاً على الإباء، والمناضلة التي وقفت في وجه الاستبداد، هي الفنانة التي غنّت للحرية، والطبيبة التي داوت الجرحى في الخفاء، والمعلمة التي زرعت بذور الوعي في عقول الصغار، والطباخة التي جعلت من أطباقها رسالة دعم للمحاصَرين والثوار، هي الشاهدة التي لم تخف من قول الحقيقة، والشهيدة التي دفعت حياتها ثمناً لحلم جماعي، إنها صانعة الأمل في أزمنة الخوف، وحارسة الذاكرة في زمن النسيان، تحمل في يدها الوطن، كما تشاء هي أن يكون: حراً، كريماً، وعادلاً.
العربي الجديد
————————————-
الثقافة التي تحتاج إلى إنعاش لا إلى وزارة/ سوسن جميل حسن
17 يونيو 2025
يمكن القول إن مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم التي شغلت الدارسين من علماء اجتماع، وعلماء لغة، وفلاسفة وغيرهم، ففي مجال العلوم الاجتماعية وحده، يبدو أن تنوع المعاني والاستخدامات واسع جداً، فقد أحصى باحثان أميركيان (أل. كروبر وC. كلاكهون) في عام 1952، أكثر من 150 تعريفاً مختلفاً، صاغها منذ منتصف القرن الثامن عشر علماء، سواء كانوا أنثروبولوجيين، أو علماء اجتماع، أو حتى علماء نفس.
مع الوقت، نشأت علاقة بين الإنسان والثقافة، ربما صارت الكلمة تدغدغ الأسماع وتحرّض معاني متنوعة لدى كل فرد أو مجموعة اجتماعية، على أنها مركّب يشمل المعرفة، والمعتقد، والفن، والقانون، والأخلاق، والعادات، وجميع القدرات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع أو مجموعة ما. فهي طريقة عيش في بيئة ابتدعها الإنسان. بل إن كلمة ثقافة، وما تحمل من مفهوم واسع، باتت وحدها تتوزّع على عدد لا يعدّ من المفاهيم، أو تُحمّل كثيراً من المعاني الخاصة التي تشير إلى حوض معرفي متخصص، أنتجته المجموعات البشرية، فبتنا نسمع مفردات كثيرة: “ثقافة عامة”، “ثقافة جماهيرية”، “ثقافة بدنية”، “ثقافة علمية”، “ثقافة وطنية”، “ثقافة شعبية”، “ثقافة تعايش”، “ثقافة كلاسيكية”، وغيرها كثير.
في الواقع، لا نغالي، أو نبتعد عن الحقيقة لو قلنا إن الثقافة روح الأمة، أو الشعب، أو المجتمع، فهي مشتركة بين مجموعة من الناس، كبيرة كانت في تعدادها، أو مجموعة تمثل جيلاً عمرياً على سبيل المثال، وهي مجال يشمل كثيراً من مجالات النشاط البشري، وهي تنتقل عبر وسائل وطرائق متنوّعة من جيل إلى جيل من خلال وكلاء التنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة على سبيل المثال، فهي “تراث اجتماعي”.
يتعرّض هذا التراث الاجتماعي للهزّات الارتدادية التي تخلفها الزلازل التاريخية، أو الأحداث الكبرى التي تمرّ بها الشعوب والمجموعات البشرية كالحروب، خصوصاً لدى الشعوب التي لم تتحرّر من ماضيها، أو لم تقف منه موقفاً نقدياً وتبنِ لها نهجاً تسير فيه نحو المستقبل بخطى واثقة، كما في الحالة السورية على سبيل المثال. يؤدّي هذا الوضع المضطرب مع الوقت، خصوصاً في حال استثماره من أطراف النزاعات في تجييش مكوّنات الشعب بعضها ضد بعض، إلى انكفاء المجموعات الاجتماعية المكوّنة للمجتمع الكبير، كل واحدة على نفسها، ما يشجّع نمو أنماط من الثقافة: الثقافة الظاهرية، والثقافة المخفية الخاصة بكل مجموعة، ويمكن وصفها بأنها “عقلية المجموعة”. … وبما أنه يمكن عدّ الثقافة روح الشعب أو المجتمع، كما سلف القول، فإن روح الثقافة السورية مأزومة، مجروحة، منتهكة، بحاجة إلى إنعاش وحنوّ كبيرين، من دون تأخير.
وزارة الثقافة جزء أساسي من جهاز الدولة الحديثة، (قد تكون هيئة عليا، أو مؤسّسة وطنية، لا فرق) دورها واسع ويشمل جميع جوانب الحياة الثقافية في البلاد، لذلك كانت لوزارة الثقافة مكانة عليا في الوعي الجمعي للشعوب، وفي أولويات الحكومات، ولديها مهمّات ومسؤوليات كبيرة منوطة بها، من حماية التراث إلى رعاية الإبداع ونشره، إلى رعاية الثقافة الجامعة أو الهوية الحيوية للشعب. هذا لا يتم، ولا يؤدّي دوره كما ينبغي، ما لم يكن هناك هدف وتوجه حكوميان واضحان، واستراتيجية وخطط مدروسة، وهذا لا يتحقّق من دون التنسيق والعمل المشترك بين الوزارات المعنية في جهاز الدولة، وقبل كل شيء تطبيق قاعدة بسيطة وجوهرية وأساسية في نجاح أي إدارة، وهي: الشخص المناسب في المكان المناسب.
وبما أن المنصّات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم، في ظل الثورة الرقمية وتغلغل الذكاء الاصطناعي في حياة البشرية كلها، مرايا تعكس واقع حال كل مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وبالتالي: ثقافته، فإن حال الثقافة السورية تبدّى في المرحلة الراهنة من خلال ظواهر كثيرة في هذه المواقع، كان جديدها أخيرا فيديوهات ظهر فيها وزير الثقافة السوري، وأثارت موجات من الصخب والضجيج حولها.
ففي سؤاله طفلاً في الصف الثالث الابتدائي، ما يعني أن عمره ثمانية أعوام فقط، عن أبي العلاء المعري، كان دون مستوى المسؤولية المهنية والثقافية، بل حتى العاطفية، ما دام أنه لم يكترث بالارتباك والحزن الباديين على وجه الطفل، بل بدموعه التي تكاد تنفجر من صدره، وليس من عينيه فحسب، فهذا الطفل، عدا عن أنه في بداية طريق تكوينه اللغوي والمعرفي، يمثل جيلاً من أطفال سورية المنتهكة، جيلاً محروماً من أبسط حقوق الطفولة، جيلاً جرّحته الحرب وأدمت أحلامه، هذا ما كان واضحاً على ملامح الطفل المقهور الذي راحت شفتاه ترتجفان وخدّاه يختلجان أمام الملأ. ولم يلتفت سعادة الوزير إلى الروح المأزومة لهذا الطفل، بل تابع هازئاً أنه لا يعرف ماذا يسأله فقد أعيته بساطة الأسئلة والمعلومات التي “يذهله” أن الطفل لا يعرفها. بعد هذا الفيديو المحزن والمؤسف، شاع فيديو آخر يظهر فيه طفل بكامل عافيته وانشراحه يسأل “سعادة الوزير” بتظارف، عن مقولة له راجت أخيراً: طبق الكرامة، في مسابقة ثقافية “سمجة”، ويجعل الوزير يفوز فتشغله الجائزة عن الكاميرا التي عليه من خلالها أن يحيي “الجمهور”.
هذا جديد ما حرّر عن وزير الثقافة السوري في الحكومة الانتقالية، وكان قبلها قد ظهر في مشاهد تتنافى مع المسؤولية المنوط بها وزيراً للثقافة، كأن يظهر وهو يتناول وجبة سريعة جالساً على أحد الأرصفة، أو جالساً على منسف في مضافة شخص يلبسه عباءة. وسورية يلزمها رجال ونساء من أبنائها الذين يحملون مسؤولية بناء وطن مدمر مشرذم منتهك، وليست بحاجة إلى “ترند”، من دون محتوى يشكل رافعة ثقافية أو روحية لهذا الشعب، وهذه الأجيال المتعبة.
سورية، قبل كل شيء، بحاجة إلى رأب الصدوع بين نخبها الثقافية التي شرذمتها الحرب، وبحاجةٍ إلى العناية بالجروح الثقافية التي بات بعضها مفتوحاً على ألم جبار، وفي الوقت نفسه، لديها قضايا كثيرة تنتظر معالجة حكيمة واعية، لا تحتمل التأخير، فبعد عقد ونصف العقد من الحرب، استشرى التمزق الثقافي بين مكوّنات الشعب، وهو في الأصل لم يكن منيعاً في تماسكه بما استثمرت أنظمة القمع والطغيان في تكريسه لمصلحة تمكّنها من المجال العام، وتعرّضت المواقع الأثرية للدمار والنهب والسرقة، بل عادت عصابات الآثار لتزدهر وتنشط، وليس هناك من يحمي المعالم التاريخية والمواقع الأثرية، لا جهات حكومية ولا سلطات محلية أو منظّمات مجتمع مدني أو متطوعين، كما أن الحياة الثقافية شبه مشلولة في جوانب كثيرة منها، كدور السينما والمسرح والأوبرا، والمعهد العالي للموسيقى، والهيئة العامة للكتاب، والمراكز الثقافية وغيرها كثير من المنابر الثقافية. وأمامها مسؤولية ضرورية، وهي وضع رؤى وأهداف عامة وتطوير التشريعات والأنظمة والقوانين الخاصة بهذه الرؤى، خصوصاً بعد عقود من النخر في جسد الثقافة والتدخل السياسي والأمني من نظام الأسد وفرض الرقابة على المنتج الثقافي بكل أشكاله، وتقييده وخنق الطاقة الإبداعية فيه.
لا تنهض أمة، ولا ينهض شعب من دون تعافيه الثقافي والروحي، وإدراكه هويته الوطنية، وهي بالأصل هويته الثقافية، هذا التعافي يلزمه عملٌ منسّق بين وزارات عدة في الحكومة، كوزارة الثقافة والتربية والتعليم العالي والإعلام والسياحة وغيرها، ما يحقق كفاءة أعلى في إنتاج أهداف مستقبلية تتلاقى الجهود مجتمعة من أجل تحقيقها، بدلاً من ترك المجتمع السوري مقسماً إلى مجتمعات ومكونات، كل مكون يسعى إلى تعزيز ثقافته الخاصة وفق “عقلية” تخصه، غالباً ما تترجم إلى ثقافة مخفيّة.
معالي الوزير، جيل الغد السوري المتطّلع إلى مكانة له بين الشعوب والأمم في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي ليس بحاجة إلى “ترندات”، بل هو بحاجة إلى “تفجير” طاقاته الإبداعية، بالإقرار بها واحترامها، وتأمين الأدوات التي يحتاج إليها من أجل بناء مشروعه.
العربي الجديد
———————————-
مغارة علي بابا/ يعرب العيسى
17 يونيو 2025
بشكل أو بآخر، تبدو سورية اليوم أشبه بمغارة علي بابا بالنسبة لأي صحافي أو كاتب أو صانع أفلام، أو باحث اجتماعي، أو اقتصادي، أو أي مشتغلٍ بواحدة من تلك المهن التي تستخدم مادّة أولية هي الحكايات، لتصنع منها منتجاً نهائياً هو الحكايات.
فهو سيجد فيها كل صفات المناجم: مواد أولية طُمرت تحت التراب، وأُغلق عليها بإحكام، ومرّت بعصور جيولوجية متنوعة، وتعرضت لجميع أنواع الضغط وتبدّلات الحرارة، وكل تلك الظروف القادرة على صنع فلزّات نادرة وثمينة.
الآن، وقد انفتح باب الكهف، فكلّ ما على الباحث فعله هو أن يحمل كاميرته أو أوراقه وأقلامه، أو مجرد حواسه، وينحني ليلتقط كل ما تطاوله يده، يملأ حجره وجيوبه، ثم يخرج ليعرضها للعالم.
والأرجح أنه، وبعد مرور وقت كافٍ، وتراكم منتجات أدبية وفنية جيدة، سيُعيد العالم، ليس اكتشاف سورية فحسب، بل اكتشاف نفسه وبَشريته؛ لأن التجربة السورية النادرة، يمكن لها، إذا ما قُرئت بطريقة عميقة، أن تعيد تعريف الكثير من الأشياء، مثل قدرة التحمل لدى النوع البشري، ومعنى الدولة، والثورات، والطغيان، والوحشية، والمجتمع، والاقتصاد… وغيرها.
في الاقتصاد، وعلى الجانب الآخر، وبعكس ما يبدو، أسهل مهمّة تواجهها الحكومة السورية هي التخطيط، إذ يستطيع أي طالب في السنة الثانية من كلية الاقتصاد أن يضع خطة طويلة الأمد للاقتصاد السوري مستخدماً قلم رصاص ونصف ورقة، هو في الحقيقة يحتاج لكتابة جملة واحدة: كل شيء، لكن كي يصبح اسمها خطة فلا بدّ من أن تتزين ببعض التفاصيل، مثل: تطوير القطاع الزراعي، والصناعي، والسياحي، والمالي، والتركيز على إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الطاقة و.. وهكذا.
لدينا إذاً مَنجمان، واحد مليء بالحكايا والأفلام والكتب والمقالات، وواحد مليء بالاحتياجات، ولسبب ما، أرى ترابطاً وثيقاً بين المنجمَين، ونفقاً سرياً يربط بينهما، فالأول قاد إلى الثاني، والثاني عليه أن يكون علاجاً لآثار الأول.
ترتفع في الفضاء العام السوري هذه الأيام نقاشات واسعة، تحتدّ أحياناً، حول قضايا تفصيلية، أو إجرائية، أو حول أسماء معينة، تدور كلّها حول سؤال مركزي: ماذا علينا أن ننسى؟ وماذا علينا أن نتذكّر؟
في طريقنا نحو المستقبل، ما الذي يجب أن نحمله معنا من الماضي؟ وما الذي يجب تركه هناك؟
الجواب على هذا السؤال جوهر النقاش العام الآن، وسيبقى كذلك سنوات، فهذه طبيعة الأشياء، لأن لا جواب نهائياً ووحيداً لسؤال بهذا الحجم. وعليه لذلك أن يبقى سؤالاً مفتوحاً على المستوى الوطني. يحتاج منّا فقط، التخفيف من حدّة أجوبتنا، والتفكير قليلاً بالأجوبة الأخرى.
لست أميل إلى جواب دون آخر في أي نقاش من هذا النوع، أميل على نحوٍ حاسم إلى شرعية تعدّد الأجوبة، وأميل أكثر إلى الاقتراحات التي تنظر إلى المستقبل أكثر مما تنظر إلى الماضي.
مغارة الحكايات المليئة بالكنوز قد تؤثر في مشاعرنا، وبالتالي قد تدفعنا إلى اتخاذ مواقف عاطفية أحياناً، بينما يحتاج التفكير بالمستقبل شيئاً من برود العقل، ولكن، هل يستطيع العقل وحده أن يتصدى لمهمة كبيرة مثل تسكين الآلام، ولملمة الجروح المفتوحة، وإعادة بناء مجتمع متشظٍ، دون تربيتة على كتف هنا، ومسح دمعة هناك؟
أليست هذه الأفعال بتعريفها البسيط هي النفق السري الغامض الذي يربط مغارة حكايات تلك الآلام المنتمية للماضي بمغارة تلك الاحتياجات المنتمية للمستقبل؟
العربي الجديد
—————————
أن تجدّف بِمْبضَعٍ نحو النجاة في بحرٍ من دم سوري…/ ابراهيم زرقه
17.06.2025
حين يسيل الدم من جسد أنقذته بيدي، لا يفرق بين نظام ومعارضة، بين راية وراية، بل يسأل سؤالاً واحداً: “لماذا قُتلت؟ ومن سيذكرني؟” أنا أذكره، كما أذكر غيره ممن قتلتهم الحرب اللعينة، وسأحمل موته في قلبي كما حملت حياته في يدي. وسأكتب. ليس من باب الحياد، بل من باب الولاء للضوء الذي يخرج من غرفة العمليات، لا من فوهة البندقية.
إلى “خليل” مريضي…
إلى د. فائز عطاف ود. محمود بكري ود. نور زعتر
يتحوّل الطبيب في زمن الحروب والصراعات المسلّحة، إلى شاهد صامت على مأساة لا تنتهي، تتقاطع مهمة إنقاذ الجسد المُصاب مع محيط العنف والحديد الذي يستهدف الأرض، هذا التناقض الوجودي يجعل المشرط الطبي أداةً لا تقتصر على التشريح الجسدي وحسب، بل تغدو مرآةً لمأساة أعمق، حيث تتشابك مصائر الأفراد مع مصير الوطن. وفي هذا السياق، يُطرح السؤال حول دور الطبيب في الحرب: هل هو المخلّص أم الشاهد على موت مستمر ؟ وهل كل إنقاذ للجسد هو إنقاذ للحياة أم أنه تأجيل للموت وحسب؟
لست طبيباً شرعياً، أنا جراح أطفال، يتمحور عملي كله حول إنقاذ أعمار صغيرة وتسكين الألم. تعلمت أن أقاتل الموت، لا أن أفسّر أسبابه. لكنني اليوم أقف على حافة مشرحة الذاكرة، لا في غرفة العمليات. أكتب هذا النص لا لأحلّل الجريمة، بل كي أفهم نفسي: كيف وصلت إلى هذه اللحظة، حيث أشعر أن المشرط في يدي قد انقلب ضدي، وكيف غدت غرفة العمليات شبيهة بسوريا.
يرمز المشرط في يد الجراح إلى الإنقاذ، يسعى الطبيب إلى بعث الحياة في الجسد المفتوح. وفي زمن العنف، يغدو من المرعب التشابه بين أداة الطبيب في غرفة العمليات وأداة القاتل في ساحات القتال، فالاثنان يتحكمان في مصير الجسد بأداة من حديد، أحدهما يؤجل الموت، والآخر يستحضره برصاصة. يتحول الطبيب هنا إلى شاهد على موتٍ جماعي، يتلمس إيقاع دورة العنف التي تحصد الأرواح.
تكشف هذه الوضعية عن أزمة وجودية ومهنية حادة، حيث يُفرض على الطبيب أن يعمل داخل منظومة عنف لا تنتهي، تضطره إلى التساؤل عن جدوى عمله ومدى تأثيره الحقيقي في إنقاذ الأرواح.
دخلتُ كلية الطب البشري عام 2007، أذكر حين طُلب منا في اليوم الأول في المشرحة الابتعاد قليلاً عن الجثة، التي تنبعث منها رائحة الفورمول القوية. لم أشعر بشيء وقتها، اقتربت أكثر فأكثر، كان ذلك اختباراً على المشاعر المحايدة التي يجب أن يمتلكها الطبيب، هو الشعور نفسه الذي شعرت به في أول يوم حقيقي لي في غرفة العمليات، حين كان يدربني الدكتور فائز عطاف.
قال لي د. فائز: “لا تقترب كثيراً، لعلك لا تحتمل رائحة الدم”، بعد خمس دقائق التفت إلي فوجدني محدقاً في طاولة العمليات، ضحك وقال اقترب وشاهد عن كثب. لم أشم رائحة الدم وقتها، لكن رائحة اللحم الحي المحروق هي ما سدّت أنفي، ففي الجراحة نستخدم “مخثراً” لإرقاء الأوعية النازفة وتنبعث رائحة تشبه رائحة احتراق اللحم.
هل شممتم لحماً يحترق من قبل؟ أكاد أجزم أن السوريين جميعاً اشتموا رائحة لحم أحبّتهم تحترق في كل مدينة سورية، وكان آخر اللحوم المحروقة في الساحل. لكننا، نحن الأطباء نشمّ هذه الرائحة في غرف عملياتنا، ونتعامل مع جسد المريض ككتلة من لحم وعظام وأوعية وأعصاب، لا كروح.
تختفي مشاعر التعاطف داخل غرفة العمليات وتحلّ مكانها المهنية العالية، فالجسد بمثابة ماكينة عاطلة عن العمل وأنت من عليه إصلاحها. هكذا نتعامل مع “اللحم” في غرفة العمليات، ما قد يجعل التشابه بيننا وبين القتلة موجوداً، بصورة ما، كلانا يمتلك “سلطة” إعادة تشكيل الأجساد وتكوينها، أنا أفتح اللحم عن اللحم، وأرتب وأرتق ممرات الحياة، والآخر يفتح وعاء الجسد لتسيل منه الحياة/ الدم، كلانا على تماس مباشر مع هشاشة اللحم البشري، وليس من المستغرب أن يكون بشار الأسد قاتلاً. فأطباء مثل هارولد شيبمان من المملكة المتحدة البريطانية، ومايكل سوانغو وتشارلز كولين من الولايات المتحدة الأميركية، قتلوا مرضى وزملاء للمتعة والهوس فحسب.
“سيّد” أنا في غرفة العمليات، أبعث الروح في اللحم والعظام، وأمارس الجراحة كفعل روتيني. والقاتل، أيضاً ملكُ ساحته ويمارس القتل بشكل روتيني، يضغط على الزناد، المشرط بيدي والبندقية بيده، كلانا نحدد مصير الجسد أمامنا، والفرق ليس في الدور ولكن في الزمن، فالطبيب لا يبعث الحياة في الجسد بقدر ما يؤجّل الموت. في هذا المشهد، يبدو المشرط والرصاصة كأدواتٍ متناقضة في ظاهرها بيد أنها، متشابكة، في جوهرها.
خليل الذي أجّلت موته!
في المذبحة السورية المستمرة يغدو الطبيب ليس المنقذ فحسب، بل شاهداً على مذبحة مفتوحة، شاهداً على مريضٍ نجا اليوم ليواجه الذبح غداً، كما حصل مع مريضي، أو من كان سابقاً مريضي. فأنا لم أنقذه بقدر ما أجّلت موته.
سألتني ممرضة في قسم التلاسيميا: “هل تذكر خليل يا دكتور؟”، كيف لا أذكره وهو من ضمن المرضى الذين أمنت ورفاقي اللقاحات له، قُتل لأنه كان في المكان الخطأ، أو الطائفة الخطأ، أو تحت راية لا تليق به. والأقسى: أن من قتله ليس النظام الذي عارضتُه طوال حياتي، بل من يُفترض أنهم “معي”، في المعسكر نفسه. كأن الحقيقة انشطرت، والأرض تميد بي.
تلاشت في تلك اللحظة الحدود بين الإنقاذ والموت. منحته وقتًا إضافيًا للحياة، لكن المجازر كانت أسرع، تحصد الأرواح التي أنقذتها قبل أن تتاح لها فرصة التنفّس. ومن دون إحساس بدأت أسأل نفسي: أنا والقاتل؛ نملك قرار حياة أو موت، تشابه الى درجة مخيفة ومتناقضة. فهل كنت أمارس الطب بالفعل؟ أم كنتُ مجرد ترسٍ آخر في ماكينة الحياة والموت، متقن في عمله، لكنه عاجزٌ أمام العبث الكلي؟
درج
——————————————-
هل يمكن لسوريا أن تتعافى دون الاعتراف بانقساماتها؟/ مصطفى حايد
في الحاجة إلى خيال سياسي يتجاوز ثنائية «الوحدة» و«التفكُّك»
17-06-2025
بعد قراءة مقابلة الباحث بيتر هارلينغ مع مركز “كارنيغي” استرجعت تساؤلات قديمة، لماذا في كل مرة تُطرح فيها قضية التعافي في سوريا، أو حتى في لبنان، نعود مباشرةً إلى سؤال الطوائف والانقسامات؟ وهل الحديث عنها يُكرِّسها ويمنحها سلطة أكبر مما تستحق؟ هل يمكن لأي بلدٍ أن يستعيد عافيته السياسية والاجتماعية، في حال لم تُحَلّ خلافاته الطائفية والإثنية؟ أم أن سوريا محكومةٌ بالبقاء ساحةً دائمة للتجاذبات والانقسامات، ورهينة لمصالح الخارج الذي لا يرى فيها سوى «فسيفساء» يسهل تفكيكها واستثمارها؟
يقترح هارلينغ أن الانقسام ليس مرضاً يجب استئصاله، بل سِمة بشرية واجتماعية يجب الاعتراف بها وتنظيمها. لا يدعو إلى تمجيد الطوائف أو بناء النظام السياسي على أساسها، بل إلى مقاربة سياسية لا تخاف من التعدّد، ولا تُوظِّفه لأغراض الهيمنة أو التحايل. في هذا الطرح، تَتَبدَّد فكرة «الوحدة» بوصفها قيمة مطلقة، وتُستبدَل بفكرة أكثر تواضعاً وأكثر واقعية: التعايش العادل.
هذا السياق يُعيد إلى الذاكرة كتابات ومساهمات الصديق ياسين الحاج صالح، خصوصاً حين يربط بين الطائفية كنظامٍ سياسي لا يقتصر على الهويات الدينية، بل يتغذى على منظومات التراتب والامتياز والتهميش. لطالما نبّه ياسين إلى أن الطائفية لا تكمن فقط في الانتماء، بل في استخدام هذا الانتماء كسلاحٍ سياسي لتقسيم المجتمع وتحييد العقل.
هذا المقال هو دعوة للتفكير في كيفيّة الخروج من هذا الفخ المزدوج: الصمت الذي يُرسّخ الطائفية، والخطاب الذي يَستسلم لها ويجعلها قدراً. نحتاج إلى خيالٍ سياسي لا يخاف من الاعتراف، ولا يَنزلق إلى التبرير، بل يبحث عن مخرجٍ من هذا المأزق التاريخي… بدءاً من سؤالٍ بسيط: هل يمكن لسوريا أن تتعافى دون أن تعترف بانقساماتها؟
لا يَكمنُ التحدي الحقيقي، كما أظنُّ، في وجود هذه الانقسامات، بل في كيفيّة تعاملنا معها. منذ عقود، نعيش في مجتمعات يُكرَّس فيها شعار «الوحدة الوطنية» وكأنه مقدّس لا يجوز الاقتراب منه. وكأن الحديث عن التنوّع، أو الاعتراف بالاختلاف، يُعَدّ من قبيل التحريض على الفتنة أو التمهيد للانقسام. أعتقد أن هذا الفهمَ المحدودَ للوحدة لم ينتجْ سوى المزيدِ من القمع والاستبداد، والمزيد من العزلة بين مكونات المجتمع.
السياسة كإدارةٍ للاختلافِ
ينبغي أن نبدأ من هنا: الاختلافاتُ الإثنيةُ والطائفية والطبقية ليست استثناءً في سوريا، بل هي واقعٌ طبيعي يُشبه كل المجتمعات الحيّة في هذا العالم. في الحقيقة، السياسة نفسُها وُجِدَت لتنظيم هذه الاختلافات، لا لإنكارِها. ليست الطائفية وحدَها ما يفتّتُ المجتمعات، بل محاولات محوِ التنوّع أو قمعه هي التي تُحوّل الاختلاف إلى صراع، والتعدُّد إلى تهديد.
حين نتحدثُ عن الانتقال السياسي، لا يُمكن تجاهل أنّ هذه المرحلة بطبيعتها تَكشفُ وتُضخِّم التناقضات. وهذا ليس أمراً سيئاً بالضرورة. ما يُخيف البعض هو ما يجب مُواجهته: التوترات الطائفية، ومطالب الاعتراف بالهويات الفرعية، والتوزيع غير العادل للثروة، وموقع العشائرية والمناطقية في معادلة الحكم، والعلاقة بين المركز والأطراف، والصراع الطبقي الذي يزداد حدةً كلما طال الانهيار الاقتصادي. كل هذه ليست «مشكلات» تُعرقل الوحدة، بل أسئلة سياسية مشروعة كان يجب أن تُطرحَ منذ زمن.
في الحاجة إلى خيال سياسي ثالث
ما يجبُ أن نكسره أولاً هو الثنائية المفروضة التي ظلّت تحكم سرديات الحكم والمعارضة على حدٍّ سواء: إمّا وحدةٌ مفروضة بالقوة، تَفرضُ على الجميع الصمت والولاء، أو فوضى تقسيمية تُهدّدُ بزوال الكيان السوري برمّته. هذه المعادلة ليست واقعيةً، وليست مُنصِفةً، ولم تُنتج يوماً استقراراً أو عدالة.
الوحدةُ القمعية ليست إلا وجهاً آخر للهيمنة السياسية المركزية التي مارستها السلطة لعقود. فهي لا تعني الشراكة، بل الخضوع. لا تعني احترام التعدد، بل صَهرَ الجميع في قالبٍ أمني وثقافي واقتصادي واحد، غالباً ما يَعكِسُ مصالح نخبة محدودة. وهذا ما حصل فعلاً: تجاهلت الدولة المركزية تعقيدات المجتمع السوري، وحرمت جماعات واسعة من حقوقها الاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية، واحتكرَت الثروة والقرار، وشيّطنت كل اختلاف على أنه دعوات للانفصال أو تهديد للأمن القومي.
أمّا السيناريو الآخر، وهو التفكك الفئوي، فليس بديلاً واقعياً ولا إنسانياً. الانقسام على أساس طائفي أو إثني أو مناطقي يُكرّس الهويات المغلقة، ويُعمّقُ منطقَ العزل والانكفاء، ويَخلق كيانات هشَّة لا تُبنى على المواطنة، بل على الخوف من الآخر. وهو أيضاً وصفةٌ دائمة لحروبٍ مستمرة، ناهيك عن عدم واقعيتهِ وجدواهُ في بلد صغير ومحدودِ الموارد كسوريا.
في سوريا، نحن بحاجة إلى خيال سياسيّ ثالث. خيار جديد يتجاوزُ منطق السيطرة والانقسام، ويَبني نظاماً سياسياً يَعترف بالتعدّد لا كمشكلة يَجبُ حلُّها، بل كركيزة يجب الاعتراف بها وتنظيمها. نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يَتّسعُ للهوياتِ المتعددة، ويَمنحها تمثيلاً عادلاً في مراكز القرار، ويُؤسس لآلياتٍ ديمقراطية تفاوضية تُنهي ثقافة الإقصاء وتفتح المجال لحوار وطني حقيقي. لكن، بالمقابل، لا يُكرس المحاصصة الهوياتية، ولا يفرض على الأفراد هويات جمعيّة لا تمثلهم أو لا يعتبرونها هويتهم الوحيدة. يُمكننا هنا فتح النقاش العام حول الهويات التقاطعيّة في سوريا والمنطقة وإدراج هذا النقاش ضمن عمليات التحول والانتقال في سوريا.
ضمنَ هذا السياق، اللامركزية هنا ليست دعوةً للتقسيم، بل أداةٌ لإعادة توزيع السلطة والموارد. تَمكينُ المجتمعات المحلية من إدارة شؤونِها ليس خطراً على وحدة سوريا، بل ضمانةٌ لنجاة هذه الوحدة من الانهيار التام. والاعتراف بالهوية الكردية أو بحقوق الطوائف والمناطق المهمشة، لا يُضعف الدولة، بل يُعيد لها معناها بوصفها بيتاً جامعاً لكل مواطنيها، لا سجناً لهوياتِهم.
هذا الخيار الثالث لن يكون سهلاً، ولن يأتي من فوق، بل يتطلب نضالاً اجتماعياً طويلَ النفسِ، وجرأة فكرية تَكسِرُ القوالب الموروثة، وإرادة سياسية تحمي التعدد بدلاً من تهميشه. نحتاج إلى خطاب جديد، لا يُدغدغ مشاعر الخوف من الآخر، بل يُؤسّس لمُشترَك وطني يعترف بحق الجميع في الوجود، والصوت، والتأثير.
أين يبدأ التعافي؟
التعافي في سوريا لن يأتي عبر البيانات أو المؤتمرات الدولية، ولا من خلال ضخِّ أموالٍ والاستثمار العشوائي. بل سيبدأ، فقط، حين نكفّ عن التعامل مع المجتمع السوري كمجرد «فسيفساء طائفية»، ونراه كما هو فعلاً: مجتمع غني بتعدديته، جريح بانقساماته، ومُتعَبٌ من كلفة الصمت والخوف.
علينا أن نعيد تعريف «الوحدة» خارج منطق القوة والسيطرة. أن نوسّع مفهوم «التمثيل» ليشمل النساء، وذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء، والبدو، وسكّان الأطراف، وكل من غاب صوته عن طاولة القرار لعقود. أن نعيد ترتيب العلاقة بين الدولة ومجتمعاتها، ليس عبر المركزية المتصلبة، بل عبر نماذج محلية قادرة على الإدارة والتفاوض.
إن كانت سوريا تملك فرصة للتعافي، فهي لا تكمن في «إعادة الأمور إلى ما كانت عليه»، بل في القطيعة مع هذا الماضي الذي ساوى بين الاختلاف والانقسام، وبين الاستبداد والاستقرار. هذه فرصة نادرة، محفوفة بالمخاطر طبعاً، لكنها قد تُؤسس لنموذجٍ جديد… نموذج لا يخاف من التنوع، ولا يُقدّس الوحدة على حساب الكرامة.
تنويه من الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يُشير للتنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.
* * * * *
موقع الجمهورية
—————————-
بيتر هارلينغ: مسألة الأقلّيات المُساء فهمها في سورية
مايكل يونغ
نشرت في 16 مايو 2025
مايكل يونغ: هلّا تقدّم لنا لمحةً عامةً عن طريقة تعامل نظام الأسد مع الأقلّيات منذ عهد حافظ الأسد، ومقارنتها مع ما تشهده سورية راهنًا في في ظلّ النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع؟
بيتر هارلينغ: من الخطأ تبسيط هذه المسألة، كما لو أن نهج النظام السابق تجاه الأقلّيات كان متّسقًا وواضحًا. مع أن مناصري النظام السابق كانوا ينظرون إليه على أنه “حامي الأقلّيات”، انطوى نهجه على تناقضٍ وازدواجية كبيرَين. فهو عمَد إلى استمالة الدروز وقمعهم في آن، وأبرز مثال على ذلك الحملة الشرسة ضدّهم في العام 2000. كذلك، لجأ إلى التلاعب بالأكراد واتّخاذ تدابير لاحتوائهم. ووفّر الحماية للمسيحيين فيما روّج لأشكال من الحراك السنّي أشعرتهم بالتهديد. وفيما اعتمد على ولاء العلويين له، قوّض الهياكل الداخلية للطائفة من أجل ترسيخ تبعيّتها، وفي نهاية المطاف عامل العلويين الموالين له كجيشٍ من العبيد. ويُرجَّح أن يلجأ هيكل السلطة الناشئ اليوم إلى “هندسة” مجموعةٍ من العلاقات المعقّدة والمتناقضة والمتغيّرة بين مختلف الطوائف بدلًا من تبنّي نهجٍ واحد وموحّد.
يونغ: كتبتَ أن الهجمات التي طالت الدروز الأسبوع الماضي مختلفةٌ كثيرًا عن المجازر التي شهدها الساحل السوري في شهر آذار/مارس بحق العلويين في الدرجة الأولى. لكنك أشرت أيضًا إلى ضرورة الامتناع عن تحليل مثل هذه الجولات من العنف الطائفي بمعزل عن بعضها البعض. ما الذي قصدتَه ولماذا ترى الأمر كذلك؟
هارلينغ: يمكن تفسير المجازر بحقّ العلويين على أنها عقابٌ جماعيٌ لارتباط الطائفة بالنظام السابق، في ظلّ غياب أي آلية لتحقيق العدالة الانتقالية. لكن العنف انطلق من دوافع أخرى أيضًا، مثل عمليات النهب الواسعة النطاق التي نفذّتها فصائل مسلّحة دُمجت في الدولة بشكلٍ ظاهري فحسب، في ظلّ اقتصاد مُنهار. وما كان من الأقلّيات الأخرى إلّا أن تساءلت حينئذٍ: “هل سيتوقّف الأمر عند العلويين؟” لكن ما تعرّض له الدروز كشف أن الأمر لن يتوقّف عند ذاك الحدّ.
لم تكن الأحداث الأخيرة محصورةً بالعنف. بل ترافقت مع موجةٍ صادمةٍ من العداء الطائفي العفوي على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ اتُّهم الدروز بالتواطؤ مع إسرائيل، وبالاصطفاف مع فلول النظام السابق، وبمهاجمة الأجهزة الأمنية من دون مبرّر. هذه الأقاويل التي تحرّكها الانفعالات، تعكس عقلية التطهير المنتشرة بشكلٍ مفاجئ على المستوى الشعبي، وهي رغبة غريزية في إصلاح سورية بطريقة ما، من خلال قمع فئة اجتماعية معيّنة أو أخرى باعتبارها تعيق نجاح العملية الانتقالية. شهدنا حتى الآن محاولتَين محمومتَين لقمع طائفةٍ بأكملها، وبإمكاننا توقّع المزيد من هذه الأحداث فيما يتحوّل التركيز نحو مسائل أخرى. حاولت القيادة السورية الحالية استخدام جولات العنف هذه لإعادة تشكيل الترتيبات السياسية، إلا أن هذه الاشتباكات تُمعن في تدمير أُسس الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود بين السوريين من أجل نجاح العملية الانتقالية.
يونغ: حكمت سورية منذ العام 1966 ربما قيادة سمحت للأقلّيات، ولا سيما الأقلية العلوية، بالاضطلاع بدورٍ بارزٍ في البلاد، على الرغم من رغبة نظام البعث السابق في تسليط الضوء على هوية البلاد القومية العربية. ماذا سيحدث لهذا الإرث في ظلّ إرساء نظام حكم سنّي على نحوٍ واضح؟
هارلينغ: تاريخيًا، كانت قاعدة النظام أوسع بكثير من الطائفة العلوية. فقد شكّل تحالفًا من مجموعات أيّدته في المناطق الطَرفية للبلاد، ضمّت أقلّيات أخرى، إنما أيضًا سنّةً من مناطق مثل حوران والرقة وإدلب. وقبل انطلاق شرارة الثورة في العام 2011، كان معروفًا أن وزارة الداخلية تضمّ عددًا كبيرًا من أبناء إدلب، بينما شكّل العلويون غالبية عناصر الأجهزة الأمنية. ونسج بشار الأسد أيضًا علاقاتٍ مع طبقة رجال الأعمال السنّة، في حلب مثلًا. لكنه أهمل القاعدة الشعبية التاريخية للنظام، ما يفسّر جزئيًا سبب تركّز المظاهرات خلال بدايات الثورة في مناطق مثل درعا، حيث كان حزب البعث يتمتّع بنفوذ قوي في السابق.
فكرة أن النظام كان قائمًا على الأقلّيات خاطئة، وتصرِف النظر عن جانبٍ أساسي من العملية الانتقالية في سورية: أي تنوّع الهويات والمصالح ضمن “الأغلبية” السنّية بحدّ ذاتها. في الواقع، ما من مجتمع سنّي واحد في سورية. فقليلةٌ هي القواسم المشتركة بين القبائل السنّية في شرق البلاد وبين الطبقة الفقيرة والمُحافظة في المدن، التي تجمعها قواسم مشتركة أقلّ حتى مع نخب التجّار التقليديين، ناهيك عن السنّة العلمانيين. ففي أفضل الأحوال، تتجاهل مدن مثل حلب ودمشق، وحمص وحماة بعضها البعض، وفي أسوأ الأحوال تتنافس في ما بينها. يُضاف إلى ذلك أن ميزان القوى بين الفصائل المسلحة من إدلب وتلك المتحدّرة من مناطق أخرى على غرار دوما، هشٌّ للغاية، ويمكن أن يتسبّب بسهولة باندلاع اشتباكات كالتي حدثت مؤخرًا مع الدروز.
إذًا، يتمحور إرث نظام الأسد فعليًا حول ثلاث نقاط أساسية: بلادٌ مُفكّكة حُرِّضت مجموعاتها الاجتماعية مرارًا وتكرارًا على بعضها البعض بدلًا من دمجها في إطار هوية وطنية جامعة؛ ومؤسساتٌ ضعيفة للغاية لأن الحفاظ على وحدة البلاد كان يقع بالكامل تقريبًا على عاتق الأجهزة الأمنية؛ واقتصادٌ مُنهار، مُثقلٌ بعبء العقوبات، ومخنوقٌ ببيروقراطية مُعطِّلة، وبعقلية التغاضي بدلًا من تخطيط السياسات العامة.
يونغ: يبدو أن لإسرائيل نيّة واضحة في تقسيم سورية واستبدالها بكيانات طائفية أو إثنية، ما يتعارض مع رغبة تركيا في تعزيز وحدة سورية. هل يمكن برأيك أن ينجح مشروع التجزئة، أو التقسيم، وكيف ترى حصيلة التنافس الإسرائيلي التركي في سورية؟
هارلينغ: لإسرائيل أيضًا نيّة واضحة في التخلُّص من 2 مليون فلسطيني في غزة بطريقة أو بأخرى، وسط نفيها الاتّهامات بارتكاب إبادة جماعية. إسرائيل تعيش حالةً من الغطرسة المدمّرة، ويصدر عنها شتّى أنواع الأفكار الجامحة، على غرار أنها سوف تقضي على القضية الفلسطينية، وتسحق أشكال المقاومة كافة، وتُنهي ما يُعرف بمحور المقاومة، وتُفكّك سورية، وتطرد الملايين إلى الأردن، وتطبّع العلاقات مع دول الخليج ولبنان، وتعيد تشكيل المنطقة وكتابة التاريخ وغيرها. والأهم أنها لن تقدّم في المقابل أي تنازلات، وستنجح في الإفلات من المحاسبة وفي تحقيق كلّ أهدافها من دون خطة مُحكمة حتى.
إن التحالف مع الأقلّيات في المنطقة، سواء في سورية وخارجها، عبارة عن استراتيجية إسرائيلية قديمة ومستهلكة تعكس غياب التفكير الجديد والواقعي. فبدل أن تنبع طروحات إسرائيل من سياسات عامة عملية، فهي تقدّم تصوّرًا غير واقعي وخطير له عواقب مأساوية على الأرض. أما تركيا فستضطلع بنفوذٍ أكبر بكثير في سورية، لأن النهج الذي تعتمده، وإن كان تدخليًّا وصارمًا ويخدم مصالحها، يُعدّ أيضًا عمليًا وواضحًا وقائمًا على الصفقات، إذ يُعطي القيادة السورية هامشًا للتفاوض. في المقابل، الجميع في حيرة من أمره في ما يتعلّق بالتفاوض مع إسرائيل لأنها تريد الحصول على كلّ شيء من دون أن تقدّم شيئًا في المقابل. وقد دفعها دعم شركائها الغربيين إلى الاعتقاد بأن في وسعها تحقيق ذلك.
يونغ: هل يمكن تحقيق التعافي في سورية، أو حتى في لبنان، في حال عجزت سورية عن التوصّل إلى تسويةٍ ما بين مختلف طوائفها ومجموعاتها الإثنية؟ أم تعتقد أن سورية ستعود ساحةً للتنافسات الإقليمية، وسط سعي الدول الخارجية إلى استغلال الخلافات والانقسامات الطائفية في البلاد؟
هارلينغ: يتكرّر شعار الوحدة في العالم العربي المعاصر كما لو أن الانقسامات أمرٌ مخجلٌ وكارثيٌ وعصيّ على الإصلاح، في حين أنها في الواقع الحالة الطبيعية لأي مجتمعٍ، سواء في هذه المنطقة أو غيرها. فجوهر السياسة يتمثّل تحديدًا في تنظيم هذه الاختلافات بطريقة تُمكّن الجميع من التعايش معًا بشكلٍ سلمي، بدلًا من محاولة محوها. فعملية الانتقال السياسي، على غرار ما تشهده سورية اليوم، ستسلّط الضوء حكمًا على جميع أنواع الخلافات. وإذ يُنظر إلى التوترات الطائفية والإثنية في الكثير من الأحيان على أنها من المحرّمات، إلا أنها ليست سوى ليست سوى جانبٍ واحد من هويات أكثر تعقيدًا بكثير. ثم ماذا عن الانقسامات الطبقية، أو مسألة إعادة توزيع الثروات الوطنية؟ أو التيارات الإسلامية السنيّة الكثيرة؟ أو دور القبائل في المشهد السياسي الراهن؟ وماذا عن العلاقة بين المركز والأطراف؟ بسبب هذا الهوس بالوحدة، إن مجرّد طرح قضايا بسيطة وواضحة، مثل اللامركزية الإدارية، يثير مخاوف من أن يؤدّي إلى تفكّك الدولة.
آمل أن تشكّل سورية سابقةً جديدةً في هذا الصدد، من خلال إرساء نظامٍ يعترف بالاختلافات ويؤمّن التمثيل السياسي لجميع المكوّنات، من أجل إحداث قطيعةٍ مع هذا البديل المضلِّل بين إمّا الوحدة القمعية، أو الانقسام الفئوي المدمِّر. في غضون ذلك، لا يمكن اعتبار السياق الإقليمي مفيدًا بشكل خاص في هذا الصدد، لكنه ليس في أسوأ حالاته أيضًا. فسورية باتت اليوم بعيدةً عن مستوى التدخلات الخارجية التي مزّقت العراق في مرحلة ما بعد العام 2003، باعتبار أنها سبق أن خاضت حربًا أهلية مموّلة من القوى الخارجية. وعلى الرغم من التدخّل العسكري لكلٍّ من إسرائيل وتركيا في سورية، ما من مؤشرات كثيرة تُذكر حاليًا على رغبة أي طرفٍ في تسليح وكلاء في البلاد. وصحيحٌ أن سورية لم تَعُد ساحة قتال الآن، إلّا أنها لم تطلق بعد عملية إعادة الإعمار، إذ إن القوى الخارجية غير مهتمة كثيرًا في استثمار مواردها من أجل إرساء الاستقرار في البلاد. وهذا يعني أن الاستقرار لن يتحقّق بتدفّق الأموال من الخارج، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي. هذا الواقع يزيد من حجم الرهانات والمخاطر المُحدقة بالعملية الانتقالية، لكنه في أفضل الأحوال قد يُفضي إلى نتائج أكثر ثباتًا واستدامة.
بيتر هارلينغ هو مؤسّس ومدير مختبر سينابس (Synaps) للأبحاث، وهو عبارة عن منظمة متخصّصة في شؤون البحر المتوسط، تقدّم تحليلات مُعمّقة بهدف التوصّل إلى حلول عملية للقضايا الآنية. عمل سابقًا في مجموعة الأزمات الدولية لنحو عشر سنوات، ويتمتّع بخبرة 30 عامًا تقريبًا في منطقة الشرق الأوسط، وعاش في دمشق بين العامَين 2006 و2014. أجرت “ديوان” مقابلة معه في مطلع أيار/مايو للاطّلاع على وجهة نظره حيال التطوّرات في سورية، وخصوصًا العلاقة بين نظام أحمد الشرع الراهن والأقلّيات، في ضوء تصاعد التوترات الطائفية مؤخرًا في البلاد.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط
—————————————
ماذا تقول المدارس الاقتصادية غير التقليدية عن تجارب إعادة الإعمار؟/ محار البحر علي
رؤيةٌ للاقتصادِ السوري وإمكانية الاستفادة من تجارب ناجحةٍ حول العالم
16-06-2025
بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024، بدأت تتبلور ملامح رؤية اقتصادية جديدة في سوريا، تقوم من جهة على تشجيع الاستثمار الخارجي حتى في القطاعات الحيوية وعلى إعادة هيكلة القطاع العام، ومن جهة أخرى على تقديم خطاب رسمي يُؤكد دعم المنتج الوطني وتحفيز القطاعات الزراعية والصناعية. وقد عبّرَ وزير الاقتصاد، محمد نضال الشعار، عن هذه التوجهات في أكثر من مناسبة، مُشدِّداً على أن الرؤية الانتقالية تهدف إلى خلق بيئة استثمارية جاذبة في القطاعات الاستراتيجية، مع ضمان أن الخصخصة لا تعني التخلي عن ملكية الدولة، بل «إدارة الأصول العامة لصالح الشعب»، على حدّ تعبيره.
ورغم جدية هذه الرؤية، إلا أنها في جوهرها ما تزال أقرب إلى المقاربات الليبرالية، 1 خصوصاً مع غياب سياسة صناعية وطنية واضحة، وغموضٍ مُستمر يُحيط بملفات أساسية، مثل: آليات ضبط التجارة الخارجية، ونظام التسهيلات الجمركية، وشكل قانون الاستثمار الجديد، وطبيعة إعادة هيكلة المؤسسات العامة. ويزداد هذا الغموض في ظل العقود التي تُبرمها الدولة حالياً مع مستثمرين خارجيين في قطاعات حيوية، كاتفاقية توليد الطاقة الكهربائية الموقعة مع تحالف دولي بقيمة 7 مليارات دولار، واتفاقية تطوير وتشغيل ميناء طرطوس مع شركة إماراتية بقيمة 800 مليون دولار. ورغم أن هذه الاتفاقيات تفتح المجال أمام تحديث البنية التحتية وتحفيز النمو، إلا أن تسليم مفاتيح قطاعات حساسة كالكهرباء والمرافئ لشركات أجنبية في غياب مؤسسات رقابية قوية يُثير مخاوفَ حقيقية بشأن مستقبل السيادة الاقتصادية، وعدالة توزيع العوائد، وتوازن العلاقة بين القطاعين العام والخاص في مرحلة حرجة من إعادة بناء الدولة.
وعلى هذا الأساس، فإن الدفع نحو تقليص الدور التدخلي للدولة، والاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي في غيابِ استراتيجيةٍ إنتاجية واضحة ومتماسكة، أو إطار قانوني صارم لإدارة الاستثمارات، لا يبدو ملائماً لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تتطلب دوراً مؤسسيّاً نشطاً للدولة، يضمن حماية المصالح الوطنية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
لا شك أن السياسات الاقتصادية المُعتمِدة على تحرير السوق نجحت في سياقات عدة، لكن متى؟ وماذا فعلت الاقتصادات الأقوى عندما كان اقتصادها مُدمراً؟ في كتابه التخلي عن السلم، 2 يُسلط الباحث ها-جون تشانغ الضوءَ على الكيفية التي دعمت بها الدول المتقدمة نموها الاقتصادي من خلال تدخل مباشر للدولة في حماية وتنمية قطاعات اقتصادية معينة، ووضع سياسات تجارية تدعم الإنتاج الوطني وتحد من حرية التجارة، وهو نهج يتناقض مع السياسات الليبرالية السائدة، التي تُقلّص دورَ الدّولة في الاقتصاد وتُحرّر القطاع التجاري. يستعرض تشانغ تجارب اقتصادات كبرى مثل الولايات المتحدة واليابان، حيث لعبت الدولة دوراً محورياً في الاستثمار ودعم القطاعات الإنتاجية خلال مراحل إعادة الإعمار، قبل أن تتجه لاحقاً إلى سياسات السوق المفتوح بعد تحقيق نمو اقتصادي مُستدام.
إن هذه التجارب تشير إلى أن السياسات الليبرالية المعتمدة على تحرير السوق – أو ما يُعرف بالاقتصاد السائد (Mainstream Economics) – ليست بالضرورة الخيار الأفضل كأساس لإعادة بناء الاقتصاد السوري. لذلك أَستعرضُ في هذا المقال رُؤى بديلة نظريّة من مدارس الاقتصاد غير التقليدية (Heterodox Economics)، مع التركيز على تجارب دول تبنّت سياساتٍ غير تقليدية في إعادة بناء اقتصادها بعد الحرب، وسأحاول إبقاء التركيز على الجانب الاقتصادي، لتجنُّب التشتت، دون إغفال الأبعاد الأمنية والسياسية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من أي عملية إعادة إعمار.
دور الدولة في الاستثمار والاقتصاد بعد الأزمات والحروب: ضرورة أم خطر؟
بالنسبة للبعض – خاصةً من عايشوا التجربة القاسية لتدخل الدولة في الاقتصاد السوري – قد يبدو الحديث عن دور تدخلي للدولة بمثابة إنذار بالخطر. هل نحن بصدد الدعوة إلى اقتصاد اشتراكي؟ لا، لنتمهل قليلاً!
إذا نظرنا إلى التجارب الاقتصادية العالمية بمنظور أكثر مرونة، بعيداً عن ثنائية «ليبرالي مقابل اشتراكي»، سنجد أنه حتى الدول التي تُعدّ مهد النيوليبرالية، مثل الولايات المتحدة، قد تبنّت في مراحل معينة سياسات إنفاق حكومي ضخمة لإنقاذ الاقتصاد. خلال أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، أطلقت إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت برنامج «الصفقة الجديدة» (New Deal)، الذي تضمّنَ مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق وبرامج تشغيلية مدعومة حكومياً، ما ساهم في انتشال الاقتصاد الأميركي من أزمته، وتم إنشاء إدارة الأشغال العامة (Public Works Administration) التي موّلت بناء أكثر من 34,000 مشروع بنية تحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والجسور. كما أُنشئت إدارة تقدم الأعمال (Works Progress Administration) التي وفّرت وظائف لـ 8 ملايين شخص في مشاريع الأشغال العامة خلال ثمان سنوات.
من منظور اقتصادي غير تقليدي، لا يقتصر دور الدولة على الاستثمار في البنية التحتية، بل يمتد إلى التدخل الاستراتيجي في تحديد أولويات الاستثمار وتوجيهه نحو القطاعات ذات العائد المرتفع، لتحقيق نمو اقتصادي تراكمي ومُستدام. على هذا الأساس، تبنَّت كوريا الجنوبية عقب الحرب الكورية سياسات صناعية استراتيجية، حيث دعمت شركات «تشيبول» الكبرى مثل سامسونج وهيونداي، عبر تقديم تسهيلات مالية وإعانات حكومية، مما ساهم في بناء اقتصاد صناعي قوي من الصفر. ففي الفترة بين(1962) و(1995) ازداد الدخل الحقيقي بمعدل 15 ضعفاً، وحقّقَ الناتجُ المحليُّ نمواً سنوياً بما يقارب الـ 9 بالمئة.
في اليابان، لعبت الدولة دوراً أساسياً في توجيه الاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا، عبرَ سياسات حكومية داعمة ساهمت في تحقيق نموٍ اقتصاديّ سريع ومُستدام، وبعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت الحكومة اليابانية وزارة التجارة الدولية والصناعة (MITI) التي كانت مسؤولة عن توجيه الاستثمارات وتطوير الصناعات الاستراتيجية. نتيجة لهذه السياسات، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لليابان بمعدلِ نموٍ سنوي بلغ حوالي 9.7 بالمئة بين عامي (1950) و( 1973)، مما جعلها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم.
على الرغم من اختلاف السياقات، تُقدِّم هذه التجارب دروساً قيّمة يُمكن الاستفادة منها في إعادة بناء الاقتصاد السوري، مع التركيز على سبل تكييفها مع الواقع السوري لضمان تحقيق تنمية، ومن الجدير بالذكر أن تبنّيَ مثل هذه السياسات في سوريا يرتبط بعوامل جيوسياسية، مثل مدى تأثير القوى الإقليمية والدول المانحة على القرارات الاقتصادية. لكن مع ذلك، من المهم أن تُطرح نماذج اقتصادية بديلة، كالتجربة الكورية أو اليابانية، للاستفادة منها في تحديد قطاعات استراتيجية، مثل الطاقة المتجددة، التكنولوجيا الزراعية، والصناعات التحويلية، ومنحها دعماً حكومياً خاصاً لخلق قيمة مضافة وتعزيز النمو الاقتصادي.
المبدأ النظريُّ الداعم لسياسات الدولة التدخليَّة
تقوم بعض السياسات الداعية للتدخل الحكومي على الأسس النظرية للاقتصاد الكينزي، التي تُؤكد على أهمية «الطلب الفعّال» والإنفاق العجزي، خاصةً في فترات الركود أو بعد الأزمات الكبرى. بحسب كينز، يُمكن للإنفاق الحكومي أن يسدَّ فجوة الطلب، ويخلق فرص عمل، ويُحفّز النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات.
يَعتمد هذا الطرح على مفهوم «المضاعف الاقتصادي» (Multiplier Effect)، حيث تُؤدي الاستثمارات الحكومية إلى زيادة الدخل العام للمواطنين، مما يرفع الطلبَ الكلي، ويُحفز الشركات على زيادة الإنتاج، وهو ما يُولِّد دورة من النمو المستدام. على سبيل المثال، عندما أطلقت الولايات المتحدة برنامج «الصفقة الجديدة» خلال أزمة الكساد الكبير، قامت الدولة بإنفاق حكومي واسع على مشاريع البنية التحتية، مما ساهم في خلق ملايين الوظائف وتحقيق انتعاش اقتصادي.
من أين ستحصل الدولة على مصادر التمويل؟
إذا سلّمنا بدور الدولة في تحفيز الاقتصاد، فمن أين ستحصل على مصادر التمويل؟ هنا تبرز بدائل غير تقليدية تختلف عن السياسات المطروحة في المدارس الاقتصادية السائدة، التي تعتمد غالباً على زيادة الضرائب وتسريح العمالة. فمن الممكن للدولة أن تتحمل مستويات أعلى من العجز في الميزانية بشرط توجيه التمويل نحو القطاعات المنتجة، كما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ اعتمدت على مزيجٍ من الاقتراض الحكومي وتسهيلات التمويل النقدي، إلى جانب دعم البنوك لتوفير قروضٍ منخفضة التكلفة للشركات، مما ساعدها في إعادة بناء اقتصادها الصناعي.
وعلاوة على ذلك، يُعتبر خفض أسعار الفائدة على الاقتراض من السياسات التي تشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي. فقد حافظ بنك اليابان على معدلات فائدة منخفضة جداً في الخمسينيات، مما ساهم في تحفيز الاقتراض وتوسيع الاستثمارات. وبالمثل، تبنت كوريا الجنوبية سياسة «الإقراض الموجّه» من خلال تقديم قروض بأسعار فائدة منخفضة للمؤسسات الصناعية، مما أدى إلى ازدهار قطاع التصنيع وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.
كما لعبَ التوسّع النقدي والتّيسِيرُ الكميّ دوراً مهماً في تحفيز النشاط الاقتصادي 3 بعد الأزمة المالية العالمية في العام (2008). فقد قامت بنوك مركزية في دول مثل الولايات المتحدة واليابان بضخ سيولة إضافية في الأسواق عبر شراء الأصول المالية، بينما استخدمت دول نامية مثل البرازيل وتركيا آليات مشابهة، حيث قدمت البنوك الحكومية تمويلاً ميسراً لقطاعات الزراعة والصناعات التحويلية. إلا أن تطبيق هذه السياسات يستدعي رقابة صارمة على معدلات التضخم، إذ إن ضخ السيولة دون ضوابط يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار أو تكوين فقاعات اقتصادية في بعض القطاعات.
هناك فرصة ذهبية في سوريا، تتمثل في أموال ومساعدات نقدية من الدول في ملف إعادة الإعمار، حيث أن استثمارها وفقَ خطّة اقتصادية متكاملة، يضمن نمو القطاعات المُنتجة ودعم الطلب الفعّال ما قد يُحدث فرقاً كبيراً في مستقبل سوريا الاقتصادي.
دعم القطاع الخاص ودوره
يُمكن للدولة تعزيز دور القطاع الخاص من خلال آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو الأمر الذي تحدّثَ عنه أيضاً وزير الاقتصاد الشعار، وقد تُطبَّق هذه الشراكة في المشاريع التي تتطلب استثمارات ضخمة، مع ضمان دعم الدولة للمخاطر الأولية أو تقديم حوافز مالية مثلاً في مجال البحث العلمي، إذ شهدت اليابان ارتفاع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير من حوالي 0.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في الخمسينيات إلى ما يقارب 2 بالمئة في السبعينيات، مما ساهم في تطوير تقنيات متقدمة وتحويلها إلى قوة صناعية عالمية.
لا شك أن الواقع الاقتصادي السوري بالغ التعقيد، إذ يُعاني من مؤسسات أنهكها الفساد، وبنية تحتية متهالكة، واعتماد كبير على الاقتصاد غير الرسمي، إضافة إلى معدلات فقر مرتفعة وانهيار في العملة. لكن، ورغم هذه التحديات، من الضروري النظر إلى تجارب اقتصادية أخرى لدول خرجت من أزمات وحروب والاستفادة منها، لا سيما في ظل الجدل الأكاديمي العالمي حول دور السياسات غير التقليدية في تحفيز النمو الاقتصادي.
هناك توجه متزايد بين بعض الاقتصاديين نحو سياسات تعتمد على تحفيز الطلب المحلي عبر خفض الضّرائب، وتوجيه العجز المالي نحو دعم القطاعات المُنتجة، كوسيلة لدعم النمو الاقتصادي. في بلد كَسوريا، حيث يُشكّلُ الشباب نسبةً كبيرة من السّكان، يُمكن لهذه السياسات أن تُوفر فرصاً اقتصادية جديدة، وتعزز الإنتاج المحلي، مما يُسهم في تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي وتحقيق قدر من الاستقلال الاقتصادي.
لا تقتصر التحديات على الجانب الاقتصادي فقط، بل تشمل أيضاً الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وإعادة النازحين، ووضع سياسات تنموية تستهدف الأرياف والمناطق المهمشة تاريخياً. لذا، يقع على عاتق الجهات الحكومية، والأكاديمية، وكذلك المجتمع المدني، أن تلعب الدور الأساسي في تحليل هذه الملفات وتطوير حلول اقتصادية مستدامة تلبي احتياجات الواقع السوري.
* * * * *
محار البحر علي هي خريجة ماجستير تحليل سياسات اقتصادية من جامعة Université Paris 13 Sorbonne Paris Cité وماجستير تنمية اقتصادية من جامعة Witwatersrand.
1.الطرق الليبرالية في صياغة السياسات الاقتصادية، تترك للسوق اليد الحرّة في التعاملات الاقتصادية وبناء المشاريع والتشغيل، وحتى الاستثمار بالخدمات الأساسية كالكهرباء والماء، وتُقلّص دور الدولة إلى حد كبير في تحديد أولويات التنمية، والسياسات الاجتماعية التنموية
2. Emblemsvåg, Jan. «Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical Perspective». On the Horizon, vol. 13, 2005, pp. 186-191. ResearchGate.
3. محمد طرشي ونبيل بو فليح، «دور البنوك المركزية في تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي»، مجلة معارف (vol. 12, no. 22, 2017, pp. 327-339
موقع الجمهورية
————————————–
الشهادة الثانوية في سوريا.. نهاية مرحلة خوف للشباب السوريين أم إعادة إنتاجها؟/ فاطمة عبود
2025.06.17
لطالما شكَّلت الشهادة الثانوية في سوريا، أو ما يُعرف بالبكالوريا، محوراً مركزياً في مصير الأفراد وخياراتهم المستقبلية، من خلال بعدها التعليمي من جهة، وتداخلها مع نظام الدولة السياسي والأمني والاجتماعي من جهة أخرى، ومن هذا المنطلق فإنَّ فهم الحالة الراهنة لهذه الشهادة، يتطلَّب تفكيك بنيتها السابقة ضمن منظومة الاستبداد التي رسَّخها نظام الأسد لعقود، إذ لم تكن الامتحانات المدرسية، ولاسيما امتحان البكالوريا، مجرد أدوات تقييم معرفية، بل كانت جزءاً لا يتجزَّأ من منظومة ضبط اجتماعي وسياسي شديد المركزية، جعل من التعليم وسيلة للانتقاء والتصفية والتحكم في مصائر الأفراد.
اكتسبت نتائج البكالوريا في السياق السوري بعداً إضافياً يرتبط مباشرةً بالخدمة العسكرية، وذلك خلال سنوات الحرب، حيث كان النجاح في الشهادة الثانوية كفيلاً بتأجيل التجنيد الإجباري، في حين أنَّ الرسوب كان بمنزلة أمر مباشر بالتوجُّه إلى شُعب التجنيد، ما حوَّل هذه الشهادة إلى جدار صدٍّ مؤقَّت في وجه المصير العسكري القسري، وبالتالي فإنَّ آلاف الطلاب كانوا ينظرون إليها باعتبارها وثيقة قانونية تسمح لهم بالبقاء في الحيز المدني فترة أطول، وتجنِّبهم الانخراط الفوري في جهاز الدولة العسكري، ما خلق امتداداً لانهيار العملية التعليمية في مراحل التعليم العالي أيضاً، لأنَّ الطلاب كانوا يستهدفون المراوحة لسنوات إضافية في هذه المرحلة التعليمية التي ما استطاعوا الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد. ومع تعمُّق هذه الوظيفة غير الأكاديمية، باتت البكالوريا أقرب إلى معركة بقاء منها إلى اختبار معرفي، وأصبحت مصدر رعب يتجاوز القلق الامتحاني الطبيعي إلى خوف وجودي حقيقي، مرتبط بتغير جذري في مصير الفرد.
وهكذا تحولت المؤسسات التعليمية إلى ساحات تدريب على الخوف والطاعة، فالأسر كانت تنفق كلَّ مواردها النفسية والمادية لضمان عبور أبنائها هذا الامتحان، وبأيِّ وسيلة، لا بهدف الدخول إلى الحرم الجامعي، بل لتأخير موعد دخولهم إلى الميدان العسكري، وفي هذا السياق المشوّه انقلبت العلاقة بين الطالب والمدرسة من علاقة بحث عن معرفة إلى علاقة دفاع عن النفس، في حين فقدت الشهادة معناها الأصلي بوصفها تمثيلًا للتحصيل الدراسي، وتحوَّلت إلى أداة قسرية لإعادة توزيع الأفراد على وظائف الدولة الأمنية.
إنَّ كلَّ ذلك خلق شبكة علاقات مشوهة داخل المنظومة التعليمية نفسها، ما أدَّى بدوره إلى نشوء سلوكيات طلابية قائمة على القلق المزمن، وانهيار في مفهوم العدالة التربوية الذي يفترض أن يكون أساساً لكل نظام تعليمي، فلا يمكن فهم سلوكيات مختلفة مثل؛ الغش الامتحاني، والشهادات المزورة، والدروس الخصوصية في سوريا خارج هذا الإطار، إذ لم تكن هذه الظواهر مجرد مشكلات تربوية تقليدية، بل انعكاساً مباشراً لحالة رعب بنيوي تأسس منذ ربط النظام بين شهادة الثانوية والتجنيد، ولذا فإنَّ الطالب لم يكن فقط مطالباً بتحصيل المعرفة، بل كان مجبراً على الفوز في سباق ماراثوني مع الزمن ومع سياسات الدولة.
وإذا تأملنا في التوزيع الاجتماعي والاقتصادي لنتائج البكالوريا خلال سنوات النظام الأسدي نجد أنَّها كانت تتناسب طرداً مع قدرة الأسرة على الإنفاق على التعليم الموازي والخصوصي، وهو ما يعني أنَّ النجاح لم يكن دوماً مؤشراً على الجدارة العلمية، بل على القدرة على البقاء ضمن دائرة الحماية من التجنيد، المرتبط أصلاً بالحالة الاقتصادية للأسرة، ومن هنا نشأت علاقة ملتوية بين المجتمع والمؤسسات التعليمية، علاقة قائمة على الخوف والتواطؤ والتنازلات، عوضاً عن أن تكون المدرسة فضاءً لبناء الذات، ومن ثم المجتمع.
لقد ترسَّخ هذا الوضع وتراكم لسنوات في الوعي الجمعي السوري، فشهادة البكالوريا هي مجرد قدر ومصير، وهو ما يفسر حجم الرعب الذي يسبقها، والطقوس الاجتماعية التي ترافقها، من الدعاء الجماعي إلى حالات الانهيار النفسي، وحتى الأحاديث المتوارثة عن ضحايا البكالوريا، والتي لم تكن مجازية في بعض الأحيان، إذ شهدت البلاد حالات انتحار أو انهيارات عصبية حادة بسبب هذا الامتحان، كلُّ ذلك كان نتيجة مباشرة لتسييس التعليم وتجنيد نتائجه في خدمة أجهزة الدولة.
وعلى الرغم من أنَّ البنية الشكلية للتعليم لم تتغير بعد اندلاع الثورة، فإنَّ سقوط النظام الأسدي مثَّل بداية انفكاك رمزي على الأقل بين التعليم والتجنيد، وهو ما فتح الباب أمام نقاش واسع حول ضرورة استعادة وظيفة الشهادة الثانوية بوصفها وثيقة أكاديمية تعكس استحقاقاً معرفياً فقط، لا علاقة لها بسياسات السيطرة أو الاستثناء، إذ إنَّ إحدى أولويات الحكومة الانتقالية والمؤسسات التعليمية يجب أن تشمل إعادة تعريف العلاقة بين الطالب والدولة، غير أنَّ هذا المسار لا يزال في بدايته، وما زال محكوماً بتراكمات رالعقود السابقة، إذ لا تزال النظرة السائدة إلى البكالوريا تنطوي على قلق نفسي بنيوي لا يرتبط فقط بنتائج الامتحان، بل بإرث سياسي واجتماعي طويل من الرعب المؤسسي. كما أنَّ انعدام الثقة الكامل بالنظام السابق قد انعكس أيضاً في رفض أيِّ شكل من أشكال الإدارة المركزية التعليمية، ما خلق بيئة غير مستقرة لإعادة بناء النظام التربوي، ومع ذلك فإنَّ فرصة بناء نظام تعليمي متكامل يؤمن بتعدد المسارات، ويربط التعليم بحاجات المجتمع، لا بمخاوفه، ويرتكز إلى العدالة في التقييم، لا تزال قيد الدراسة والتنفيذ. وفي حال تمكَّنت المؤسسات التعليمية الجديدة من تحقيق هذا التحوُّل فإنَّ الشهادة الثانوية يمكن أن تستعيد معناها الأصلي بوصفها تمثيلاً للجدارة والتعلُّم، لا بوصفها صكَّاً للنجاة من تجنيد قسري، وهو ما يشكل الأساس لأي إصلاح تعليمي حقيقي في سوريا ما بعد الاستبداد.
تلفزيون سوريا
——————————-
ماذا يمنع قيس سعيّد من التواصل مع الشرع؟/ عمر كوش
يثير موقف النظام التونسي تجاه الإدارة السورية الجديدة، والرئيس أحمد الشرع، تساؤلاتٍ عديدة عن وجاهة الموقف وحيثياته، إذ لم يكلّف الرئيس قيس سعّيد نفسه التواصل مع نظيره السوري بالافتراق عن مواقف غالبية القادة العرب، فلم يرسل برقيةَ تهنئةٍ إلى الشرع، ولا وفوداً دبلوماسية لإجراء محادثاتٍ مع الإدارة السورية، بل لم يخرج من الحكومة التونسية أيّ موقفٍ يعبّر عن دعمها تطلّعات الشعب السوري، ما يعكس نوعاً من الموقف الرافض للتغيير الحاصل في سورية بعد فرار بشّار الأسد.
يطاول السؤال هنا مدى تماشي هذا الموقف مع مصلحة الدولة والشعب التونسيين والعلاقات العربية، ويطاول كذلك العائق الذي يقف حائلاً دون تواصل سعيّد مع الشرع، وعمّا إذا كان يعكس موقفه الأيديولوجي، الذي يضعه في موقف الرافض للتغيير السوري، خشية تأثير نموذجه في سرديته التي استخدمها لتبرير إحكام قبضته على الوضع التونسي.
يبدو أن الموقف التونسي من الإدارة السورية الجديدة يتّسق مع الانقلاب الدستوري الذي قام به سعيّد من خلال الإجراءات الاستثنائية التي فرضها في 25 يوليو/ تموز 2021، وأفضت إلى ضرب الحياة السياسية، وإغلاق البرلمان، والسيطرة على قصر الحكومة، وفرض حالة الطوارئ في البلاد، وما استتبعها مع إجراءات وخطوات. كما يتّسق مع دور العرّاب الأول الذي حاولت الرئاسة التونسية أن تلعبه من أجل إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية، وعودته إلى الحضن العربي، ويتّسق أيضاً مع الخطوات التطبيعية معه التي بدأتها في 5 يوليو/ تموز 2022، حين التقى وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، بالرئيس التونسي على هامش احتفالات الذكرى 60 لاستقلال الجزائر. وقتها، لم يكتف سعيّد بالطلب من المقداد “نقل تحياته إلى بشّار الأسد”، بل راح يتفاخر بأن “الإنجازات التي حقّقتها سورية، والخطوات التي حقّقها الشعب التونسي ضدّ قوى الظلام والتخلّف، تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبَين الشقيقَين في سورية وتونس”، في تماهٍ كامل بين سرديتي نظامه ونظام الأسد. وتلا اللقاء إعادة فتح السفارتَين التونسية والسورية في كلّ من دمشق وتونس في 12 إبريل/ نيسان 2023. ثمّ جرى لقاء ودود جداً بين قيس سعيّد وبشّار الأسد في 19 مايو/ أيار 2023 في جدّة، على هامش أعمال القمة العربية، فلم يفوّت سعيّد الفرصة في ذلك الوقت كي يهاجم حركة النهضة، مدّعياً أن “هذا اللقاء التاريخي يعكس علاقات الأشقّاء بين تونس وسورية، بعكس ما ادّعاه بعضهم في وقت من الأوقات، بأنهم أصدقاء سورية، في حين أنهم ساهموا في معاناة الشعب”. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنه عند بداية “ردع العدوان”، العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية، أصدرت الخارجية التونسية بياناً في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ندّدت فيه “بشدّة بالهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سورية”، وأعربت عن “تضامنها التام مع الجمهورية العربية السورية”. وبعد فرار بشّار الأسد إلى روسيا (8 ديسمبر/ كانون الأول 2024) بيوم، اضطرت تونس الرسمية إلى إجراء تعديل طفيف على موقفها، فلم تكرّر حديثها عن “هجمات وجماعات إرهابية في سورية”، بل اكتفت بكلام عامّ عن سلامة الأراضي السورية ووحدتها أولوية بالنسبة إليها. تجادل تونس الرسمية بأنها عانت من الجماعات الإسلامية التي تصفها بالمتطرّفة، ولا تزال تعتبر الإدارة السورية جماعةً متطرّفةً استولت على الحكم بالقوة، ولا تنظر في سلوك الإدارة خلال الستّة أشهر الماضية، وما صاحبها من تغييرات كثيرة. إضافة إلى أن الحكومة التونسية تتذرّع بمخاوفها من عودة المقاتلين التوانسة الذين انضمّوا إلى فصائل المعارضة السورية إلى بلادهم، ولا تأخذ في الاعتبار أن الإدارة السورية لن تسمح لهم بتهديد أحد، فضلاً عن أنها بدأت بحلّ مشكلتهم عبر خطّة تقضي بدمجهم في الجيش السوري الجديد، وهو حلّ نال موافقة الولايات المتحدة، ومعها موافقة معظم البلدان التي ينحدر منها المقاتلون الأجانب في سورية. وكان الأجدى بالحكومة التونسية أن تتواصل مع الإدارة السورية بغية البحث عن مخرج مشترك لوضعهم، بوصفهم مواطنين تونسيين، بدلاً من أن تتّخذ إجراءات أحادية من أجل منع عودتهم إلى بلادهم، مع العلم أن غالبيتهم العظمى ليست في وارد العودة إليها. فضلاً عن أن التقارير الحقوقية الدولية تفيد بأن معظم المقاتلين التوانسة في سورية انضموا إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويوجد حالياً القسم الأعظم منهم في سجون قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فيما تُحتجَز عائلاتهم في مخيَّمي “الهول” و”روج”. وهو أمر تصمت عنه الحكومة التونسية.
مثّل سقوط الأسد السريع ما يشبه الزلزال بالنسبة إلى رصفائه وداعميه، وغيّرت أنظمة عديدة مواقفها من الإدارة السورية الجديدة بعد إسقاطه، بالنظر إلى اعتبارات عديدة، وخصوصاً الرسائل المطمئنة التي أرسلتها دمشق إلى كلّ دول الجوار والعالم، بأنها لن تكون مصدر تهديد لأيّ منها، بل تسعى إلى أن تكون دولةً طبيعيةً، تبني علاقاتها الدولية بناءً على الحوار والتفاهم والمصالح المشتركة، الأمر الذي قابلَته دول الإقليم، ودول الخليج العربي على وجه الخصوص، بقبول ما حمله التغيير السوري، وباحتضان غير مشروط له، وكذلك فعلت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكنّ تونس ما زالت ترفض القبول بما حملته رياح التغيير السوري، بالنظر إلى أن أنظمتها بنت سرديّتها الانقلابية على صراعها مع جماعات إسلامية، وتتّخذ موقفاً يضع كلّ الجماعات الإسلامية في سلّة واحدة. والأهم أن هذه الأنظمة ترى في النموذج السوري خطراً عليها، لأنه يقدّم نفسه نموذجاً متصالحاً مع العالم والمجتمع، الأمر الذي تراه هذه الأنظمة حافزاً جديداً لتحرّك شعبي ضدّها، خصوصاً أنها تشهد تفاقمَ وتيرة الاستياء الشعبي المتراكم ضدّ سياساتها، التي أفضت إلى تدهور الوضع المعيشي لشعوبها، وتفشّي الفساد في مختلف مفاصل حكمها.
العربي الجديد
————————————
أما وقد سقط النظام… هل يستعيد الفن السوري حريته؟/ حسن الملا و عبدالله الشعّار
الثلاثاء 17 يونيو 2025
لم يتوانَ نظام الأسد، منذ نصف قرن، عن تنفيذ سياساته الهادفة إلى قولبة الناس وتأهيلهم في مختلف نواحي الحياة، فتحولت الأفكار إلى معلّبات توضع على الرفوف، معروفة مكوناتها مسبقاً.
وليس سرّاً أنه أفرغ المشهد السياسي من أيّ تعددية حقيقية، حيث تحولت الأحزاب إلى انعكاس شكلي لحزب البعث الحاكم، كما قوّض النظام العملية التربوية والتعليمية لتكريس فكر أحادي بعيد عن الإبداع والنقد.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد دفع العموم إلى الانشغال الدائم بتأمين لقمة العيش، محولاً الاحتياجات الأساسية من بديهيات إلى أزمات يومية طاحنة.
كما جرّد الصحافة من دورها في نقل هموم الناس وأسئلتهم، موجهاً إياها نحو تمجيد “القائد الخالد” وتعظيم إنجازاته، حتى بعد وفاته، عبر مشاهد النحيب والاستعراض الإعلامي، ولعلّ الأمثلة الأوضح على الصحف التي كانت تروّج للرواية الرسمية وتدافع عنها بشدّة: جريدة تشرين، وجريدة البعث. وشكّلت هذه المطبوعات أذرعاً إعلاميةً للنظام، تنشر خطاب السلطة وتغفل معاناة الناس وهمومهم.
تعليب الفن
من أبرز السياسات التي أرسى دعائمها الأسد الأب وورثها عنه الابن، تلك التي طالت الفن والأدب حيث سعى النظام إلى تحويلهما إلى أدوات لبسط سطوته لإنتاج مجتمع موجّه ينطق بلسان السلطة ويدافع عنها، مكرّساً بذلك فكرة القائد الإله.
كما عمل على خلق قطيعة عضوية بين الفن والأدب من جهة، والشارع من جهة أخرى، حتى بات يُنظر إليهما كوسائل للتسلية والترفيه فحسب، أو كمساحات تحتكرها عملياً فئة محددة من المثقفين والنخبويين الذين انفصلوا عن واقع المجتمع.
يُعتبر الفن والأدب من أقوى الأدوات في تشكيل الوعي البشري، إذ يمكن أن يكونا وسيلةً للتحرر وتوسيع آفاق التفكير، أو أن يصبحا في المقابل أداةً لفرض أنماط ثقافية وسياسية تخدم مصالح السلطات والممولين، وتضيّق الأفق العام.
وعلى مرّ التاريخ ستُخدم الفن لتعزيز الأيديولوجيات وتكريس السلطة، لكنه كان في أحيان أخرى أداةً لمقاومتها.
انطلاقاً من فهمه العميق لوظيفة الفن في التأثير على الوعي الجمعي، سعى نظام الأسد منذ لحظة استلامه الحكم، إلى جرّ الفنانين والكتّاب إلى خدمته، مستخدماً إياهم كمنبر للتنفيس عن الشارع خلال الأزمات الاقتصادية والسياسية، ووسيلة لترسيخ مفهوم حرية التعبير والنقد الوهمي الذي روّج له.
وفي المقابل، عمد إلى إقصاء بعض الأصوات الفنية أو الأدبية التي كانت لا تحظى برضا القائد وأجهزته الأمنية عبر التهميش أو التهجير أو حتى الاعتقال، كما حدث مع العديد من الفنانين والكتّاب الذين تم استبعادهم من المشهد الثقافي، مثل سعد الله ونوس، الذي عانى من التهميش والتهديد بسبب مواقفه النقدية والفنية التي لا تتماشى مع أجندة النظام.
سياسة الأسد في مجال الفن والأدب
لم يكن الهدف من سياسات النظام دعم الإنتاج الثقافي، بل التحكم في حدوده ورسم معالمه، حيث سُمح بالنقد لكن ضمن إطار يخدم السلطة، دون المساس بـ”الثنائي المحرّم” الذي وضعه الأسد: السياسة والقائد الإله.
فرضت هذه السياسة قيوداً صارمةً على الأدباء والفنانين، فمُنع أي إنتاج فكري لا ينسجم مع الخطوط الحمراء للنظام من النشر، إلا بموافقة أمنية تحدد مدى “مقبوليته”.
ودفعت هذه القيود العديد من الأدباء السوريين إلى مغادرة البلاد بحثاً عن منبر حرّ لكلماتهم، فيما اختار آخرون البقاء، ليجدوا أنفسهم محاصرين بشبح الاعتقال، والتهديد، والإقصاء، وأصبحت كتاباتهم مجرد أوراق مطبوعة مكدّسة بين الرفوف، مسجونة داخل هذا السجن الكبير، تماماً كما هو حال كُتّابها. من بين هؤلاء الذين اضطروا إلى مغادرة سوريا بسبب هذه القيود: فرج بيرقدار وسمر يزبك، والعديد من الفنانين منهم: ريم علي، لويز عبد الكريم، فارس الحلو.
بالتزامن مع ذلك، شهدت المكتبات العامة ودور النشر تضييقاً ممنهجاً، ومع وصول الأسد الابن إلى الحكم، تفاقمت الأزمة حتى غاب الأدب السوري عن الساحة العالمية، وانخفض عدد الكتّاب بشكل ملحوظ، بينما اضطر آخرون إلى تغيير مسارهم المهني بحثاً عن مصدر رزق يضمن لهم البقاء.
في النهاية، لم تعد الكتابة أولويةً، لا للمجتمع فحسب بل للكتّاب أنفسهم، بعدما شعر البعض أنّ معارضتهم النظام حتى من خلال أعمالهم لم تعد تتجاوز الحدود التي رسمها لهم. وكأنّ كل فعل معارض بات في جوهره تكريساً لمفهوم الأسد عن النقد والسلطة والمجتمع لا أكثر ولا أقل.
الفن بين التوجيه والتضليل
لم يقتصر تقييد حرية التعبير على الأدباء والفنانين فحسب، بل امتد أيضاً ليشمل تغييب أدب النساء، مقارنةً بما كانت عليه الأمور في مرحلة ما قبل البعث.
“انتشرت في سوريا في القرن التاسع عشر الصالونات الثقافية والأدبية، وكانت حينها الأديبات السوريات في ذروة النشاط الثقافي. ومع بداية تسعينيات القرن الماضي، حاولت كاتبات سوريات إعادة إحياء هذه الصالونات، مثل الكاتبة ملاحة الخاني عن طريق صالون “أرابيسك”، بالإضافة إلى صالون حنان نجمي الثقافي” (من كتاب “سوريا الأخرى… صناعة الفن المعارض”، للكاتبة ميريام كوك).
لم يقتصر نهج النظام السوري على التحكم في الأدب والفن عموماً، بل عمد أيضاً إلى تحجيم دور المرأة في المشهد الأدبي، مستبدلاً ذلك بصناعة صورة نمطية مشوهة للنساء السوريات من خلال الأعمال التلفزيونية التي عُرفت تحت مسمى “البيئة الشامية”، مثل “باب الحارة”، ولا يختلف الأمر كثيراً في العروض المسرحية والسينمائية، حيث سعت تلك السياسات إلى توجيه الفن ليكون وسيلةً للتنفيس عن غضب الشارع خلال الأزمات الاقتصادية والسياسية، ولكن ضمن حدود المحرّمات ذاتها.
فقد كان مسموحاً انتقاد ضابط مخابرات فاسد أو رئيس مؤسسة مرتشٍ، أو موظف يمارس الفساد، كما في مسلسلات مثل “مرايا” و”بقعة ضوء” و”يوميات مدير عام” و”الولادة من الخاصرة”، ولكن دون الاقتراب من جوهر المشكلة: النظام نفسه.
هذه الإستراتيجية سعت إلى ترسيخ فكرة أنّ الخلل ليس في رأس السلطة، بل في “بعض الأشخاص الفاسدين”، وهي الفكرة ذاتها التي باتت شعاراً غير رسمي يتداوله أنصار النظام: “هو منيح بس اللي حواليه عرصات”.
كان هذا النوع من العروض يُستغلّ رسمياً من قبل النظام ليبدو وكأنه يمنح هامشاً من الحرية، بينما كان في الحقيقة مجرد حرية موجّهة تخدم السلطة أكثر مما تُهددها. أما الأعمال الهزلية التي قدّمها همام حوت، في عهد الأسد الابن، فقد كانت مثالًا آخر على التوظيف السلطوي للفن، حيث استخدمت الكوميديا السياسية لامتصاص الغضب الشعبي، لكن دون أن تقترب أبداً من مساءلة السلطة الحقيقية.
قمع ممنهج وأدوات للهيمنة
لم يكتفِ النظام السوري بتوجيه الفن والأدب وفق مصالحه، بل سعى أيضاً إلى طمس أدب السجون بالكامل، وحارب بشراسة الكتّاب الذين وثّقوا تجاربهم داخل المعتقلات، تلك المسالخ الأمنية التي لم تكن مجرّد أماكن للاعتقال، بل مصانع لإنتاج الألم والقمع.
كل من كتب عن تجربة الاعتقال أو حاول فضح ممارسات الأجهزة الأمنية وجد نفسه في مواجهة السجن الأكبر: سوريا بأكملها. لقد أصبحت الأرض السورية سجناً مفتوحاً، حيث يمشي الناس فوق طرقات معبّدة برؤوس المعتقلين وصرخات الموت والتعذيب.
لم يكن هناك فرق جوهري بين سياسات الأسد الأب والابن، بل على العكس بلغت السيطرة على المجال الثقافي والفني ذروتها في عهد الأسد الابن، حين تحوّلت المؤسسات الثقافية إلى أدوات بعثية محضة، خاضعة بالكامل لرقابة الأجهزة الأمنية.
فقد تمت إعادة هيكلة النقابات والمؤسسات الفنية بحيث أصبح القائمون عليها أشخاصاً على صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية، مثل نقابة الفنانين ومديرية المسارح والمعهد العالي للفنون المسرحية، بالإضافة إلى المراكز الثقافية التي حملت أسماء مثل “دار الأسد للثقافة والفنون” و”مكتبة الأسد”، تكريساً لسلطته وإلغاءً للرموز الفنية والأدبية السورية المستقلة.
هذا التمركز السلطوي للفن لم يقتصر على المؤسسات فقط، بل امتد إلى جغرافيا البلد. إذ تم حصر الفنون والثقافة في العاصمة دمشق، ما زاد من عزلتها عن المجتمعات الريفية وبقية المحافظات، وأدى إلى تراجع دور الفن في حياة الناس. كما تم إقصاء الفنون من المناهج التعليمية، ما زاد من الشرخ بين المجتمع والفن ورسّخ فكرة أنّ الفن ترف للنخب وليس جزءاً أساسياً من الوعي العام.
كل هذه السياسات كانت تهدف إلى خلق مجتمع ينطق بلسان السلطة حتى في معارضته لها، حيث أصبح النقد الفني المعارض جزءاً من النقد الموجّه الذي يسمح به النظام، دون المساس بجوهر السلطة.
وقد تجلّى خوف الأسد من الدور الحقيقي للفن والأدب بشكل أوضح مع انطلاق الثورة السورية، فلم يقتصر القمع على الناشطين السياسيين فقط، بل شمل أيضاً الفنانين والمثقفين. فقد لاحق النظام السوري المنشدين الثوريين، وسعى إلى تشويه صورتهم في الإعلام، كما هجّر مي سكاف، واعتقل ذكي كورديلو، وفصل الفنانين المعارضين من نقابة الفنانين، وأطلق حملات تشهير وتهديد طالت كل من تجرّأ على معارضة النظام عبر الفن أو الأدب.
هذه الإجراءات التعسفية لم تكن سوى دليل إضافي على حالة الذعر التي يعيشها النظام أمام قوة الكلمة والصورة، وسعيه الحثيث للسيطرة على أي تعبير يمكن أن يهدد استمراريتهِ.
بين الاستبداد والحرية
رأى أرسطو أنّ الفن ليس مجرد نقل للواقع، بل هو إعادة تشكيل له بطريقة تساعد الإنسان على الفهم والتأمل. واعتبر أنّ الفن يقوم على المحاكاة (Mimesis)، لكنه لا يقتصر على التقليد الحرفي، بل يسعى إلى التعبير عن الحقيقة الأعمق للحياة.
لحظة سقوط النظام مثّلت نقطة تحول مهمة؛ فهل ستكون بداية الانفتاح لبناء نظام ديمقراطي حر؟ أم أننا سنقع في الفخ ذاته، حيث يُعاد تعليب الإنسان بقيم جديدة تفرضها سلطة أخرى؟ يكمن التحدي في تجاوز الأطر الفكرية المعلبة التي تعزز الأحادية الفكرية وتقيّد الإبداع. اليوم يواجه الفنانون سياسات سلطويةً ورقابيةً أخرى، فَالتعليب الثقافي لا يزال قائماً، وإن تغيّرت أدواته.
فبدلاً من رقابة البعث، ظهرت رقابة التمويل الخارجي، الذي يحاول فرض أجنداته الخاصة وتعزيز أفكار محددة وفق قوالب تُرضي المانحين، ما قد يؤدي إلى تحويل العروض الفنية إلى مجرد استجرار لهذه الأفكار، فتصبح انعكاساً لرغبات الخارج أكثر من تعبيرها عن واقع الداخل. بالأمس، كنا محكومين بخطوط السلطة الحمراء، واليوم قد نجد أنفسنا مقيّدين بما يراه المموّل مناسباً لنا.
أمام الدولة المستقبلية في سوريا تحديات كبيرة على مستوى السياسات الفنية والثقافية؛ فإما أن تستمر بسياسة الأسد ولكن بصياغات جديدة، ما يعني استمرار تعليب المجتمع والفنانين والأدباء، أو أن تسعى إلى رسم سياسات فنية حقيقية تعيد توطيد العلاقة بين الفن والمجتمع، وتخلق ثقافةً فنيةً اجتماعيةً تعبّر عن الواقع وتساهم في بناء الدولة المدنية والمجتمع المنشود.
يقول الكاتب السوري المعارض، ممدوح عدوان (كتاب: “سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض” لميريام كوك): “لا يكفي أن نصف زنزانة السجن، لا بدّ من أن نقدّم عن كثب مشهد انكسار الروح، ولا يكفي أن نصف آلة الطغيان، بل لا بدّ من أن نرفع الغطاء عن تقنية الطغيان كي نكتسب القدرة على مقاومتها ونحوّل إحباطنا إلى تفاؤل”.
اليوم أمام الفنانين والأدباء مسؤولية كبيرة، فالفن في هذه المرحلة يمكن أن يكون علاجاً للمشكلات الاجتماعية والإنسانية والنفسية، وليس فقط وسيلةً للترفيه والتسلية. كذلك من الضروري أن يتجاوز الفنانون والأدباء مجرد توثيق المآسي. صحيح أن الاعتقال والسجون والمجازر تحتاج إلى توثيق فني، لكن من المهم أيضاً منح أنفسنا مسافةً زمنيةً كافيةً لفهم السياق بشكل أعمق حتى لا يكون الفن مجرد استجابة عاطفية بل عملاً نقدياً يحمل رؤيةً حقيقيةً.
توثيق الفظائع مثل سجن صيدنايا أو الضربات الكيميائية، يحتاج إلى جمع الشهادات واستيعاب الحقائق، بما يسمح بمراجعة هذه الحقبة بكامل تفاصيلها وتقييمها ومحاكمتها، حتى نصل إلى إنتاج أعمال تحترم تعقيد الحدث بدلاً من اختزاله في صورة بسيطة.
فهل يمكن بناء مجتمع سليم دون إفساح المجال أمام الفن ليكون حرّاً بلا رقابة سلطوية أو إملاءات تمويلية؟ الفنّ الحرّ قادر على تحريك العقل النقدي وخلق ذاكرة إنسانية تعبّر عن الماضي، وتساعد في فهم الحاضر والتأسيس لمستقبل مختلف.
رصيف 22
——————————
====================