تشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سورية بين اقتصادَي الخدمات والإنتاج/ مالك ونوس

17 يونيو 2025

لم تعلن الحكومة السورية الجديدة بعد عن نهجها الاقتصادي الذي تعمل على تكريسه والسير بهَديه، بعدما صرّح عدد من أقطابها مبكراً، عن نيتها تبنّي اقتصاد السوق الحر، بعد القطع مع نهج “الاقتصاد الاشتراكي” الذي قالوا إن النظام السابق كان يتَّبعه.

مع ذلك صدرت إشاراتٌ تُظهر وجود ترجيح لاقتصاد الخدمات على اقتصاد الإنتاج، منها الأخبار التي انتشرت على نطاق واسع حول بناء عمارة شاهقة ستعرف باسم “برج ترامب” التي تُعد، إن صحّت الأنباء حولها، ملمحاً لاقتصاد السوق والخدمات الذي يبدو أنه لن يكتفي بإشادة عمارات كهذه، بل بهدم أخرى تراثية قائمة وبحالة سليمة، وإشادة أبنية جديدة مكانها. ويشير هذا الأمر إلى احتمال تعويم نشاط قطاع المقاولات سريع الربح، ورديفه قطاع البنوك، على حساب قطاعات أخرى تحتاجها البلاد أكثر.

وكانت وكالة رويترز قد نقلت، في 12 مايو/ أيار الماضي، عن جوناثان باس، رجل الأعمال المقرّب من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قوله إن الرئيس السوري، أحمد الشرع، أخبره عن توجهٍ إلى إقامة برجٍ يحمل علامة “برج ترامب” في دمشق، وهو ما فُسِّر محاولةً سورية للتقرّب من ترامب. وكان باس قد التقى الشرع في دمشق نهاية إبريل/ نيسان الماضي ساعاتٍ، تحدّثا خلالها عن علاقات سورية مع المحيط والغرب والعقوبات والتحدّيات التي تواجه الحكم الجديد، والتي تمنع الاستثمارات واستغلال الثروات الطبيعية وإعادة بناء البلاد. وقد تزامن الحديث عن هذا البرج مع أنباء متداولة عن نياتٍ بهدم مبنى محافظة دمشق التاريخي العريق وتشييد بناء عصري مكانه. وقد أدّى انتشار هذا الخبر إلى استياء كبير بين أبناء المدينة الذين استغربوا الأمر، لأن البناء القائم حالياً من الذاكرة البصرية للعاصمة، إضافة إلى عدم وجود أي خللٍ يُوجب هدمه. وأصدر فنانون وكتاب وحقوقيون سوريون بياناً دعوا فيه إلى وقف المشروع، والعدول عمّا سموها “المشاريع الشكلية” التي تتضمن هدم أبنية ومدارس تراثية أخرى، والالتفات إلى إعادة بناء المناطق المدمّرة مثل داريا وجوبر وغيرها.

ربما يكون ملف إعادة بناء المدن والبلدات التي دمّرتها حرب بشّار الأسد على الشعب السوري، من أجل تسريع عودة النازحين واللاجئين من الخيام ومن دول الجوار إلى مدنهم وإغلاق هذا الملف، من أكثر الأمور إلحاحاً، والتي يجب إيلاؤها الأهمية في هذه الفترة. غير أن هذا يتطلب موارد لا يمكن توفيرها، إلا بعد إصلاح قطاع النفط والغاز واستغلال الثروات الباطنية الأخرى لتوفير السيولة الضرورية لذلك. وتوفير السيولة يتطلب المحافظة على ما هو متوفر من العملة الأجنبية عبر الحد من استنزافها بالاستيراد، وهو الأمر الذي لا ينجح إلا عبر إعادة تشغيل المعامل المتوقفة، وتحديث تلك القديمة، من أجل الاستعاضة عن السلع الأجنبية بالوطنية، وبالتالي، توجيه الكتل النقدية إلى مطارح أخرى تحتاجها، ومنها قطاع الطاقة. ويبقى قطاع الإنتاج الزراعي، لكونه الأوسع في سورية، وتعمل فيه نسبة كبيرة من الأيدي العاملة بشكل ثابت وبشكل متقطّع تبعاً للمواسم، من أهم القطاعات، وذا مردودية معتبرة. وسيوفر تنشيط هذا القطاع وإعادته إلى سابق عهده على خزينة الدولة مبالغ هائلة كانت ستذهب إلى استيراد السلع الإستراتيجية، خصوصاً القمح والذرة، وغيرهما من البقوليات التي تستوردها الدولة هذه الفترة، بعدما كانت تصدّرها وتخزن الفوائض منها.

معروف أنه في عالم الأعمال، سريعاً ما يحتذي مستثمرون بمشروعات أقامها زملاؤهم. لذلك، في حال جرى البدء بمشروع من قبيل برج ترامب الذي قيل إنه سيكلف مائتي مليون دولار، وسيتنطع له رجل أعمال سوري مقيم في الإمارات، ستظهر علينا مشروعات أخرى كثيرة مماثلة، وربما تزيد عن الحاجة، على الأقل في مرحلة إعادة البناء الحالية. وبالتالي ستذهب الاستثمارات إلى مطارح غير شعبية وغير ضرورية وبلا مردودية سريعة على البلاد، لأنها لا تلامس حاجات واهتمامات أحد من السوريين، إلا نسبة قليلة ثرية، أو أثرت خلال الحرب، بعدما كان المأمول من الاستثمارات، أو يأمله فقراء البلاد الذين يشكلون نسبة 90% من سكان البلاد، أن تركّز على مشروعات الطاقة والصناعة والزراعة والبنية التحتية والتعليم والصحة، وإعادة بناء المناطق المهدمة، علاوة على مشروعات التنمية التي تساهم في التعافي والنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل.

ليس من الوارد الانتقاص من اقتصاد الخدمات، غير أن سورية الخارجة من حرب مدمّرة على كل الصعد، تحتاج أكثر إلى اقتصاد الإنتاج لرفد الخزينة بالقَطع الأجنبي والاستغناء عن استيراد السلع من الخارج والتحوّل إلى التصدير، خصوصاً أن البلاد شهدت تجربة إنتاجية في قطاعات الزراعة والصناعة والصناعات التحويلية، كانت رائدة في المنطقة، وكان عمادها القطاع العام المملوك من الدولة والقطاع الخاص العريق والمرن. والهدف من التركيز على اقتصاد الإنتاج الاستغناء عن الاقتراض الذي يمكن أن يؤدّي، في حال سوء توظيف المبالغ المقترضة في أماكنها المناسبة إلى العجز عن الإيفاء، وبالتالي الوقوع في المحظور مثل الفشل في التسديد، كما حدث في مصر وسيريلانكا ولبنان وغيرها، من أجل رد الدين، وهي الدول التي عجزت عن تسديد خدمات الدين وصارت تسعى للحصول على قروض جديدة من أجل تسديد القروض القديمة، فلجأ بعضها إلى بيع الأصول والقطاعات السيادية.

قد يؤدّي احتذاء نموذج برج ترامب وتعميمه إلى توسع قطاع المقاولات والعقارات وتوجيه الرساميل إلى هذا القطاع، ومن ثم الدخول في الفقاعة العقارية. وسيؤدّي توسّع هذا القطاع إلى توسّع الاستثمار في قطاع البنوك وزيادة حجم تلك الفقاعة، وبالتالي التعرّض للخسائر الكبيرة عند أول أزمة مالية عالمية، مثل التي تحصل دورياً، وتؤثر على الدول الهشّة اقتصادياً، أو الخارجة من جحيم حروب، مثل سورية. وإذا ما وضعنا العامل الأمني في الحسبان، فإن عدم اندماج بقية الفصائل في الجيش، وعدم التعجيل في حل المشكلات المعيشية، عبر إعادة دوران عجلة الإنتاج، وإعادة المفصولين من الخدمة إلى أعمالهم، سيفاقم المشكلات الأمنية، وستزداد عمليات السرقة والخطف التي تحدث هذه الأيام وتؤثر على استقرار البلاد. لذلك يصبح رفع العقوبات غير كافٍ لإخراج البلاد من أزماتها، إذا لم يتبعه إقرار دستور عصري وسيادة قضاء مستقل، يساهم في تعزيز عامل الاستقرار، الأمني والسياسي، هذا العامل الذي تضعه الشركات الاستثمارية في قمة سلم أولوياتها قبل الدخول إلى أي سوق من تلك التي تُصنَّف واعدة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى