سوريون يخافون الأغاني/ شعبان عبود

17 يونيو 2025
قبل فترة وجيزة، تعرّضت صالة فنية في مدينة سرمدا شمالي إدلب لهجوم من مجموعة متشددة. أُحبط الحفل، وحُطّم الأثاث، وفُرّق الحاضرون تحت تهديد السلاح. لم يُكمل المغنّي وصلته، وانسحب الجمهور في صمت مشوب بالذهول. لكنّ الأسئلة بقيت معلقة في فضاء المدينة، وربما فضاء سورية كلها: لماذا يُخيف الغناء بعضهم؟ وما الذي تعنيه الفنون حقاً في بلد خرجت للتوّ من واحدة من أعقد حروب العصر؟
بصراحة شديدة، ربما لا يُعبر الهجوم على حفل سرمدا عن موقف من الموسيقا فقط، بل عن صراع عميق على شكل المجتمع القادم، فثمّة من يرى في الفن خطراً على “نقاء” الدين، ويغفل أن التراث الإسلامي نفسه زاخر بالغناء والموشحات والموسيقا الروحية، من بغداد إلى حلب. حكى لي مرّة الروائي نهاد سيريس عن مشاهد من ذاكرته، حين كان يشاهد مشايخ الدين في حلب يشاركون ويندمجون في حفلات الغناء الطربي الأصيل في المدينة.
المفارقة أن من يرفع السلاح ضد الموسيقى لا يتورّع عن مشاهد الدماء والانقسام والدمار، لكنه يعتبر أن أغنية رومانسية أو عرضاً مسرحياً تهديد لنسيج المجتمع. وهذا يُظهر مدى الانفصال عن المعنى الحقيقي للدين الذي يُفترض به أن يكون مرادفاً للرحمة، لا التوحش.
واليوم في سورية، حيث مات أكثر من مليون إنسان، وتهجّر الملايين، وتحطّمت المدن، ثمّة حاجة إلى إعادة إعمار الإنسان نفسه قبل إعادة الإعمار المتعلقة بالحجر والإسمنت والحديد. ليس الفن، هنا، ترفاً، بل ضرورة نفسية واجتماعية. الغناء، تحديداً، يعيد إلى الناس حسّ الحياة، يمسّ وجدانهم، ويفتح نوافذ في جدران الخوف التي شيدها القمع، وزادتها الحرب سماكة.
الإسلام الحضاري لا يعادي الفن، بل يحتضنه. وإذا كانت القيادة الجديدة في سورية تنادي ببناء دولة مؤسّسات وعدالة، فعليها أن تحمي الفضاء الفني والثقافي من عسف السلاح وخطاب الكراهية.
ليس الفن بعد الحرب مجرد ممارسة فردية، بل نوع من العدالة الرمزية. أغنية تُغنّى في إدلب عن حصار داريا، أو مسرحية تُعرض في حلب عن المعتقلات، تساهم في كتابة سردية وطنية بديلة، تُعيد الاعتبار للضحايا وتُحفّز الحوار الأهلي. كما أن الفنون تخلق فضاءات للقاء المختلفين، وتُرمم الشروخ الطائفية والمناطقية التي عمقتها الحرب.
لقد نظر المستبدّون عبر التاريخ إلى الفنون على أنها إما وسيلة ترفيه فارغة، وإما أداة للدعاية. لكن في اللحظات التاريخية الحرجة، يجب أن تكون الفنون أكثر من ذلك بكثير. إنها لغة الألم والشفاء، سجل الذاكرة، وأداة بناء الوعي الجماعي، وما لا يمكن قوله في السياسة يمكن أن يُقال في القصيدة، وما يُقمع في الساحة يمكن أن يُغنّى على الخشبة.
على الدولة الجديدة أن تدرك أن الفنون جزءٌ من العقد الاجتماعي الجديد. حماية الحفلات، تمويل المسارح، دعم الأفلام، ليست أفعالاً تكميلية، بل مؤشّراتٌ على الانتقال من دولة الخوف إلى دولة الحياة. الدولة التي لا تحتمل أغنية، لن تحتمل اختلافاً، ولن تُنتج مواطنة.
ليس الغناء ترفاً. في بلاد أنهكتها الحرب والنزوح والمجازر، يصبح الغناء حاجة، والفن ضرورة، والموسيقى مقاومة ناعمة لليأس. ما حدث في سرمدا ليس مجرد اعتداء على أمسية، بل رفض صريح لحق السوريين في أن يحلموا من جديد، أن يفرحوا، أن يجدوا في الفنّ مساحة للتنفّس بعد سنوات من الخنق.
لقد أنهك الصراع السوري الناس أجساداً وأرواحاً. فقد الملايين أحباءَهم، مدن دُمرت، وسنوات مضت كأنها كابوس جماعي طويل. واليوم، حين يُحاول بعضهم ترميم الحياة بوسائل بسيطة، كحفل غنائي أو أمسية شعرية، تظهر قوى ترفض ذلك، كأنها تُريد للألم أن يستمر، وللموت أن يظل هو الصوت الأعلى.
العربي الجديد