عن الحبّ وما قتل/ رباب هلال

17 يونيو 2025
منذ أوّل الدم، أنتظر حدوث قمر نحاسيّ يشعّ بالأشعار. أنتظر حدوث الوقت يغنّي. حدوث صباحٍ يعزف، ومساء يرقص. أنتظر امّحاء الرعب عبر: ” الهاتف خارج التغطية” أو “فقدنا التواصل معها أو معه يوم كذا، وفي الساعة كذا.” كي لا تكون أو يكون خارج التغطية، ثمّ خارج الحياة.
على جانبيِ الأوتستراد، أتكوّم خلف نافذة الحافلة المتّجهة إلى مدينتي، وأحدّق في النساء المتّشحات بالسواد، جالسات كأنّما هنّ في مجلس عزاء. ترتجف شراييني، ويرتعد التفكير. تقضم الحافلة من المسافة الطويلة بسرعة، لكنّ المسافة تتناسل بجحود، ويتكاثف الضجيج.
تقفز أقوالٌ إلى أذنيّ، يركّز إصغائي، يقول صوت: “بحسب وصيّتها، دفنّاها إلى جانب قبره. حرمها اعتقاله منه ست عشرة سنة، لم يصمد طويلاً. مات. ثم لحقت أمّي به”. يقول صوت آخر: “هنيئاً لكم، لأخيك قبر”. ثمّ صوت آخر:” قتلوهم جميعاً، الثلاثة، أمام عينيّ. التهمة طائفيّة.” يتلوه صوت: “كانت في طريقها إلى الجامعة، واختفت، خطفت.”
يغشى الضباب ذاكرتي. في أيّة سنة نحن؟ وهل سمعت حقّاً تلك الأصوات المتّشحة بالسواد؟
تبلبلني الأصوات. يغادر التركيز رأسي. وتنغلق الذاكرة. في أيّ سنة نحن؟ وحده رياض الصالح الحسين الصامد بباب القصيدة، يردّد:” لقد اعتدت أن أنتظرك أيّتها الثورة.” يا إله التذكّر أنقذني. في أيّة سنة نحن؟ ذكّريني، أيّتها الحافلة السائرة في الطريق الطويل، يحفّ بك على الجانبين، مشهد مجلس عزاء المتّشحات بالسواد لا يتوقّف، على امتداد حطام الأبنية، والبيوت، النوافذ والأبواب والمفاتيح. حطام الأنفاس والأحلام الصغيرة، والأخرى الكبيرة المزمنة والمؤجّلة، وحطام الذكريات. اختفت يد القتلة وبراميلهم الطائرة المتفجّرة، وتصاعد الفرح المفقود بيننا، فلماذا النسوة اليوم، ما زلن يذرفن هذا السواد الكثيف؟ ومتى سيكفّ هذا الضجيج عن الضجيج؟
يأتيني صوت فيروز من مسجّلة الحافلة:” وَيْنُنْ؟ ويْن صْواتُن، ويْن وْجوهن. ويْنُنْ؟” أسدّ أذنيّ سريعاً. ليس بوسعي تحمّل سماع هذه الأغنية. سنوات من مقتلتنا مضت، امتنعت فيها عن سماع أغاني فيروز، فالأصوات التي تصدح كأصوات الملائكة، تهدهد الروح، وتستحضر الليالي وأحلامها الورديّة، وتبتهج النهارات بقيام الحُلْوات للعجن في “البدريّة”، وتصيح الديكة في “الفجريّة”، وتتفتّح الصباحات بالعمل، فتخضرّ الحقول بمواسم الخير والأمان، وبالخيال الخصب لإبداع المستقبل الآمن بالجمال والحبّ. امتنعت عن سماع فيروز لاستحالة هبوطه من السماء المكفهرّة بالقتل، واندياحه على أرض حقولها محروقة ومدمّاة. أو التسلّل إلى آذان نساءٍ تتشحن بفقد فلذات أكبادهنّ.
خلال سنوات الحرب الماضية، كانت ضفتا المعارك تجمعان، عبر وسائط التواصل، والشاشات الفضّيّة على سماع فيروز، وقراءة محمود درويش، وبوجه خاص في ما يخصّ سورية، وكأنّ كلّاً منهما يستشهد بحبّه الأكبر لها، وحقّه بامتلاكها. بيد أنّ الصوتين فشلا في استعادة الألفة بين الإخوة الأعداء. كان باهظاً جدّاً ثمن هذا العشق المتملّك. حسناً، للثورة ضريبتها الهائلة، وقد دُفعت. فلماذا لا ينفضّ مجلس العزاء الطويل هذا؟
أغمض عينيّ، وأسدّ أذنيّ دقائق، لأستحضر قصيدة لرياض الصالح الحسين، فتستبدّ بذاكرتي هذه السطور وحدها: “يا سورية الجميلة السعيدة. كمدفأة في كانون. يا سورية التعيسة. كعظمة بين أسنان كلب. يا سورية القاسية. كمشرط في يد جرّاح. نحن لسنا أبناءك الطيبين. الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك. أبداً سنقودك إلى الينابيع. أبداً سنجفّف دمك بأصابعنا الخضراء. ودموعك بشفاهنا اليابسة. أبداً سنشقّ أمامك الدروب. ولن نتركك تضيعين يا سورية. كأغنية في صحراء”.
العربي الجديد