هل يمكن لسوريا أن تتعافى دون الاعتراف بانقساماتها؟/ مصطفى حايد

في الحاجة إلى خيال سياسي يتجاوز ثنائية «الوحدة» و«التفكُّك»
17-06-2025
بعد قراءة مقابلة الباحث بيتر هارلينغ مع مركز “كارنيغي” استرجعت تساؤلات قديمة، لماذا في كل مرة تُطرح فيها قضية التعافي في سوريا، أو حتى في لبنان، نعود مباشرةً إلى سؤال الطوائف والانقسامات؟ وهل الحديث عنها يُكرِّسها ويمنحها سلطة أكبر مما تستحق؟ هل يمكن لأي بلدٍ أن يستعيد عافيته السياسية والاجتماعية، في حال لم تُحَلّ خلافاته الطائفية والإثنية؟ أم أن سوريا محكومةٌ بالبقاء ساحةً دائمة للتجاذبات والانقسامات، ورهينة لمصالح الخارج الذي لا يرى فيها سوى «فسيفساء» يسهل تفكيكها واستثمارها؟
يقترح هارلينغ أن الانقسام ليس مرضاً يجب استئصاله، بل سِمة بشرية واجتماعية يجب الاعتراف بها وتنظيمها. لا يدعو إلى تمجيد الطوائف أو بناء النظام السياسي على أساسها، بل إلى مقاربة سياسية لا تخاف من التعدّد، ولا تُوظِّفه لأغراض الهيمنة أو التحايل. في هذا الطرح، تَتَبدَّد فكرة «الوحدة» بوصفها قيمة مطلقة، وتُستبدَل بفكرة أكثر تواضعاً وأكثر واقعية: التعايش العادل.
هذا السياق يُعيد إلى الذاكرة كتابات ومساهمات الصديق ياسين الحاج صالح، خصوصاً حين يربط بين الطائفية كنظامٍ سياسي لا يقتصر على الهويات الدينية، بل يتغذى على منظومات التراتب والامتياز والتهميش. لطالما نبّه ياسين إلى أن الطائفية لا تكمن فقط في الانتماء، بل في استخدام هذا الانتماء كسلاحٍ سياسي لتقسيم المجتمع وتحييد العقل.
هذا المقال هو دعوة للتفكير في كيفيّة الخروج من هذا الفخ المزدوج: الصمت الذي يُرسّخ الطائفية، والخطاب الذي يَستسلم لها ويجعلها قدراً. نحتاج إلى خيالٍ سياسي لا يخاف من الاعتراف، ولا يَنزلق إلى التبرير، بل يبحث عن مخرجٍ من هذا المأزق التاريخي… بدءاً من سؤالٍ بسيط: هل يمكن لسوريا أن تتعافى دون أن تعترف بانقساماتها؟
لا يَكمنُ التحدي الحقيقي، كما أظنُّ، في وجود هذه الانقسامات، بل في كيفيّة تعاملنا معها. منذ عقود، نعيش في مجتمعات يُكرَّس فيها شعار «الوحدة الوطنية» وكأنه مقدّس لا يجوز الاقتراب منه. وكأن الحديث عن التنوّع، أو الاعتراف بالاختلاف، يُعَدّ من قبيل التحريض على الفتنة أو التمهيد للانقسام. أعتقد أن هذا الفهمَ المحدودَ للوحدة لم ينتجْ سوى المزيدِ من القمع والاستبداد، والمزيد من العزلة بين مكونات المجتمع.
السياسة كإدارةٍ للاختلافِ
ينبغي أن نبدأ من هنا: الاختلافاتُ الإثنيةُ والطائفية والطبقية ليست استثناءً في سوريا، بل هي واقعٌ طبيعي يُشبه كل المجتمعات الحيّة في هذا العالم. في الحقيقة، السياسة نفسُها وُجِدَت لتنظيم هذه الاختلافات، لا لإنكارِها. ليست الطائفية وحدَها ما يفتّتُ المجتمعات، بل محاولات محوِ التنوّع أو قمعه هي التي تُحوّل الاختلاف إلى صراع، والتعدُّد إلى تهديد.
حين نتحدثُ عن الانتقال السياسي، لا يُمكن تجاهل أنّ هذه المرحلة بطبيعتها تَكشفُ وتُضخِّم التناقضات. وهذا ليس أمراً سيئاً بالضرورة. ما يُخيف البعض هو ما يجب مُواجهته: التوترات الطائفية، ومطالب الاعتراف بالهويات الفرعية، والتوزيع غير العادل للثروة، وموقع العشائرية والمناطقية في معادلة الحكم، والعلاقة بين المركز والأطراف، والصراع الطبقي الذي يزداد حدةً كلما طال الانهيار الاقتصادي. كل هذه ليست «مشكلات» تُعرقل الوحدة، بل أسئلة سياسية مشروعة كان يجب أن تُطرحَ منذ زمن.
في الحاجة إلى خيال سياسي ثالث
ما يجبُ أن نكسره أولاً هو الثنائية المفروضة التي ظلّت تحكم سرديات الحكم والمعارضة على حدٍّ سواء: إمّا وحدةٌ مفروضة بالقوة، تَفرضُ على الجميع الصمت والولاء، أو فوضى تقسيمية تُهدّدُ بزوال الكيان السوري برمّته. هذه المعادلة ليست واقعيةً، وليست مُنصِفةً، ولم تُنتج يوماً استقراراً أو عدالة.
الوحدةُ القمعية ليست إلا وجهاً آخر للهيمنة السياسية المركزية التي مارستها السلطة لعقود. فهي لا تعني الشراكة، بل الخضوع. لا تعني احترام التعدد، بل صَهرَ الجميع في قالبٍ أمني وثقافي واقتصادي واحد، غالباً ما يَعكِسُ مصالح نخبة محدودة. وهذا ما حصل فعلاً: تجاهلت الدولة المركزية تعقيدات المجتمع السوري، وحرمت جماعات واسعة من حقوقها الاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية، واحتكرَت الثروة والقرار، وشيّطنت كل اختلاف على أنه دعوات للانفصال أو تهديد للأمن القومي.
أمّا السيناريو الآخر، وهو التفكك الفئوي، فليس بديلاً واقعياً ولا إنسانياً. الانقسام على أساس طائفي أو إثني أو مناطقي يُكرّس الهويات المغلقة، ويُعمّقُ منطقَ العزل والانكفاء، ويَخلق كيانات هشَّة لا تُبنى على المواطنة، بل على الخوف من الآخر. وهو أيضاً وصفةٌ دائمة لحروبٍ مستمرة، ناهيك عن عدم واقعيتهِ وجدواهُ في بلد صغير ومحدودِ الموارد كسوريا.
في سوريا، نحن بحاجة إلى خيال سياسيّ ثالث. خيار جديد يتجاوزُ منطق السيطرة والانقسام، ويَبني نظاماً سياسياً يَعترف بالتعدّد لا كمشكلة يَجبُ حلُّها، بل كركيزة يجب الاعتراف بها وتنظيمها. نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يَتّسعُ للهوياتِ المتعددة، ويَمنحها تمثيلاً عادلاً في مراكز القرار، ويُؤسس لآلياتٍ ديمقراطية تفاوضية تُنهي ثقافة الإقصاء وتفتح المجال لحوار وطني حقيقي. لكن، بالمقابل، لا يُكرس المحاصصة الهوياتية، ولا يفرض على الأفراد هويات جمعيّة لا تمثلهم أو لا يعتبرونها هويتهم الوحيدة. يُمكننا هنا فتح النقاش العام حول الهويات التقاطعيّة في سوريا والمنطقة وإدراج هذا النقاش ضمن عمليات التحول والانتقال في سوريا.
ضمنَ هذا السياق، اللامركزية هنا ليست دعوةً للتقسيم، بل أداةٌ لإعادة توزيع السلطة والموارد. تَمكينُ المجتمعات المحلية من إدارة شؤونِها ليس خطراً على وحدة سوريا، بل ضمانةٌ لنجاة هذه الوحدة من الانهيار التام. والاعتراف بالهوية الكردية أو بحقوق الطوائف والمناطق المهمشة، لا يُضعف الدولة، بل يُعيد لها معناها بوصفها بيتاً جامعاً لكل مواطنيها، لا سجناً لهوياتِهم.
هذا الخيار الثالث لن يكون سهلاً، ولن يأتي من فوق، بل يتطلب نضالاً اجتماعياً طويلَ النفسِ، وجرأة فكرية تَكسِرُ القوالب الموروثة، وإرادة سياسية تحمي التعدد بدلاً من تهميشه. نحتاج إلى خطاب جديد، لا يُدغدغ مشاعر الخوف من الآخر، بل يُؤسّس لمُشترَك وطني يعترف بحق الجميع في الوجود، والصوت، والتأثير.
أين يبدأ التعافي؟
التعافي في سوريا لن يأتي عبر البيانات أو المؤتمرات الدولية، ولا من خلال ضخِّ أموالٍ والاستثمار العشوائي. بل سيبدأ، فقط، حين نكفّ عن التعامل مع المجتمع السوري كمجرد «فسيفساء طائفية»، ونراه كما هو فعلاً: مجتمع غني بتعدديته، جريح بانقساماته، ومُتعَبٌ من كلفة الصمت والخوف.
علينا أن نعيد تعريف «الوحدة» خارج منطق القوة والسيطرة. أن نوسّع مفهوم «التمثيل» ليشمل النساء، وذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء، والبدو، وسكّان الأطراف، وكل من غاب صوته عن طاولة القرار لعقود. أن نعيد ترتيب العلاقة بين الدولة ومجتمعاتها، ليس عبر المركزية المتصلبة، بل عبر نماذج محلية قادرة على الإدارة والتفاوض.
إن كانت سوريا تملك فرصة للتعافي، فهي لا تكمن في «إعادة الأمور إلى ما كانت عليه»، بل في القطيعة مع هذا الماضي الذي ساوى بين الاختلاف والانقسام، وبين الاستبداد والاستقرار. هذه فرصة نادرة، محفوفة بالمخاطر طبعاً، لكنها قد تُؤسس لنموذجٍ جديد… نموذج لا يخاف من التنوع، ولا يُقدّس الوحدة على حساب الكرامة.
تنويه من الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يُشير للتنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.
* * * * *
موقع الجمهورية
—————————-
بيتر هارلينغ: مسألة الأقلّيات المُساء فهمها في سورية
مايكل يونغ
نشرت في 16 مايو 2025
مايكل يونغ: هلّا تقدّم لنا لمحةً عامةً عن طريقة تعامل نظام الأسد مع الأقلّيات منذ عهد حافظ الأسد، ومقارنتها مع ما تشهده سورية راهنًا في في ظلّ النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع؟
بيتر هارلينغ: من الخطأ تبسيط هذه المسألة، كما لو أن نهج النظام السابق تجاه الأقلّيات كان متّسقًا وواضحًا. مع أن مناصري النظام السابق كانوا ينظرون إليه على أنه “حامي الأقلّيات”، انطوى نهجه على تناقضٍ وازدواجية كبيرَين. فهو عمَد إلى استمالة الدروز وقمعهم في آن، وأبرز مثال على ذلك الحملة الشرسة ضدّهم في العام 2000. كذلك، لجأ إلى التلاعب بالأكراد واتّخاذ تدابير لاحتوائهم. ووفّر الحماية للمسيحيين فيما روّج لأشكال من الحراك السنّي أشعرتهم بالتهديد. وفيما اعتمد على ولاء العلويين له، قوّض الهياكل الداخلية للطائفة من أجل ترسيخ تبعيّتها، وفي نهاية المطاف عامل العلويين الموالين له كجيشٍ من العبيد. ويُرجَّح أن يلجأ هيكل السلطة الناشئ اليوم إلى “هندسة” مجموعةٍ من العلاقات المعقّدة والمتناقضة والمتغيّرة بين مختلف الطوائف بدلًا من تبنّي نهجٍ واحد وموحّد.
يونغ: كتبتَ أن الهجمات التي طالت الدروز الأسبوع الماضي مختلفةٌ كثيرًا عن المجازر التي شهدها الساحل السوري في شهر آذار/مارس بحق العلويين في الدرجة الأولى. لكنك أشرت أيضًا إلى ضرورة الامتناع عن تحليل مثل هذه الجولات من العنف الطائفي بمعزل عن بعضها البعض. ما الذي قصدتَه ولماذا ترى الأمر كذلك؟
هارلينغ: يمكن تفسير المجازر بحقّ العلويين على أنها عقابٌ جماعيٌ لارتباط الطائفة بالنظام السابق، في ظلّ غياب أي آلية لتحقيق العدالة الانتقالية. لكن العنف انطلق من دوافع أخرى أيضًا، مثل عمليات النهب الواسعة النطاق التي نفذّتها فصائل مسلّحة دُمجت في الدولة بشكلٍ ظاهري فحسب، في ظلّ اقتصاد مُنهار. وما كان من الأقلّيات الأخرى إلّا أن تساءلت حينئذٍ: “هل سيتوقّف الأمر عند العلويين؟” لكن ما تعرّض له الدروز كشف أن الأمر لن يتوقّف عند ذاك الحدّ.
لم تكن الأحداث الأخيرة محصورةً بالعنف. بل ترافقت مع موجةٍ صادمةٍ من العداء الطائفي العفوي على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ اتُّهم الدروز بالتواطؤ مع إسرائيل، وبالاصطفاف مع فلول النظام السابق، وبمهاجمة الأجهزة الأمنية من دون مبرّر. هذه الأقاويل التي تحرّكها الانفعالات، تعكس عقلية التطهير المنتشرة بشكلٍ مفاجئ على المستوى الشعبي، وهي رغبة غريزية في إصلاح سورية بطريقة ما، من خلال قمع فئة اجتماعية معيّنة أو أخرى باعتبارها تعيق نجاح العملية الانتقالية. شهدنا حتى الآن محاولتَين محمومتَين لقمع طائفةٍ بأكملها، وبإمكاننا توقّع المزيد من هذه الأحداث فيما يتحوّل التركيز نحو مسائل أخرى. حاولت القيادة السورية الحالية استخدام جولات العنف هذه لإعادة تشكيل الترتيبات السياسية، إلا أن هذه الاشتباكات تُمعن في تدمير أُسس الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود بين السوريين من أجل نجاح العملية الانتقالية.
يونغ: حكمت سورية منذ العام 1966 ربما قيادة سمحت للأقلّيات، ولا سيما الأقلية العلوية، بالاضطلاع بدورٍ بارزٍ في البلاد، على الرغم من رغبة نظام البعث السابق في تسليط الضوء على هوية البلاد القومية العربية. ماذا سيحدث لهذا الإرث في ظلّ إرساء نظام حكم سنّي على نحوٍ واضح؟
هارلينغ: تاريخيًا، كانت قاعدة النظام أوسع بكثير من الطائفة العلوية. فقد شكّل تحالفًا من مجموعات أيّدته في المناطق الطَرفية للبلاد، ضمّت أقلّيات أخرى، إنما أيضًا سنّةً من مناطق مثل حوران والرقة وإدلب. وقبل انطلاق شرارة الثورة في العام 2011، كان معروفًا أن وزارة الداخلية تضمّ عددًا كبيرًا من أبناء إدلب، بينما شكّل العلويون غالبية عناصر الأجهزة الأمنية. ونسج بشار الأسد أيضًا علاقاتٍ مع طبقة رجال الأعمال السنّة، في حلب مثلًا. لكنه أهمل القاعدة الشعبية التاريخية للنظام، ما يفسّر جزئيًا سبب تركّز المظاهرات خلال بدايات الثورة في مناطق مثل درعا، حيث كان حزب البعث يتمتّع بنفوذ قوي في السابق.
فكرة أن النظام كان قائمًا على الأقلّيات خاطئة، وتصرِف النظر عن جانبٍ أساسي من العملية الانتقالية في سورية: أي تنوّع الهويات والمصالح ضمن “الأغلبية” السنّية بحدّ ذاتها. في الواقع، ما من مجتمع سنّي واحد في سورية. فقليلةٌ هي القواسم المشتركة بين القبائل السنّية في شرق البلاد وبين الطبقة الفقيرة والمُحافظة في المدن، التي تجمعها قواسم مشتركة أقلّ حتى مع نخب التجّار التقليديين، ناهيك عن السنّة العلمانيين. ففي أفضل الأحوال، تتجاهل مدن مثل حلب ودمشق، وحمص وحماة بعضها البعض، وفي أسوأ الأحوال تتنافس في ما بينها. يُضاف إلى ذلك أن ميزان القوى بين الفصائل المسلحة من إدلب وتلك المتحدّرة من مناطق أخرى على غرار دوما، هشٌّ للغاية، ويمكن أن يتسبّب بسهولة باندلاع اشتباكات كالتي حدثت مؤخرًا مع الدروز.
إذًا، يتمحور إرث نظام الأسد فعليًا حول ثلاث نقاط أساسية: بلادٌ مُفكّكة حُرِّضت مجموعاتها الاجتماعية مرارًا وتكرارًا على بعضها البعض بدلًا من دمجها في إطار هوية وطنية جامعة؛ ومؤسساتٌ ضعيفة للغاية لأن الحفاظ على وحدة البلاد كان يقع بالكامل تقريبًا على عاتق الأجهزة الأمنية؛ واقتصادٌ مُنهار، مُثقلٌ بعبء العقوبات، ومخنوقٌ ببيروقراطية مُعطِّلة، وبعقلية التغاضي بدلًا من تخطيط السياسات العامة.
يونغ: يبدو أن لإسرائيل نيّة واضحة في تقسيم سورية واستبدالها بكيانات طائفية أو إثنية، ما يتعارض مع رغبة تركيا في تعزيز وحدة سورية. هل يمكن برأيك أن ينجح مشروع التجزئة، أو التقسيم، وكيف ترى حصيلة التنافس الإسرائيلي التركي في سورية؟
هارلينغ: لإسرائيل أيضًا نيّة واضحة في التخلُّص من 2 مليون فلسطيني في غزة بطريقة أو بأخرى، وسط نفيها الاتّهامات بارتكاب إبادة جماعية. إسرائيل تعيش حالةً من الغطرسة المدمّرة، ويصدر عنها شتّى أنواع الأفكار الجامحة، على غرار أنها سوف تقضي على القضية الفلسطينية، وتسحق أشكال المقاومة كافة، وتُنهي ما يُعرف بمحور المقاومة، وتُفكّك سورية، وتطرد الملايين إلى الأردن، وتطبّع العلاقات مع دول الخليج ولبنان، وتعيد تشكيل المنطقة وكتابة التاريخ وغيرها. والأهم أنها لن تقدّم في المقابل أي تنازلات، وستنجح في الإفلات من المحاسبة وفي تحقيق كلّ أهدافها من دون خطة مُحكمة حتى.
إن التحالف مع الأقلّيات في المنطقة، سواء في سورية وخارجها، عبارة عن استراتيجية إسرائيلية قديمة ومستهلكة تعكس غياب التفكير الجديد والواقعي. فبدل أن تنبع طروحات إسرائيل من سياسات عامة عملية، فهي تقدّم تصوّرًا غير واقعي وخطير له عواقب مأساوية على الأرض. أما تركيا فستضطلع بنفوذٍ أكبر بكثير في سورية، لأن النهج الذي تعتمده، وإن كان تدخليًّا وصارمًا ويخدم مصالحها، يُعدّ أيضًا عمليًا وواضحًا وقائمًا على الصفقات، إذ يُعطي القيادة السورية هامشًا للتفاوض. في المقابل، الجميع في حيرة من أمره في ما يتعلّق بالتفاوض مع إسرائيل لأنها تريد الحصول على كلّ شيء من دون أن تقدّم شيئًا في المقابل. وقد دفعها دعم شركائها الغربيين إلى الاعتقاد بأن في وسعها تحقيق ذلك.
يونغ: هل يمكن تحقيق التعافي في سورية، أو حتى في لبنان، في حال عجزت سورية عن التوصّل إلى تسويةٍ ما بين مختلف طوائفها ومجموعاتها الإثنية؟ أم تعتقد أن سورية ستعود ساحةً للتنافسات الإقليمية، وسط سعي الدول الخارجية إلى استغلال الخلافات والانقسامات الطائفية في البلاد؟
هارلينغ: يتكرّر شعار الوحدة في العالم العربي المعاصر كما لو أن الانقسامات أمرٌ مخجلٌ وكارثيٌ وعصيّ على الإصلاح، في حين أنها في الواقع الحالة الطبيعية لأي مجتمعٍ، سواء في هذه المنطقة أو غيرها. فجوهر السياسة يتمثّل تحديدًا في تنظيم هذه الاختلافات بطريقة تُمكّن الجميع من التعايش معًا بشكلٍ سلمي، بدلًا من محاولة محوها. فعملية الانتقال السياسي، على غرار ما تشهده سورية اليوم، ستسلّط الضوء حكمًا على جميع أنواع الخلافات. وإذ يُنظر إلى التوترات الطائفية والإثنية في الكثير من الأحيان على أنها من المحرّمات، إلا أنها ليست سوى ليست سوى جانبٍ واحد من هويات أكثر تعقيدًا بكثير. ثم ماذا عن الانقسامات الطبقية، أو مسألة إعادة توزيع الثروات الوطنية؟ أو التيارات الإسلامية السنيّة الكثيرة؟ أو دور القبائل في المشهد السياسي الراهن؟ وماذا عن العلاقة بين المركز والأطراف؟ بسبب هذا الهوس بالوحدة، إن مجرّد طرح قضايا بسيطة وواضحة، مثل اللامركزية الإدارية، يثير مخاوف من أن يؤدّي إلى تفكّك الدولة.
آمل أن تشكّل سورية سابقةً جديدةً في هذا الصدد، من خلال إرساء نظامٍ يعترف بالاختلافات ويؤمّن التمثيل السياسي لجميع المكوّنات، من أجل إحداث قطيعةٍ مع هذا البديل المضلِّل بين إمّا الوحدة القمعية، أو الانقسام الفئوي المدمِّر. في غضون ذلك، لا يمكن اعتبار السياق الإقليمي مفيدًا بشكل خاص في هذا الصدد، لكنه ليس في أسوأ حالاته أيضًا. فسورية باتت اليوم بعيدةً عن مستوى التدخلات الخارجية التي مزّقت العراق في مرحلة ما بعد العام 2003، باعتبار أنها سبق أن خاضت حربًا أهلية مموّلة من القوى الخارجية. وعلى الرغم من التدخّل العسكري لكلٍّ من إسرائيل وتركيا في سورية، ما من مؤشرات كثيرة تُذكر حاليًا على رغبة أي طرفٍ في تسليح وكلاء في البلاد. وصحيحٌ أن سورية لم تَعُد ساحة قتال الآن، إلّا أنها لم تطلق بعد عملية إعادة الإعمار، إذ إن القوى الخارجية غير مهتمة كثيرًا في استثمار مواردها من أجل إرساء الاستقرار في البلاد. وهذا يعني أن الاستقرار لن يتحقّق بتدفّق الأموال من الخارج، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي. هذا الواقع يزيد من حجم الرهانات والمخاطر المُحدقة بالعملية الانتقالية، لكنه في أفضل الأحوال قد يُفضي إلى نتائج أكثر ثباتًا واستدامة.
بيتر هارلينغ هو مؤسّس ومدير مختبر سينابس (Synaps) للأبحاث، وهو عبارة عن منظمة متخصّصة في شؤون البحر المتوسط، تقدّم تحليلات مُعمّقة بهدف التوصّل إلى حلول عملية للقضايا الآنية. عمل سابقًا في مجموعة الأزمات الدولية لنحو عشر سنوات، ويتمتّع بخبرة 30 عامًا تقريبًا في منطقة الشرق الأوسط، وعاش في دمشق بين العامَين 2006 و2014. أجرت “ديوان” مقابلة معه في مطلع أيار/مايو للاطّلاع على وجهة نظره حيال التطوّرات في سورية، وخصوصًا العلاقة بين نظام أحمد الشرع الراهن والأقلّيات، في ضوء تصاعد التوترات الطائفية مؤخرًا في البلاد.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط