سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————-
سوريا.. ماذا بعد إعلان النصر
خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم | جنى العيسى | علي درويش
تحديث 02 شباط 2025
طغى اللباس العسكري على الاجتماع الذي عقد في “قصر الشعب” بالعاصمة السورية دمشق بعنوان “مؤتمر النصر”، وتمخّضت عنه مجموعة من القرارات جاءت بعد حوالي شهرين من سقوط نظام بشار الأسد، وحملت تغييرات جذرية على سلم الأحداث التي تسارعت مؤخرًا في سوريا.
أبرز هذه القرارات كانت تعيين أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية العربية السورية خلال المرحلة المؤقتة، إلى جانب أخرى تضمنت حل جيش النظام، ومجلس الشعب، وتعليق العمل بالدستور، وحل أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”.
التسجيلات المصورة والصور التي خرجت من قاعة الاجتماع، حملت مجموعة من الملاحظات متعلقة بالقرارات التي صدرت عن السلطات الجديدة، كما لم يكن التمثيل العسكري كاملًا، إذ غاب جزء من فصائل الجنوب السوري عنها، أبرزها فصائل السويداء، إلى جانب واحدة من كبرى الفصائل العسكرية في سوريا، وهي “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرقي سوريا، التي لا تزال في طور المفاوضات مع دمشق للوصول إلى حل يقضي باندماجها مع وزارة الدفاع.
قرارات حل الجيش وتعليق العمل بالدستور، وحل الأحزاب السياسية التي لطالما شكّلت ركيزة في حكم آل الأسد لسوريا، كانت متوقعة في جزء منها، لكنها جاءت بشكل منفرد من قبل التيار العسكري الذي قاد التحركات العسكرية نحو دمشق، وأسقط نظام الأسد.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين ما بعد هذه القرارات، وما قد يترتب عليها في الميادين العسكرية والسياسية والقانونية.
“مؤتمر النصر”
في 29 من كانون الثاني الماضي، أعلنت “القيادة العامة” في سوريا تولي أحمد الشرع رئاسة سوريا لمرحلة انتقالية، وحل مجلس الشعب والجيش والفصائل الثورية وإيقاف العمل بالدستور.
وذكر المتحدث باسم “إدارة العمليات العسكرية”، العقيد حسن عبد الغني، عدة قرارات خلال المؤتمر أبرزها:
تولي قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، ويقوم بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، ويمثلها في المحافل الدولية.
تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ.
حل حزب “البعث” الحاكم في سوريا بعهد النظام السابق، وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، وإعادة جميع أصولها إلى الدولة السورية.
حل جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة.
حل جيش النظام السابق، وإعادة بناء الجيش السوري “على أسس وطنية”.
حل مجلس الشعب، واللجان المنبثقة عنه.
إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية.
حل جميع الفصائل العسكرية، والأجسام “الثورية” والسياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة.
الإعلان عن يوم 8 من كانون الأول من كل عام (تاريخ سقوط النظام)، عيدًا وطنيًا.
وألقى الشرع خلال المؤتمر نفسه خطابًا أمام القادة العسكريين ولم ينقل في بث مباشر، بينما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) مقتطفات من الخطاب.
وقال الشرع، إن “ما تحتاجه سوريا اليوم أكثر مما مضى، فكما عزمنا في السابق على تحريرها فإن الواجب هو العزم على بنائها وتطويرها”.
وحدد أولويات سوريا اليوم بملء فراغ السلطة والحفاظ على السلم الأهلي وبناء مؤسسات الدولة والعمل على بناء بنية اقتصادية تنموية واستعادة سوريا لمكانتها الدولية والإقليمية، بحسب الشرع.
بانتظار هيكلة الوزارة والتحاق البقية
حل تدريجي للفصائل
عسكريًا، لا تزال الأوراق منقوصة، وقيد الترتيب على كامل الجغرافيا السورية، وهذا ما أكده الحضور العسكري خلال “مؤتمر النصر”، إذ غابت عنه قيادات الفصائل في السويداء جنوبي سوريا، وقادة من “قسد”، بينما ضم المؤتمر وزارة الدفاع ومعظم قيادات وممثلي الفصائل العسكرية في سوريا، من قيادات في “الجيش الوطني السوري”، و”هيئة تحرير الشام”، و”جيش سوريا الحرة” المتمركز في قاعدة “التنف”، و”اللواء الثامن” في درعا.
“مؤتمر النصر” خرج بقرارات تتعلق بالسياق العسكري في سوريا، أبرزها حل جيش النظام السابق، وإعادة بناء الجيش السوري “على أسس وطنية”، إلى جانب حل جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها الأسد وحلفاؤه، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة.
نظرة الإدارة السورية لإعادة بناء الجيش بدت منقوصة، خصوصًا في ظل غياب تمثيل لفصائل تسيطر على مساحات واسعة، شمال شرقي سوريا، وفصائل السويداء.
وبالنسبة لـ”قسد” المتمركزة شرق الفرات، لا تزال المفاوضات جارية مع دمشق، بوجود أطراف تحاول جاهدة خلق صدام عسكري بينهما، وفق قائد “قسد” مظلوم عبدي، الذي ذكر وجود تنسيق لتفادي هذا الصدام.
في المقابل، يشترط أحمد الشرع وجود ثلاث قواعد أساسية لحل المشكلة وهي: ألا يكون هناك تقسيم في سوريا بأي شكل من الأشكال، حتى لو كانت بشكل فيدرالي، ومغادرة المسلحين الأجانب الذين يتسببون بمشكلات لدول مجاورة، وأن يكون السلاح محصورًا بيد الدولة فقط.
وبعد إعلان عبدي استعداده الانخراط في اندماج عسكري مع المعارضة السورية، والانضمام إلى جيش سوريا الجديد، رفض الانضمام للجيش الجديد كأفراد، إنما ككتلة عسكرية.
“مؤتمر النصر” جاء في وقت تواصل فيه وزارة الدفاع سعيها لضم الفصائل تحت مظلتها كأفراد وليس تكتلات، وسط تحركات من الوزير مرهف أبو قصرة، سبقته لقاءات عسكرية متنوعة، وبيانات منفصلة من فصائل ومجموعات عسكرية باستعدادها للانخراط في هيكلية الوزارة.
“على عجل”.. حل الفصائل يتطلب وقتًا
قيادي من درعا حضر المؤتمر، قال لعنب بلدي، إن القيادة أخبرتهم قبل المؤتمر بـ24 ساعة بضرورة الحضور لاجتماع جميع الفصائل العسكرية في قصر الشعب بدمشق، دون أي إيضاحات حول السبب.
وأضاف القيادي، الذي فضل عدم ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، أنه خلال الاستفسار عن سبب الاجتماع تبين أنه ترتب على عجل قبل زيارة أمير قطر لسوريا، لأن الدول تريد شرعية لشخص الرئيس وخاصة قبل زيارة رئيس دولة، ومخاطبة رؤساء العالم بشخصية رئاسية معترف عليها من الفصائل الثورية ريثما يُكتب دستور وتُجرى انتخابات رئاسية.
لذلك، كان هناك إجماع من الفصائل العسكرية على تعيين أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية السورية خلال المرحلة الانتقالية التي لم تحدد مدتها، لكن القيادي قال إن المرحلة الانتقالية هي فترة زمنية تتجدد كل ستة أشهر.
ولفت القيادي إلى أن سوريا بحاجة لتنظيم إداري رئاسي لمخاطبة الدول، والشروع والضغط لرفع العقوبات، وتحريك عجلة الاقتصاد وتأمين قوت الشعب ورواتب الموظفين.
وحول حل الفصائل العسكرية، قال القيادي لعنب بلدي، إن القرار صدر بالحل، ولكن التنفيذ يحتاج إلى فترة زمنية طويلة، ريثما تتبلور هيكلية وزارة الدفاع.
قيادي في “الجيش الوطني السوري” (الذي كان ينشط شمالي حلب) فضل أيضًا عدم ذكر اسمه كونه غير مخوّل بالحديث للإعلام، قال لعنب بلدي، إن حل الفصائل سيجري بشكل تدريجي، لافتًا إلى أن الاجتماع جاء تأكيدًا لاستعداد الفصائل وموافقتها بشكل لا رجعة فيه على الانضواء تحت راية وزارة الدفاع ومؤسسات الدولة.
وقال القيادي، إن قرار حل الفصائل قطعي، ولا نزال بانتظار ترتيبات من وزارة الدفاع وما تتطلبه من تنسيق وتضافر الجهود.
تواصلت عنب بلدي مع قياديين في فصائل السويداء، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف، كما لم تنشر الفصائل أي توضيح عبر معرفاتها عن سبب غيابها، أو موقفها من المؤتمر أو القرارات الصادرة عنه.
كما لم تجب وزارة الدفاع في حكومة دمشق المؤقتة عن أسئلة طرحتها عنب بلدي حول قرار حل الفصائل وآلياته، حتى لحظة تحرير هذا الملف.
وزير الدفاع في حكومة دمشق المؤقتة، مرهف أبو قصرة، قال خلال اجتماع في العاصمة دمشق، في 22 من كانون الثاني الماضي، حضرته عنب بلدي، إن وزارة الدفاع هي حالة مؤسساتية، والآن يمكننا بناء جيش، وتتركز الأولوية على ترميم الفجوة بين القوات المسلحة، وترميم جيش هدفه الدفاع عن الوطن لا عن مصالح خاصة أو طائفة على حساب بقية المكونات السورية.
وأضاف أن الوزارة التقت مع أكثر من 70 فصيلًا لتوضيح رؤيتها، وأبدت الفصائل رغبة في الانخراط مع الوزارة، إذ لا يستقيم دخول الفصائل ضمن الوزارة وبقاؤها بنفس الهيكلية.
وشُكّلت لجنة من كبار الضباط لهيكلة المؤسسة العسكرية الجديدة، وتحتاج الوزارة لنحو شهرين حتى تستقر التعيينات في القوات المسلحة، وفق أبو قصرة.
“خطوة مهمة”
العقيد مصطفى بكور، الناطق باسم “جيش العزة” أحد فصائل “إدارة العمليات العسكرية”، قال لعنب بلدي، إن حل الفصائل ودمجها بجيش واحد هو “خطوة مهمة على طريق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وخاصة العسكرية والأمنية منها”.
وأضاف بكور أن حل الفصائل جاء بالوقت المناسب في ظل وجود وزارة دفاع، ولا يجب أن يكون الأمر مرتبطًا بتسوية الوضع مع “قسد” أو غيرها من المجموعات التي تحولت في ظل انتصار الثورة ووجود دولة جديدة من فصائل ثورية إلى مجموعات مسلحة خارجة عن الدولة مرتبطة بأجندات خارجية.
أما غياب بعض الوجوه وأسماء بعض الفصائل فهو مرتبط بمدى رغبتها بالمشاركة في بناء الدولة الجديدة على قاعدة وحدة الأرض والشعب في سوريا الحرة، وفق بكور.
في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها الدولة السورية الجديدة، ليس من التعقل البقاء خارج الإجماع الوطني بالحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع السوري، كما أن وجود بعض التحفظات على بعض المواقف والأفكار لا يبرر لأي من الفصائل أو الأشخاص التغريد خارج سرب الوطن الواحد، لأنه في جو الحرية المسؤولة يمكن معالجة الخلافات والمشكلات بين الإخوة في البيت الواحد في إطار العائلة والمصلحة المشتركة.
التأخر بالإعلان الدستوري يؤخر الخطط
فتحت خارطة الطريق التي أعلنها أحمد الشرع فيما يتعلق بإلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحل مجلس الشعب، الباب أمام التساؤلات المتعلقة بالتوقيت الواجب القيام به بإعلان دستوري.
ويترك إعلان حل الدستور ومجلس الشعب فراغًا دستوريًا من شأنه أن يعقد فترة المرحلة الانتقالية في البلاد من الناحية القانونية، فيما لم يأتِ الإعلان الدستوري لملء هذا الفراغ.
وخلال الفترة المقبلة من المتوقع أن يعلن الشرع عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ الفراغ في المرحلة الانتقالية، استنادًا إلى “تفويضه بمهامه كرئيس للجمهورية” وقرار حل مجلس الشعب.
وبعد إتمام الإعلان عن لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، من المتوقع الإعلان عن “إعلان دستوري” ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية، دون ذكر توقيت زمني محدد لجميع هذه الخطوات.
ثلاث أولويات
في الإطار القانوني، يتفق معظم الخبراء على ضرورة الإسراع في الإعلان الدستوري المؤقت، مع ضمان التنوع في لجنة صياغته.
الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة “دمشق” حسن البحري، قال حول شرعية القرارات المتخذة بعد إلقاء “خطاب النصر”، إنه من وجهة نظر دستورية، في أعقاب نجاح الثورات، يكون هناك عادة مجلس ثوري يسمى “مجلس قيادة الثورة” يتولى إدارة المرحلة الانتقالية وإصدار القرارات اللازمة لفرض الأمن وتحقيق الاستقرار في البلاد، وهو ما جرى في الحالة السورية، مع توضيح أن المجلس هنا يتألف من قادة جميع فصائل الثورة والمعارضة المسلحة.
ولفت البحري إلى ضرورة اتخاذ الرئيس المؤقت ثلاث خطوات تعتبر أولوية في السياق الدستوري للبلاد تتمثل بما يلي:
إصدار الإعلان الدستوري المؤقت ليكون مظلة دستورية يعمل بها خلال فترة الانتقال وريثما يتم وضع الدستور الدائم وموافقة الشعب عليه في استفتاء عام.
الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي الذين سيجري تعيينهم من قبل الرئيس المؤقت.
الإعلان عن أسماء أعضاء لجنة كتابة الدستور الدائم.
“التنفيذية” و”القضائية” بيد الشرع
في ضوء عدم وجود أي وثيقة دستورية تنظم أو تحدد سلطات الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أوضح المحامي عارف الشعال الوضع الدستوري له، والجهات التي يمتلك سلطة مطلقة فيها.
وقال الشعال، إنه وفق ذلك يعتبر الشرع رئيسًا للسلطة التنفيذية، ويتمتع بكامل الصلاحيات لممارسة وظيفته هذه عملًا بقاعدة “المطلق يجري على إطلاقه” وبالتالي له سلطة إصدار المراسيم التنظيمية أو الفردية، وله سلطة كاملة على الجهاز التنفيذي للدولة لجهة التعيين والإقالة بدءًا من رئيس الوزراء والوزراء والسفراء، والمديرين العامين، وانتهاء بأصغر موظف في أي دائرة حكومية.
وبالنسبة للسلطة التشريعية، فلدى الشرع تفويض مطلق بتعيين مجلس تشريعي دون التقيد بعدد أعضاء أو مواصفات أو نسب تمثيل أو غيرها.
ووفق الشعال، يتولى هذا المجلس مهمة إصدار القوانين أو إلغائها أو تعديلها، كما أنه لا يحق له إصدار المراسيم التشريعية.
بالنسبة للسلطة القضائية، وعملًا بأحكام المادة “65” من قانون السلطة القضائية، يعتبر الشرع رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى وينوب عنه وزير العدل.
“شرعية المنتصر”
المحامي السوري غزوان قرنفل، وصف المرحلة الحالية التي تعيشها البلاد بأنها “مرحلة شرعية المنتصر” يتخللها فراغ دستوري، موضحًا أنه كان يتمنى التوافق وطنيًا على إعلان دستوري يؤسس لشرعية دستورية للسلطة الحالية.
ويرى قرنفل، في حديث إلى عنب بلدي، أن التأخر في الإعلان الدستوري يؤخر الحصول على شرعية دستورية تساعد الدول على الاعتراف رسميًا بشرعية السلطة الجديدة بالمعنى القانوني، ويتيح البحث بملفات أكثر عمقًا وشمولية من المحادثات العامة التي تحصل الآن، مثل تغيير الطواقم الدبلوماسية وإصدار الوثائق القانونية المعتمدة، والتعاطي مع التعاقدات والاستثمارات بانفتاح وأريحية ضمن وضع قانوني مطمئن للدول والمؤسسات المالية العالمية.
وحول طبيعة الجهات والشخصيات التي يجب أن تتضمنها اللجنة التحضيرية المزمع تشكيلها لضمان التنوع وعدم تعيين لجنة من لون واحد، لفت غزوان قرنفل إلى ضرورة أن تضم ممثلين عن قوى وتيارات وأحزاب سياسية، وشخصيات وطنية مستقلة، ورجال قانون من قضاة ومحامين وأكاديميين مع مراعاة التنوع الديني والجغرافي.
وقال إنه بعد إصدار إعلان دستوري لن تكون ثمة متغيرات في المدى القصير، مضيفًا أن البلاد بانتظار انعقاد مؤتمر للحوار الوطني والاتفاق على هيئة تأسيسية لكتابة دستور دائم للبلاد.
تغييرات سياسية..
لا تأثير طويل الأمد
كما هو الحال بالنسبة للشأن العسكري والدستوري، صدرت عن “مؤتمر النصر” قرارات أخرى تتعلق بالقاعدة السياسية للنظام المخلوع، أبرزها حل حزب “البعث العربي الاشتراكي” الذي حكمت عائلة الأسد سوريا تحت مظلته الاشتراكية لأكثر من 50 عامًا.
الحزب كان يحظى بسمعة سيئة بالنسبة للسوريين، خصوصًا من جمهور الثورة السورية، إذ لطالما ارتبط اسمه بالآلة العسكرية التي دمرّت منازل السوريين، وعاقبتهم على انتماءاتهم السياسية، في حين أن تجربة أخرى لحل “البعث” كانت ذات أثر سلبي على المجتمع، بالنظر إلى الجار العراق.
مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور سمير العبد الله، يرى أن مسألة حل أحزاب الجبهة لن يكون لها تأثير يُذكر في المجتمع السوري.
وأضاف لعنب بلدي أن هذه الأحزاب تُعدّ “بحكم الميتة” منذ زمن طويل.
وقال إنه باستثناء حزب “البعث”، الذي كان يضم أعدادًا كبيرة من المنتسبين، فإن بقية الأحزاب كانت “صورية”، لا تتمتع بأي ثقل شعبي، بل كانت تابعة لـ”البعث” أو خاضعة لقيادة الأسد، تنفذ تعليماته وتعمل وفق توجيهاته، كما أن معظمها لم يعد صالحًا للفترة الزمنية الحالية، مثل الأحزاب الشيوعية والوحدوية وغيرها.
“الجبهة الوطنية التقدمية” هي ائتلاف مكون من مجموعة أحزاب وطنية، وقومية اشتراكية وشيوعية، يقودها حزب “البعث العربي الاشتراكي”، ويترأس الجبهة القيادة المركزية، وينص ميثاقها على أن تتكون من الأمناء العامين للأحزاب والمنظمات المنضوية تحت الجبهة وأعضاء من حزب “البعث” على أن يشكل الأعضاء “البعثيون” النصف زائد واحد من مقاعد القيادة.
وتعتبر القيادة المركزية للجبهة محور عملها، لأن لها في مراكز المحافظات قيادات فرعية تتشكل بقرار من القيادة المركزية للجبهة، وتتكون من ممثلين عن أطراف الجبهة ومن عناصر أخرى تمثل قوى أو اتجاهات وطنية تقدمية وفق ما ورد في المادة “11” من نظامها الأساسي.
وتتشكل في مراكز المحافظات بقرار من القيادة المركزية للجبهة المكاتب واللجان التي تراها القيادة لازمة لممارسة نشاطاتها المختلفة وفق المادة “12” من النظام الأساسي، وتنحصر مهام القيادات الفرعية والمكاتب واللجان بتنفيذ قرارات وتعليمات القيادة المركزية للجبهة، وتمارس أعمالها ونشاطاتها في الحدود التي ترسمها لها.
وبالنسبة للأحزاب الاشتراكية، يعتقد الباحث سمير العبد الله أن تأثيرها تراجع عالميًا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، غير أن الوضع يختلف بالنسبة للأحزاب القومية، التي قد تعيد إنتاج نفسها بأسماء مختلفة، نظرًا إلى وجود من لا يزال يؤمن بالفكر القومي العربي أو حتى القومي السوري.
وقلل الباحث من أهمية ما قد ينتج عن حل “البعث”، معتبرًا أنه لن ينتج عنه أي أثر سلبي كما حدث في العراق، لا سيما أن القرار الصادر حتى الآن يقتصر على الحل دون تجريم أعضائه أو ملاحقتهم، على عكس ما جرى هناك.
وأضاف أن معظم أعضاء “البعث” في سوريا لم ينضموا إليه عن قناعة بفكره، وإنما لدوافع مصلحية وسعيًا للتقرب من السلطة، لذلك، طالما أن قرار حل الحزب وتحويل أصوله إلى الدولة جاء بالشكل الحالي، فمن المتوقع أن يبتعد عنه الجميع سريعًا.
وفي النموذج العراقي، ترتب على حل “البعث” تداعيات أمنية دفعت أعضاءه الملاحقين أمنيًا للذهاب إلى ضفة مناهضة للحكم في العراق، ومنهم من انتسب لتنظيمات مسلحة أبرزها تنظيم “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”.
الشرع رئيسًا.. خطوة متوقعة
لم تأتِ خطوة تعيين أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية العربية السورية، خلال المرحلة الانتقالية، حدثًا مفاجئًا وفق ما يراه الباحث سمير العبد الله، ولا يمكن النظر إليه حتى الآن على أنه إقصاء لبقية الأطراف.
وقال الباحث، لعنب بلدي، إنه لا توجد في سوريا قوى سياسية أو وطنية تمتلك تأثيرًا كبيرًا في المشهد الحالي، كما هو الحال بالنسبة للأطراف التي حضرت “مؤتمر النصر”.
وتستدعي المرحلة الراهنة قيادة مركزية واحدة، بحسب الباحث سمير العبد الله، لضبط الأوضاع، وجمع السلاح، وتحقيق الاستقرار الأمني، لكن الأهم هو كيفية تصرف الشرع في الفترة المقبلة.
وربط الباحث التغييرات المحتملة بالخطوات التي سيتخذها الشرع، “هل سيسعى إلى تعزيز المشاركة والانفتاح على الجميع، أم سيحافظ على السلطة ضمن دائرته الضيقة من التابعين والمقربين؟”.
مراحل العملية السياسية..
رسائل للداخل والخارج
غداة “مؤتمر النصر”، ظهر الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، ليعلن عن أولويات سيجري التركيز عليها خلال الفترة المقبلة.
وقال الشرع، إن إدارته ستركز في رسم أولوياتها على عدة نقاط أساسية، على رأسها تحقيق السلم الأهلي.
النقطة الثانية “ملاحقة المجرمين الذين ولغوا في الدم السوري وارتكبوا المجازر والجرائم”، سواء ممن اختبؤوا داخل البلاد أو فروا خارجها عبر عدالة انتقالية حقيقية.
وفي المرحلة الثالثة، ستركز إدارة المرحلة الانتقالية على إتمام وحدة الأراضي السورية، واستكمال السيطرة على كل سوريا وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة وعلى أرض واحدة، وفق الشرع.
وتسيطر حكومة دمشق عسكريًا أو عبر التنسيق مع فصائل محلية (كما في السويداء) على معظم الأراضي السورية عدا مناطق سيطرة “قسد” شمال شرقي سوريا.
كما جاء على لسان الشرع، خلال خطاب موجه للسوريين، أن بناء مؤسسات قوية للدولة تقوم على الكفاءة والعدل، لا فساد فيها ولا محسوبية ولا رشى، يعتبر من الأولويات.
ولفت إلى ضرورة إرساء دعائم اقتصاد قوي يعيد لسوريا مكانتها الإقليمية والدولية، ويوفر فرص عمل حقيقية كريمة لتحسين الظروف المعيشية واستعادة الخدمات الأساسية المفقودة.
الباحثة السورية رغداء زيدان، وهي عضو سابق في “اللجنة الدستورية السورية”، ترى أنه من الطبيعي تبيان الشرع لمراحل العملية السياسية في المرحلة المقبلة، ليس فقط من أجل مخاطبة المجتمع الدولي وإيصال رسائل الرغبة بالتعاون والانخراط في المجتمع الدولي، بل من أجل مخاطبة الشعب السوري، الذي انتظر خطاب الشرع طويلًا، ليعرف ما الذي ينتظر سوريا، بعيدًا عن إشاعات الإعلام وتخمينات المحللين السياسيين.
وأضافت الباحثة أن هذه الخطوات ضرورية لشرعنة حكم سوريا، فالشرعية الثورية لا تكفي وحدها من أجل الانتقال إلى شرعية الحكم التي تتمثل بالإطار القانوني والتشريعي لكل خطوات مؤسسة الحكم خلال المرحلة الانتقالية وصلاحياتها، وصولًا لوضع دستور دائم والتحضير لعملية انتخابية صحيحة.
زيدان قالت أيضًا إن خطاب الشرع، رغم اقتصاره على بضع دقائق، كان يحمل تفصيلًا واضحًا للخطوات المقبلة، واحتوى أيضًا على رسم صحيح للعملية الانتقالية، ما سيبعث الثقة على المستويين الخارجي والداخلي، وسيساهم في الانتقال لمرحلة العمل الجاد لرفع العقوبات وإعادة الإعمار.
وعلى المستوى الداخلي تحديدًا، ترى زيدان أن حديث أحمد الشرع سيكون نقطة بداية للعمل على بناء وترميم مؤسسات الدولة، وتحريك عجلة العمل المؤسساتي المطلوب داخل سوريا.
عنب بلدي
—————————–
ما بين الشروط والضمانات في بناء سورية الجديدة/ محمد أبو رمان
02 فبراير 2025
يجادل المتفائلون بمستقبل سورية بأنّ الخطوات التي قام بها الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع ضرورية في ضوء الواقع المعقد الراهن، سواء على صعيد تحدّي تعدّدية الفصائل المسلّحة والطوائف من جهة، أو الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الراهن الذي يتسم بمرحلة “ما قبل الدولة”، وانهيار المؤسّسات الأمنية والعسكرية، وأوّلية مسألة الاستقرار السياسي والوحدة والأمن والخدمات الأساسية، بما يجعل من الضروري بمكان اليوم الالتفات إلى الشروط الأساسية التي لا يمكن أن تتحقق أي عملية انتقال سياسي من دونها، من وجود جيشٍ وطنيٍّ وأجهزة أمنية وإبعاد شبح الاختلافات السياسية والحرب الداخلية والتقسيم خلال المرحلة القريبة المقبلة.
وفقاً لهذه المقاربة، الدخول مباشرة في عملية إعادة صوغ الدستور وتشكيل لجان سياسية من أجل بحث مستقبل سورية، في ظل وجود ما يقارب نصف الشعب مهجّراً، ترف فكري وسياسي تنشغل به فقط النخب السياسية. أمّا الحديث عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والقيادات السياسية المختلفة في الداخل والخارج، فهي لا تمثّل، في واقع الأمر، وزناً شعبياً حقيقياً، مقارنةً بمئات آلاف اندمجوا في العمل المسلّح من الضروري اليوم إدماجهم في مؤسسات الدولة، بخاصة مع وجود حالة من الاستعصاء مع الأكراد والدروز وبعض الفصائل في الجنوب السوري.
ربما ذلك كلّه صحيح ومنطقي إلى درجةٍ كبيرة، لكنّه لا ينفي الهواجس المشروعة من أنّه لا توجد ضمانات اليوم بعدم انتقال سورية من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديكتاتوري آخر، فبراغماتية الشرع وهيئة تحرير الشام (جرى نظرياً حلّها في القرارات الصادرة أخيراً) لا تعني بالضرورة أنّ ذلك يمثّل سبباً مشروعاً ورئيسياً للقناعة بأنّ سورية ستتوجه بعد أربعة أعوام نحو نظام ديمقراطي مدني تعددي، فتحدّيات كبيرة وتعقيدات وعقد كثيرة ستواجه هذا المسار الذي انطلقت الثورة السورية قبل قرابة عقد ونصف عقد من أجل تحقيقه، ودُفعت أثمانٌ باهظة من أجل الوصول إليه.
فوق هذا وذاك؛ وبالرغم من أنّ الأجندات الإقليمية أخذت طابعاً إيجابياً، في الأغلب الأعم، تجاه الأوضاع الجديدة، وسارع العديد من الدول العربية ودول المنطقة إلى التعامل بصورة منفتحة مع التغيرات؛ لكن هذا، في الوقت نفسه، لا يعني، بالضرورة، أنّ الدول العربية سترحّب بوجود نظام ديمقراطي في سورية، بما يمثّل نموذجاً ملهماً للشعوب العربية، وتعاد كرّة الربيع العربي، وهو الأمر الذي يخشاه النظام الرسمي العربي برمّته، وقد يعمل على ممانعته عند مرحلة معينة!.
يمكن أن نضيف هاجساً آخر يتمثّل في أنّ ما تمكن ملاحظته حتى اللحظة الراهنة اقتصار الحكم الجديد على هيئة تحرير الشام وحلفائها، بوصفهم مصدر الثقة، إذ لم نر في الحكومة أو في القيادات السياسية، وحتى الأمنية والعسكرية، وجوهاً من خارج هذا الطيف السياسي والعسكري، وهو أمر كان يمكن تجاوزه بالاستعانة بالعديد من الكفاءات السياسية والتكنوقراطية الموجودة، لكن ذلك لم يحدُث، بل أكثر من ذلك، جرى حل المؤسسات العسكرية والأمنية بذريعة البعد الطائفي وحالة الفساد المنتشرة سابقاً، من دون التفكير في خطورة هذه الخطوة، وإن يجادل مثقفون سوريون بأنّ قياس الجيش السوري على العراقي السابق (خلال مرحلة صدام حسين) خطأ منهجي، إلاّ أنّ أدبيات الانتقال السياسي توضّح بصورة جليّة أنّ جميع من جرى تسريحهم وإنهاء خدمتهم سيتحولون إلى قوى غاضبة تعمل ضد النظام الجديد.
في المحصلة، من الخطأ أن نأخذ الأمور بصورة مطلقة؛ مع الشرع وخطواته بوصفها صحيحة تماماً، أو ضدها بوصفها مثيرة للقلق، فالمسألة نسبية ومعقدة أكثر. هنالك مساحات رمادية لا تزال قائمة، وهنالك ضرورات فرضت نفسها على الحكم الجديد، لكن ما هو غائب تماماً خريطة الطريق التي تحدّد، بدايةً، طبيعة نظام الحكم وسماته الرئيسية والأهداف التي تسعى إليها عملية الانتقال، ثم الخطوات المطلوبة لتحقيق ذلك، حتى وإن كانت الحجّة بأنّ ذلك مرتبط بوجود ممثلين عن الشعب يحدّدون صيغة الدستور والنظام السياسي، لكن الشرعية التي قامت عليها الثورة السورية هي التي أطّرت ذلك، ابتداءً، من خلال التأكيد على حق الشعب بنظام ديمقراطي تعدّدي ومدني يحتضن الجميع.
العربي الجديد
———————————————–
هل تخرج “قسد” من العباءة الأميركية إلى الاحتضان المحلي؟/ سميرة المسالمة
الأحد 2025/02/02
تعود القضية الكردية إلى الواجهة السياسية من جديد، بعد خطاب النصر للرئيس السوري أحمد الشرع. إذ لا يمكن أن نغفل أنه لطالما كانت هذه القضية محوراً معقداً في المشهد السياسي والعسكري، قبل ثورة 2011 وخلالها، واختصارها بالتشكيل العسكري “قسد” أو المجلس الوطني الكردي ربما يكون في غير صالحها، لأنها أوسع من مصالح كليهما. وهي أحق بالحضور الدائم ضمن الحل السوري الشامل، كجزء لا يتجزأ من القضية السورية العادلة والمحقة، التي ثار من أجلها السوريون وكللوا ثورتهم بنصر كبير وهزيمة سلطة القمع والاستبداد.
الأكراد أحد مكونات الشعب السوري، رغم أنهم جزء من قومية كردية، تماما كما أن السوريين العرب بغض النظر عن مرجعياتهم الدينية والأيديولوجية جزء من قومية عربية. لهذا يحق لهم المطالب ذاتها من حقوق المواطنة السورية المتساوية وكل ما يندرج تحت هذا العنوان. كما أن عليهم واجبات تجاه الدولة والمجتمع. ما يعني أن ما يسري على المدنيين والمسلحين يسري عليهم، وهو ما يطرح التساؤل حول مصير “قسد”، القوة العسكرية المحسوبة عليهم، وأسباب التعامل “الرسمي” معها كمكونات محلية وخارجية، وما يتطلبه ذلك من البحث عن حلول سياسية، تجعلها لا تفقد تصنيفها المحلي، لحساب مكوناتها الخارجية، أياً كانت نسبة حضورهم داخلها.
ففي ظل التطورات الأخيرة، أصبح من الضروري إعادة قراءة الواقع السوري بعين جديدة، للطرفين: الدولة السورية وقسد. خصوصاً مع المتغيرات المتسارعة في المواقف الدولية والإقليمية. ويمكن القول إن حكومة الشرع نجحت في فرض نفسها كلاعب أساسي على الساحة السورية، وباتت تحظى بقبول عربي وازن، يمكنه التأثير الفعلي على الموقف الغربي أو تخفيف حدته تجاهها. إلا أنه في المجمل، يمكن القول إنها حكومة غير مرفوضة أميركياً حتى الآن، حيث الإعلان عن إنشاء جيش سوري جديد إلى جوار الدول الإقليمية، وتحديداً إسرائيل ليس مسألة داخلية فقط.
ما يعني أن المنطقة عموماً أمام خريطة قوى جديدة تتغير معها التحالفات والمهام، ومنها الغاية الأساسية التي جعلت من قسد على قائمة رعايا الجيش الأميركي، أي مهمة قتال داعش في المنطقة. وهي المهمة التي كانت الفصائل المعارضة ترفض التفرغ لها، بعيداً عن مهمتها في رد عدوان جيش بشار الأسد على السوريين.
وبعد سقوط الأسد، سيكون من المنطقي الحديث عن مهمات جديدة للجيش السوري، من بينها محاربة الإرهاب وأي قوى خارجة عن سيطرته. ما يعني أنه يضع خياراً جديدا أمام السياسة الأميركية، وتحت مظلة الشرعية الدولية. فهل تضحي الأخيرة بهذا الطرح؟ وخصوصاً أن مثل هذا التحول يعني التعامل مع سوريا كدولة، ما يفتح أمامها مجالات لصفقات أكبر مع المحيط الإقليمي كاملاً، أي تركيا، إسرائيل، الدول العربية، ومنها سوريا؟ هذا السؤال لا بد أن “قسد” طرحته على نفسها، وستجد من خلال خطاب الشرع الإجابة الوافية عن الأسباب الموجبة لإمكانية أن تفقد أحد أكبر الداعمين لوجودها، ككتلة عسكرية منفصلة عن جيش الدولة السورية.
ومن جهة أخرى، فإن علاقة الحكومة الجديدة المتينة مع تركيا تمنح الأخيرة مجالاً واسعاً للمناورة، حيث قد تجد أن دعمها لحكومة الشرع يمنحها فرصة لضمان مصالحها الأمنية في شمال سوريا، وعلى رأس أولوياتها طبعاً تحييد أي قوة عسكرية خارجة على إجماع إرادة الدولة، في وقت يبدو فيه الاعتماد على الدعم الأميركي المتردد في مواجهة ما تستعد له المنطقة تهرّب من قراءة الواقع، أو أقله، العيش في وهم الماضي. فهل تخرج قسد من عباءة الحماية الأميركية لتدخل تحت سقف الجيش الوطني؟ يبقى هذا السؤال معلقاً حسب معطيات الصفقات الدولية المقبلة في شرق أوسط ليس ما نعرفه أو تتوقعه “قسد”.
فالوضع في سوريا بالتوازي مع كل ما يحدث في المنطقة، إسرائيلياً وفلسطينياً ولبنانياً وتركياً، إضافة إلى تحول واضح في علاقة كل هؤلاء مع الدول الخليجية، يشهد تحولات جذرية قد تعيد رسم خريطة النفوذ والتوازنات داخل البلاد إلى نقطة المركز، وهي حكومة الشرع، مع احتمال بروز ترتيبات إقليمية جديدة تحمل في طياتها فرصاً وتحديات لجميع الأطراف الفاعلة والمتفاعلة مع الواقع السوري الجديد.
للتنويه، سياق مقالتي هذه لا يعني تراجعي عن موقفي من حق الكرد في مواطنة متساوية في وطن يحفظ حقوق كل أبنائه، كما أنها ليست تراجعاً عن موقفي المتحفظ من الدولة المركزية، التي تعيق التنمية العادلة في كل المناطق السورية، فاللامركزية أو “الفيدرالية الجغرافية” -وأشدد هنا على توصيفها بالجغرافية- أي من خلال تطوير قانون الإدارة المحلية، الذي يعد حلاً ممكناً للتنمية المستدامة، والحد من التفاوتات بين المناطق المختلفة، وإلغاء حلقة من الفساد الإداري، ما يحقق استقراراً أكبر ويعزز وحدة البلاد، التي لا تزال مجرد أحلام لماض مثقل بالتمزق وحاضر مثقل بالأولويات المفقودة.
المدن
————————–
لا عدالة للمفقودين في سوريا/ فداء عيتاني
الأحد 2025/02/02
عاد موقع وكالة الأنباء السورية للعمل، ولكن بالبلادة نفسها التي كان عليها قبل سقوط النظام، وزاد من بلادته إحالة القراء إلى مواقع تلغرام لمتابعة تفاصيل الأخبار، هذه الأخبار التي لا تحمل جديداً لأي باحث عن المفقودين أو المعتقلين في سوريا، لا في مرحلة النظام السابق، ولا أولئك الذين تعتقلهم قوات السلطة الجديدة.
ليلة سقوط دمشق، كانت فصائل الجيش الحر التي استعادت نشاطها من المناطق المحيطة بمدينة حمص نزولاً نحو العاصمة قد تلقت خلال اتصالها بـ”قوات الشمال” تأكيدات بأن الأخيرة ستسيطر على السجون ومراكز التوقيف، وستضع يدها مباشرة على الوثائق وتحفظ الأماكن وتطلق سراح المعتقلين والموقوفين. وأن مجموعات خاصة مكلفة بهذا الأمر وهي جاهزة للتنفيذ فور دخول مناطق حمص ودمشق.
“قوات الشمال” كان اختصاراً لتسمية هيئة تحرير الشام بشكل أساسي، القادمة من شمال البلاد نحو جنوبها، وطبعا يضاف إليها العديد من الفصائل الأصغر، أهمها الجيش الوطني.
وتأكيدات قوات الشمال كانت كافية ليطمئن المقاتلون المحليون إلى مصير المعتقلين ومحاسبة المجرمين. ولكن مع دخول القوات المحلية إلى سجن صيدنايا “اكتشفنا أن قوات الشمال بطيئة جداً، ولم تشكل أي مجموعات مختصة لحماية الوثائق والمعلومات، بل كانت أكثر ضياعاً من غيرها”. كما يقول أحد المقاتلين المحليين الذي كان من أول المسلحين الداخلين إلى صيدنايا لحماية مدنيين رموا أنفسهم بالاقتحام السريع لإطلاق سراح أحبائهم.
هستيريا جماعية
لم تحصل عمليات جمع للمعلومات أو صيانة لمواقع الاعتقال والتعذيب والأرشيفات التابعة للنظام السوري، بل سادت الفوضى في الأيام الأولى، وبينما كان المقاتلون المحليون قد حصلوا على وثائق من سجن صيدنايا تصف المبنى هندسياً، وتشير إلى عدم وجود أي طابق تحت الأرض، كانت الهستيريا الجماعية تنتشر بحثاً عن مهاجع سرية.
الأيام القليلة الأولى لسقوط النظام كانت كابوساً لبعض الباحثين والمختصين السوريين في الخارج والداخل على حد سواء. هؤلاء حاولوا بكل الطرق الاتصال بهيئة تحرير الشام، وفصائل من الجيش الحر لحماية مواقع المدافن الجماعية التي تخلص فيها النظام السوري من معارضيه.
إحدى الباحثات في أوروبا لم توفر أحداً من طلبها تأمين منطقة المدافن الجماعية في حي التضامن في دمشق، دون نتيجة. هيئة تحرير الشام لم تبد الكثير من الاهتمام بالأمر، وكل فصائل الجيش الحر كانت تعمل على خطوط السلطة والسيطرة على بعض النقاط في العاصمة خصوصاً أنهم دخلوها قبل قوات الشمال، وأعادوا تمركزهم بعد عدة أيام. وفي النهاية دخل المدنيون يبحثون عن بقايا أبنائهم ونبشوا المقابر الجماعية بحثاً عن بقايا ثياب احبائهم ليتعرفوا على من فقدوهم وينتشلوا عظامهم ويدفنوهم بشكل لائق، مخلفين المكان بحالة من الفوضى ومبعثرين أي أثر يمكن أن يسمح بالتعرف على الجثث المتبقية.
مضت الأسابيع والقائد العام الجديد لسوريا أحمد الشرع يستقبل الموفدين الدوليين والمغتربين من السوريين، ولكن إحدى الجمعيات المشكلة من عائلات ضحايا صور “قيصر” لم تجد من يستقبلها إلا قيادي من الصف الثاني أو الثالث من الهيئة، وسمعوا منه كلاماً مبهماً حول العدالة الإنتقالية وخطة مستقبلية شاملة لمعرفة مصير الضحايا، لم يوضح لهم أي من بنودها ولا جدولها الزمني.
العدالة الانتقالية
تتأسس العدالة الانتقالية على خمس زوايا: كشف الحقيقية كاملة، المساءلة والمحاسبة، تعويض الضرر، الإصلاحات المؤسساتية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وحفظ الذاكرة. وكشف الحقيقة يكاد يكون أهم ركن فيها، وتغص المعتقلات في سوريا ومنذ العام 1970 بالنزلاء، ولا أحد يعلم عدد أولئك المختفين، ويبدو أننا لن نعلم في المدى المنظور.
وإذ يقول أحمد الشرع، الرئيس السوري الجديد، في خطاب انتصار الثورة يوم 29 من كانون الثاني 2025 بأن الأولوية هي للسلم الأهلي، فهو لا يمر ولا حتى بإشارة على ملف المعتقلين والمخفيين قسراً. رغم أن هذا الملف هو مدخل السلم الأهلي والعدالة الإنتقالية.
إذ كيف يمكن وقف عمليات الإنتقام العشوائي من دون وضع المحاكم في نصبها وإصدار الأحكام على المجرمين وكشف مصير الضحايا؟ وكيف يمكن إقناع أهالي الضحايا بأن العدالة استقامت وحقهم سيصلهم، وسيتم تعويض الضحايا أنفسهم ممن قضوا أعواماً في السجون والمنافي، سواء أكان التعويض مادياً أم معنوياً، من دون كشف الحقائق وإقامة المحاكمات المستقلة عن السلطة والمحايدة؟ وكيف يمكن ضمان مستقبل الشعب السوري وحريته دون إصلاحات قضائية وسياسية مبنية على التجربة الماضية وعلى منع تكرارها؟
ولكن شيئا من هذا لم يحصل، لا بل يتم استبعاد الحديث عن العدالة الإنتقالية وعن جمع الحقائق وعن إقامة المحاكمات، ومن يتابع الملف من المختصين يشير إلى أن كل ملف المعتقلات والتعذيب والقتل في السجون خارج دائرة أولويات الإدارة الحالية في سوريا.
أوستن تايس
على عكس الجمعيات والروابط المعنية بملف المفقودين والمعتقلين في سوريا، تمكنت والدة الصحافي الأميركي المفقود في سوريا، من مقابلة أحمد الشرع بعد ساعات من وصولها إلى العاصمة دمشق. اهتمام الشرع بوالدة المفقود تايس لا يشذ عن سياسة الحكام الجدد لسوريا: العلاقات الخارجية أولاً، والداخل السوري هو تحصيل الحاصل.
البحث عن أوستن تايس اتخذ مساراً جدياً لدى هيئة تحرير الشام منذ اليوم الأول لسقوط النظام، ولكن إضاعة الأرشيفات والتفريط بالمعلومات المجمعة في مراكز الاعتقال، وترك كبار الضباط دون ملاحقة جدية، واعدام آخرين دون تحقيقات ومحاكمات، واختفاء بعضهم في ظروف غامضة، أو في ما بات يعرف بحوادث فردية، كل ذلك إضافة إلى قلة خبرة أجهزة هيئة تحرير الشام وعدم كفاءتها، وقلة عناصرها، أدى إلى استحالة معرفة مصير تايس، ومعه مئات آلاف المعتقلين والمخفيين قسراً خلال مرحلة النظام السابق.
الضياع والتخبط واللحاق بالإشاعة وعدم تجميع المعلومات والحقائق ضرب كل ملف المعتقلين والمخفيين قسراً، حتى باتت القيادة الجديدة تستخدم الشائعات بصفتها حقائق، كمثل التحدث عن المكبس البشري في سجن صيدنايا، مع كل التوضيحات التي أوردها معتقلون سابقون عن ماهية المكبس وعدم صحة الحديث عن استخدامه في كبس البشر.
السلم الأهلي
إذا كان السلم الأهلي من أولويات الإدارة الجديدة، فلماذا التراخي والإهمال لملف المعتقلين؟تدرك القيادة الجديدة، كما كل من يصل إلى السلطة في ظروف مشابهة، بأن الحقيقة لا تكون إلا شاملة، وأن الحقيقة والمحاكمات المستقلة لن توفر طرفاً من دون غيره في مسار العدالة الإنتقالية، وأن ما مارسته في الماضي سيقفز إلى مقدمة المشهد في التحقيقات وتالياً المحاكمات، والتي يفترض أن تكون علنية.
يكاد يمكن الجزم بأن طرفاً في سوريا لا يريد العدالة الإنتقالية ما عدا الضحايا، وهؤلاء، ومع عدم توفر آلية وهيئات ومسار واضح لإظهار الحقائق وإعلانها ومحاكمة المجرمين، سيلجأوون إلى الإنتقام للحصول على ما يعتقدون أنه حقهم الطبيعي. وبدل العدالة سيسود الإنتقام والحوادث الفردية، وبدل التعويضات ستكون السرقات والنهب، وبدل إعلان الحقائق وإيقاع العقوبات ستكون التوترات الطائفية والقتل المذهبي.
ستكون حالة من الفوضى الأهلية التي ستواجهها الإدارة الجديدة بعمليات عسكرية، غير متوازنة وغير متكافئة، ولكنها لن تدفع هذه الإدارة إلى اظهار الحقائق وجمع المعلومات وإقامة المحاكمات. إذ إن المسار الجنائي والقضائي للعدالة الانتقالية سيعني حتماً إشهار ما قامت به هيئة تحرير الشام، وقبلها جبهة النصرة من تجاوزات واعتقالات واغتيالات وإعدامات. وسجل جبهة النصرة التي ترأسها أحمد الشرع نفسه يبدأ من ما قبل أول عملية إعدام علنية لأسرى من الجنود السوريين العام 2012، ولا ينتهي مع المزيد من الاعتقالات والاعدامات التي تحصل اليوم مع تحولها إلى إدارة جديدة.
فمن ذا الذي سيريد السلم الأهلي، الذي يدينه، كما يدين النظام السابق ويدين اغلب مجموعات الجيش السوري الحر؟ ويفتح باباً للبحث عن مصير كل المخطوفين والمعتقلين والذين خطفوا وتم بيعهم من جهة لأخرى قبل أن تختفي أثارهم نهائيا؟
المدن
———————
قراءة متأنّية في خطاب رجل على ضفاف بردى/ أسعد قطّان
الأحد 2025/02/02
ربّما يكون أبرز ما اتّصف به الخطاب الذي ألقاه السيّد أحمد الشرع قبل ثلاثة أيّام، بوصفه الرئيس الذي بويع بقيادة المرحلة الانتقاليّة في سوريا، أنّ الرجل توجّه أخيراً إلى الشعب السوريّ دون سواه، بكلام مباشر وشفّاف. مشكلة الشرع أنّه كان يلقي الخُطب هنا وهناك، ويدبّج الأحاديث لهذه المحطّة التلفزيونيّة أو تلك، لكنّه ما كان يخاطب الشعب السوريّ. أمّا وقد تمّت توليته رئيساً للبلاد كي “يقوم بمهام رئاسة الجمهوريّة العربيّة السوريّة” إبّان المرحلة الانتقاليّة، فقد انبرى الشرع إلى مخاطبة السوريّات والسوريّين بلغة واضحة تنمّ عن الكثير من التواضع، هذا إذا افترضنا أنّ الكلام يفصح عمّا يعتمل في السرائر، إذ اعتبر نفسه لا حاكماً، بل “خادماً” للوطن الجريح. والحقّ أنّ هذا الخطاب غير معهود في أدبيّات السوريّين السياسيّة، وهو يسجَّل للقائد الذي دخل قصر الشعب على رؤوس الرماح.
يشتمل خطاب السيّد أحمد الشرع، من موقعه كرئيس، على جملة من الأمور التي تسترعي الانتباه، ويمكن تثمينها إيجابيّاً: اعتباره أنّ التحوّل في سوريا صنعه الشعب السوريّ على نحو جماعيّ “بفضل كلّ إنسان ناضل في الداخل والخارج”، مع تطرّقه إلى حمزة الخطيب، المراهق الدرعاويّ الذي أطلق مع أصحابه شرارة الثورة السوريّة المجيدة؛ دعوته إلى فتح فصل جديد من فصول التاريخ السوريّ يمتاز ببناء مؤسّسات الدولة على قاعدة العدل، وهو “أساس المُلك” كما قالت العرب؛ تشديده على وحدة سوريا وعلى ضرورة مشاركة الجميع في مرحلتها الانتقاليّة مع تأكيد دور النساء والشباب؛ وأخيراً رسمه شيئاً من خريطة طريق لهذه المرحلة تنطوي على تشكيل حكومة انتقاليّة شاملة وتأليف مجلس تشريعيّ مصغّر وعقد مؤتمر وطنيّ، على أن يتوَّج هذا كلّه بإعلان دستوريّ يسوس شؤون الجمهوريّة السوريّة على طريق سنّ دستور جديد لها. كذلك أشار الباحث الصديق الدكتور نجيب جورج عوض، في تعليق له على خطاب الشرع، أنّ أحد مواطن القوّة في هذا الخطاب يكمن في نأيه عن لغة المكوّنات والطوائف والأقلّيّات والغالبيّة، واكتفائه بمخاطبة السوريّات والسوريّين بوصفهم ينتسبون إلى سوريا فحسب.
لا ريب في أنّ هذا كلّه يوحي بالطمأنينة ويدعو إلى الارتياح. لكنّ اللافت أيضاً أنّ الحاكم الجديد في الشام تجنّب الخوض في مسألة الجدول الزمنيّ لخريطة طريقه. فهو لم ينبئ الشعب السوريّ، ولو على نحو مبدئيّ أو تقريبيّ، بوقت حصول هذه الأمور وما تستوجبه من خطّة زمنيّة. من النافل القول إنّ قلوب السوريّات والسوريّين كانت لتطمئنّ أكثر لو عرّج السيّد الشرع على معضلة الوقت حتّى لو اتّخذ هذا التعريج مظهر الضعف، أي مظهر مصارحة الناس بتعذّر وضع جدول زمنيّ لهذه الأمور جميعها في الوقت الراهن.
إنّ ملاحظةً من هذا النوع تأخذنا من دون مواربة إلى الهنات الأخرى التي اعترت خطاب الشرع. ولعلّ أبرزها أنّ الرئيس الجديد لم يتوجّه إلى السوريّين والسوريّات بوصفهم مواطنين ومواطنات، بل بوصفهم “إخوةً وأخوات”، حتّى إنّ لفظ “مواطنة” غاب كلّيّاً عن النصّ الذي ألقاه. يضاف إلى ذلك غياب لفظ آخر هو الديمقراطيّة. ويبدو أنّ الرئيس المنصّب حديثاً ارتأى التعويض عن هذا الغياب عبر استخدامه لفظ “شورى” حين تكلّم على “بناء وطن جديد يُحكم فيه بالعدل والشورى معاً”. لئن كان مفهوم الشورى مفهوماً راقياً لكونه يمجّ التفرّد ويستسيغ أخذ رأي الآخر في الحسبان، إلّا أنّه يحيل أيضاً على أنظومة الشرع الإسلاميّ، ولا يمكن اعتباره في أيّ حال من الأحوال مرادفاً للديمقراطيّة من حيث كونها نظاماً حديثاً للحكم. هذه الصبغة الدينيّة تظهر بوضوح أيضاً في حرص الشرع على استهلال خطابه بالبسملة وطلب الصلاة والسلام على رسول المسلمين وآله وصحبه واختتامه هذا الخطاب بالحمد لله ربّ العالمين. طبعاً، ربّما يكون مردّ هذا كلّه أنّ أحمد الشرع يأتي من انتماء لا لبس فيه إلى التراث الإسلاميّ، ومن حركة إسلامويّة لم تسقط عنها بعد صفة التطرّف. لكنّ المشكلة اليوم أنّه يخاطب الشعب السوريّ بوصفه رئيساً له، ولو لمرحلة انتقاليّة. وهذا الشعب يضمّ عدداً لا يستهان به من غير المسلمين. ويضمّ كذلك مسلمين ذوي تفكير علمانيّ يحلو لهم أن يكون كلام رئيسهم جامعاً، بمعنى خلوّه من المفردات الدينيّة، ويستكرهون إقحام الدين في اللغة السياسيّة.
ثمّة من يزعم أنّ السيّد أحمد الشرع ماضٍ في التحوّل التدريجيّ من الإسلامويّة المتطرّفة إلى علمانيّة براغماتيّة، لكنّه مضطرّ إلى مداراة الصقور الذين صنعوا معه التغيير العظيم، وهم من غلاة الإسلامويّين. وثمّة من يعتبر أنّ ما يحدث اليوم على ضفاف بردى إنّما هو خدعة كبرى هدفها أسلمة الدولة السوريّة على غفلة من العالم، بما ينسجم مع إيديولوجيا الإسلام السياسيّ. وهناك من ينظر إلى تضاعيف المشهد السوريّ فاغراً فاه، وقد استحوذت عليه حيرة ما بعدها حيرة. فلا يجد ترياقاً إلّا اللياذ بالحكمة التي أنشدها طرفة بن العبد ذات يوم مشمس من أيّام الصحراء العربيّة قبل أن يهبط عليها وحي الإسلام: «”ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاً/ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ”.
المدن
—————————
الشرع… خطاب واعد لسورية جديدة/ فاطمة ياسين
02 فبراير 2025
بعد فترة من النشاط السياسي في دمشق، انهمك خلالها أحمد الشرع في استقبال وفود عربية وأجنبية كثيرة محاولاً أن يكون حاضراً شخصياً في كل لقاء مهما كان شأن الضيف، وهي علامة على اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة. وقبل أن تمضي مدة الأشهر الثلاثة التي ربط نفسه بها باعتبارها فترة انتقالية، عقد اجتماعاً لقادة الفصائل المسلحة التي شاركت في عملية ردع العدوان، والتي كان لها فضل التحرّر من النظام السابق. لم يحظَ هذا الاجتماع بالعناية الإعلامية المتوقعة، وقد صدر عنه أكبر قرار يمكن أن يُتّخذ، تعيين رئيس جمهورية يقود المرحلة الحالية. يمكن أن يعطى هذا الاجتماع شرعيةً ما بحكم الأمر الواقع، فغرفة عمليات ردع العدوان تسيطر فعلياً على العاصمة بشكل تام، وتمدّ سيطرتها على جزء كبير من التراب السوري، ونجحت بشكل لافت في تحقيق مستوى أمنٍ مقبول حتى في المناطق التي كانت محسوبةً على النظام السابق، فلم تشهد مدن الساحل انزلاقات خطيرة تشكل تهديداً للدولة، وبقيت الأمور تحت سيطرة إدارة العمليات العسكرية، رغم وجود بعض الحوداث الصغيرة، بالإضافة إلى استقرار الأسعار وصعود تدريجي في سعر صرف الليرة السورية… كل تلك النتائج تعطي شرعية لهذا الاجتماع وما نتج عنه من اختيار رئيس للمرحلة، وخصوصاً باقترانها بما يرغب به السوريون حقيقة، وهو نفض غبار العهد السابق بشكل كامل، وكنس كامل التراث الذي زرعه خلال العقود الماضية، متمثلاً في حزبه ودستوره وجبهته التقدمية وكامل مجلس الشعب الذي أتى من لدنه.
مباشرة بعد عملية التكليف التي وجدت صدىً مقبولاً داخلياً وخارجياً، أرسل قادة عرب كثيرون برقيات تهنئة ومباركة، وزار دمشق أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في اليوم التالي لعملية الاختيار، وبعدها، قدّم الشرع نفسه مرة جديدة من قصر الشعب، ومن المنبر نفسه الذي كان يقف عليه الرئيس السابق المخلوع، بخطاب إلى الشعب السوري، لم يتجاوز خمس دقائق، اختصر فيه رؤية الإدارة السياسية إلى ما سيحدُث، وحدّد للمرة الأولى خريطة طريق واضحة لتشكيل الجمهورية الجديدة. لم يسهب كيلا يقول أشياء زائدة، ولم يحشُ خطابَه بشعارات إعلانية، وكان حريصاً أن يستخدم عبارة “خادم للشعب” التي لم يعتد الشعب السوري على سماعها، وهذا انزياح مهم في طبيعة الخطاب السياسي السوري الذي كانت السلطة تسوّقه، حين كانت تطلق على نفسها القيادة الحكيمة والرشيدة. انقلب أحمد الشرع على الخطاب القديم بتعيين نفسه موظّفاً عند الشعب، ما يمكن أن يدخل الارتياح إلى الشارع الذي يرغب بأن تكون قيادته قريبة منه بأقل قدرٍ من التعالي، وهو ما أكّده الشرع باستخدام مفردة خادم.
التزم الشرع في خطابه بإعلان دستوري، وهي الخطوة الحقوقية الضرورية، وكان من المفترض أن يبدأ بها، ولكن ظروف إزالة نظام من ذاك النوع عرقلت المهمة. وأعلن الشرع عن تشكيل لجان لاختيار مجلس تشريعي يعدّ للدستور، ومجلس وزراء انتقالي يحضّر للمرحلة، وهي خطوات واقعية في حالة بلد كسورية لا يمتلك هوية سياسية محدّدة، حيث كان كل ما فيه يعدّ من ممتلكات العائلة الحاكمة، ومن الضروري نفض كل هذا الركام والبدء بورقة بيضاء وعنوان واضح في رأس الصفحة.
ربما كان من الأفضل أن يترافق إعلان الشرع السياسي وخريطة الطريق التي تحدث عنها مع فواصل زمنية محدّدة، ليس مهمّاً مقدارها، تلزم اللجان والهيئات المشكلة بالعمل وفق خطة زمنية واضحة، وتمكّن الشعب السوري من أن يكون قادراً على رؤية الإجابة عن سؤال متى، وهو سؤال طال حوالي 60 عاماً، كان “البعث” فيها حاكماً أوحد من دون خطة. قد تعلن أوقات تنفيذ الخطة لاحقاً، وهو ما يبدو أسلوباً لدى الشرع، الذي بدا متمهلاً ومتأنياً، ميّالاً إلى درس الأمور بعمق، قبل أن يجيب عن الأسئلة، وهي ميزة مهمة، بل وضرورية في مرحلة كهذه من تاريخ سورية.
العربي الجديد
——————————–
أحمد الشرع والتحديات المصيرية في المرحلة الانتقالية/ مها غزال
الأحد 2025/02/02
في خضم التحولات التاريخية الكبرى، عندما تدخل الأمم مراحل انتقالية بعد الصراعات المدمرة، تُطرح تساؤلات حول مصير القيادة الجديدة ومدى قدرتها على إعادة بناء الدولة من تحت ركام الحروب. سوريا اليوم ليست استثناءً؛ بل هي رمز معقد للصراع السياسي والطائفي والاقتصادي في الشرق الأوسط. أحمد الشرع، الذي يتولى السلطة في هذه المرحلة الانتقالية، يجد نفسه في مواجهة شبكة متشابكة من التحديات قد تعيد للأذهان تجارب مشابهة واجهها قادة دول مثل ليخ فاوينسا في بولندا بعد سقوط الشيوعية. ومع ذلك، فإن الحالة السورية، بتعقيدها الأمني والطائفي، تضع الشرع في اختبار فريد.
التحدي الأمني
تعدّ إعادة بناء الجهاز الأمني أحد أخطر التحديات التي تواجه الشرع. فالجيش السوري، الذي كان يوماً ما العمود الفقري للدولة، تعرض للانهيار والانقسام بسبب الانشقاقات والحرب الطويلة. في مكانه، برزت الفصائل المسلحة، التي تمتلك القوة الميدانية، لكنها تفتقر إلى التنظيم الأكاديمي العسكري. كثير من هذه الفصائل تعارض فكرة دمج الضباط المنشقين خوفاً من المنافسة، وبعضها يتبنى إيديولوجيات متطرفة تجعل من عملية إعادة هيكلتها أمرا بالغ الحساسية.
إن ضبط البلاد يتطلب الاستفادة من هذه الفصائل في تحقيق الأمن، ولكن دون السماح لها بالهيمنة على المشهد السياسي أو تهديد وحدة الدولة. أمام الشرع طريق صعب، يشبه في بعض جوانبه التحديات التي واجهتها نيجيريا بعد الحرب الأهلية البيافرية، عندما اضطرت السلطات لدمج مقاتلين متمردين سابقين في الجيش الوطني، مع فرض نظام تدريجي للسيطرة على الفصائل المسلحة. الشرع، في حالته، قد يضطر إلى اتباع أسلوب “التفكيك التدريجي” من خلال تقديم حوافز اقتصادية وسياسية لقادة الفصائل، مقابل مشاركتهم في مشروع إعادة الهيكلة، مع فرض رقابة صارمة على السلاح خارج الدولة.
التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) يزيد المعضلة تعقيداً. فهذه القوات تمتلك تنظيماً عسكرياً متماسكاً، وتعداداً يفوق عدد معظم الفصائل مجتمعة، مما يجعلها طرفاً قوياً لا يمكن تجاهله. لكن الضغوط التركية المستمرة لحل هذا الملف بما يخدم مصالح أنقرة، قد تتعارض مع المصالح الوطنية السورية. الشرع يحتاج إلى استراتيجية مزدوجة: الحفاظ على قنوات الحوار مع قسد بهدف إدماجها في إطار وطني جامع، وفي الوقت ذاته، تقديم ضمانات لتركيا بأن ذلك لن يتحول إلى تهديد مباشر لأمنها القومي.
التحدي الاقتصادي
“السياسة بدون اقتصاد مثل الجسد بلا روح”، مقولة تنطبق بشكل حاد على الحالة السورية. الحرب لم تترك خلفها فقط مشهداً اجتماعياً مفككاً، بل اقتصاداً منهاراً، تسوده الفوضى الإدارية والعقوبات الدولية التي تمنع الوصول إلى موارد مالية خارجية. العقوبات التي فرضت سابقاً على نظام الأسد، تمثل إحدى العقبات الكبرى أمام أي مشروع لإعادة البناء. لكن هذه العقوبات ليست مجرد أمر تقني يمكن تجاوزه من خلال اتفاقيات محددة، بل ترتبط بشروط سياسية تطالب بتشكيل حكومة شاملة تمثل كافة الأطياف السياسية السورية.
هذا الشرط الخارجي يضع الشرع في مواجهة داخلية مع قادة الفصائل الإسلامية والمجموعات المحافظة التي تفضل تطبيق نموذج حكم إسلامي في البلاد، مما يجعل التوازن بين المطالب الدولية والحسابات الداخلية، أمراً بالغ التعقيد. الشرع بحاجة إلى تطوير رؤية اقتصادية تبدأ من الداخل، حيث تكون الأولوية لتعزيز الإنتاج المحلي، وتأمين الاكتفاء الذاتي التدريجي في قطاعات مثل الغذاء، قبل التوجه نحو الخارج للحصول على المساعدات. كما أن بناء الثقة مع الشركاء الإقليميين، خاصة دول الخليج، يمكن أن يكون أداة فعالة لتخفيف الضغوط الاقتصادية، شرط ألا يؤدي ذلك إلى هيمنة سياسية خارجية على القرار السوري.
التجربة الكورية الجنوبية في مرحلة ما بعد الحرب الكورية، قد تقدم نموذجاً ملهماً، حيث استطاعت سيول في البداية تأمين استثمارات إقليمية ومحلية لتمويل مشاريع البنية التحتية، قبل أن تصبح شريكاً دولياً قادراً على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية الكبرى. الشرع قد لا يملك نفس الموارد، لكن بإمكانه التركيز على مشاريع إعادة الإعمار التي تحفز النمو الاقتصادي التدريجي.
التحدي السياسي
الملف السياسي الأكثر تعقيداً أمام الشرع، هو المحاسبة على الجرائم والانتهاكات التي وقعت خلال الحرب. المطالب الدولية بفتح هذا الملف ليست فقط دعوة لتحقيق العدالة، بل أيضاً وسيلة ضغط سياسي تهدف إلى تقييد خيارات الشرع وحصره في إطار معين. لكن المحاسبة، إذا لم تتم بحذر، قد تؤدي إلى انفجار داخلي جديد، خصوصاً في ظل الانقسامات الطائفية والولاءات المتعددة.
الشرع يواجه هنا مفترق طرق حساساً: إما التوجه نحو محاكمات واسعة قد تؤدي إلى إثارة غضب الفصائل المسلحة وحلفائه الداخليين، أو تبني مقاربة “عدالة انتقالية”، تشبه ما حدث في جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. هذه العدالة الانتقالية قد تتضمن تقديم محاكمات رمزية للقادة المتورطين في الجرائم الكبرى، مع ضمان العفو المشروط عن الأطراف الأخرى ضمن إطار مصالحة وطنية شاملة.
نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة الشرع على إقناع المجتمع الدولي بأن العدالة الانتقالية ليست إفلاتا من العقاب، بل خطوة ضرورية لضمان الاستقرار ومنع العودة إلى النزاع المسلح.
الفرص والمخاطر
أمام الشرع فرصة تاريخية لتشكيل دولة جديدة يمكنها النهوض من تحت أنقاض الحرب، لكن هذه الفرصة مرتبطة بقدرته على إدارة التوازن بين الداخل والخارج، وبين المصالح الوطنية والضغوط الإقليمية والدولية. المخاطر تكمن في إمكانية أن يؤدي تعامله الخاطئ مع أحد الملفات الرئيسية إلى انهيار كامل في المشهد الانتقالي.
إذا فشل الشرع في السيطرة على الفصائل المسلحة أو التوصل إلى تسوية مع قسد، فقد يتحول المشهد الأمني إلى كارثة جديدة. وإذا لم يستطِع تحقيق تقدم اقتصادي يخفف من معاناة الشعب، فقد يفقد شرعيته السياسية سريعاً. كما أن فتح ملف المحاسبة دون دراسة دقيقة قد يؤدي إلى إشعال صراعات أهلية جديدة.
الشرع لا يملك رفاهية الوقت، لكنه يملك فرصة لاستغلال الحنكة التي أظهرها سابقاً في إدارة خلافاته مع التنظيمات المتشددة. إذا استطاع الحفاظ على هذا التوازن مع إظهار مرونة سياسية واقتصادية، فقد يتمكن من قيادة سوريا نحو مرحلة جديدة من الاستقرار النسبي. ولكن إذا أخفق، فقد يصبح مثالاً جديداً لقادة المرحلة الانتقالية الذين سقطوا في فخ الصراعات الداخلية والإقليمية، كما حدث في تجارب عدة في العالم العربي.
المدن
——————————
السلفية الإصلاحية تتحدّى السلفية الجهادية: سورية مثالاً/ صلاح الدين الجورشي
02 فبراير 2025
حدّثني زميل تونسي التقى أخيراً الكاتب فهمي هويدي، وسأله عن رأيه في ما يحدث في سورية. أجاب بكونه يخشى من الدور السيئ الذي يمكن أن يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأشباهه، فهذه التنظيمات الموغلة في السلفية الراديكالية لا تملك القدرة على تجاوز مربّعها الأيديولوجي الضيق، لكي تفهم الأسباب العميقة التي دفعت أحمد الشرع إلى التخلي عن “خطوط حمراء” عديدة آمن بها من قبل.
وجّه تنظيم داعش، يوم الـ24 من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، تهديداً واضحاً لحكومة دمشق، حذّرها فيه بأنه سيطبق عليها “واجب الحرب والسلم” في حال تبنّيها مفاهيم مثل مجلس انتقالي ودستور وطني. كما ذكر أن “من يدعو إلى دولة مدنية في سورية هو شريك وعميل لليهود والصليبيين”. ووصف الوضع في سورية بأنه “انتقال من جاهلية إلى جاهلية أخرى”، بحجّة هيمنة تركيا العلمانية على البلاد.
لا تزال بعض هذه الجماعات الموغلة في السلفية ترفض مطلقاً هذا التطور الذي برز داخل السلفية الجهادية، وترى فيه ردة عما تعتبره “الإسلام الصحيح”. لا يهمها الخصوصية المجتمعية لسورية، ولا تركيبتها الطائفية، ولا منظومة حقوق الإنسان الكونية، ولا تعترف بضرورة وضع دستور يضمن الوحدة الوطنية للسوريين، ولا تقرّ بالحدود الفاصلة بين الدول. تعتمد فقط على مجموعة مفاهيم عقائدية، ومنظومة فقهية، ومنهج سياسي متعارض تماماً مع بقية المنظومات والمفاهيم التي شكلت البيئة التي نشأت داخلها الدولة الوطنية والإطار الإقليمي والدولي الحديث. وتعتقد هذه الجماعات أن العلاقة الوحيدة التي يجب أن تسود بينها وبين العالم، بما في ذلك سورية، هي العنف الذي تطلق عليه مصطلح “الجهاد”.
ما حدث في دول عربية أخرى خاضت تجارب الانتقال الديمقراطي يتكرّر حالياً في سورية، حيث تصدّى التيار السلفي الجهادي لهذه المسارات الإصلاحية بقوة السلاح. وهو ما جعل الحركات الإسلامية المعتدلة تغازل في البداية هذا التيار، وتحاول احتواءه كما حصل في تونس، لكن النتائج كانت سلبية، بل وكارثية على أكثر من صعيد.
السؤال الذي يتردد حالياً يتعلق بمدى قدرة هذه التنظيمات على الإضرار بالمسار السوري الراهن وإجهاضه… يبدو أن الرئيس أحمد الشرع مدرك المخاطرَ التي يمكن أن تنجر على المغامرة التي يخوضها حالياً بكل شجاعة وجرأة، فهو يعلم جيداً أن المراجعات التي قرّر القيام بها منذ مدة لن يقبلها حلفاؤه السابقون، وسيعارضونه بشدة. لكنه واصل مساره اعتقاداً منه بأنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يخرج سورية من الحفرة العميقة التي أوقعها فيها نظام الأسد. لهذا تراه يسرع الخطى نحو تحصين هذا المسار بقراراتٍ استحسنها عموم السوريين، جديدها أخيراً حل الفصائل المسلحة، والتعجيل بتأسيس جيش قوي ومتماسك. وتستعد البلاد لتنظيم حوار وطني شامل، ووضع دستور جديد. واعتبر هذا الوضع مؤقتاً، وسينتهي بتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة. وبذلك، تكون سورية قد اختارت منهجاً مختلفاً عما يدعو إليه تنظيم الدولة الإسلامية وأشباهه. وبناء عليه، ستكون المواجهة واردة إن أصرّوا عليها. لكن هؤلاء سيجدون أمامهم نظاماً مدعوماً من كل الفصائل التي ساهمت في تحرير دمشق، والتي اختارت الاندماج في الدولة الجديدة. نظام يتمتّع بشعبية واسعة، وبدأ يحظى بدعم دولي وإقليمي واسع. ومرشّح لتحقيق نقلة اقتصادية واسعة، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع تحت سلطة بشّار الأسد وحزب البعث.
في ظل هذا التحول الكبير، لن يستطيع تنظيم الدولة الإسلامية وغيره إرباك هذا المسار، إلا بالتآمر على أمن سورية، واللجوء إلى أساليب الاغتيالات وإحلال الفوضى وبث الخوف والرعب في صفوف المدنيين. وقد سبق أن جرّبت هذه التنظيمات خططاً شبيهة في بلدان أخرى مثل تونس، لكن النتائج كانت عكسية، وأدّت إلى عزلها، وتأليب الرأي العام عليها. ولعل التجربة السورية تشكل الانحسار الكامل لهذا التيار العنيف الذي قدم أسوأ مثال في تاريخ الحركات الإسلامية.
العربي الجديد
———————-
مصائر سجناء صيدنايا الجهاديين/ حسام جزماتي
2025.02.02 |
تحتاج الفرضية القائلة إن نظام الأسد أفرج عن معتقلي سجن صيدنايا الإسلاميين، في بداية الثورة، بهدف أسلمتها وعسكرتها، إلى اختبار أدق يبحث في الأسماء والمآلات.
والحال أن عدداً غير قليل من هؤلاء خرج بتجربة قاسية وذكريات مؤلمة منعته من الانخراط في الاحتجاجات. فعاد إلى منزله ليُمضي حياة هادئة غفلاً، سواء في مناطق سيطرة النظام أو في تلك التي خرجت عن حكمه. وبعضهم غادر إلى دول الجوار أو أكمل طريق اللجوء إلى أوروبا. وعلى العموم كان هؤلاء من ذوي التهم الأخف والأحكام الأقصر نسبياً، ممن لم تتبلور عندهم عقيدة “المجاهد” وشخصيته.
وبالمقابل فإن بعض ذوي القضايا الثقيلة والأحكام الأشد، التي ربما تكون السجن المؤبد أو تمتد لعشرات السنين، لم يخرجوا من السجن إلا بعد سقوط النظام. إذ لم يصل تراكم آثار مراسيم العفو إلى درجة انتهاء مدة سجنهم لأن تهمهم تتصل بالعمل المسلح أو التجمعات التنظيمية الجادة. ولو كان في نية النظام، في الحقيقة، أن يُخرج فاعلين “ليحرفوا الثورة” ويضفوا عليها الصبغة الإسلامية لما وجد أنسب منهم.
وذلك فضلاً عن عدد من معتقلي سجن صيدنايا الإسلاميين الذين انقطعت أخبارهم بعد تحويلهم منه. والكتلة الأكبر من هؤلاء هم الذين نُقلوا إلى سجن حلب المركزي (المسلمية) وكانوا أحد أبرز أهداف الفصائل لحصار هذا السجن بقصد تحريرهم. وعندما فك النظام الطوق، في أيار/مايو 2014، نقلهم إلى مكان مجهول لمحاسبتهم على دورهم في مساندة الحصار من الداخل، وتقول الترجيحات إنهم أعدموا. ومرة أخرى لو أراد الإفراج عن سجناء، يبادل عليهم ويطلقهم في المناطق المحررة لينشروا أفكارهم الجهادية في الوقت نفسه، لكان هؤلاء على رأس سلّم الخيارات.
كما أن هذه الأسطورة تفترض أن معتقلي سجن صيدنايا الإسلاميين المفرج عنهم لا بد أن يتوجهوا إلى داعش، باعتبارها الجهة الأكثر تشويهاً للثورة وتشويشاً على أهدافها السياسية وخطابها المدني وسمعتها الخارجية. فإن لم يكن فإلى “جبهة النصرة” وخاصة في مرحلتها القاعدية. غير أن الأعداد تقول إن أقل مقاصد السجناء كانت داعش، ثم “النصرة”، في حين توجهت كثرتهم إلى “أحرار الشام”. كما أسهمت أعداد نادرة في تأسيس “جيش الإسلام” في دوما بريف دمشق. وبالقياس إلى داعش و”النصرة” تعدّ “أحرار الشام” حركة جهادية معتدلة بملمح وطني.
ويتضح هذا من أسماء صيدنايا السابقين بين قادة “الأحرار” الذين قضوا بالتفجير الشهير في أيلول/أيلول 2014. ومنهم أمير الحركة أبو عبد الله الحموي (حسان عبود)، وقائدها العسكري أبو طلحة الغاب (عبد الناصر الياسين)، وشرعيها أبو عبد الملك (محمود طيبا)، ومسؤول جناحها السياسي محب الدين الشامي (محمد فداء بنيّان)، ومسؤول ملفها الخارجي تمّام (طلال الأحمد)، وعضو مجلس شوراها يوسف العاصي (أبو عبد الله). وهؤلاء من مؤسسي “كتائب أحرار الشام” بعد الإفراج عنهم في 2011.
وكان عدد آخر من سجناء صيدنايا قد بادروا إلى تأسيس “حركة الفجر الإسلامية” التي توحدت مع “الكتائب” لتأسيس “حركة أحرار الشام الإسلامية” في مطلع عام 2013. ورغم أن أبو عبد الله الحكيم (محمد الحسن)، أمير حركة “الفجر”، عاد وانسحب بها من الاندماج؛ إلا أن عدداً من أبرز قادتها تابع مع “أحرار الشام”، كشرعيها العام أبو سارية الشامي (فراس السخني) وأبو حمزة شرقية (حسين عبد السلام).
كما أسس السجين الصيدناوي السابق أبو يوسف بنّش (أحمد بدوي) جماعة “الطليعة الإسلامية” التي أسهمت في الاندماج واستمر فيه حتى قضى في الانفجار نفسه. في حين استمر شريكه في تأسيس “الطليعة”، وهو سجين صيدناوي آخر يدعى يوسف قطب (أبو جميل)، قائداً عسكرياً في “أحرار الشام” حتى قتل في معركة فتح إدلب في 2015.
وكان عضوان بارزان في لجنة التفاوض التي مثلت السجناء في أثناء استعصاء صيدنايا من عرّابي تأسيس “أحرار الشام”. هما أبو العباس الشامي (محمد أيمن أبو التوت)، الذي اعتزل العمل الحركي لاحقاً، وحسن صوفان (أبو البراء) الذي خرج بصفقة تبادل في عام 2016 وتولى إمارة الحركة، وينسب إليه انشقاقها ثم توجهها إلى تحالف عضوي مع “هيئة تحرير الشام”. وفي الغضون تولى إمارتها عدد من سجناء صيدنايا السابقين كأبي يحيى الحموي (مهند المصري) وعامر الشيخ (أبو عبيدة). وإن كانت نسبة الصيدناويين أخذت بالتراجع مع استلام الصف الثاني.
ومن جهته قاد الصيدناوي السابق هاشم الشيخ (أبو جابر) انشقاقاً عن الحركة عرف باسم “جيش الأحرار” فاوض “جبهة فتح الشام” على تشكيل “هيئة تحرير الشام” التي تولى أبو جابر قيادتها شكلياً لفترة.
في حين ضمت سلسلة “جبهة النصرة” ثم “جبهة فتح الشام” ثم “هيئة تحرير الشام” عدداً أقل وأخف حضوراً من الصيدناويين. إذ لم يُسجن هناك قائدها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وأمنيّها أبو أحمد حدود (أنس خطاب) ومسؤول علاقاتها الخارجية زيد العطار (أسعد الشيباني). وإن كان من معتقلي صيدنايا السابقين شرعيها مظهر الويس، وقائدها في حماة المنشق عنها الذي عرف باسم صالح الحموي (أس الصراع في الشام)، واقتصاديها المنشق أبو أحمد زكور (جهاد الشيخ)، وأميرها في القلمون المنشق أبو مالك التلي (جمال زينية) وعدد آخر. فقد تشكلت “النصرة” بداية من جهاديين سوريين عائدين من العراق وعراقيين وأردنيين وسوريين خارجين من صيدنايا وآخرين بلا سابقة تنظيمية.
أما داعش فلم تقم وزناً خاصاً لسجناء صيدنايا. فقد تكونت من عصب عراقي خارج من السجون هناك، بوكا وغيره، ومن ذاكرة جزراوية يسكنها سجن الحاير السعودي، ومن سجون أخرى في مصر وتونس والمغرب وأنحاء شتى من العالم. ومع ذلك برز من سجناء صيدنايا السوريين اثنان من قياداتها اشتهرا بدمويتهما؛ هما أبو لقمان (علي الشواخ) والي الرقة، وأبو الأثير (عمرو العبسي) والي حلب. وقد قتلا على يد التحالف الدولي لمحاربة داعش.
تلفزيون سوريا
———————————–
حول قرار حل الجيش السوري/ عبسي سميسم
02 فبراير 2025
أثار قرار إدارة العمليات العسكرية “ردع العدوان”، خلال اجتماع “النصر” الذي جمع معظم الفصائل التي ساهمت مع غرفة عمليات ردع العدوان في الانتصار على النظام السابق وفرار رئيسه بشار الأسد، والذي قضى بحل الجيش العربي السوري، ردود فعل متباينة في أوساط السوريين. انقسم هؤلاء بين مؤيد لهذه الخطوة التي يرى فيها أنها مجرد إعلان قانوني لحل جسم هو منحل أصلاً منذ سقوط النظام السابق، وبين معارض لها، يعتبر أن الجيش السوري كمؤسسة عسكرية لا يزال يشكل ضماناً لوحدة البلاد، وأمن حدودها، وأن ما كان يجب فعله هو إعادة هيكلة، وإعادة بناء لعناصر هذه المؤسسة ومحاسبة من تلطخت أيديهم في دماء السوريين.
يستند كل فريق في مقاربته لوجوب ترك أو حل هذا الجيش إلى مجموعة من المعطيات المنطقية. يعتبر الفريق الذي يرى وجوب حل هذا الجيش أن المؤسسة العسكرية برمتها كانت مسخّرة للوقوف في وجه الشعب السوري لحماية السلطة، ولم تقم بأي دور يتعلق بمهمتها الأساسية في حماية حدود البلاد بشكل يخالف الغاية من وجودها بحسب دستور عام 2012 الذي أقره النظام السابق نفسه. بالإضافة إلى تورط معظم مكونات هذا الجيش في سفك الدم السوري، ووجود عدد كبير من عناصره ممن انتسبوا إليه خلال فترة الثورة السورية أي بهدف محاربة السوريين، وليس الدفاع عن حدود البلاد. كما أن هذه المؤسسة قائمة على منظومة فساد، تقوم على النهب والسرقة والإتاوات.
كذلك يستند مؤيدو هذا القرار إلى أن المؤسسة العسكرية لم تعد تمتلك مقومات الجيش، فسيادة المناطق التي يسيطر عليها كانت منتهكة من قبل بعض الدول، وقراره مرتهن لدول أخرى وحتى لمليشيات رديفة تسانده مدعومة من دول خارجية. كذلك هناك قسم من عناصر الجيش وضباطه انشقوا عنه، وقسم كبير من عناصره قتل في معاركه مع فصائل المعارضة، ما أدى إلى انهياره لمجرد التخلي الدولي عن دعمه عسكرياً. كما أن البنية التحتية لهذا الجيش تم تدميرها على يد إسرائيل بعد سيطرة “ردع العدوان على البلاد”. أما معارضو القرار فيستندون إلى مخاوف تتعلق بعدم وجود بديل حالي للجيش السابق، إضافة إلى مخاوف من إنتاج جيش من لون واحد لا يمثل كل السوريين، وإدخال فصائل المعارضة ضمن تشكيلة الجيش كأجسام مليشياوية ضمن تركيبة هذا الجيش. يأتي ذلك إلى جانب أن تسريح مئات الآلاف من عناصر الجيش والأمن قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في أعداد العاطلين عن العمل.
لكن بغض النظر عن تباين آراء السوريين حول قرار حل الجيش، إلا أن هذا القرار تعترضه الكثير من التحديات على طريق إنتاج جيش بديل، لعل أبرزها هو القدرة على بناء مؤسسة عسكرية يتم دمج مقاتلي الفصائل فيها دون الدخول في محاصصات قوى مع تلك الفصائل بشكل سلس، وإعادة إدخال منتسبي الجيش السابق ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وكذلك المنشقين، وإثبات قدرة هذه المؤسسة على احتكار السلطة العسكرية بشكل فعلي. كما أن التحدي الأهم أمام الإدارة الجديدة هو الحصول على قبول سياسي دولي من أجل إبرام عقود تسليح تمكن هذه المؤسسة من امتلاك سلاح استراتيجي قادر على حماية حدود البلاد من أي اعتداءات خارجية، وتجنب تحويل سورية إلى دولة منزوعة السلاح.
العربي الجديد
—————————–
الليرة السورية المُستقوية بالسياسة/ عدنان عبد الرزاق
02 فبراير 2025
للعملة، أي عملة، قرنا استشعار يفوقان باستشرافهما المستقبل أحياناً، حتى قراءات المحللين وآراء الساسة والاقتصاديين، والواقع يقول: قلّما خابت توقعات العملة، أو بصيغة أدق، مَن يقف وراء العملة ويحركها، فالحكاية باختصار، مصالح وأرباح مبنية على الواقع بعيداً عن أماني الساسة أو رغبويات الشعوب. وربما الليرة السورية حالة يعتدّ بمسيرتها في هذا المقام.
وذلك بعد أن قادت جلّ المؤشرات السياسية باقتدار، مذ بدأ السوريون حلمهم تجاه الحرية وتداول السلطة مطلع عام 2011، فتهاوت من نحو خمسين ليرة للدولار، ليقينها، أو يقين مَن وراءها، أن مشوار السوريين طويل حتى يقتلعوا أكثر العصابات إجراماً وارتباطاً. ورأينا ورأى المتابعون كيف كانت العملة السورية تعكس مؤشرات الأرض، وتدلل على الآفاق المسدودة، إقليمياً ودولياً، فتهوي وتتذبذب على حسب تبدلات المعارك وملامح الانفراج.
بيد أن استشعار العملة تبدّى جلياً، حينما اصفرّت ورقة نظام الأسد المخلوع، فهوت قبيل هروبه بأيام إلى ما دون 16 ألف ليرة للدولار الواحد، وتابعت مشوار قراءتها الواقع، خلال يوم السقوط، جراء الاختلاط وعدم اليقين وضبابية مشهد انتصار الثوار، ليصل سعر الدولار إلى أكثر من عشرين ألف ليرة في بعض المحافظات، ويفقد السوريون الثقة والأمل بعملتهم.
إلا أن نبوءات الليرة السورية أو من يديرها ويقف خلفها، أمسكت بملامح الانفراج واستشفت قوة الحكم الجديد وخططه الوطنية، فمدت وتمددت والتقطت الأنفاس، خاصة بعد قرارات تخفيف العقوبات، الأوروبية والأميركية، وعودة ثقة المكتنزين والمتعاملين لعملة فَقدت، خلال سنين الثورة، جميع عوامل القوة إن لم نقل القدرة على البقاء والتداول، بدليل الدّولَرة هنا والعملة التركية هناك، والسعي المستمر نحو ملاذ المعادن الثمينة غالب الأحايين.
بيد أن سؤالاً هنا يتوثب على الشفاه: بناء على ماذا استندت الليرة السورية حتى تأكدت، أو من يقف وراءها، أن عصرها الذهبي بدأ بالعودة… أو سيعود. وهي، أو من يديرها، يعلم يقيناً أن محددات قوة النقد، لما تزل مفقودة بسورية، إن ما يتعلق بالاحتياطي النقدي الأجنبي الذي لا يزيد في المصرف المركزي عن 200 مليون دولار، بعد أن بدّد النظام البائد الاحتياطي الذي ناف مطلع الثورة عام 2011 عن 18 مليار دولار، وسرق قبل هروبه إلى روسيا المتبقي، أو ما يتعلّق بقطاعات التصدير والسياحة والاستثمار، التي تعتبر أهم روافد القطع الأجنبي وتوازن العرض واستقرار السعر.
على الأرجح تأتي الإجابة من بوابة السياسة هذه المرة، إذ إنّ محددات سعر الصرف، ليست اقتصادية بالمطلق، بل ثمة أسباب نفسية وأخرى سياسية، وهذان العاملان هما المتبدلان الوحيدان في واقع ستاتيك الأسباب الاقتصادية، أو تحركها الحذر وببطء شديد.
قصارى القول: يرى المراقب بوضوح أن قفزة تحسن الليرة السورية الأكبر، بعد سقوط بشار الأسد، كانت الأسبوع الماضي بالتزامن مع زيارة أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، لدمشق، ليهبط سعر الدولار، ولأول مرة، إلى ما دون عشرة آلاف ليرة.
ويرى المراقب اليوم أن الليرة السورية، أول من تلقّف نتائج زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع للمملكة السعودية اليوم، فتابعت مشوار تعافيها ليسجل الدولار نحو 9700 ليرة. وعلى الأرجح، ستُتابع العملة السورية تعافيها، بعد زيارة الرئيس السوري إلى أنقرة قريباً، وقد تتابع استشرافها باستقطاب الأموال وعودة الرساميل، كلما زاد الانفتاح العربي والإقليمي والدولي على سورية الجديدة.
ولأن العملة خاصة والاقتصاد عموماً، يعتمد الواقع والأرقام ولا يجنح صوب الأماني، استشعرت الليرة، أو من يديرها، أن حلولاً في الأفق القريب جراء التقارب وحسن العلاقات مع سورية، منها إيداعات دولارية محتملة بالمصرف المركزي السوري، أو مساعدات مباشرة من الدول الإقليمية، أو حتى ضخ أموال في قطاعات من شأنها أن تحرك عجلة الاقتصاد السوري، أو على الأقل توفر المناخ الجاذب لعودة الأموال والاستثمارات، كما قالت قطر عن توليد الكهرباء، وكما قالت تركيا عن تنشيط النقل، وكما قد تقول الرياض اليوم عن توفير المشتقات النفطية، وربما أكثر.
نهاية القول: اقتصادياً، لم يتغيّر شيء في سورية باتجاه الإيجاب، بل يمكن اعتبار عودة اللاجئين والنازحين عبئاً إضافياً مرحلياً، قبل أن يأخذوا مكانهم وأدوارهم بالإنتاج. كما يمكن اعتبار سرعة تلافي ترميم وإصلاح خراب الأسد، استنزافاً إضافياً لخزينة خاوية.
طائرة تابعة للخطوط الملكية الأردنية تقلع من مطار مدريد، 27 أكتوبر 2023 (ماركوس ديل مازو/ Getty)
إلا أنه ورغم تلك المعوقات، بل وزيادة المستوردات بعد تخفيض الرسوم الجمركية، التي انعكست على معروض العملات الأجنبية التي دخلت مع العائدين والوفود الرسمية والإعلامية، ها هي الليرة السورية تتحسن وبقفزات سريعة وكبيرة، الأمر الذي يرجّح تغليب العامل النفسي والسياسي، هذه المرة على الأقل، على العوامل الاقتصادية، بل ويزيد إقبالَ التجار والمضاربين على الليرة.
وهذا التهافت على الأرجح، هو القطبة المخفية في تحسن سعر العملة السورية المقبلة، ولا شك، على تحسن وإلغاء الورق المتداول الذي يحمل صور حافظ الأسد والوريث المخلوع بشار.
العربي الجديد
————————–
الوطن ينادي: إلى سوريا يا شباب!/ ياسين عبد الله جمّول
2025.02.02
في واحدة من أبرز مقالات الطنطاوي في رسائله “في سبيل الإصلاح” كانت دعوته الشباب إلى القرى التي كانوا يهربون منها، فقال: “يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها، يا أيها الشباب الذين يحبّون بلادهم ويريدون صلاحها: إن الشباب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً طيباً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً. إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب وذكائهم ومعرفتهم ونشاطهم”.
لامست صرخاتُ الطنطاوي اليوم مَسمعي من جديد، وكأنه يصرخ بنا وقد انفتحت سوريا كلها أمامنا؛ حتى نُسرع إليها، بعيداً عن تفضيلاتنا الشخصية وأهوائنا؛ لأننا نحبّ بلادنا ونريد صلاحها.
نعم؛ من الطبيعي أن مَن رجع فوجد بيتَه كومة من الركام، مثلي، أن يهرب من بلدته القُصير مثلاً إلى مركز المدينة في حمص إذ لا بيت بقي له، فضلاً عن العمل والمستقبل الأبعد. ولكنّ ما لن يكون طبيعياً، وعلينا الاستفادة من صرخات الطنطاوي له هو أن نترك ريفنا؛ أن نترك بلداتنا المدمرة ونختار الأحسن لنا والأكثر راحة لعيالنا.
بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة!
بعد يومين من تحرير القُصير فوجئت بأخواتي وقد حملْنَ خيامهن وأيتامهنّ ونزلن من عرسال إلى بلدتنا، وهي مدمرة بنحو 80 في المئة، فلما ناقشناهن كان الجواب: نحن من ١٢سنة بالخيام في أرض غريبة؛ فما دامت أرضنا تحررت فنسكن بخيامنا فيها معزّزين مكرّمين.
كانت بكلمات عامية يسيرة؛ لكنها أبلغ من خطبة لواصل بن عطاء، وحقاً وجدتهنّ في ركام البيوت سترنها بشوادر الخيام وأدواتها، ومثلهن كثيرون نزلوا من مخيمات عرسال ليستقروا في بيوت مدمرة؛ ولكن مع عزّة وكرامة.
فمَن ينتظر تجهيز بيته كما كان قبل الثورة، أو ليصبح كالبيت الذي سكنه في إسطنبول وعينتاب أو برلين وأمستردام أو الدوحة والرياض فهذا يبرّر لنفسه عدم العودة. وكلنا أمل أن ننهض ببيوتنا المدمرة فتصبح كالتي سكناها في تركيا وألمانيا والخليج، ولكن هناك كنا غرباء مهما حملنا من وثائق تلك الدول، وهنا نحن أصحاب البلد؛ وإن كنا نضحك لقول السابق ونحسبه ضرباً من الوهم:
لَبيتٌ تخفق الأرواح فيه أحبّ إليّ من قصرٍ مُنيف
ومع ذكر الطنطاوي ورسائله في الإصلاح أستحضر صرخة أخرى تناسب السوريين الذين ما زالوا يدفعون كل تعبهم وقد يستدينون فوقها ليدفعوا في تركيا وغيرها، إذ يقول تحت عنوان مميز “بطون جائعة وأموال ضائعة”: “…فإلى متى نضيّع أموالاً نحن اليوم أحوج إليها من كل يوم مضى؛ لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال”؟!
الأرض المعجونة بالدم!
الركام الذي نجده لبيوتنا ليس للحمل والنقل سريعاً؛ ففيه ذكرياتنا لعقود، وحكايات الأمهات والجدّات، وعرق الآباء والأجداد. ثم أليست هذه البيوت النُّصُب التي عليها أُريقت دماء الأحبة واستشهدوا دوننا ودونها، فاختلط ترابها بدمائهم حتى فاحَ عبيرها؟!
فاصبِروا لا تنقلوا ركام بيوتنا بعيداً حتى ينتهي مني الحداد، وتشبع النفس من عبق الكرامة المعجون فيها!!
وإن كان المعرّي قد قال بالجملة عن الأرض والقبور في رائعته “غير مُجدٍ في ملّتي واعتقادي…”:
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
فلا نبالغ إذا قلنا: نعتذر… ونستغفر أننا نمشي على أرضنا السورية؛ وهي المعجونة بدماء شهدائنا من إخواننا وأحبتنا، وإن كان نظام الأسد المجرم لم يترك لبعضهم بقايا في هولوكوست صيدنايا وغيره، حيث كان يطحن الجثث ويذيبها بكل سادية.
الديمغرافية السورية ما تزال في خطر!!
هُجّرنا من مناطقنا ثلاث عشرة سنة، اختلّت فيها التركيبة الديمغرافية للمجتمع كثيراً؛ فإيران كانت الراعي الأهم للتهجير، واشتغلت على التغيير السكاني بعد ذلك بتجنيس عناصر من ميليشياتها، وبإسكان آخرين من التابعين لمشروعها؛ فلن نكون “طائفيين” إن قلنا: حمص من بعد التهجير حتى التحرير تغيرت خريطتها تماماً، فصار عدد العلوية يقارب عدد السنّة، وكانوا قبل ذلك لا يزيدون عن 10% فيها، وهي نسبة دخلت في حمص منذ السبعينيات كما حكى كمال جنبلاط عن خطة حافظ الأسد في ذلك. وليس خارج هذه الخطة الاستهداف الممنهج من حزب الله الذي كانت له السطوة في حمص والقصير للدوائر العقارية والنفوس في حمص وريفها، حتى انتهينا في التحرير إلى آلاف الوثائق المدمرة في هذه المناطق، كما ذكر الدكتور الأعمى محافظ حمص في الإدارة الجديدة.
فكيف يرجع التوازن الديمغرافي إلى المنطقة ما لم يرجع أهلها ويُساعدوا في عودتهم؛ فمن دون عودة التوازن هذا إلى ما كان قبل الثورة، على الأقل، لا يمكن بناء سلم مجتمعي، لأن المزاج سيبقى بين منتصر وخاسر. فهلمّوا إلى مدننا وبلداتنا المدمّرة حتى نُعيد إليها التوازن، فتعود الحياة من جديد، ويُبنى السلام المجتمعي.
مع ملاحظة أن مشروع إيران في سوريا وإن كُسر بالتحرير؛ فإن آثاره المديدة في نفوس ملايين السوريين الذين كانوا تحت سيطرة الأسد وإيران لابد من خطط لعلاجها، فلا يأخذنا الغرور بالنصر وانهزام إيران أن نزدري ما فعلت في سوريا لعقود وضاعفت منه خلال سنوات الثورة.
ماذا بقي من الأعذار؟!
لسنوات نردّد الدعوات للداخل والعمل في سوريا؛ فكان عذر بعضهم أننا لا ندخل الشمال ونكون في غير مناطقنا، فماذا بقي بعدُ والبلد كلها لنا وتنادي بنا أن هلمّوا … هلمّوا.
وكان عذر آخرين: لا ندخل البلد وكلها سواد؛ وهذا عذر قد سقط أيضاً، وكل العقلاء يرون كل الألوان في فسيفساء لم تشهدها سوريا منذ عقود، ففيها “الأسود” والأحمر وعديم اللون والطعم والرائحة.
ولعل من الشباب مَن يتعذّر أنه لا يمكنه أن يعود بالكليّة؛ بل يمكنه أن يأتي في الصيف فيعمل خلال شهرين أو ثلاثة متطوعاً في التعليم أو الدعوة أو البناء، فهذا خيرٌ كذلك وبركة؛ وما أجمل أن تُنظّم من كل جالية أنشطة تطوعية كهذه يتناوب فيها الشباب على السفر إلى سوريا في برامج موحّدة تختزن الجهود وتنظّمها من دون تضييع أو تكرار.
هلمّوا إلى البلد يا شباب!
فكل ما فيها ركام؛ ركامٌ من البنيان، وركامٌ من الإنسان، ولن تنهض من جديد ويرجع إليها مع الحيوية والشباب حتى نعطيها من شبابنا وحيويتنا.
وفي آخره رسالته قال الطنطاوي _وبقوله أقول_: “إنّ المروءة والواجب الوطني، والدِّين والإنسانية، وكل مبدأ مقدّس يدعوكم إلى مساعدة الفلّاح [سوريا] أيها الشباب. فيا أيها الشباب: إلى القرية [إلى سوريا].. إلى القرية [إلى سوريا]!! لا؛ لست شيوعياً، ولا اشتراكياً، ولكني إنسان، وإني مسلم!”
تلفزيون سوريا
——————————–
جرائمُ وأدٍ لا شرف/ هدى سليم المحيثاوي
02 فبراير 2025
نعيشُ في زمنٍ بات الحديث عن حقوق الإنسان كقول صباح الخير، بديهياً، لازِماً وضرورياً. رغم ذلك نشهدُ ما هو خارج السياق في القيمةِ والمنطق، من جرائمَ لا يمكن أن نسميها إلّا بالوأد. جرائم تستهدفُ النساءَ حصراً، على يد فردٍ من أفراد العائلة، تحت مُسمّى “جرائم شرف”!
شرفٌ يُقرَن مع جرائم كهذه، لا يمكن أن يكون إلّا وصمةَ عارٍ على كل مَن يؤمن بالشرف وضرورته، فارتباطه بجريمة قتل ينزع عنه أي قيمةٍ إنسانية. تحملُ هذه الجرائم وأداً للحق في الحياة، للمستقبل، للحق في تقرير المصير وفي اختيار الشريك كذلك، ما يجعلُ مصير بعض الفتيات وكأننا أمام امتدادٍ لجريمة الوأد الجاهلية، وإن اختُلِفَ على زمن حدوثها ووقت وقوعها. ذلك كله يحدُث بتواطؤ النصوص القانونية، التي تسوّغ للفاعل العذرَ للإفلات من العقاب، ليساهم في تكرار الجريمة واستمرار وقوعها، فتتكرّر خسارةُ فتاةٍ لحياتها، واحدةً تلو الأخرى.
قبل أيامٍ خَلتْ، قُتلَت ليليان. س ذات التاسعةَ عشرةَ عاماً على يد والدها، في محافظة السويداء السوريّة، وأُصيبَت والدُتها بعد محاولة الدفاع عنها بإصاباتٍ، دخلت إثرها المستشفى في حالةٍ خَطِرة… مُسوغاتُ هذه الجرائم لا يصعبُ استدعاؤها، وهناك دائماً إمكانية لاستدعاء مبررٍ لجريمة كهذه وغيرها من الجرائم المماثلة، فالشرف قد يُستدَعى، والوصاية يمكن أن تُستدَعى، والأخلاقُ والحماية، والحالة النفسية، إلى ما هنالك من مسوّغاتٍ يمكن الدفعُ بها إلى ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب! فللقانون في عالمنا العربي، وفي دول انتشار هذه الجرائم، نوافذُ كثيرة يمكن الدخول منها.
جرائمُ الشرف تطاولُ فتياتٍ يتزوجنَ من خارج دينهنَّ أو طائفتهنًّ أو قبيلتهنَّ أو حتى عائلاتهنَّ في أوساطٍ معينة، ورغم الإجراءات القانونية التي تتم للزواج، لا تعترف العائلة به ولا تتقبله في غالب الأحيان. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن الفكر المتحكم في هذا السلوك، وما ينجمُ عنه، ليس حكراً على طائفةٍ أو دينٍ أو منطقة بعينها، بل هو جاهليةٌ لا يمكنُ محاربتُها إلّا بالعقل والفكر.
المجتمع الدرزي واحدٌ من بيئاتٍ كثيرة يمنع الزواجَ من خارج طائفته الدرزية. وهو يتدرجُ في تشدّده بحسب أماكن الوجود حيال هذه القضية وقضايا أخرى، فهناك اختلافٌ بين الدروز في لبنان ومناطق جرمانا وصحنايا في سورية، وكذلك بين الموجودين سابقاً في جبل السماق في معرّة النعمان في إدلب (ربما بقي منهم القليلُ هناك بعد الثورة السورية)، وبين السويداء مدينةً أو ريفاً، وتُعتبرُ الأرياف الأكثر تشدّداً في العموم، مع وجود فوراق فردية طبعاً.
“جرائم الشرف”، المسوغ القانوني المعروف في دولٍ كثيرة، وليس فقط في عالمنا العربي، هو البند الذي يعطي الحقّ لفردٍ من أفراد العائلة بإنهاء حياة فتاةٍ ما. وأحياناً ليس بالضرورة أن يكون فرداً حتى من أفرادها، فالسلطة على الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية هي سلطةُ مجتمع، وليست فقط سلطةَ عائلة، إذ تُعطي العادات والتقاليد الحقَّ للمجتمع في التدخل في شؤون الفتيات وأمورهنَّ من دون أي رادعٍ يقف في وجهها. فكم من أنثى يُغدَرُ بها على يد من يُفترَض بهم حمايتُها، كم من أنثى يُنتزَعُ منها حقُّ الحياة، حقُّ التعليم، حقُّ تقرير مصيرها، فقط بحجة أنها أنثى!
تفيد التقارير التي تتناول قضايا المرأة بأنَّ “جرائم الشرف” أصبحت معركة دموية في بلدان كثيرة، مثل باكستان، أفغانستان، الهند، إسرائيل، إيطاليا، الأردن، اليمن، تركيا، العراق، المغرب، مصر، سورية، الأمر الذي يدفع المنظمات الحقوقية والدولية إلى المطالبة بوضع العقوبات على هذا النوع من الجرائم بوصفها جريمة قتل، وليس بعذرٍ مُخفَّف.
لا بدَّ أن نلوم المجتمعَ الذي يجعل أولوية الأب هي حماية أعرافه وليس حماية أبنائه، أن نلوم القانونَ الذي يفتحُ نوافذه لمسوغاتٍ تبرر بدلَ أن تمنع القتل، لا بدَّ أن نلومَ الأفكار القَبَلية التي تُمجِّدُ العادات وتُلغي العقل والفِكر.
هناك دائماً أداةٌ مباشرة للجريمة يكون الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو أحد الأقارب. وفي مثل هذه الجرائم هناك أيضاً أيادٍ ليست خفية، إن أردنا وضعَ حدٍ لها، لا بدَّ من كفِّها، فالمجتمع قاتلٌ غير مباشر، والقانون قاتلٌ صامت، والأقارب محرّضون، ووسائل الإعلام التي ترفض الحديث أحياناً في قضايا كهذه على أساس أنها تخصّ الجندر أو قضايا نِسوية أو قضايا تخص الطائفة، إلى ما هنالك من التوصيفات المُبَرِّرَة، تُشكلُ جميعُها بيئةً تُعزّز العنفَ وتجعل من العادات غطاءً للقمع والقتل.
ويتقنعُ المجتمع صامتاً خلف أداة الجريمة، لكنه في حقيقة الأمر يُعَدُّ المحرض الأول لارتكاب عدة جرائم، ففي أحيانٍ كثيرة في أوساطٍ معينة، يتمُّ ازدراءُ الذكر الذي لا يتبنّى العنف تجاه النساء من أفراد عائلته، حال حدوث أمرٍ مُخالفٍ للعادات والأعراف. وفي الحديث الذي عن زواج الفتيات من خارج طوائفهنَّ، يُنظَرُ في بعض المناطق والأوساط إلى العائلة التي تتزوج ابنتُها أو تقرّر الزواج من خارج الطائفة نظرةً دونية، ويتمُّ عزلُها وتجنبُها وقتلها معنوياً. وحتى لو وُجِدَ منهم من يمتلكون القناعة بظلمهم وعدم ارتكاب الخطيئة، بالزواج بشابٍ يختلفُ بطائفته أو دينه، فإنّهم لا يجرؤون على التقرّب منهم أو الاختلاط بهم، لأنَّ النبذ والتجنب يطاولُهم كذلك.
… ما يتمُّ استدعاؤه من مسوغاتٍ لجرائمَ ضد النساء تنصَبُّ فقط عليهنّ، حتى اجتماعياً. فلا يطاولُ الذكر ما يطاولُ الأنثى حال أيٍ من المسوغات أعلاه. حتى في حالة زواجها من خارج الدين أو الطائفة، تتقبله العائلة ذاتُها إن كان الابن الذكر هو الذي قام بالأمر نفسه، وكأنّهم يقولون إنَ الذكر يعجزُ عن حمل لواء الشرف، فتحمله الأنثى وحدها وتُحاسَب عليه!، أو أن يقنعونا بأنَّ الخالقَ قد صبغها بوصفها كائناً من الدرجة الثانية!
الخلل في المجتمع العربي يطاولُ الإنسانَ عموماً في حقوقه، فلا أحد ينالُها. وفي غالب الأحيان، يكون العامل المادي أو امتلاك السلطة الحاكمَين الأكثرَ سطوةً في تقرير المصير، إذ يمكنُ استثناءُ الأغنياء وأصحاب السلطة من قوانينَ أو أعرافٍ وتقاليدَ كثيرة في دولنا، ليبقى الضعيف وحده في الغالب الضحية. أمَّا القوي فيمكن أن يكون المجتمع، الذكر أو حتى أنثى تمتلك ما تمتلك من قوةٍ وسطوة، تسلطه في الغالب على مَن هنَّ أضعف منها من النساء، ويمكن أن تشترك في بعض الأحيان في الجرائم موضع حديثنا.
لن تكون ليليان. س الضحية الأخيرة، فضحايا المجتمع الذي يسودُ فيه فكر الوصاية بدلاً من وصاية الفكر، هم ضحايا قوانينَ وعادات وأعراف صُمِّمَت على قياس استبداده ورغباته في التحكم. رغباتٌ تُحكِم أنيابَها على الطرف الأضعف، وغالباً ما يكنَّ النساء. تُطبَّق على يد الرجال غالباً، وحيناً على يد نِسوة يمتلكنَ من السطوة ما يمكنهنَّ من استضعاف أخريات، وبتشجيع القانون الذي يقفُ شاهداً لا يرى شيئاً، وكأنَّ ما سال من دماء، لا يكفي لوضع قانونٍ يحمي المجتمع من نفسه أولاً، ومن تغوله في حياة الفرد كيفما يشاء!
العربي الجديد
—————————
هل يأخذ عبدي بكلام البارزاني؟/ ماجد ع محمد
تحديث 02 شباط 2025
“من حق العاقِل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفردُ ربما ضلَّ”.
بعيداً عن الحديث عما تم التطرق إليه مؤخراً في الاجتماعات الثنائية بين المجلس الوطني الكردي (ENKS) وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فمَن يُمعن النظر في المشهد السوري عسكرياً لن يغيب عنه الدور الفاعل لتركيا التي تدعم منذ سنوات مجموعة من الكتائب السورية المخصصة لمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) سابقاً ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فيما بعد، وحتى إن لم تتدخل قواتها بشكلٍ مباشر، فهي على الأقل تساند تلك الكتائب بالقصف المدفعي أو الطيران الحربي والمسيرات، بل وهي جاهزة على الدوام إذا ما رأت أيَّ تراخٍ في الموقف الدولي للدخول بجيشها إلى المعركة ضد مسلحي (PYD) أو قوات (قسد)، وهي ما تزال مستمرة في نهجها إلى يومنا هذا، ومهيأة على الدوام لاقتناص أيّ فرصة تنال عبرها من تلك القوات، إن لم تجد قوات (قسد) أو قائدها العام مظلوم عبدي طريقة فعّالة لانتزاع الذريعة التي تتحجج بها تركيا؛ أي تواجد كوادر من حزب العمال الكردستاني (PKK) بين صفوف قوات (قسد)؛ وهنا لا نقول إنَّ تركيا محقة أو لا، إنما ذلك الحزب هو الذريعة الدائمة لديها، إلى جانب أنها الدولة التي لها اليد الطولى في سوريا، ولها علاقات إقليمية ودولية واسعة، كما أنَّ معظم دول المنطقة وكذلك الأمر الدول الإقليمية بحاجتها بناءً على المصلحة المتبادلة وليس بناءً على حق تركيا في التدخل، إذ أن تلك الدول عادةً لا تعارضها، وعلى الأغلب تغض أبصارها في ما تعمل عليه أنقرة على الحدود أو داخل سوريا، وهذه الجزئية يعرفها القاصي والداني، ولكن من أجل نزع فتيل الحرب في الفصل الأخير من عمر الثورة السورية، جاءت مبادرة مسعود البارزاني ليس حباً بتركيا، ولا كرهاً بحزب العمال الكردستاني، إنما خشيةً من تكرار سيناريوهات عفرين ورأس العين وتل أبيض، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال لعب دور الوساطة بين تركيا وقسد التي تتعرض المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى هجماتٍ عسكرية متكررة.
وحيال مبادرة البارزاني، فلنفترض جدلاً أنَّ حال مظلوم عبدي هو حال بطل الفيلم الهندي (بي كي) أو بالإنجليزية (PK)، ذلك الرجل الذي قدِم من جهة الفضاء وتقطعت به السبل على الأرض، وكما هو حال (بي كي) الذي لا يعرف شيئاً عن أهل الأرض وعاداتهم وثقافاتهم ومواقفهم والمحطات الرئيسية لهم، ولنفترض أن مظلوم عبدي هو الآخر لا يعرف شيئاً عن شخصية البارزاني ومواقفه، ولا عِلم له بمسار الحزب الديمقراطي الكردستاني منذ التأسيس إلى الآن، ولا شك في أن المعني بهذه القضية، أي (عبدي)، تهمهُ المبادرة، لذا، مطلوب منه التعرف ولو خطفاً على أهم المحطات الخاصة بالذي يود القيام بدور الوساطة بينه وبين مَن يُعاديه، وبما أن طبول الحرب تُقرع على تخوم سد تشرين ولا وقت لديه للغرق في بطون الكتب لمعرفة كل شيء عن البارزاني للاطلاع على تجربته، وبما أننا معنيون بسلامة المدنيين وقلقون عليهم من تداعيات الصراع التناحري هناك، فبودنا تذكير السيد (عبدي) بموقفين صغيرين فقط للحزب الديمقراطي الكردستاني وزعيميه، علَّه يستفيد من تجربتهم التاريخية، وبناءً عليه يُجنب مناطق نفوذه الموت والخراب والدمار.
فالموقف الأوَّل للحزب الديمقراطي الكردستاني هو أن الزعيم الكردي الراحل ملا مصطفى البارزاني، أي والد مسعود البارزاني، بعد أن توجه إلى إيران ليكون إلى جانب قاضي محمد وهو يُعلن عن تأسيس الدولة الكردية ذات الحكم الذاتي في ميدان (جار جرا) بمدينة مهاباد في 22 كانون الثاني (يناير) 1946، لم يفرض البارزاني نفسه على كرد إيران، ولا طالبهم بالمناصب السيادية، ولا استحوذ على المقدرات المالية للجمهورية، ولا وضعَ يده على مراكز القرار، ولا غدا وجوده الداعم عبئاً على أهل المكان، إنما قدَّم كل ما استطاع تقديمهُ، وفي اللحظة التي قرَّر فيها قاضي محمد الاستسلام مع كوكبة من قيادة الجمهورية لكي لا يطال الدمار المدينة كلها، ولكي لا يتسببوا بارتكاب المجازر بحق المدنيين، لم يعارض البارزاني رغبة قاضي محمد، ولا ورَّطه في الحرب بدعوى أنه سيدافع عنه حتى آخر بيشمركة لديه، إنما التزم بكل ما اتفقت عليه قيادة الجمهورية الفتية، وارتأى الاِنسحاب من المنطقة والتوجه نحو الاتحاد السوفييتي من أجل الحفاظ على أرواح الجماهير الكردية عقب انهيار الجمهورية الفتية وإعدام قادتها بفعل توافق المصالح بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية آنذاك، أي بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية؛ وعلى (عبدي) إذن إفهام الكوادر القادمين من خلف الحدود بأن الشعب هو الأهم، وبالتالي الاقتداء بتجربة البارزاني قولاً وسلوكاً، إذا ما كانوا معنيين حقاً بمصير المنطقة وسلامة أهلها وكرامة ناسها.
والموقف الثاني هو أنه قبيل هجوم أنصار الحشد الشعبي الموالي لإيران في 2022 على مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد، لإضرام النار بالمقر وتدمير محتوياته، كانت مجموعة كبيرة من كرد بغداد قد أبدت استعدادها وجاهزيتها للقيام بتحويط المكتب بأجسادهم، وتشكيل طوق أمني بشري لمنع أنصار الحشد الشعبي من حرقه، إلاَّ أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني رفضت استخدامهم كدروع بشرية كرمى الحجارة، وقال البارزاني إن حياة هؤلاء أبدى من ذلك المقر، إذ بإمكانهم بناء مقر آخر عوضاً عنه أو حتى أكبر منه، أما الضحايا فما الذي سيُعيدهم أو يُعوض أهاليهم؟ لذلك لم يسمح لهم حينئذٍ بأن يكونوا قرابين مكتبَ الحزبِ، لأن الإنسان لديه أهم من البنيان، وهذه السردية ينبغي أن يحشرها مظلوم عبدي في أقحاف كل الذين يأخذون المدنيين إلى سد تشرين ومواقع الاشتباكات وخطوط النار ليجعلوا منهم دروعاً بشرية من أجل البروباغندا (Propaganda) التنظيمية!
على كل حال، فالمواقف المماثلة للحزب الديمقراطي وقادته كثيرة ولا تُحصر في مقالة خاطفة، ولكننا نكتفي بهذين الموقفين فقط عسى ولعل قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي يُمعن فيهما النظر، ويستفيد منهما في المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة، فيقارن بين تصرفات كوادر إدارته مع الأهالي من المدنيين في سد تشرين وتصرفات قيادة الإقليم مع المدنيين الكرد في بغداد، وكذلك الأمر ليقارن بين ما يفعله الكوادر القادمون من خلف الحدود ممن صاروا الذريعة الدائمة التي تهدِّد مصير أبناء المنطقة من قِبل دولة جارة تحاول بشتى السبل استغلال تلك الذريعة لإنهاك المجموع بدعوى محاربة تلك الفئة، وبين كل ما قدَّمه البارزانيون لجمهورية مهاباد بدون أيَّ مقابل، وكيف كان تصرفهم في الفصل الأخير من عمر الجمهورية المغدورة حفاظاً على حياة وكرامة مَن تبقى من المدنيين!
ايلاف
————————-
الرئيس الشرع في السعودية/ عالية منصور
أكثر من دعم مالي واقتصادي
02 فبراير 2025
إذن حسم الرئيس السوري أحمد الشرع وجهة زيارته الأولى، المملكة العربية السعودية، ولهذا القرار دلالات كثيرة حول التوجه الرسمي السوري ما بعد الأسد، كما أن له دلالات على صعيد التوجه السعودي.
لحظة سقوط النظام السوري وهروب بشار الأسد، أصابت العالم بالمفاجأة، السرعة كانت سبب المفاجأة الأول، ولكن أيضا التنظيم والخطوات المدروسة وعدم وقوع مجازر وعمليات انتقام في تلك اللحظة كما كان العالم يتخوف ويحذر.
تراوحت ردات الفعل الدولية والعربية والإقليمية بين من اختار الترقب والانتظار ومن اختار الانخراط واحتضان التجربة السورية، وتسارع مسؤولون من دول العالم لزيارة دمشق ولقاء أحمد الشرع، ليتعرفوا عليه ويسمعوا منه. المشترك لدى كل من التقاه كان أن الرجل ذكي وبرغماتي ويملك تصورا واضحا للمرحلة المقبلة في سوريا ما بعد الأسد، وإن كان الحذر والترقب أيضا من العوامل المشتركة لدى جميع الدول المعنية، إلا أن تعامل الدول الحذرة مع سوريا اختلف بين دولة وأخرى.
قول وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي 2025 في مدينة دافوس السويسرية، بأن الإدارة السورية الجديدة “تقول الأشياء الصحيحة في السر والعلن، ومنفتحة على العمل مع المجتمع الدولي للتحرك في الاتجاه الصحيح”، كان لافتا وبعث برسائل للمشككين والمترددين، وقد يكون لبعض من يرغبون في التخريب.
وسيزور الرئيس السوري أحمد الشرع السعودية التي كانت من أوائل المهنئين بتنصيبه رئيسا للبلاد، حيث أرسل كل من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، رسائل تهنئة فور إعلان تنصيب الشرع.
وقد ينظر البعض إلى الدور السعودي من زاوية واحدة، وهو ما ينتظره السوريون من المملكة من دعم اقتصادي ومالي ودور في عملية إعاد الإعمار، خصوصا أن سوريا مدمرة وتحتاج الى الكثير من الدعم. إلا أن ما ينتظره السوريون هو أكثر من مجرد دعم مالي واقتصادي، فلدى السعودية القدرة والمصلحة في دعم الاستقرار الأمني والسياسي وكف يد من يريد سوءا بسوريا، أو من قد يرغب في عرقلة المرحلة الانتقالية لأسباب عديدة، إقليميا ودوليا.
ومنذ استيلاء عائلة الأسد على السلطة، لم تكن سوريا إلا عامل قلق في المنطقة، وكانت أقرب إلى أن تكون عدوا للعرب من شقيق أو حليف لهم. وخلال أعوام حكم بشار الأسد كان عداء سوريا لكل ما هو عربي فج ودون مواربة على مدى 24 عاما من حكمه، وخصوصا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اليوم وبعد سقوط هذا النظام عادت سوريا إلى محيطها الطبيعي، وكان لا بد من احتضانها فهي المنهكة حد الاهتراء من عقود الأسدية.
لقد تخلص السوريون من قاتلهم، وتخلص العرب أيضا من عدو زرع داخلهم، لم تعد سوريا مصدرا للسيارات المفخخة والاغتيالات والمخدرات والأزمات، هذا ما قاله الشرع أقله ووعد به السوريين أولا والعرب والعالم ثانيا. سوريا لم تعد مصدر تهديد أمني واستراتيجي لجيرانها، ولا لدول المنطقة وفي مقدمتها السعودية ودول الخليج.
خسارة إيران في سوريا لا توازيها أي خسائر أخرى، ولا حتى كأس السم الذي تذوقوه سابقا في العراق قبل أن يسقط في أيديهم لاحقا، لقد خسرت طهران مشروعها الإقليمي، وانقطعت صلة الوصل بين إيران والمتوسط، وممرها الإلزامي لتسليح ميليشياتها وعلى رأسهم “حزب الله”، المصنف إرهابيا في كثير من الدول العربية ودول العالم، وواهم من يظن أن إيران ستتوقف عن محاولة زعزعة التجربة الوليدة في سوريا وعرقلتها بالحديد والدم والفتن.
ولكن ليست إيران وحدها من ترغب في عرقلة مسيرة السوريين وأحمد الشرع، الخطر الإسرائيلي جاسم هناك أيضا، وسوريا محطمة ومشغولة بأزماتها حد محاولات التقسيم. وهو ما يريح المتطرفين في إسرائيل ويبرر خطاباتهم وسياساتهم العنصرية، أكثر من سوريا التي تتجه لتكون دولة مستقرة وسيدة نفسها ولو بعد حين.
هناك أيضا من يتخوف من كل ما هو “إسلامي”، فكيف الحال وإن كان الحاكم الإسلامي الجديد في سوريا سبق وانتمى لتنظيم “القاعدة” قبل أن ينسحب لاحقا منه ويبداً مسيرة التحول الفكري على الصعيد الشخصي وعلى صعيد المجموعة.
أن يختار النظام السوري الجديد السعودية، وأن يتحدث وزير الخارجية أسعد الشيباني عن استلهامهم “سوريا الجديدة من رؤية السعودية 2030″، فهذه رسالة إيجابية بأكثر من اتجاه. وتأكيد على أن انتماء سوريا لمحيطها العربي يأتي قبل أي انتماء آخر.
ما ينتظره السوريون من زيارة الشرع إلى الرياض، أبعد من دور سعودي بإعادة إعمار سوريا. ما ينتظرونه هو دور سعودي بدعم سياسي، فالسعودية وما تملكه من ثقل دولي وإقليمي قادرة على تطمين المجتمع الدولي للدخول بشراكة مع سوريا الجديدة، كما هي قادرة على ردع من يريد تنغيص فرحة السوريين وخطتهم من أجل بناء دولتهم الجديدة.
المجلة
————————————-
تركيا.. مسارات سياسية وعسكرية لإنهاء الإرهاب/ علي أسمر
2025.02.02
مشهد التحركات التركية الأخيرة يشير إلى تصميم غير مسبوق لمعالجة جذور الإرهاب، وخصوصا فيما يتعلق بـ “حزب العمال الكردستاني” و”قوات سوريا الديمقراطية”، ما يبرز هنا تكتيكات أنقرة المتنوعة ورؤية شاملة تسعى إلى تحقيق توازن بين الحلول السياسية والدبلوماسية والتحركات العسكرية، ما يجعل هذه الاستراتيجية جديرة بالتأمل والتحليل.
في تقديري الدعوة الموجهة من قبل دولت باهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية التركي، إلى حزب العمال الكردستاني لترك السلاح ليست مجرد مبادرة تقليدية، بل تحمل في طياتها مسعىً واضحًا لاستغلال رمزية عبد الله أوجلان، زعيم الحزب المعتقل منذ عام 1999، في تحويل مسار الأزمة، تخفيف الحكم على أوجلان مقابل دعوة صريحة منه للتنظيم بترك السلاح يمثل خطوة ذكية، تهدف إلى شق صفوف الحزب وإضعاف بنيته التنظيمية. إذا ما استجابت بعض العناصر لهذه الدعوة، فإن أنقرة ستكون قد وضعت قدماً ثابتة على طريق الحلول المستدامة.
أعتقد أن ذكرى اعتقال أوجلان في 15 شباط/فبراير المقبل قد تتحول إلى محطة فارقة في تاريخ الصراع مع الحزب، هذه اللحظة التاريخية ليست مجرد فرصة لإعلان مبادرة، بل أيضاً اختبار حقيقي لمدى استعداد الحزب لمغادرة لغة السلاح والدخول في مسار سياسي جديد وفي حال تمخضت هذه الدعوة عن انشقاقات داخل التنظيم، فإن تركيا ستكون قد أسست لشرعية أقوى في مواجهتها للعناصر المتشددة، أي انقسام داخل صفوف الحزب سيمنح أنقرة تفوقاً إضافياً على الصعيد السياسي والدبلوماسي.
زيارة إبراهيم كالن مدير جهاز الاستخبارات التركية إلى دمشق تلقي الضوء على تحول آخر في سياسة أنقرة، التنسيق مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع يعكس تحولاً من المواجهة إلى الشراكة التكتيكية، هذا التحرك يعبر عن اعتراف متبادل بالمصالح المشتركة، خصوصاً فيما يتعلق بمكافحة التنظيمات المسلحة التي تهدد استقرار الحدود، التنسيق مع دمشق يحمل بُعداً استراتيجياً أبعد من كونه مجرد تعاون أمني، إذ يُعيد تشكيل خريطة العلاقات الإقليمية.
وفي العراق، تحمل زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان رسالة سياسية واضحة، تركيا تدرك أن تحقيق الأمن الإقليمي يبدأ من بناء تحالفات قوية مع بغداد، والجهود التركية لتصنيف حزب “العمال الكردستاني” كمنظمة إرهابية على المستوى الإقليمي تسعى لخلق إجماع حول ضرورة مواجهة هذا التنظيم، أمن الحدود المشتركة بين العراق وتركيا ليس فقط مسألة سيادة، بل ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة، والتحالف مع بغداد يعكس توجهاً تركياً أوسع لتنسيق الجهود الإقليمية، وتقليل الاعتماد على الأطراف الدولية في تحقيق الأهداف الأمنية.
أيضا في شمالي سوريا، تتجلى رؤية أنقرة في دعم “الجيش الوطني السوري”، خاصة في المناطق الاستراتيجية مثل سد تشرين، هذه النقطة ليست مجرد هدف عسكري، بل تمثل معركة رمزية حول من يملك الحق في إدارة الموارد الحيوية، السيطرة على مثل هذه النقاط تعزز موقف أنقرة في أي مفاوضات مستقبلية وتقلل من نفوذ “قسد”، حيث إن سد تشرين يُعد مركزاً اقتصادياً وأمنياً حيوياً، وأي سيطرة عليه تمنح تركيا وشركاءها المحليين أفضلية في فرض الاستقرار في هذه المناطق.
في تقديري التعاون الثلاثي بين تركيا وسوريا والعراق ضد “حزب العمال الكردستاني” يتجاوز كونه تحالفاً تكتيكياً إلى كونه مشروعاً إقليمياً طويل الأمد، هذا التحالف يسعى إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمنية في المنطقة وفرض ديناميكيات جديدة تُجبر الأطراف الدولية على إعادة النظر في سياساتها. الدول الثلاث تجد نفسها اليوم أمام فرصة تاريخية لتوحيد الجهود ضد تهديد مشترك يهدد استقرارها، وبناء وحدة صف حقيقية يعني تقليل الفراغ الأمني الذي تستغله التنظيمات المسلحة، وتحجيم قدرتها على التحرك في المناطق الحدودية.
المحادثة المرتقبة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي دونالد ترمب تأتي في توقيت حساس، التحركات التركية الأخيرة تمنح أنقرة أوراقاً تفاوضية قوية، ونجاح أنقرة في شق صفوف حزب العمال الكردستاني أو بناء تحالفات إقليمية مؤثرة يجعل من الصعب على الولايات المتحدة تجاهل هذه الديناميكيات، وهذا الموقف التركي هنا لا يعبر فقط عن سياسة داخلية، بل عن رؤية إقليمية شاملة تعيد تشكيل موازين القوى، القدرة على تحقيق مكاسب ملموسة قبل هذا اللقاء ستضع تركيا في موقع أكثر قوة للتأثير على شكل القرارات الأميركية المتعلقة بالمنطقة.
الاستراتيجية التركية في مواجهة ملف الإرهاب ليست مجرد محاولة لاحتواء أزمة عابرة، بل تعكس فهماً عميقاً لتعقيدات المشهد الإقليمي وخاصة بعد التغيرات الكبيرة بعد السابع من أكتوبر من خلال الدمج بين الدبلوماسية والتحركات العسكرية، إذ تسعى أنقرة إلى صياغة نموذج جديد في مواجهة التحديات الأمنية، التحركات التركية الأخيرة إذا استمرت بهذا الزخم، قد تضع تركيا في موقع الريادة كطرف أساسي في صياغة مستقبل المنطقة، وهذه الاستراتيجية تبرز أيضاً أهمية التوازن بين تحقيق المكاسب الأمنية والحفاظ على استقرار العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية.
خلاصة القول، ما نشهده اليوم هو لحظة مفصلية في تاريخ الصراع مع الإرهاب في المنطقة، وقدرة تركيا على تحقيق توازن بين الحلول السياسية والعسكرية يعكس نضجاً استراتيجياً يستحق الإشادة، والتحركات الحالية تحمل في طياتها ملامح حل شامل، يجعل من تركيا لاعبًا لا يمكن تجاهله في المشهد الإقليمي والدولي.
لفزيون سوريا
——————————
لاجئون سوريون..صاروا مغتربين !/ ساطع نورالدين
تحديث 02 شباط 2025
محرجة فعلاً، بل محيرة، حالة اللاجئين السوريين الذين شرّدهم النظام الأسدي المنقرض طوال السنوات ال14 الماضية، في شتى انحاء الأرض، حتى قاربت أعدادهم نصف سكان سوريا، أي ما يربو على 12 مليون لاجئ، وصلت مجموعات منهم الى بلدان نائية من الكوكب، مثل نيوزيلندا في اقصى الشرق الى الارجنتين في اقصى الغرب. هؤلاء لم يعد منهم الى سوريا منذ فرار الرئيس بشار الأسد وعائلته ومريديه المقربين في الثامن من كانون الأول الماضي، سوى ما نسبته واحد في المئة، في أعلى تقدير، ولا ينوي سوى خمسة في المئة منهم العودة في مراحل لاحقة، بعد ان يتبينوا الأحوال في الوطن، وبعد أن يتدبروا الأمور الشخصية والعائلية، المعيشية والتعليمية وغيرها.
هذه الأرقام والنسب تتدنى كثيرا عندما تدرج فيها أعداد اللاجئين السوريين في تركيا بشكل خاص، التي تصنف باعتبارها الملاذ الأكبر والأهم للجوء السوري، حيث تستضيف على أراضيها ما يقرب من مليونين و900 الف لاجئ سوري، لم يعد منهم حتى اليوم أكثر من خمسين ألفاً، منذ أن فتح الاتراك العدّاد الرسمي للعودة في أعقاب إنهيار نظام الأسد، آملين أن يحصدوا بسرعة ثمار الانقلاب الذي رعوا حصوله في دمشق، ونتاج الحملة العنصرية الضارية التي شنتها معظم الأحزاب التركية وأحزابه على النازحين السوريين، والتي لم يكن مثيل في بقية دول العالم. أما لبنان، وهو بلد اللجوء السوري الثاني، الذي إستضاف ما يزيد على مليون ونصف مليون نازح سوري، أكثر من 90 بالمئة منهم يتوزعون بين نازحين اقتصاديين وبين موالين للنظام المنقرض، فقد كان ولا يزال حالة استثنائية خاصة، حيث عاد منهم ما يقرب من 450 ألفاً، قبل ان تستعيد الحدود البرية بين البلدين أحوالها الفوضوية، بحيث يستحيل حساب العائدين والزوار والسائحين..
في حوارات قديمة مع زملاء أوربيين، كانت الحجة الدائمة أن خيار أوروبا الواقعي والمنطقي هو الإسهام الجدي في إسقاط نظام بشار الأسد، لأن من شأن ذلك أن يحل جانباً مهماً من أزمة اللجوء السوري، إذ سيكون أغلب النازحين السوريين الذين رموا بأنفسهم في البحر المتوسط، وغرق منهم الآلاف، أو الذين تسللوا في الغابات والبراري من أجل الوصول الى بر الأمان الأوروبي، مستعدين للعودة الى بلادهم، وحتى بالطرق اليائسة نفسها، بحيث يمكن ان تشهد الحدود البرية والبحرية زحفاً شعبياً هائلاً، الى الحضن السوري الدافىء، للمشاركة في الانتقام واستعادة الأملاك والحقوق، والانطلاق في ورشة إعادة الاعمار، التي لا تحتاج أكثر من الإرادة السورية.
لكن الاشقاء السوريين نقضوا في الأسابيع القليلة الماضية تلك الحجة القديمة، التي تبدو اليوم انها كانت ساذجة، وأثاروا الارتباك حتى في العواصم الأوروبية التي كررت ورفعت سقف عروضها المالية للراغبين منهم بالعودة الى بلادهم، ولم يقدموا في المطارات والمرافىء ومحطات القطار الأوروبية، مشاهد من ذلك الزحف المرتجى، الذي كان يتوقع أن ينافس مشهد زحف نصف مليون انسان فلسطيني الى بلداتهم وبيوتهم المدمرة في شمال غزة، أو أن يماثل على الأقل مشهد العائدين اللبنانيين الى قراهم الحدودية الجنوبية تحت النيران الإسرائيلية. أفسح النازحون السوريون المجال للقول انهم كانوا بمثابة رحالة أتيحت لهم فرصة القيام بتلك الرحلة الطويلة، والمثيرة، والتي تحتمل تأجيل التفكير بالعودة..وهم لذلك نجحوا أكثر من سواهم، وإندمجوا أسرع من سواهم، في بلدان “الترحال” الجديدة، التي باتوا يرفضون مغادرتها.
ولعل في تركيا حيرة أيضاً إزاء امتناع النازحين السوريين عن التفكير أو التخطيط للعودة الزاحفة الى الوطن الأم، بعدما سقطت نصف أسباب النزوح، وبقي النصف الآخر الذي يتطلب ان تتحول سوريا الى خلية نحل، تنبش القبور الجماعية، وتفتح المحاكم الاستثنائية، وتشكل المجالس التمثيلية والتنفيذية الانتقالية، وتؤسس الأحزاب والجمعيات والهيئات السورية، التي يفترض أن ترث الحكام الاسلاميين الجدد..ولو بعد حين، يتراوح بين ثلاث أو أربع سنوات على أقل تقدير. لكن الفرصة متاحة الآن، لكنها قد تضيع، إذا ما طال الاغتراب السوري وتحول الى غربة أبدية.
بيروت في 2 / 2 /2025
صفحة الكاتب
——————————-
السلام على الطريقة الأميركية: حكومات غير سياسية/ منير الربيع
تحديث 02 شباط 2025
وضعت سابقاً معادلة “وحدة المسار والمصير” بين لبنان وسوريا. لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتمسك باتفاقات “أبراهام” أراد تعميم هذه المعادلة على دول المنطقة، وفي ولايته الثانية يريد استكمال الاتفاقات لإرساء السلام في المنطقة. في الوقت نفسه، تتكاثر الأنباء والتسريبات من داخل فريق عمله وإدارته حول الاستعداد للانسحاب العسكري من المنطقة والحفاظ على الوجود السياسي، الديبلوماسي، الاقتصادي، الأمني والاستخباري. لكن الانسحاب العسكري لا بد أن يكون مرتبطاً بقدرة طرف آخر على سد الفراغ أو الحلول بديلاً. يتجلى، في السياق، دور أميركا كراعية أساسية لتوسع النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، إما من خلال اتفاقات السلام والتطبيع، وإما من خلال إظهار التفوق العسكري وحالة الانكسار التي يعيشها كل معارضي المشروع الأميركي والإسرائيلي. وفي هذه الخانة، صبّت كل أهداف الحرب على غزة ولبنان وسوريا، وتتركز المفاوضات الضاغطة مع إيران التي سيستخدمها ترامب في أقصى درجاتها ضد طهران لدفعها إلى تجنّب تلقي أي ضربة عسكرية واختيار المفاوضات التي تقدّم فيها تنازلات مسبقة.
العصر الإسرائيلي
يوضح المنهج الأميركي أن على المنطقة أن تدخل في “العصر الإسرائيلي” إما عبر الاتفاقات، أو عبر فرض أمر واقع عسكري وسياسي من قبل الإسرائيليين. أما الدول التي ستكون معارضة ورافضة لذلك، ستكون عرضة للمزيد من الضغوط السياسية، الاقتصادية، المالية، والعسكرية، وحتى ستكون عرضة لانفجار صراعات كثيرة بين مكونات كل دولة على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قومية، وهو ما ألمح إليه الإسرائيليون كثيراً حول الساحة السورية وتزكية الصراعات ما بين المكونات، من خلال تسجيل خروقات في بيئات مختلفة، ولا سيما في البيئة الدرزية، أو الكردية، أو العلوية من خلال تحفيز هؤلاء على رفض الاندماج تحت راية السلطة السورية الجديدة، بما يجعل سوريا مهددة بأمنها واستقرارها وجغرافيتها ووحدة الدولة فيها.
المسار السوري
الخيار البديل بالنسبة إلى إسرائيل هو أن تقدّم هذه الدول فروض الطاعة سياسياً، وعسكرياً. وهو ما تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تحقيقه تحت عنوان رفعه دونالد ترامب وهو إرساء السلام في المنطقة. بينما في رسالة التهنئة العاجلة التي وجهها أحمد الشرع إلى ترامب بعيد حفل تنصيبه أشار فيها إلى تعليق الأمل عليه في تحقيق السلام في المنطقة، وهذا كلام لا يمكن أن يكون تفصيلاً في ما يرمز إليه، ويشير إلى استقراء الشرع للوقائع والتطورات وللمزاج الدولي وحركته واتجاهه. فأوصل الشرع رسالة الطمأنة، كما أوصل الكثير غيرها من قبل حول عدم جعل سوريا ساحة تهديد لأي دولة من دول الحوار والمقصود هنا “إسرائيل” كما غيرها، بالإضافة إلى الرسائل المباشرة حول قطع طريق إمداد حزب الله. يعني ذلك ان الشرع يخرج مواكباً لكل المسار الإقليمي والدولي، ويسعى إلى وضع سوريا ضمن هذه المعادلة.
…والمسار اللبناني
المسار نفسه يُراد للبنان أن يسلكه، لا سيما بعد الحرب ونتائجها، وبعد التحول في الموازين السياسية منذ انتخاب رئيس للجمهورية، وتكليف رئيس للحكومة. ويشمل ذلك مرحلة ما بعد تشكيل الحكومة وبرنامج العمل الذي سيتم وضعه والسعي إلى تحقيقه ربطاً بالوصول إلى تفاهمات سياسية، امنية وعسكرية، تتصل بفتح المجال أمام الحصول على مساعدات لإعادة الإعمار وإعادة الحياة إلى الجنوب اللبناني، بالاستناد إلى ضغط عسكري كبير في حال لم يتحقق ذلك سياسياً. عملياً إعادة تشكيل السلطة السياسية في سوريا أو لبنان، تأتي على إيقاع إقليمي دولي، وتتماهى مع التطورات والوقائع المختلفة. ذلك أيضاً لا يفترق من حيث الشكل، خصوصاً ان الشرع بصدد تشكيل حكومة جديدة تضم وزراء متنوعين من مختلف الاتجاهات، لكنهم من التكنوقراط غير المسيّسين، من دون فتح المجال أمام أي دور سياسي للوزراء أو للأحزاب في هذه المرحلة.
في لبنان أيضاً، كل المساعي في عملية تشكيل الحكومة تتركز على وزراء التكنوقراط أو الاختصاصيين، مع إبعاد الأحزاب السياسية عن التشكيلة الحكومية، والتركيز على اختيار وزراء غير مسيّسين وغير منتمين حزبياً. يصبّ كل ذلك في اتجاه واحد، وهو أن السياسة ولتجنب كل ما تحمله من تعقيدات ومناوشات واختلافات، يفضل تنحيتها جانباً عن القوى المختلفة، ودفع السلطة التنفيذية إلى العمل التقني، بينما “الوجهة السياسية” تكون في مكان آخر يرتبط بكل هذا التماهي مع التطورات الإقليمية والدولية فتكون محصورة بجهة محددة.
المدن
————————–
لا يمكن الاستخفاف بأحمد الشرع/ خيرالله خيرالله
تحديث 02 شباط 2025
توجد عناوين كثيرة تستدعي التوقّف عندها في الخطاب الأوّل الذي ألقاه أحمد الشرع بعد أقلّ من 24 ساعة على تولّيه موقع رئيس الدولة في سوريا. يظلّ العنوان الأبرز الوارد في الخطاب القصير الذي ألقاه قوله: “سنشكّل حكومة شاملة تعبّر عن تنوّع سوريا”. وشدّد على أن “لا إقصاء” لأحد، وسنعمل من أجل الوصول إلى “مرحلة انتخابات حرّة ونزيهة”. وعد بـ”استعادة الهويّة المفقودة لسوريا”، وهي هويّة عمل نظام آل الأسد على تغيير طبيعتها جذرياً طوال ما يزيد على نصف قرن.
يرتدي الكلام الصادر عن الشرع أهمّية خاصّة لأنّه صادر عن شخص بات يتحدّث عن “تنوّع سوريا” بعدما ارتبط اسمه في الماضي بالإرهاب والتطرّف الديني، بل كان طوال مرحلة في تنظيم ارتبط بـ”القاعدة”.
ليس سهلاً تمكّن شخص من إعادة تأهيل نفسه بالطريقة التي فعلها أحمد الشرع الذي يبدو واضحاً أنّه يمتلك صفات استثنائية. مكّنته هذه الصفات من إدراك أنّ النظام في سوريا في حاجة إلى الاهتمام بالبلد وبجميع السوريين بعيداً عن الشعارات الطنّانة التي رفعها النظام المخلوع الذي كان همّه الأوّل والأخير التنكيل بالسوريين وتصدير أزماته إلى خارج الأراضي السورية.
كان يفعل ذلك حماية لنفسه أوّلاً وأخيراً. كان نظام آل الأسد يعترض على أيّ معاهدة سلام توقّعها هذه الدولة العربيّة أو تلك مع إسرائيل. لكنّ ما تبيّن لاحقاً أنّ نقاط التفاهم مع إسرائيل التي توصّل إليها حافظ الأسد في عام 1974 مع هنري كيسنجر كانت أكثر من استسلام سوري وقبول باحتلال الجولان. كانت ضمانات سورية للأمن الإسرائيلي في مقابل المحافظة على النظام العلويّ في دمشق.
استطاع أحمد الشرع فرض نفسه في سوريا بعدما حقّق ما يشبه معجزة، معجزة التخلّص من نظام أقلّوي متحالف عضوياً مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”
يبدو أنّ الرئيس السوري الجديد الذي لديه ما يسمّى “شرعيّة ثورية”، قابلة في مفهومها للنقاش، يعرف تماماً أنّه يكفيه إسقاط نظام آل الأسد كي تكون هناك أكثرية شعبية تؤيّده. يساعده في تكريس شرعيّته كونه يعرف تماماً ما الذي يريده. تؤكّد ذلك خريطة الطريق التي تضمّنها خطابه. حدّد الخطاب مراحل عدّة، من بينها انعقاد مؤتمر للحوار الوطني وصدور إعلان دستوري بغية الوصول إلى انتخابات عامّة شفّافة تليق بسوريا والسوريين وتحظى بدعم المجتمع الدولي.
تحدّيات جمّة
استطاع أحمد الشرع فرض نفسه في سوريا بعدما حقّق ما يشبه معجزة، معجزة التخلّص من نظام أقلّوي متحالف عضوياً مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي خرجت من هذا البلد العربي المهمّ. من هذا المنطلق، منطلق التغيير الكبير على الصعيد الإقليمي، لا مفرّ من توقّع انعكاسات للمشهد السوري على كلّ جيران هذا البلد الذي عاد أخيراً إلى الحضن العربي. الأكيد أنّه لا يمكن الاستخفاف بالدور التركي الذي أدّى إلى هذا التغيير. ولا يمكن تجاهل الدور المحوريّ لقطر. ليس صدفة أن يكون أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد أوّل القادة العرب الذين يزورون دمشق، وأن تأتي زيارته في اليوم الأوّل لمباشرة أحمد الشرع مهمّاته الرئاسيّة.
الشرع
من الطبيعي وجود تحدّيات عدّة ستواجه أحمد الشرع. يبدأ ذلك بتحدٍّ مرتبط بطبيعة البشر عموماً. ما الذي ستفعل به السلطة بعد تذوّقه لطعمها؟ هل يستطيع فعلاً إثبات أنّ أحمد الشرع غير “أبي محمد الجولاني”، وأنّ “هيئة تحرير الشام” جزء من الماضي الذي لا بدّ من تجاوزه والاكتفاء بالاستفادة من تجاربه؟
يبدو أنّ الرئيس السوري الجديد الذي لديه ما يسمّى “شرعيّة ثورية”، قابلة في مفهومها للنقاش
اللافت أنّ الرجل الذي يعتمد شعار “لكم دينكم ولي ديني” يتحدّث في لقاءاته مع زوّاره لغة عصرية تأخذ في الاعتبار أهمّية إنشاء “مناطق حرّة” في كلّ أنحاء سوريا، وأهمّية الصناعات التحويلية. باختصار شديد، لم تحُل العلاقة الخاصّة بين أحمد الشرع والثنائي التركي – القطري دون التركيز على أهمّية التعاطي في العمق مع المملكة العربيّة السعوديّة. ويقوم اليوم بالزيارة الرسمية الأولى بصفته رئيساً إلى الرياض تلبية لدعوة حملها إليه وزير الخارجية السعودي منذ 10 أيام. وقد ينسحب ذلك على دولة الإمارات العربيّة المتحدة في مرحلة لاحقة.
إلى ذلك، لا يتجاهل الشرع دور المرأة في المجتمع… على الرغم من أنّه لا يصافح النساء. لا يتجاهل أيضاً أهمّية البرامج التربوية، أي أهمّية التعليم. يتصرّف الرئيس السوري الانتقالي بطريقة توحي بأنّه يعرف الكثير في السياسة الدولية. لذلك نراه استقبل وفداً روسيّاً برئاسة ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجيّة. صحيح أنّ بوغدانوف ليس مقدّراً في التركيبة الروسيّة، لكنّ الوفد الكبير ضمّ شخصيّات لها تأثيرها في موسكو لأنّها تمتلك علاقة مباشرة بالرئيس فلاديمير بوتين.
إغراءات السّلطة
يعرف أحمد الشرع أهمّية روسيا ويعرف نقاط ضعفها. لذلك فرّق بينها وبين “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. ربّما أهمّ ما يعرفه أنّه معروف ماذا تريد روسيا، في الظروف الراهنة، من سوريا. تريد الخروج بأقلّ مقدار ممكن من الخسائر، ولذلك يمكن الأخذ والردّ معها في شأن أموال بشار الأسد وأفراد عائلته وأملاكهم في موسكو وسوتشي ومناطق روسيّة أخرى. قد يكون باكراً عقد صفقة بين دمشق وموسكو، لكنّ لدى أحمد الشرع ورقة مهمّة تتمثّل في حاجة روسيا إلى قاعدة حميميم في اللاذقية وميناء طرطوس.
ليس سهلاً تمكّن شخص من إعادة تأهيل نفسه بالطريقة التي فعلها أحمد الشرع الذي يبدو واضحاً أنّه يمتلك صفات استثنائية
ما ينطبق على روسيا لا ينطبق على إيران التي لم تسعَ إلى إبقاء بشّار الأسد ونظامه في دمشق فحسب، بل سعت أيضاً إلى تغيير طبيعة المجتمع السوري على غرار تغييرها لطبيعة المجتمع الشيعي في لبنان تمهيداً للسيطرة على مؤسّسات الدولة اللبنانيّة.
إلى الآن، لا يمكن الكلام عن أخطاء ارتكبها أحمد الشرع الذي يشفع له الدور الذي لعبه في إخراج عصابة آل الأسد وتوابعها من السلطة. لا يمنع ذلك وجود أسئلة كثيرة ما زالت تفرض نفسها. من بين هذه الأسئلة: هل أحمد الشرع عصيّ على إغراءات السلطة؟ وهل كلّ ما فعله ويفعله حاليّاً لا هدف له سوى الإمساك بالسلطة لا أكثر؟
وحدها الأيام ستجيب عن مثل هذا النوع من الأسئلة، لكنّ الأمر الأكيد الوحيد أن ليس في الإمكان الاستخفاف برجل اسمه أحمد الشرع لا تزال أمامه امتحانات كثيرة عليه اجتيازها!
أساس ميديا
—————————
سوريا.. وطنٌ يُستعاد أو حرب تُستأنف على غير وجه! بطرس الحلاق ومحمد مخلوف
29/01/2025
يُحسب لهيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع أنها ملأت الفراغ الذي تركه النظام البائد، حين انهار بدون مقاومة منخوراً من الداخل، فحقنت دماء المواطنين المهدورة بالمجان على مدى أكثر من عقد.
مع سقوط النظام البعثي، هلّل الشعب السوري بمجرد سماعه بفرار رأس الدولة، ثم هزج عندما سمع مدير العمليات العسكرية يؤكد عزمه على الحفاظ على السلم الأهلي. إنّها لَحظةٌ ارتقت إلى رمز تاريخي جامع، فيها استعاد أحمد الشرع، بحدس المواطن وبديهته، الكلمة البكر التي صدرت عن الحراك الشعبي بداية عام ٢٠١١، بوحي من شبيبته، ذكوراً وإناثاً، مدويّة بالوحدة والألفة: «واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد». الكلمة البكر، منذ البدايات، تصدر عن الشعب، قبل السياسيين والمثقفين وأولياء الأمر من مدنيين ودينيين، بوحي من إحساسه بالتاريخ المشترك ومن خفقة في القلب، قبل أن تكون تحليلاً عقلانياً بارداً. إنّها كلمة البدء، وقديماً قيل :«في البدء كانت الكلمة». تلك لحظة الحراك الأولى قبل أن تتحوّل إلى حرب قد تكون الأشرس بين الحروب الأهلية منذ الحرب الأسبانية عام ١٩٣٦. لم ينتصر فيها إلا الموت، كما حذّرنا قبل اندلاعها. وإننا لعلى يقين من أن أحمد الشرع، وهو يستدعي تلك اللحظة التاريخية، تسنّى له فعلا أن يعانق أماني الشعب ويدخل التاريخ من أوسع أبوابه، إذ فتح الطريق إلى استعادة وطن اختلسه من شعبه نظام شرير، ما زلنا نحاربه منذ أن بدأت مخططاته تظهر إلى العلن، بُعيد حرب تشرين ١٩٧٣، على اعتبار مؤسسه وجهاً «لعبقرية الشر». وهل ننسى أن آخر مخازيه تتمثل بإباحته حدود الوطن لعدو لئيم استباح سماءه وترابه وماءه.
لا يتوقع أحدٌ أن تتمكن القيادة الوافدة من تحقيق الآمال المعقودة عليها بطرفة عين. ولكن، لأمر ما، بدت القرارات وبعض التصرفات والتعيينات الصادرة وكأنها تجافي النوايا المعلنة، بل وتنبثق من منطق آخر أقرب إلى منطق الحرب التي أرادها النظام ليُبرّر أمام العالم قمعه الوحشي، كما كان بعض “الإخوان” يعدون لها العدّة منذ مجازر حماه عام ١٩٨٢. فانخرط آنذاك عدد كبير من جيل الحراك وراء “المجلس الوطني”، إيماناً منهم بأنه المؤتمن على الوديعة أو باعتباره التنظيم الوحيد القائم بدعم إقليمي ودولي. والتحق به “الجيش الحر” الذي ما عتم أن أُفرغ من مضمونه الوطني بقرار من داعمي المقاومة. فيما ارتمى النظام في أحضان غرباء آخرين، قادمين من الشرق، دفاعاً عن مصالحه. فراحت شبيبة الحراك تفنى فوجاً تلو آخر في مواجهة النظام أو في صراعات بين القوى الإيديولوجية المهيمنة، من الجناح المتطرف لدى “الإخوان المسلمين” إلى الحركات الجهادية المنبثقة عن “القاعدة” أو مجموعات “داعش” الظلامية. وهكذا، تحول الصراع شيئاً فشيئاً، من حرب على النظام إلى حرب أهلية (ولكل حرب أهلية خصوصياتها) ماحقة. والموت ينتصر في حمأة سكرة حمراء، بحيث أصبح السوريون غرباء في بلدهم، يهجرونه أفواجاً ليفلتوا من قبضة الغاشم ومن الجوع المتفشي، وهرباً من حرب همجية أصبحوا لها وقوداً.
من الواضح أن الحراك السلمي كان يسير بهدي مبادئ أساسية واضحة المعالم، ترسم في الواقع الخطوط الرئيسية لبرنامج عمل يلتقي عنده الجميع. خطوطٌ يمكن تلخيصها بكلمات أربع: الحرية، وحدة الوطن، العدالة، أما رابعها فتقول بالمساواة بين الرجل والمرأة. كلمة لم تُرفع شعاراً، بل تجسّدت باحتشاد الفتيات والنساء، من سافرات ومحجبات، في المظاهرات العامة، بحيث ملأت الأنوثة الحيّز العام، فانبثّ شيءٌ منها في الذكورة على نحو لم يمّحَ مع السنين، وتآلف الجنسان في المواطنة. أما ما تلاه من مقاومة فلم تساوره نهائياً فكرة البرنامج السياسي. بل إن “الإخوان المسلمين” رفضوا رفضاً قاطعاً، ومنذ أول اجتماع في الدوحة صيف ٢٠١١، اقتراح مجموعتنا (التي عُرفت في ما بعد باسم «المنبر الديمقراطي») بالاتفاق على برنامج عمل نعرضه على جميع مواطنينا، ليطمئنوا إلى نوايانا ومواقفنا الوطنية فيعدلون عن التشبث بالنظام علّه يحميهم كما كان يدّعي. برنامجٌ يوضّح وسائل النضال وأهدافه، ويقترح للفترة التالية خطة عمل متكاملة، تشمل المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كفيلة بالنهوض بالبلد بعد إرساء الديمقراطية. وقد تمثلنا بالمقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية. إذ تمكنت من تجاوز خلافاتها الإيديولوجية العميقة، لتتوحدّ على أساس مشترك، هو «برنامج المجلس الأعلى للمقاومة»، فانتزعت من الحلفاء أحقيّتها بتمثيل فرنسا بعد التحرير، وتجنبت الصراعات الفئوية، وتمكّنت من تطبيق الإصلاحات المتفق عليها، مما جعل فرنسا تستعيد قدراتها ومرتبتها الرابعة بين القوى الكبرى بسنوات قليلة. وقد تحقق ذلك بفضل شخصيات استثنائية من أمثال ديغول وزملائه.
من سوء الحظ أنّ “الإخوان” وعرّابيهم اكتفوا بشعار “إسقاط النظام” ليس إلا، «وبعدين بنشوف»، فيما هم يُعدّون للحرب عدّتها. وكذلك فعلت الفصائل الجهادية من بعدها. وإن كان لـ”الإخوان” برنامج الحد الأدنى المُستمدّ من تجربتهم البرلمانية السابقة، فلم يكن للآخرين سوى برنامج تبسيطي، لم يصلح حتى الآن لأيّ بلد، لأنه لا ينبثق من الواقع، بل يُستمدّ من خارج الزمن. ولم يتنبهوا – سامحهم الله! – إلى أنّ الجنرال فرنكو، قائد الكتائب المسيحية في إسبانيا، حين اكتفى بهدف إسقاط الحكم الشعبي واستبداله بالحكم المسيحي التقليدي المتطرف، شلّ تطور إسبانيا أثناء حكمه الذي دام ٤١ سنة، وتركها عند وفاته (١٩٧٥)، مدة ثلاثة عقود خارج عملية التطور التي عرفتها أوروبا آنذاك. سبعة عقود من عمر إسبانيا راحت هباء، وعدة ملايين من الأرواح أزهقت باطلاً. أما الفرق الجهادية التي تلت “الإخوان المسلمين”، فقد اكتفت بمصارعة النظام. ولم يكن لديها ما تقترحه على الشعب الذي استبشر بها خيراً سوى إيديولوجيتها. فهل تنساق لتلك الإيديولوجية الآبدة فتتسبّب في استئناف حرب أهلية (وإن على المستوى المعنوي) تقضي على ما تبقى من الوطن، أم تُصغي إلى نداء الحراك الأول، عساها تستمد شرعيتها من الشعب وهو صاحب القضية الأول والأخير؟
إننا نستجيب للواجب ولصوت الضمير، إذ نساهم بدورنا في إضاءة طريق المستقبل، لا سيما وأننا ساهمنا منذ البداية في التصدي سلمياً للنظام، كما للمعارضة حين اقتضى الأمر. وإخلاصاً منا لروحية الحراك الشعبي ولتاريخ سورية الحديث المتأصل في التاريخ، نُذكّر ببعض البديهيات.
أول البديهيات أن إرساء الأمن الأهلي، بما تُوجبه العدالة، هو المطلب الأساسي الذي يجتمع عليه كافة المواطنين، بعد أن ذاقوا الأمرّين من النظام البائد. فليُحَاكم قانونياً كل رجل أو امرأة أساء أو يسيء إلى الشعب ليتحمّل وزر أفعاله، شخصياً. أما الانتقام العائلي أو الجماعي فليس من العدالة ومن الأخلاق في شيء. ونؤكد أن الطائفة العلوية بالتحديد ليست بأي شكل من الأشكال مسؤولة جماعياً عن جرائم من ساس البلاد أو استفاد من تلك السياسة ليلحق الأذى بالمواطنين. أننسى أم نتناسى أن أول من نالهم الشر من تلك الفئة الحاكمة هم من نفس الطائفة وأحياناً من الأقارب (فهل من يذكر مصير صلاح جديد ومجموعته؟)، وأن الكثيرين ممن احتموا بنفس الفئة ليستغلوا الشعب لمصالحهم هم من طوائف أخرى. فالعقل الشرير المؤسس لذلك النظام لم يحكم، مهما ادّعى، لصالح طائفة ما، بل كان يستغلها، سعياً منه لتأسيس سلالة حاكمة من صلبه مستعيناً بكل المستكلبين على حقوق الشعب؛ شأنه شأن أيّ عامل كان قديماً ينتهز فرصته ليستقل عن الخلافة ويُؤسّس إمارة لنفسه. يكفي أن نقرأ التاريخ بالأسماء لكي لا نعمى عن الحقيقة والواقع. لا يبنى وطن على الوهم ولا على الوتر والانتقام. تلك هو الصخرة الصلدة التي يقوم عليها بنيان المجتمع: العدل أساس الحكم.
إنّ العديد من القرارات والاقتراحات الصادرة، حتى الآن، تبدو لنا انتهاكاً واضحاً لقيم مجتمعنا السوري، كما صاغها التاريخ وعبّر عنها الحراك، وذلك على كافة المستويات التاريخية والثقافية والمجتمعية. فلا بد من التصريح بالنوايا الحقيقية واستدراك الخطأ في حال وقوعه، تجنباً للانخراط مجدداً في دورة عنف ثانية، وسعياً لبناء دولة حديثة وفية لقيمها التاريخية بقدر إخلاصها للقيم الإنسانية الجامعة، وطالما ساهمت حضارتنا العربية في إرسائها.
ولذلك، يجب التأكيد أولاً على أن التمييز بين فئات الشعب السوري إنما هو انتهاك لشخصيته التاريخية العريقة، التي نشأت منذ آلاف السنين على التمازج بين الأعراق والثقافات والحضارات، بحيث أنها تأسّست على تعددية – يحسدنا عليها العالم – صاغت من تنوعها عقداً فريداً يُزيّن جيد أجيالنا منذ مطلع التاريخ. فليس من باب الصدفة أن تنضج في بوتقتنا الثرية هذه أهمُّ الاكتشافات الإنسانية الأولى، من الكتابة الأولى ثمّ الأبجدية إلى الدساتير والسرديات الكبرى والكتب الدينية، ومن قنوات الريّ ثمّ الزراعة إلى تأسيس المدن. وليس من وجه الغرابة كذلك أن تزدهر فيها الحضارة العربية التي، بعد أن انتشرت بفضل الإسلام، بلغت أوجها بأقل من قرن ونصف، على نحو يشهد له التاريخ الإنساني. فإذا – لا سمح الله – غلبت نزعة الإقصاء، التي غالباً ما تنشأ من فكر إيديولوجي أو دينيّ متحجّر، فقد عفا الله على كل حضارة. ولنتذكر أن أسوأ فترات تاريخ هذه المنطقة ترجع إلى مرحلتين سوداويتين، العهد الصليبي وفترة حكم المماليك، وكلاهما محسوبة على التلاعب الإجرامي بالمسيحية في الحالة الأولى، وبالإسلام في الحالة الثانية. تماماً كما تُحسب على التلاعب باليهودية أكبرُ كارثة حلّت بنا في العصر الحديث من جرّاء الهمجية الصهيونية.
ولا يقلّ عن ذلك خطورة انتهاك البعد الثقافي الذي يجمعنا، ذلك البعد الذي يتجلّى في اللغة العربية وثقافتها، منذ نشأتها الأولى في رحم الفكر السامي وحتى اليوم. إن الرابط الوحيد الذي يجمعنا بدون أدنى عائق، على تنوّع انتماءاتنا، منذ ما قبل الإسلام بقرون وحتى اليوم، هو اللغة العربية. قد ننشأ عليها وقد نكتسبها إرادياً، وفي كلا الحالتين تصبح الرابط الفكري والعاطفي والثقافي بيننا جميعاً دون أي تمييز. ولو أدرك العروبيون مغزى ذلك لاعتمدوا الرابط الثقافي ركيزة للهوية الجمعية، بدلاً من الركيزة القبلية أو الإثنية أو الجغرافية، أو حتى القومية التي اقتبسناها من الغرب. وهل بلغت الحضارة العربية أوجّها أيام العباسيين إلا بفضل اجتذابها لكافة العقول البشرية الوافدة من كافة الثقافات والأصول؟
إنّ لغتنا العربية الجليلة تضرب جذورها في التاريخ، فمن الخطأ التاريخي والضلال الإنساني أن نقطعها عن جذورها وحتى عن عصرها الذهبي المتجلي على نحو ساطع في ما تبقى من المعلقات (القرن الخامس ميلادي). علينا أن نزدهي بلغتنا التي عنها وبجوارها نشأت الثقافات السامية الأخرى من سريانية وعبرية وأمهرية وغيرها. وجلّ القرآن الكريم عن الخطأ باختياره، لتبليغ الرسالة، هذه اللغة إياها، وهي التي وحّدت سكان منطقتنا السامية الآرامية، وربطتها بحضارات مصر واليونان والهند وما وراءها. ومن المؤكد أنّ ادّعاء أيّ قطيعة ثقافية عن الجذور (أما الفروق الدينية فأمر آخر)، وأي تفرقة بين متكلم أو مبدع بالعربية وآخر، إنما هو طعن في اللغة التي اصطفاها القرآن الكريم.
***
أخيراً، إننا نعتبر أن الخطر الأكبر والتحدّي الأدهى يقوم على التمييز بين المرأة والرجل من حيث الأهلية والقدْر. تختلف ما بينهما الوظائف الإنسانية العضوية وما يرتبط بها من عواطف وغرائز، ولا يُفرّق بين الجنسين أمر آخر. وكل تمييز، على أيّ مستوى كان، فإنما هو هدر لقيمة المرأة والرجل في آن. ولعلنا نجرؤ على القول إن ذلك قد يقوم بمقام وأد البنات، الذي نهى عنه الرسول. وعلينا، فوق ذلك، مواكبة الحضارة الإنسانية التي تحاول بجهد بالغ أن تخرج من عهدة الأبوية/البطريركية، لا سيّما أنها ليست من فعل الطبيعة، بل طرأت على البشرية في عصر متأخر نسبيا، وفق ما اتفق عليه المؤرخون. كُلنا يشعر بأننا، بعد أن طوينا ذلك الفصل المظلم الطويل من عمرنا، قائمون الآن على مفرق تاريخي خطير بالنسبة لشعبنا وشعوبنا العربية. فإما أن نعود إلى الكهوف المعتمة، وإمّا أن ننطلق إلى الرحاب النيّرة التي نحلم بها لنا ولأحفادنا؟ لذلك، فإن منتهى آمالنا أن يطمئن إخواننا الوافدون مع قائد العمليات العسكرية إلى احتضان الشعب لهم حالما استبشر بإمكانية استعادة الوطن، ليعودوا هم أيضاً إلى دفء الوطن بحضارته الأخوية المعهودة. وأفظع ما نخشاه في أعتى كوابيسنا هو أن يتشبثوا بإيديولوجيات آبدة، ينكرها الدين الحنيف نفسه، فيتجاوزوا الشعب ويتنكّروا للشعلة التي اهتدت بها الشبيبة في حراكها البكر. فيعودون إذّاك إلى الأخذ بمنطق حرب شنّوها سابقا على النظام، يحولونها الآن إلى حرب على أحلام الشبيبة ودمائها الطاهرة؟ إننا لواثقون أنهم لن ينسوا – أو يتناسوا – جحيم حرب كَوَتنا جميعاً، تكفي ذكراها لبث القشعريرة في النفوس والأجساد؟ لا، لا! نجلّهم عن مثل ذلك. Print Friendly, PDF & Email Download WordPress Themes Download Nulled WordPress Themes Download WordPress Themes Download Nulled WordPress Themes online free course بطرس الحلاق ومحمد مخلوف بطرس الحلاق ومحمد مخلوف بطرس الحلّاق أستاذ كرسي في جامعة السوروين بفرنسا؛ محمد مخلوف كاتب سوري مقيم في أوروبا
Continue reading at سوريا.. وطنٌ يُستعاد أو حرب تُستأنف على غير وجه! | 180Post
——————————————
الأسد في ثيابه الداخلية: السخرية من النظام والذكورة السامّة/ مايا البوطي
31 كانون الثاني 2025
رغم عنف النظام وخطاباته، ظهرت السخرية كوسيلة لتحطيم أسطورة بيت الأسد، وخلقت مساحة لتحرّر خيال السوريات والسوريين وتحدّي سرديات النظام الكاذبة. ومع سقوط النظام وهروب بشار الأسد، شكّل «ألبوم صور العائلة»، الذي تركه خلفه في غفلة انشغاله بجمع الذهب والأموال التي سرقها من سوريا، مادة دسمة لسخرية الملايين منه. تناولت صفحات المنصات الاجتماعية الصور من زوايا مختلفة لفضح كذب خطاب النظام. لكن في الوقت ذاته، حملت بعض النكات عنفاً رمزياً ضد فئات مهمّشة، غالباً ما يطالها خطاب الكراهية.
لذا، كيف يمكن قراءة طرق التعبير الساخرة من الأسد وعائلته التي ملأت صفحات التواصل، مركّزةً على ألبوم الصور ضمن مفاهيم الذكورة السامة؟ وما الذي يعنيه تجريد بشار وعائلته من شكل محدّد للذكورة وذمّه ووصمه بصفات تحمل فكراً تمييزياً تجاه فئات أخرى لا تمتلك هذه الصفات؟ كيف يمكن أن نقرأ هذه الصورة ضمن رؤية تنتصر لحاجتنا لتحطيم الأساطير مع الحرص على عدم التجييش ضد فئات هشّة؟
ألبوم صور الطاغية
شكّلت السخرية إحدى وسائل مقاومة ورفض النظام، بدءاً من العام 2011 وانطلاق الثورة السورية. ظهر مع الثورة عدد من الصفحات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي ورسمت ابتسامات على الكثير من الوجوه. وعادت العديد من هذه المنصات الساخرة للظهور مع سقوط النظام، ومنها صفحة
و و و
وغيرها من الصفحات ذات الروح الساخرة. وقد ساهمت العديد من هذه الصفحات ذات المحتوى الساخر بدحض خطاب الأسد.
بعد سقوط الأسد، عادت السخرية ووجدت في ألبوم صور العائلة الملتقطة في المنزل وفي حالتهم الإنسانية بضعفها وهشاشتها، موضوع السخرية للسوريين والسوريات ممّن يريدون القضاء على أسطورة الأسد.
فانتشرت صور لبشار بجسد امرأة ترتدي ثياب استحمام. وفي صور أخرى، حاول البعض إثبات «مثليّته» بادعاء امتلاكه لعلاقات مع رجال من محيطه، ومنهم رجل يرتدي ثوب امرأة في ما يبدو حفلاً تنكرياً. هنا لامست السخرية الذكورة السامة، من خلال اعتبار المثلية إهانة أو التشبيه بالمرأة نيلًا من قيمة القيادي السياسي. ربّما أراد البعض من هذه السخرية ردّ الاعتبار للذات وتجريد الآخر من سطوته، إلا أنها تتضمن خطاباً يتنمّر على الفئات الأخرى التي لطالما تمّ التعدي عليها عبر أنواع من النكت غير الحساسة ولا المراعية. فرؤية آل الأسد بالملابس الداخلية في لحظات خاصة ومحرّمة على العين، فيه من كسر الإيهام ما يصيب بنشوة من الضحك الهستيري. تعرية هذه العائلة من قوتها ونفاقها ومن الوهم الذي فرضت به وجودها في سوريا لمدة 54 عاماً، يمنح آلاف الضحايا نوعاً من الراحة بكسر شوكة هذا الوحش المهيمن. لكنّ امتلاك الحساسية تجاه النساء وعدم تشبيه بيت الأسد بهن أو بالمثليين هو ضرورة لمنع الانتقاص من حقوق هذه الفئة وغياب الحساسية تجاهها.
الذكورة بين الأسد الأب والابن
لكنّ هذا النوع من السخرية يأتي في سياق استغلال النظام للذكورة من أجل دعم سيطرته. فاستعمل نموذجاً سامّاً للذكورة في وجه الذكورة السامة التي شكّلت إحدى دعامات صورة بيت الأسد. فعبر السنوات، ثبت حافظ الأسد صورته كقائد أوحد من خلال كافة المؤسسات، وخاصة الجيش والإعلام والتعليم والفنون، التي كرست تماثيله القاسية المتصلبة في ساحات سوريا. لطالما أطل حافظ الأسد من خلال شاشة التلفاز من شرفة مرتفعة بنظرة قاسية متصلبة تخلو من الإحساس. هذه الصورة للقائد القوي المطلق، هي مما ساهم في ثبيت حكمه المقرون بالأبد. فصورة الأب والرجل المطلق هي من رموز الذكورة السامة المهيمنة. هي نموذج للرجل في أعلى الهرم الاجتماعي ضمن المنظومة الأبوية المسيطر بشكل مرضيّ، والذي يسمح بتراتبية أبوية متصلبة تعلي من شأن الرجال العسكريين المتسلطين العنيفين.
بحسب آر دبليو كونيل، وهي عالمة اجتماع نسوية أسترالية وأستاذة فخرية في جامعة سيدني اشتهرت بشكل أساسي بتأسيس مجال دراسات الذكورة، هناك نموذج معياري للذكورة المهيمنة يتم تثبيته بالإعلام وعبر الصور المتعددة التي يتم تدويرها اجتماعياً وعبر المؤسسات المختلفة، لتمثيل معنى الذكورة التي يسعى الرجال لتبنّيها كي يحصلوا على الاعتراف المجتمعي من ناحية جندرية. عمد الأسد الأب إلى الترويج لذكورة تعتمد على القوة والعنف والمنافسة. ما سبق، من تعزيز لهرمية أبوية عنيفة، أسّس لمجتمع قائم على مركزية للأب الأوحد وساهم بتهميش كل من لا يمتلك خصائص القوة والعنف والمنافسة.
فيما بعد، ومع وفاة الأب القائد، حاول بشار الأسد، الوريث غير المرغوب به، تقديم صورة مختلفة، «موديرن»، وأكثر انفتاحاً وتجدّداً. لم يتمّ وضع تماثيل لبشار الأسد، لكنّ صوره كانت تحتل فضاء سوريا كاملاً. اعتمدت الدعاية لبشار على تصويره كطبيب منفتح درس في الغرب ومع زوجة عصرية بجنسية بريطانية. ظهر الثنائي مراراً في لقاءات إعلامية ترصد تحركاتهما في نشاطات إنسانية واجتماعية، على عكس حافظ الأسد الذي أحاط نفسه وزوجته بهالة من الغموض والتعالي المطلق على الشعب بتجنب الظهور العلني إلا لخطابات كبرى في مناسبات خاصة.
انتهت هذه الصورة مع القمع الدموي للمظاهرات السلمية التي اعترضت على حكم الأسد في 2011، ليتجاوز الابن «الموديرن» مجازر أبيه الصارم في حماة في الثمانينات. لذا، منذ بداية الثورة، تعرّض بشار للسخرية من مظهره وطريقته في الكلام، بما يحمله من صفات تبتعد عن نموذج والده القاسي والصلب. أي أن الأسد الأب كرّس نموذجاً من الرجولة حتى ابنه وقع ضحيته، وبات محطّ سخرية لكونه أكثر ضعفاً وهشاشة. وباتت المفارقة واضحة بين محاولته الظهور كعسكريّ محنّك وعدم مناسبة هذا الدور له بسبب سياساته التي أوقعت البلاد ضحية التدخلات الخارجية وعنف السلاح والبراميل. ما سبق، يعكس إشكالية التعاطي مع الذكورة من منطلق عزّزه نموذج الأسد الأب بطريقة باتت معياريّة للقياس عليها.
السخرية كأنسنة الأسطورة
السخرية هي حاجة للشفاء والتعافي من ظلم وقهر طويل الأمد. وهي طريقة لمحو كذب دعاية إعلامية وضعت بيت الأسد في مكانة سماوية. كانت خطابات الأسد الأب تدرَّس للحفظ عن ظهر قلب في المدارس. كما تعمّد الأب عدم الظهور إلا نادراً في لقاءات تاريخية بشكل مدروس لتكريس نفسه كسلطة مطلقة. فجاءت السخرية للقضاء على هذه الصورة. الأسد الأب في كلسونه الأسود أمام المرآة في نظرة يفترض منها تقديم ذاته بعضلات مفتولة، ساحباً بطنه إلى الداخل كنموذج للرجل المهيمن في أعلى هرم السيطرة والقوى، في مقابل الأسد الابن بسرواله الأبيض يقف بالمطبخ حالماً، أو أمام المرأة يأخذ سلفي نرجسي لما يتخيل في نفسه جمالاً وزهواً غير موجودين. الصور السابقة وغيرها من الصور فضحت خللاً في النظرة للذات ومعاني الذكورة وبحثاً عن تمجيد لنموذج مثالي مهيمن يفرض سطوته على من هم أضعف ويهدّد بخصائهم.
مُنع الشعب السوري لسنوات من حرية التعبير، وتحكّم النظام بالإعلام والتعليم وبجميع المؤسسات التي تتيح وجود فكر حرّ متنوّع ومختلف. ساهم تكميم الأفواه بمنع وجود مساحات حرّة للتعبير، وقد تحدّاه الناس بكافة الطرق، ومنها السخرية كوسيلة لمحاربة النظام وأكاذيبه ولرفع المعنويات وتثبيت العزم. واجهت العديد-ات السجون ومحاكم ميدانية لمجرد نكتة نطقن-وا بها. النكتة والسخرية وسيلة مهمة لخلق خطاب مضادّ للسلطة ولإيصال الأصوات المهمّشة. الآن مع حاجة سوريا للتعافي ولبناء المستقبل، يصبح من المهمّ حماية حرية التعبير بكافة أشكاله، مع الحساسية للفئات المستضعفة ومع الاستمرار بنشر البسمة على وجوه طالما أرهقها النظام السابق بعنفه.
أنجز هذا النص ضمن برنامج «الصحافة الثقافية النقدية» (2023-2024)، الذي تديره مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق بالشراكة مع الأكاديمية البديلة ممثلةً بشبكة فبراير.
—————————-
العودة إلى سوريا/ زياد ماجد
28 كانون الثاني 2025
هذا نص شخصي وفيه صور التقطتُها خلال زيارتي لدمشق في الأسبوع الثاني من كانون الثاني الجاري (2025). أشكر الصديقة رافية قضماني على كرم الاستقبال والصديقات كوليت بهنا وسعاد جروس وزينة شهلا وشيرين الحايك وعلا رمضان وعزة أبو ربيعة على حلو اللقاءات والمودّة، وعمر ملص ونور الدين الأتاسي ونادر الأتاسي والكثيرين ممّن تشرّفنا بالتعرّف إليهم على الحدود اللبنانية السورية وفي شوارع دمشق على أنس الرفقة وأحاديثها. وأشكر أخيراً وليس آخراً العزيزين عبد الحي وكندة السيّد على الاجتماع الممتع والمحفّز على التفكير في ضيافتهما.
ليس بوسعي بعدُ تحليل الشعور المركّب والمعقّد الذي انتابني في دمشق، وفي الطريق إليها. فأن أذهب إلى سوريا لأول مرة منذ العام 2003، وبعد سقوط النظام الذي قتل وعذّب وسجن ونفى وآذى ملايين البشر منذ 54 عاماً، وأن أذهب إليها ومعي أطياف أصدقاء سوريين ولبنانيين وفلسطينيين اغتالهم النظام إياه أو خرّب حياتهم، ففي الأمر ما يثير في الوقت نفسه التهيّب والحزن والفرح والرغبة بالاحتفاء بانتصار عامٍّ وفرديّ حميمٍ باهظ الكلفة.
وأن أذهب إلى سوريا برفقة فاروق مردم بك العائد الى بلده لأول مرة منذ العام 1975، وصبحي حديدي، العائد لأول مرة منذ العام 1987، وقد تشاركنا في باريس العمل وكتابة النصوص حول سوريا ودعماً لثورة أهلها على مدى سنوات، وأن يكون محمد علي الأتاسي منتظراً إيانا لنترافق في الطريق من بيروت إليها، فنجد ياسين الحاج صالح وأصدقاء أعزّاء فيها، فالأمر يشبه الحلم المتحقّق بعد كوابيس وأحزان دامت لسنوات.
نَفتَلين دمشق
في دمشق، سرنا في الشوارع المكتظّة أو داخل الأسواق الملوّنة وفي أرجاء المسجد الأموي والخانات وباحات البيوت القديمة، واستكشفنا أمكنة كانت مألوفة لنا بفوارق زمنية متباعدة. بعض معالمها تبدّل كما تبدّلت المدينة بأكملها. وبعضها الآخر، عثر فاروق عليه من دون عون عابري السبيل.
وفي دمشق أيضاً، مررنا بجوار مراكز أمنية سابقة ومبانٍ كان الناس يتجاذبون الحديث همساً وهُم يشيحون النظر عنها متجنّبين التفكير في معاناة الآلاف من نزلائها، ممّن تحرّروا بعد إسقاط النظام، أو اختفوا كالأشباح وما زال أهاليهم يحاولون تقفّي أثرهم في كتابات حفروها على جدران زنزاناتهم أو في أوراق وبطاقات هوية متناثرة أمام المعتقلات، هي ما تبقّى من ملفّات المخابرات وأجهزتها.
ملامح الأزمات الاقتصادية المتراكمة في الحياة اليومية للسوريّين ظاهرة في معظم أرجاء المدينة، والأحاديث حولها وحول التبدّلات التي أصابت المجتمع دائرة على الألسنة المتحرّرة من عبء الصمت الثقيل منذ الثامن من كانون الأول الماضي. والنقاش حول المستقبل واحتمالاته وحول المخاوف والأحوال الأمنية وسُبل صون الحريات المنتزَعة ومسائل العدالة الانتقالية يتشعّب ويلامس قضايا جوهرية لم يبدأ الخوض فيها رسمياً بعدُ على مستوى السلطات الجديدة التي تواجه تحدّيات كبرى وتجهد لتثبيت نفسها وتبدو ناجحة في ذلك، نسبياً على الأقل، حتى الآن. والابتسامات والميل لاعتبار الأمور مُقبلة على تحسّن تؤكّد أن ثمة رغبة عارمة في التمسّك بالأمل وبحقل الممكن الذي انفتح منذ سقوط النظام الأسدي وهروب رئيسه.
رائحة النَفتلين رافقتني كل يوم. أظنّها أتت من مفروشات غرفة الفندق ولحاف سريره. ثمة ما سرّني في رفقتها، ليس فقط لما تثيره من تذكّر بدايات الشتاء البيروتي حين كنّا نُنزل من التتخيتة الملابس الشتوية ونفرغ حقائب احتلت زواياها مدوّرات النفتلين الصغيرة لحماية صوف كنزاتها، بل أيضاً لكونها بالنسبة لي مجازاً يعبّر عن بعض ما أراه. عن مجتمع خرج لتوّه من حقيبة كبرى محكمة الإغلاق، في بداية شتاء هو ببرده ومطره عودتُه الفعلية إلى الحياة، ملفوفاً برائحة نفتلين ستزول تدريجياً كلّما هبّ عليها الهواء الآتي من جبل قاسيون أو من الجبال الغربية…
جوبر وزملكا واليرموك والسير فوق رفات العباد
الخروج من دمشق نحو الغوطة هو بدوره مدعاة رهبة ودموع. شخصياً كنت قد عاهدت نفسي على زيارة موضعين في أول زيارةٍ سوريةٍ: جوبر، ومخيّم اليرموك (على أن أزور درعا البلد وحيّ بابا عمرو في زيارة لاحقة).
ذلك أنّ حي جوبر، على بعد مئات الأمتار فقط من ساحة العباسيين الدمشقية، كان خط التماس ومحور الثورة الأكثر تقدّماً وصموداً في مواجهة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين وأعوانهم، بعد أن كان واحداً من أبرز مسارح المظاهرات السلمية. وقد شهد في 22 نيسان 2011 مسيرة كبرى ارتكب النظام مجزرة ضد المشاركين فيها الذين كانوا يكشفون عن صدورهم لإظهار سلميّتهم، فيتلقّون رصاص الرشاشات ثم سكاكين الشبيحة. كما شهد أيضاً في ربيع العام 2013، بعد تحوّل الثورة الى كفاح مسلّح مرير، ثاني هجوم كيماوي شنّه النظام (بعد هجوم حمص في كانون الأول 2012 وقبل أشهر من الهجمات الصيفية الواسعة على الغوطة في آب 2013)، ما أدّى الى مقتل العشرات من أبنائه الثابتين في مواقعهم. وظلّ الحيّ مسرحاً للقتال فوق الأرض وفي أنفاق تحتها حتى العام 2018، ولم ينجح جيش النظام وحلفاؤه في التقدّم فيه أو احتلاله رغم تدميره شبه الكامل، لغاية سقوط الغوطة واضطرار مقاتليه للانسحاب نحو الشمال، في الباصات الخضر، إثر الاتفاق مع الروس.
أما مخيّم اليرموك، أو فلسطين الصغرى، فإضافة الى رمزيّته الكبرى، والى ما فعله «نظام الممانعة» بأهله الفلسطينيين (والسوريين) قتلاً وتنكيلاً وتجويعاً، فلي معه قصص شخصية ترتبط بصداقات ومراسلات جرت خلال حصاره، وبشراكة مع مخرج فرنسي اسمه آكسيل سالفاتوري-سينز تخلّى عن أطروحة دكتوراه كان يعدّها عن اليرموك ليصبح سينمائياً، وانصرف لكتابة وتصوير فيلم عن شباب المخيم، بديع في صوره وفي جرعات الظُّرف والحنان وروابط الصداقة والحبّ التي تابعها على سطوح بيوته. أبطال الفيلم وأصحابهم قُتل بعضهم لاحقاً، قنصاً أو تحت التعذيب، وهُجّر بعضهم الآخر وتوزّع على دول الجوار وأوروبا. الأمكنة التي صوّر الفيلم قصصها دُمّرت، والمخرج نفسه الذي طلب منّي تقديم الفيلم في عروضه الباريسية الأولى ثم أدخلني في إصدار «دي في دي» الفيلم المُنتج لاحقاً عبر مقابلة عن ثورة سوريا وتاريخ مخيمات الفلسطينيين فيها، توفّي قبل سنوات، وبقي لي نسخة الفيلم التي أهداني إياها قبل رحيله المفجع…
هكذا خرجنا صباحاً من دمشق أولاً باتجاه جوبر، ثم باتجاه زملكا لزيارة الأخ أبو عماد يوسف الهوش، أحد أبرز وجوه العمل الثوري المدني في الغوطة، الذي اضطر إلى مغادرتها نحو إدلب العام 2018، ثم عاد إليها بعد سقوط النظام. جال بنا أبو عماد، ومعه الأخ محمد في أرجاء زملكا وفي مقبرة شهدائها وشهداء الغوطة الذين لم توضع الشواهد على قبورهم خوفاً من تحطيمها ونبشها من قبل جنود النظام البائد.
صور من حيّ جوبر المدمّر تدميراً شبه كلّي. السير فيه صعب، إذ تكثر الكلاب الشاردة، وهي تقترب من كل حركة بشرية طمعاً بما قد يتكرّمه البشر عليها، أو سعياً «لانتزاع حقّها» في ذلك بالقوة.
ثم كانت زيارتنا الثانية الى مخيّم اليرموك، جنوب دمشق، بعد الظهر، برفقة الأخ أحمد شحادة. المخيّم المنكوب والمنهوب يذكّر ببعض مشاهد الدمار في مخيّمَيْ جباليا والشجاعية حيث فعلت الهمجية الإسرائيلية ما فعله الأسديّون جنوب العاصمة دمشق.
صور من مخيم اليرموك الذي تناوب النظام الأسدي وداعش والروس على تدميره بين العامين 2012 و2018، والذي بحث الروس والإيرانيون في مقبرته عن رفات جنود إسرائيليين، فنبشوا القبور أو ما كان قد سلم منها من قصف البراميل والمدفعية.
صورة من مقبرة اليرموك
بعض الناجين أو العائدين إلى اليرموك يفتتحون صيدلية هنا، ومحل ألومنيوم وزجاج هناك. ثمة بسطات أيضاً تبيع بعض الاحتياجات، وأولاد يلعبون كرة القدم بين أشلاء المباني أو في حارات ما زال فيها بعض الحياة. أمام المقبرة نسوة يجلسن على حجارة ويتأمّلن غروب شمس نهار آخر.
ثلاث صور عن كرة القدم والحياة المستمرّة رغم كل شيء في اليرموك.
نعود مساء إلى دمشق. في داخلنا كمٌّ من المشاعر يحتاج إلى زمن للتعامل معه. لا مبالغة أبداً في القول إن أكثر ما حضر خلال سيرنا في جوبر وزملكا واليرموك كان قول أبي العلاء المعرّي الأثير: خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
سلام إلى من انغرسوا في الأرض لنسير محرّرين من نظام التوحش ونهش الأجساد والأرواح…
———————
ابتزاز الشرع بالعقوبات.. من يتاجر بالملف؟/ إبراهيم الجبين
يناير 29, 2025
تبدو سورية اليوم لبعض أصحاب الأفق الضيق والثقافة شبه المنعدمة، فرصة للاستغلال لا للاستثمار والتنمية، وبعد أن كان العمل الجماعي وشغل المنظمات الكثيف منصبّاً على تجريم الأسد ومحاولة محاصرته، لا سيما على مستوى الجاليات السورية في أوروبا والولايات المتحدة بصورة أخص، تقلّص الملف السوري في أنظارهم ومداركهمم حتى بات منحصراً في موضوع العقوبات المفروضة على سورية بسبب جرائم النظام المنهار.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن البعض من هؤلاء سيفكّر على الفور، بنقل نشاطه من السعي السابق لفرض العقوبات على بشار الأسد إلى سعي جديد لرفع العقوبات عن أحمد الشرع. وبالطبع سيكون لهذا النشاط آثاره، خاصة بعد أن فقدت تلك المنظمات والأفراد الدور الذي كانت تقوم به منذ العام 2011، وهم يبحثون عن دور جديد الآن. وهو بالضبط ما حصل منذ لحظة تحرير دمشق وفرار الأسد في 8 من ديسمبر الماضي، وسبق وأن قلنا في مرات عديدة ماضية منذ انطلاق عملية ردع العدوان، إن على السوريين جميعاً ابتكار أدوار جديدة لأنفسهم، لأن المرحلة الماضية انطوت، وانتهت معها صلاحية الأدوار القديمة.
بالطبع علينا أن نستثني من هذا القطاع، المنظمات الحقوقية والإنسانية التي عملت ولا زالت تعمل من أجل العدالة الانتقالية ومساعدة السوريين دون تمييز، ومعهم العديد من الوطنيين السوريين الذين يرون المشهد بصورته الواضحة بعيداً عن تشويش المصالح، وهؤلاء يعتبرون أن طريقهم لا تزال طويلة للحصول على العدالة للضحايا وعلى سورية مدنية ديمقراطية جمهورية، أما آخرون فقد خطر ببالهم أن الوقت قد حان الآن للمتاجرة بهذا الملف (العقوبات).
شكّل البعض مجموعات عمل، ورسموا خططاً وسيناريوهات تقوم على عدد من الخطوات المرتّبة مسبقاً لتحقيق جملة من الأهداف، أولاً سينظمون أنفسهم كنخب تخصصية، وهو غطاء مقنع لكثيرين، ثم سيحاولون جمع المال من هنا وهناك لتمويل مجوعتهم وإجراء لقاءات مع شخصيات رسمية في عدد من البلدان، تمنحهم دفعة من القوة قبل خطوتهم القادمة، التي ستحملهم مع مشروعهم إلى دمشق للقاء الإدارة الجديدة ليعرضوا عليها خدماتهم للمساعدة في رفع العقوبات عن سورية، وتبعاً عن (هيئة تحرير الشام) التي لا تزال مصنفة على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة.
تنتهي المهمة الأولى هنا، لكن لا يزال فيها المزيد من التفاصيل، فهذه المجموعات وغيرها لديها ترشيحات لشخصيات من بين أعضائها لشغل منصب سفير أو سفيرة لسورية في واشنطن، بعد رفع العقوبات وإعادة العلاقات الدبلوماسية السورية الأميركية، وبالتالي سيتمكنون من جميع موارد نفوذ عديدة تقوي استثمارهم. لكن المشكلة التي تواجههم أنهم لا يمتلكون الجرأة للدفاع عن الإدارة السورية الجديدة في أميركا، (وربما لا قناعة لديهم بالدفاع عنها أساساً فبعضهم وبعضهن كان حتى قبل أيام من تحرير دمشق مؤيداً لبشار الأسد ومعادياً لثورة الإسلاميين الجهاديين على حد تعبيره). لا يستطيعون المطالبة بشرعنة الإدارة السورية بشكل صريح لحساسية موضوع القاعدة وارتباط هيئة تحرير الشام بها سابقاً، والإرث الغاضب الذي لا يزال يسيطر على الذهنية الأميركية منذ أحداث 11 من سبتمبر 2001، وتفجير برجي مركز التجارة العالمي في مانهاتن.
ما العمل إذاً؟ لا سبيل أمامهم إلى مواصلة مسار هذه المجموعة سوى بالهمس في الأذن الأميركية بأن سلاح العقوبات سيكون هو الوسيلة الوحيدة للضغط على الشرع والإدارة السورية الجديدة لتغيير سلوكه، وفتح المجال أمام شركاء سياسيين آخرين وأمام الحياة الديمقراطية، وهكذا تتحوّل المهمة من رفع العقوبات إلى استخدامها ضد من وعدوه بالمساعدة على إزالتها.
البعض الآخر، من الذين سيطرت عليهم الإيديولوجيا الدينية الحزبية زمناً طويلاً، حتى جعلتهم لا يرون سورية إلا حزمة طوائف، وليس بلداً لمواطنين، قرروا الدخول على بازار العقوبات، وشكلواً وفداً لمقابلة المسؤولين الأميركيين، وبالتأكيد جلبوا معهم عضواً من طائفة من “الأقليات” وعضواً من طائفة ثانية وثالثة وهكذا، ومع أن من بينهم من كان صادقاً في توجهه نحو مساعدة سورية ورفع قيود العقوبات عنها، إلا أن آخرين كانت لديهم أجندات مختلفة، وعلى الرغم من أن اللقاء كان بهدف تقديم العون للإدارة الجديدة ورفع العقوبات عنها، تحوّل إلى شيء آخر، بحسب شكاوى بعض أعضاء هذا الوفد من الذين قالوا إن العضو العلوي في الوفد همس في أذن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن هناك مجازر تدور بحق العلويين الآن في سورية بعد سقوط الأسد وأنه يجب أن تتدخل أميركا بكل ما يمكنها فعله من أجل إيقاف القتل على الهوية وغير ذلك من الفظائع، رغم أن هؤلاء سلّموا أسلحتهم(على حد تعبير العضو المذكور)
وحين تسرّب خبر كلام هذا العضو العلوي، (عن طريق مشاركين في الوفد وليس من خارجه) سارع آخرون إلى نفي الحادثة جملة وتفصيلاً، ولكن تبقى شهادة الذين حضروا في اللقاء وهم الذين نقلوا هذا الكلام وليس أي أحد غيرهم. فهل اختلقوه؟ أم سمعون بآذانهم؟ ولماذا أصلاً سيفترون على ذلك العضو العلوي وهو زميلهم وشريكهم في المشوار؟
وسواء صح هذا الكلام أم لا؟ فالمناخ الذي ينتجه مناخ سيء ومضطرب. لأن التركيبة التي تقوم عليها هذه الوفود تركيبة بدائية ملفقة تحاول تقديم الولاء بتنويعة طائفية لإثبات أن المسلمين السوريين السنّة لن يبيدوا الأقليات!.
وفود تأتي ووفود تذهب، تقصد الشرع لتسمع العرض ذاته “سنعمل على مساعدتك برفع العقوبات المفروضة على سورية وعليك”، والشرع يستمع إلى كل تلك العروض ويجيب عليها بالشكر، حتى كاد صبره ينفد حين قال لأحد تلك الوفود “نحن نعرف أن العقوبات سوف تُرفع عن سورية عاجلاً أو آجلاً”، لم يكن يريد القول “لا تحاولوا ابتزازنا بملف العقوبات، فنحن أدرى به وبما تريدون مقابلاً لجهودكم تلك”. لكن يبدو أن الرسالة لم تصل بعد إلى هؤلاء.
البعض ذهب إلى الشرع ليطالبه بمطالب الهدف منها هو إحراجه فقط وليس تحقيق أي غرض سياسي أو إنساني، ويمكننا فهم ذلك حين نعرف أن هناك من أراد من الشرع صرف مرتبات لأسر قتلى النظام من الشبيحة وعناصر جيش الأسد، أسوةً بأسر شهداء الثورة، يطلبون منه ذلك وهم يعرفون أنه لن يتمكن من فعله، لأن الشعب سيرفضه والضحايا وأصحاب الحقوق لن يقبلوا به، ولكن من يطرح هكذا طروحات يريد أن يحملها معه حين يعود إلى أميركا وأوروبا ليقول للصحافة (طلبنا من الشرع هذا المطلب الإنساني ونحن ننتظر تنفيذه) كي يتواصل الضغط عليه وكي يجري خلط الأوراق مجدداً بين العقوبات والمصالح والمطالب طائفية الدوافع.
إن مجرّد فكرة الضغط عبر العقوبات وسيلة لتغيير السلوك، هي فكرة غير وطنية وساذجة، ولا تقوم على ثقة بالإدارة السورية الجديدة، بل تصرّ على إعادة إنتاج نظام سياسي جديد في سورية ينصاع لوصاية هذه الدولة أو تلك. وبدلاً من محاولة دفع الإدارة في دمشق إلى المضي بالمسار الديمقراطي التشاركي يجري الاكتفاء بالمكاسب الشخصية لتلك الجهات، ويا لها من مطالب “منصب سفير أو سفيرة في واشنطن؟” حتى أن هناك من خطر بباله أن يكون تعيين السفير السوري الجديد في واشنطن من اختصاص إدارة ترامب، فهم يختارون لها الشخص وهي تفرضه على الشرع والشيباني ولن تملك حينها خياراً سوى الاستجابة، وبالطبع الهدف الماثل أمام العينين هو رفع العقوبات.. وهكذا.
الإدارة السورية الجديدة ووزارة خارجيتها تمتلك من الحنكة بما يكفل لها تلافي الوقوع في فخاخ من هذا النوع، فهي تواجه ملفات أكثر تعقيداً، وتعتمد على شركائها في الرياض والدوحة وأنقرة لتفكيك ملف العقوبات، ويبقى حفظ السيادة الوطنية السورية واستقلال قرار دمشق رهناً بالسوريين وحدهم في نهاية المطاف
—————————-
سوريا ما بعد آل الأسد.. أحلاف ومشاريع وإسلام!/ محمد سيد رصاص
يناير 31, 2025
فوجئ غالبية السوريين بأهمية بلدهم الجغرا-سياسية حين أدى سقوط حكم بشار الأسد إلى موت محور إيران الإقليمي بينما لم يحصل هذا مع هزيمة ذراعي طهران في غزة ولبنان. كما أن هذا السقوط أعاد روسيا إلى وضعية القوة الإقليمية بعد أن اكتسبت وضعية القوة العالمية إثر تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، فيما كانت روسيا المنبثقة عن تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 دولة مهلهلة الأركان بخاصرات رخوة في منطقة القفقاس (الشيشان، داغستان، جورجيا) وفي الغرب منها (أوكرانيا، جمهوريات البلطيق الثلاث، فنلندا).
يمكن هنا استعادة عبارة باتريك سيل في كتابه «الصراع على سوريا» وهي «إن من يقود الشرق الأوسط لابد له من السيطرة على سورية» (ص14، دار الأنوار، بيروت 1968). وهذا ما يقوله التاريخ فعلاً، إذ أن سيطرة الإسكندر المقدوني على سوريا قادت لسقوط مصر، وكذلك الرومان، ومعركة اليرموك تبعتها القادسية ثم سقوط مصر وبلاد فارس بيدي المسلمين. ثم قادت معركة مرج دابق عام 1516 إلى سقوط مصر والحجاز بالعام التالي ثم العراق بيدي العثمانيين.
وحتى إن مشاريع دولية-إقليمية، مثل حلف بغداد عام 1955، فشلت بسبب عدم انضمام دمشق لها. كما أن مشروع جمال عبد الناصر العروبي تضعضع مع الانفصال السوري عن دولة الوحدة عام 1961. وإذا توخينا الدقة، فإن من أصاب عبد الناصر في مقتل كان حزب البعث السوري حينما نافسه منذ عام 1963 على زعامة التيار العروبي ثم شقِّ الحركة العروبية إلى مركزين يتنازعان ويتنافسان. وإذا فكّر الهاشميون بالعودة إلى دمشق من بغداد 1921-1958 بعد ميسلون ثم صدام حسين الذي سعى لإسقاط حكم حافظ الأسد بأساليب متنوعة منها دعم الإسلاميين في فترة 1979-1982، فلأن حاكم بغداد يدرك أن العراق مثل الزجاجة الكبيرة لها فتحة صغيرة على البحر، وأن مرفأ العراق ليس البصرة بل اللاذقية. وكان فشل الهاشميين وصدام في المسألة السورية أحد أسباب سقوطهما الرئيسية.
والآن بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 السوري، يمكن تعداد مشاريع دولية– إقليمية ستموت، منها مشروع سكة حديد تمتد من شنغهاي إلى اللاذقية اقترحه المواطن الفرنسي جاك سعادة، ابن اللاذقية وصاحب شركة «CMI-CGM» ثالث أكبر شركة شحن ونقل حاويات في العالم، حينما أخذ بواسطة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تعهد رصيف التفريغ والتحميل في مرفأ اللاذقية عام 2008، وهو بالتأكيد كان إرهاصاً لمشروع 2013 الصيني المسمى «الحزام والطريق». ورأينا منذ سنتين مع التقارب الصيني- الروسي- الإيراني كيف تم الربط السككي بين العراق وإيران وقبله بين إيران وباكستان وقبل ذلك بين الأخيرة والصين. وكان مقرراً الربط لدى الإيرانيين بين القائم وديرالزور سككياً، بمعونة وموافقة بغداد ودمشق. ويمكن الآن الحديث عن موت مشروع أنبوب الغاز الإيراني حتى الساحل السوري عبر العراق الموقّع في الشهر الأول من عام 2011 وكان مقرراً تحميله عبر البحر إلى أوروبا.
كما يمكن تعداد مشاريع يرجح أنها ستعود للحياة، منها مشروع رفضه بشار الأسد عام 2009 لنقل الغاز القطري عبر السعودية- الأردن- سوريا- تركيا إلى أوروبا. والأرجح، أنه سيضاف إليه الغاز السعودي الآن الذي يعد باحتياطات توازي روسيا، بحسب ما يسرّب، لجعل القارة العجوز تستغني عن «محطة بوتين» للغاز وللنفط. وربما ينتعش مشروع عرضه رجال أعمال كويتيون وخليجيون على الأسد (ولم يلتفت له فيما بعد) أثناء زيارته للكويت في يونيو/حزيران 2008 لإقامة طريق للشاحنات وسكة حديد من دول مجلس التعاون الخليجي إلى الحميدية جنوب طرطوس مع أنبوبي نفط وغاز، على أن يتولى الخليجيون تكاليف التشييد والانشاء بما فيه لمرفأ الحميدية، وذلك لتفادي مضيقي هرمز وباب المندب وبسبب التكلفة الاقتصادية الأقل للنقل ولكونه أسرع برياً من الإبحار عبر الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر.
ويمكن ذكر مشاريع ستكون قابلة للتعديل مثل الممر الهندي المطروح عام 2023 لنقل أنابيب نفط وغاز وهيدروجين من الخليج مع طرق وسكك حديد لنقل بضائع من الهند وآسيا عبر ساحل عمان أو الامارات أو منهما معاً حتى ميناء حيفا، ومن هناك بالبحر حتى الساحل الإيطالي أو اليوناني وصولاً إلى أوروبا وبالعكس، حيث ستكون التكاليف الاقتصادية أقل إن كان البر السوري معبراً للكوريدور بكل محتوياته حتى تركيا ومنها لأوروبا أو بتشارك اللاذقية وبيروت مع حيفا، وهذا بعد ما جرى لحزب الله وبشار الأسد أصبح ممكناً إن قاد ما حصل في سوريا 8 كانون الأول 2024 ولبنان 9 كانون الثاني 2025 إلى اتفاقيات سلام سورية ولبنانية على غرار ما جرى للمصريين عبر (كامب دافيد) وللأردنيين في (وادي عربة) ويضاف لهما “حل الدولتين” بين الاسرائيليين والفلسطينيين. ومن الممكن فيما يتعلق بمشروع نقل الغاز الاسرائيلي، الذي تم التوقيع لنقله تحت البحر نحو أوروبا عبر قبرص واليونان عام 2020 ثم تعرقل مع انسحاب الشركات الأميركية، أن يتم تعديل مساره الجغرافي ليصير عبر سوريا وتركيا لأنه أقل تكلفة من الناحية الاقتصادية وأكثر أماناً، ويمكن أن يربط بخط الغاز العربي الآتي من العريش إلى العقبة عبر طابا ثم يذهب إلى سوريا حتى حمص ومنها بخطين إلى طرابلس وبانياس وكان مقرراً مده إلى تركيا وصولاً منها إلى أوروبا ثم توقف ذلك قبل قليل من بدء “الربيع العربي”.
ولكن كل ما سبق مشروط ببناء ناتو شرق أوسطي تحدث عنه الملك الأردني قبل سنتين والرئيس الإسرائيلي قبل أشهر يكون امتداداً إقليمياً لحلف الناتو الذي بعد انتصاره على السوفييت وحلف وارسو في خريف 1989 أريد له أن يتجاوز النطاق الأوروبي، كما قالت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في ربيع 1990. والأرجح أن هذا كان التفكير في لندن ومعها واشنطن في عام 1955 حينما تم إنشاء حلف بغداد، ولكن استدارة دمشق بعيداً عن رئيسي الوزراء العراقي والتركي نوري السعيد وعدنان مندريس باتجاه الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومعه الأمين الأول للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروتشوف أفشل ذلك. واليوم، فإن سوريا انتقلت إلى المدار الأميركي بعيداً عن خامنئي وبوتين، ما أضعفهما بشدة، وهو ما يمكن أن يمهد الطريق نحو نشوء ناتو شرق أوسطي، ولكن زعامته لن تكون في أنقرة بل في الرياض وتل أبيب، ولكن سوريا إسلامية لن تكون مقبولة أميركياً وإسرائيلياً وسعودياً في هذا الحلف.
المركز الكردي للدراسات
————————————–
إعادة بناء الثقة الاقتصادية في سوريا: تكامل القطاع الخاص داخل وخارج البلاد
تحديث 02 شباط 2025
بعد سقوط النظام السابق في سوريا، يبرز مجدداً للواجه ملف الإقتصاد السوري كمعضلة تحتاج إلى حلول إبداعية وجهود جماعية – وهي فرصة حقيقية ليلعب القطاع الخاص السوري دوراً فاعلاً في صياغة مستقبل سورية الجديدة. مع 85% من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر وبنية تحتية مدمرة، يواجه الاقتصاد تحديات هائلة تتطلب استجابة منسقة. في قلب هذه الاستجابة، يلعب القطاع الخاص السوري، سواء داخل سوريا أو في الشتات، دورًا رئيسيًا في إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار على كافة الأصعدة الأمنية، والاقتصادية، والمجتمعية. ومع ذلك، يتطلب الأمر رؤية اقتصادية مشتركة تجمع بين جهود القطاع الخاص المحلي والخارجي لتلبية الاحتياجات الهائلة للمجتمع.
الواقع الاقتصادي الحالي
شهد الاقتصاد السوري وضعًا هشًا بهجرة أكثر من 70٪ من القطاع الخاص السوري خارج البلاد منذ شهر حزيران 2012؛ حيث يتميز الاقتصاد اليوم بدمار البنية التحتية وتآكل الثقة بالمؤسسات الحكومية، والفساد الإداري. القطاعات الاقتصادية داخل البلاد تعاني من شح الموارد وضعف التنظيم، في حين مازالت تواجه الشركات السورية في الخارج تحديات التكيف مع أسواق جديدة والتواصل مع الداخل رغم هذه السنوات. ومع ذلك، يوفر سقوط النظام السابق فرصة نادرة لإعادة هيكلة الاقتصاد ليصبح أكثر شمولية واستدامة.
القطاع الخاص السوري يمتلك المعرفة بالسياق المحلي والعلاقات المجتمعية التي تتيح تنفيذ مشاريع مؤثرة على الأرض. في المقابل، يتمتع القطاع الخاص السوري في الشتات بموارد مالية، وعلاقات دولية، وإمكانية نقل المعرفة والتكنولوجيا.
تضافر جهود القطاع الخاص السوري في الداخل والخارج هو المفتاح لإطلاق رؤية اقتصادية متكاملة.
دور القطاع الخاص داخل سوريا
داخل سوريا، يتعين على القطاع الخاص أن يتحمل مسؤولية مباشرة تجاه:
بث رسائل الطمأنينة للمستهلك المحلي: من خلال تبني أدوار المسؤولية المجتمعية؛ الذي سوف يكون الرافعة الحقيقية لاقتصاد متعافي مستقبلاً.
إعادة الإعمار المحلية: الشركات المحلية في سوريا هي الأكثر قدرة على تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار بالنظر إلى معرفتها بالسياق المحلي. يمكنها العمل على إعادة بناء البنية التحتية والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون بشكل عاجل؛ لكن بشرط أن تكون إعادة الإعمار وفق معايير تكنولوجيا اليوم.
خلق فرص العمل: بإمكان القطاع الخاص المحلي تقديم مساهمات ملموسة في تقليل البطالة عبر إطلاق مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم تركز على القطاعات الإنتاجية والخدمية؛ والتشجيع على بدء واطلاق المشاريع الخاصة – ريادة الأعمال.
تعزيز الثقة المجتمعية: دور القطاع الخاص المحلي يتجاوز الربح ليشمل تعزيز الاستقرار الاجتماعي عبر مشاريع مجتمعية تدعم الفئات الأكثر ضعفًا.
دور القطاع الخاص السوري خارج سوريا
في الوقت نفسه، يمتلك القطاع الخاص السوري في الخارج دورًا استراتيجيًا لا يقل أهمية:
الاستثمار وتمويل المشاريع: يمكن لرأس المال السوري في الشتات أن يوفر التمويل اللازم لإطلاق مشاريع استراتيجية داخل سوريا.
نقل المعرفة والتكنولوجيا: عبر التعاون مع شركات دولية ومنظمات تنموية، يمكن للسوريين في الخارج نقل الخبرات والتكنولوجيا لدعم الاقتصاد المحلي.
تعزيز التعاون الدولي: من خلال علاقاتهم مع الأسواق العالمية، يمكن للسوريين في الخارج الترويج لبيئة الأعمال السورية وجذب الشركاء الدوليين.
رؤية اقتصادية مشتركة للقطاع الخاص
لضمان تكامل الأدوار بين المجموعتين، يجب وضع رؤية اقتصادية مشتركة تتضمن:
منصة للتنسيق: إنشاء مجلس اقتصادي يجمع ممثلي القطاع الخاص المحلي والخارجي لتنسيق الجهود ووضع الأولويات.
آليات تمويل مشتركة: تأسيس صناديق استثمارية تجمع رأس المال السوري من الداخل والخارج لدعم مشاريع إعادة الإعمار والتنمية.
تحديد أولويات القطاعات: التركيز على قطاعات حيوية مثل الزراعة – والصناعة الزراعية، الطاقة المتجددة، والبنية التحتية الرقمية.
إطار للشفافية والمساءلة: لضمان أن المشاريع المدعومة تعود بالنفع على جميع السوريين.
دور منصة “تطوير” في تعزيز التعاون الاقتصادي لسوريا الجديدة
تأتي منصة “تطوير” كنموذج يحتذى به في تمثيل القطاع الخاص السوري عبر السنوات ال 10 الماضية، حيث تجمع بين المعرفة بالسياق المحلي والخبرة الدولية. يمكن لـ”تطوير” أن تلعب دور الوسيط بين القطاع الخاص المحلي والخارجي عبر:
تصميم مشاريع مشتركة تلبي احتياجات السوق السورية.
تنظيم مؤتمرات اقتصادية لتعزيز التواصل بين الشركات السورية في الداخل والخارج.
تقديم استشارات استراتيجية لبناء شبكات أعمال متكاملة ومستدامة.
بناء قدرات رواد الأعمال السوريون، وإعلاء صوت ريادة الأعمال أمام صناع القرار
خطوات تعزيز الثقة الاقتصادية
إعادة بناء الثقة الاقتصادية تتطلب خطوات ملموسة تشمل:
إصلاح القوانين والتشريعات: لخلق بيئة تشجع الاستثمار المحلي والدولي.
تعزيز الشفافية والمساءلة: إنشاء مؤسسات رقابية لضمان نزاهة الأعمال.
إطلاق حملات مجتمعية: لتعزيز دور القطاع الخاص في إعادة البناء ودعم الفئات الأكثر احتياجًا.
تشجيع الشراكات الدولية: لاستقطاب الخبرات والموارد المالية.
التحديات المستقبلية
لا شك أن التحديات كبيرة، منها عدم الاستقرار السياسي، غياب الثقة، واستمرار العقوبات الاقتصادية. مع ذلك، فإن التعاون بين القطاع الخاص المحلي والخارجي يمكن أن يقدم حلولاً مبتكرة لمواجهة هذه التحديات.
الخاتمة
يمثل القطاع الخاص السوري، سواء داخل البلاد أو خارجها، حجر الزاوية في بناء مستقبل اقتصادي مستدام. بتضافر جهودهما، يمكن تحقيق رؤية اقتصادية تعيد الثقة للمجتمع وتؤسس لنمو مستدام.
شركات مثل “تطوير” ليست فقط مثالًا على الاحترافية، بل هي صوت القطاع الخاص السوري القادر على بناء الجسور بين الداخل والخارج. فإعادة بناء سوريا ليست مسؤولية فردية بل
——————————
=========================