الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 نيسان 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

————————

مستقبل سوريا بين الفرص والمخاطر/ رأفت الغانم

تحديث 04 نيسان 2025

تدور النقاشات في الساحة السورية حول الحكومة المؤقتة ورئيسها أحمد الشرع، حيث يرى بعضها أنه يمثل فرصة جديدة للبلاد التي أنهكتها الحرب، ويرى بعضها الآخر أنه دكتاتور جديد يشكل تهديداً لمستقبل سوريا بسبب خلفيته السلفية، وأنَّ الحرية التي ظهرت على الساحة السورية إنما جاءت بسبب سقوط النظام السابق وفرحة السوريين واحتفالاتهم التي رافقته، وعدم إحكام السلطة الجديدة سيطرتها على الشارع السوري حتى الآن، ومن يتذكر من السوريين بدايات حكم حافظ الأسد، يتذكر أيضاً الانفراجة والتفاؤل في المزاج السياسي العام، قبل أن يُحكم الأسد الأب سيطرته على البلاد التي ستشهد لاحقا تضييقاً لا مثيل له على الحريات مقارنة بسابق عهدها وجيرانها.

في محاولة مقاربة المشهد السياسي الراهن في سوريا، المنقسم إلى حدٍ بعيدٍ بين الترحيب والرفض المطلقين، يتوخّى هذا المقال تقديم قراءة محايدة بعيدة قدر الإمكان عن العاطفة وتأثيرها على النتائج المستخلصة، مستخدما أداةً تحليليّة ظهرت لأول مرة على يد فريق من الباحثين في معهد ستانفورد في الخمسينيات، بعد أن اعتمد الفريق على مقولة ألبرت همفري التي مفادها أنّ “ما هو جيّد في الحاضر مُرضٍ، وما هو جيّد في المستقبل فرصة؛ وما هو سيئ في الحاضر خطأ، وما هو سيّىء في المستقبل تهديد”.

تطوّرت آلية التحليل المذكورة آنفاً وصارت تُعرَف بالتحليل الرباعي SWOT (كلمة مُكوّنة من الحروف الأولى لكلمات إنكليزية تشير إلى نقاط القوة والضعف والفرص والمخاطر)، الذي يُستخدم اليوم لتحليل البيئة الداخلية وما تحتويه من نقاط قوة ونقاط ضعف، وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها وما تمثله من فرص ومخاطر. وإن كان هذا التحليل شائع الاستخدام في عالم الأعمال، إلا أنه يُستخدم أيضاً في مجالات أخرى اجتماعية، كما يستخدم في عالم السياسة، وقد استفادت منه الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.

أتناول في السطور التالية واقع الحكومةِ المؤقتة بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، التي ينتمي جميع وزرائها إلى هيئة تحرير الشام سابقاً (باستثناء وزير الصحة)، من ناحية نقاط القوة التي تتمتع بها، ونقاط الضعف التي تشوبها، والفرص والمخاطر الماثلة أمامها.

نقاط القوة

1. مشروعية ثورية ذات قاعدة جماهيرية واسعة؛ بسبب إسقاط النظام السابق خلال 12 يوماً بالاعتماد على أدوات متواضعة محلية التصنيع.

2. جهاز الأمن العام استطاع أن يبسط نفوذه ويحقّق الأمن بدرجة نسبية معقولة، رغم ما تشهده فترات تغيير الأنظمة السياسية عادةً من اضطرابات وانتشار للفوضى والسرقة. وقد أبدى عناصره التزاماً بالأوامر، إذ تفضلهم شهادات محلية على بقية عناصر الفصائل المسلحة.

3. قائد ذو شخصية تحظى بالشعبية في أوساط عناصر هيئة تحرير الشام وقاعدتها الاجتماعية، استطاعت أيضاً أن تجذب الشباب السوري واهتمام المراقبين، تجسد سيرتها رحلة مثيرة من اللثام وقوائم الإرهاب إلى القصر الجمهوري والسجاد الأحمر.

4. خبرة سابقة في محاربة تنظيم داعش المتطرف، تجلت لاحقاً في التصدي للفكر الداعشي والتعامل معه، بحسب شهادات واردة من إدلب، خاصة في الفترة الأخيرة التي سبقت انطلاق “ردع العدوان”.

نقاط الضعف

1. كتلة صلبة تشكل العمود الفقري لهيئة تحرير الشام تعتنق أيديولوجيا دينية، ذات تمظهرات منفّرة لقطاعات واسعة من السوريين، سواء العلمانيين أو الأقليات الدينية التي تُفضل النموذج العلماني في الحكم.

2. ضعف الخبرة السياسية وعدم وجود خبراء في السياسة الدولية، في ظل تجاذبات النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا.

3. دولة منهارة اقتصادياً، خارجة من صراع تسبّب بدمار كبير على المستويين المادي والمعنوي، وانتشار للفساد والسرقة والتهريب والإدمان، ناهيك عن خلافات على شكل الدولة وهويتها والافتقار إلى الإجماع بين مكوناتها العرقية والإثنية.

4. ماضي الهيئة الذي تشوبه انتهاكات لحقوق الإنسان، واعتقالات واغتيالات تلفّها العديد من علامات الاستفهام.

الفرص

1. تشير الفيلسوفة حنة آرنت إلى أن حُكم الأكثرية يجسد تطرف السلطة، في حين يجسد حكم الأقلية تطرف العنف، ويبقى الحوار ممكناً أكثر في حالة تطرف السلطة؛ لأنه يشرك في خطابه شرائح مجتمعية أكبر تساهم أكثر في الحوارات السياسية.

2. تنطوي ثقة ودعم الحلفاء مثل تركيا والسعودية، للمرحلة الانتقالية، على خلق بيئة استثمارية جاذبة تؤسس لاقتصاد تنافسي حر، ودخول سوريا في المحور الغربي الأفضل في مجال حقوق الإنسان.

3. يفتح تحوّل قائد هيئة تحرير الشام – عضو تنظيم القاعدة سابقاً – إلى رئيس يؤمن بالشرعة الدولية، باباً واسعاً، فكرياً وثقافياً، للشريحة السنية الشابة المتحمسة سياسياً. حيث يجسد هذا التحول رحلة التيار الجهادي من المثالية والخضوع المطلق لحرفية بعض النصوص الدينية والسعي لتغيير الواقع ليتواءم معها، إلى الإيمان بالسنن الكونية والواقع الاجتماعي وتعزيز مبدأ الاجتهاد و”فقه الأولويات”.

4. إمكانية تأسيس هوية سورية ترتكز على الموروث الثوري، تلامس شرائح أوسع من المجتمع الذي شارك فيها بكافة أطيافه الشعبية أو النخبوية، هذه الهوية المشتركة تعمّق الشعور بالانتماء للدولة.

المخاطر

1. الصراع على السلطة سابقاً في البيت الداخلي، وحالياً مع أطراف خارجه، ومستقبلاً – ربما – العمل على الاستئثار بالسلطة وتكرار تجارب ثورية تاريخية قريبة، على غرار وصول فيدل كاسترو إليها أو الخميني، وتقديم المصالح الفئوية على المصلحة العامة.

2. محاولة إرضاء التيارات المتشددة داخل “هيئة تحرير الشام” أو في الشارع السوري، على حساب الحريات العامة؛ للحفاظ على الكتلة الصلبة التي تشكل عمود المرحلة الانتقالية، واستمرار ذلك لاحقاً كشكل للدولة.

3. تقديم تنازلات للخارج من أجل تحقيق نجاحات أمنية أو اقتصادية، على حساب المصلحة الوطنية.

4. هجرة الأقليات على غرار هجرة اليهود السابقة، وخسارة مكونات اجتماعية أصيلة واضمحلال الهوية السورية المتنوعة، وفقدان أبرز خصائصها الثقافية والإثنية والعرقية وأن تصبح ذات لون واحد.

قد يكون من الأفضل للأطراف السورية المتنازعة أن تلتقي في دائرة مشتركة، تبدأ بأن تقوم تلك المعترضة على وصول الشرع للسلطة بالاعتراف بنقاط القوة بدلاً من التركيز على نقاط الضعف، وأنّ السلطة الحاكمة منسجمة مع الشريحة الثورية الشعبية، وأنها استطاعت – نسبياً وإلى حد مقبول – أن تحافظ على الأمن بعد سقوط النظام السابق ومؤسساته، والفراغ الذي تشكّل، وأنّها بقيادة شاب يمثل بتحولاته الفكرية تحولات شريحة فاعلة في الشارع السوري، ويعد بتحقيق مبادئ الثورة التي نادت بالحرية والعدالة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يستطيع تقديم المصلحة الوطنية على التعاليم الشرعية، كولّي أمر “يزع الله به ما لا يزع بالقرآن” وأن يفرضها على التيار الديني الذي يقف خلفه، وأنه بعيد عن تنظيم داعش الذي قاتله ورفض مبايعته.

كذلك العمل على تعزيز الفرص من قبل القوى التي أفرزتها سنوات الثورة، من كتاب وصحفيين وناشطين ومنظمات مجتمع مدني وغيرها، عبر المساهمة الفاعلة وتعزيز مبدأ المراقبة والنقد، والتمسك بالمبادئ والقيم التي نادت بها الثورة، والعمل مستقبلاً على رفع مستوى الوعي والتمدن لمراقبة العملية الانتخابية القادمة والمشاركة بها.

في المقابل، الأفضل لمؤيدي أحمد الشرع الاعتراف بنقاط الضعف بدل إنكارها، والحض على تعزيز المصلحة الوطنية عبر الاستعانة بالخبرات السورية الدبلوماسية والقانونية والاقتصادية، وتقويض محاولات الضغط الخارجية، وتثبيط النزاعات الطائفية، والتفرغ أكثر لمحاربة الفساد ومظاهره. والعمل على المكاشفة وفتح ملفات انتهاكات حقوق الإنسان الماضية -في كافة المناطق السورية- ومعالجتها ضمن مسار عدالة انتقالية واضح.

أيضاً لتلافي المخاطر المحتملة (كأن يصبح نظام حزب واحد أو دكتاتورياً) من الأفضل التشديد على: الحريات الفردية، وحرية الضمير، وحرية الصحافة، ودعم التحقيقات الاستقصائية، ودعم استقلالية القضاء، وأخيراً التركيز على الاختلاف والتنوع كقيمة إيجابية تثري البلد ثقافياً ومعرفياً وتعزز الهوية السورية ولا تضر بها، وإن تم استخدامها سابقاً بشكل سيء، لمصلحة الدكتاتور، فهذا لا يعني أنها سيئة بذاتها.

ايلاف

—————————

في التفكيك والنقد المزدوج للفكر السوري – العربي/ حسام الدين درويش

02 ابريل 2025

إذا كان جاك دريدا هو ناحت كلمة التفكيك والأب المؤسس لمفهوم التفكيك والفلسفة التفكيكية فإن مصطلح “النقد المزدوج ارتبط بعبد الكبير الخطابي الذي له كتابٌ يحمل هذا العنوان ويمارس فيه هذا النقد الذي سمَّاه ﺑ”النقد المزدوج”، على الرغم من أن دريدا كان يصر عموماً على أن التفكيك ليس نقداً. وقد شرح الخطيبي معنى ذلك النقد (التفكيكي) المزدوج بأنه “ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الأيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة”. وفي كتابه المكتوب والمنشور باللغة الفرنسية “Maghreb pluriel المغرب في صيغة الجمع”، ربط الخطيبي التفكيك بعملية إنهاء الاستعمار، وأقر، فيه، بتبنيه أو استعارته لفكرة التفكيك من دريدا تحديداً أو خصوصاً، بوصفه فكراً نقديّاً وإيجابيّاً يُفصّل، تدريجياً، فكرة الاختلاف بين الفلسفة والعلم والكتابة.

إذا كان الحديث عن التفكيك بوصفه “نقداً (مزدوجاً)” يبدو إشكاليّاً ومختلفاً عليه وموضعَ جدالٍ واختلافٍ شديدين، فإن الربط بين التفكيك وما هو ثنائي يبدو معقولاً ومناسباً جدّاً للمقاربة التفكيكية. فالتفكيك، بالمعنى الدريدي، يتناول الثنائيات المثنوية تحديداً، أي الثنائيات المفاهيمية التي يوجد تناقضٌ وتراتبٌ معياريٌّ بين الطرفين المكونين لها. وبعد تحديد الثنائية أو المثنوية وتوضيح التناقض والتراتب المذكورين اللذين تتضمنهما، تتضمن المقاربة التفكيكية عملية قلب أو عكس لهذه التراتبية، بما يفضي إلى نفي التراتب المذكور أو تعليقه، وإعادة النظر في العلاقات بين طرفي الثنائية، وإظهار تداخلهما واعتماد كلٍّ منهما على الآخر.

وعلى الرغم من أن مفهوم التفكيك يبدو لكثيرين، مثل نصوص دريدا، معقداً إلى درجة الزعم بأنه، مستعصٍ على الفهم، يمكن المحاججة بأهمية حضور المقاربة التفكيكية ليس في التفكير النخبوي أو الأكاديمي أو المختص فحسب، بل في فكر وحياة أو في الفكر الحياتي لكل إنسانٍ عموماً، أيضاً. فإذا كان الفكر والتفكير الإنساني قائمًا، أو ينبغي أن يقوم، على التعددية والجدلية – كما أشار بديع الكسم في رده على النقد النيتشوي للجدل – فإن موات الفكر أو موته، يحصل بقدر ما تسيطر الأحادية عليه. والمثنوية ثنائية زائفة، وهي في حقيقتها وصميمها رؤية أحادية. ففي المثنوية لا وجود إيجابياً حقيقياً إلا لطرفٍ واحدٍ ولا وجود سلبياً إلا لطرفٍ واحدٍ. فالمثنوية، مثل المانوية، يمكن ردها إلى أحاديتين متنافرتين: الخير والشر، الله والشيطان، الطبيعة والثقافة، الإيمان والإلحاد، الحقيقة والخطأ… إلخ.

من أهم الثنائيات التي نعتقد بضرورة تفكيكها تأتي ثنائية “العلماني/ الديني (الإسلامي)”، عموماً، و”الدولة العلمانية/ الدولة الدينية”، خصوصاً، إضافة إلى ثنائية “التنوير (الحداثي)/ الهداية (الدينية)”. وعلى النقيض من الإقصاء المتبادل بين طرفي أو قطبي هذه الثنائية، وفقاً لتصورات الإسلامويين والعلمانويين لها، وبعيداً عن الجدل السلبي، على الطريقة الأدورنية والدريدية (نسبة إلى أدورنو ودريدا)، نعتقد بوجوب السعي إلى إقامة جدلٍ/ تركيبٍ إيجابيٍّ بين طرفي مثل هذه الثنائيات، وبالإمكانية الفعلية أو المبدئية لإقامة هذا الجدل أو التركيب. وسنقتصر، فيما يلي، على بعض إشارات تفكيك/ تفكك ثنائية “العلماني والديني” أو ثنائية “الدولة الدينية الدولة العلمانية”، من خلال مفهوم “المدني/ الدولة المدنية”.

لوهلةٍ أو أكثر، يحيل مفهوم العلماني، بوصفه صفةً، على غير الديني، أي على ما هو مغاير للديني، أو على اللا-ديني، أي على ما هو منافٍ أو مناقضٌ للديني؛ كما يحيل مفهوم الديني، في هذا السياق، على ما هو غير علمانيٍّ أو لا-علماني. وهكذا يُفهم كل مفهوم من خلال مغايرته للآخر أو منافاته له. والمسألة ليست مجرد تناقضٍ وصفيٍّ، بل تتضمن دائماً تراتبيةً معياريةً، تشيطن طرفاً وتُملئك الطرف الآخر. ويبدو ذلك واضحاً عند كل العلمانويين والإسلامويين، على حدٍّ سواءٍ، مع اختلافهم في تحديد الطرف الشيطاني أو المشيطَن، والطرف الملائكي أو المملأك. وهكذا يوجد، لدينا، تراتبيتان متناقضتان، وصفيّاً ومعياريّاً.

ويمكن لتفكيك/ تفكك التراتبية الإسلاموية المعيارية، للتقابل بين الديني والعلماني، أن يحصل من خلال إظهار/ ظهور المنجزات الكثيرة والكبيرة لغير المتدينين، و/ أو للعلوم غير الدينية، ومن خلال ظهور مجالات غير دينيةٍ. فغير الديني أو اللا-ديني ليس مجرد سمةٍ لكل ما هو مرذولٌ، كما يحاج الأفغاني؛ فمنجزات العلوم الحديثة (غير الدينية) سمحت بالكثير من التطورات الإيجابية، وبتوفير الماء والغذاء والدواء والعلاج والمعرفة للمتدينين وغير المتدينين، على حدٍّ سواءٍ. في المقابل، استند متدينون كثر إلى الدين، في تأييدهم لهذا النظام الاستبدادي أو ذاك. فحتى النازية وجدت تأييداً من الكنيسة في ألمانيا، وحتى داعش وجدت تأييداً من متدينين مسلمين، وسنداً من نصوصٍ دينيةٍ. وسواء حكم رجال الدين مباشرةً، كما هي الحال في إيران ولاية الفقيه مثلاً، أم استُند إلى نصوص الدين وإلى رؤيةٍ دينيةٍ ما، لتسويغ نظامٍ سياسيٍّ ما، كما هي الحال في السعودية مثلاً، فإن الدين/التدين يمكن أن يكون حليف الاستبداد.

ويمكن لتفكيك/تفكك التراتبية العلمانوية المعيارية، للتقابل بين الديني والعلماني، أن يحصل من خلال إظهار/ ظهور الجذور أو الأسس الدينية للعلمانية، والجرائم التي ارتكبت باسمها أو نتيجةً لها، والسلبيات الكثيرة والكبيرة، التي ارتبطت بها، خصوصاً عندما تحولت إلى ما يشبه العقيدة أو الدين ضد الدين والمتدينين. كما يمكن التشديد على أن متدينين كثراً استندوا، جزئيّاً على الأقل، إلى الدين في مطالبتهم بالديمقراطية، والإصلاح السياسي والاقتصادي، وتحقيق العدالة، ورفع الظلم الذي يحصل، في إطار حكم أنظمةٍ سياسيةٍ استبداديةٍ لا-دينيةٍ/علمانيةٍ. وقد دفع كثيرون منهم ثمناً كبيراً بسبب مطالباتهم المحقة والمشروعة. فلم يكتفِ الدين/ التدين بأن يكون “أفيوناً للشعوب”، بل كان أيضاً وخصوصاً “صرخة المضطهدين والمقموعين والمظلومين”.

يمكن، وينبغي، لتفكيك التقابل المعياري، بين العلماني والديني، أن يترافق مع تفكيكٍ للتمييز الوصفي الأيديولوجي بينهما. فليس ثمة تخارجٌ ضروريٌّ بين الديني والعلماني، إذ يمكن للديني أن يتضمن ما هو علمانيٌّ، والعكس صحيحٌ. ومن هنا جاءت المعقولية الجزئية والنسبية لمصطلح “العلمانية الدينية” أو “الدين العلماني”. فليس نادراً الحديث عن أن العلمانية كانت ممكنةً في “الغرب المسيحي”، لأن المسيحية، ذاتها، تتضمن فصلاً بين ما هو لقيصر وما هو لله. في المقابل، ليس نادراً الحديث عن أن الإسلام يتضمن، مسبقاً، ما هو غير دينيٍّ، كالديمقراطية والعلمانية. وقد تجلى، على سبيل المثال، في حديث حسن حنفي، وغيره، عن “الإسلام العلماني” و”الإسلام الديمقراطي”.

يبدو حضور التفكيك والنقد المزدوج ممكناً وضروريّاً، بشكلٍ خاصٍّ، عند التعامل مع الفكر الأيديولوجي، المثنوي بماهيته أو طبيعته. وقد سبق لي أن انتقدت هيمنة ذلك الفكر، في الحالة السورية، في كتابي “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر”، وأرى إمكانية المحاججة بأن الفكر السوري لا يبدو استثناءً عند مقارنته بالفكر العربي عموماً. ففي كثير من السياقات والنتاجات، ما زال ذلك الفكر مستنزفاً في التعبير عما يرغب فيه أو عنه، بطريقة ٍأو درجةٍ تؤثر سلبًا في مضامينه المعرفية التحليلية. ويبدو ذلك واضحًا في السياق السوري الراهن، حيث تسود الاستقطابات الأيديولوجية وبطريقةٍ تفقد الفكر توازنه وتجعله يسقط مرنحًا ومغشيًّا عليه في كثيرٍ من الأحيان. ولا يكون لمثل هذا الفكر صوت معرفيٍّ، بل يكون أقرب إلى الضجة التي قد تشحذ الهمم أو تحبطها، لكنها لا تكون قادرة على إغنائها معرفيّاً أو تأسيسها فكريّاً. وإذا كانت المعرفة من دون أيديولوجيا عمياء والأيديولوجيا من دون معرفةٍ جوفاء – كما حاججت في كتابي المذكور آنفًا – فإن الفكر السوري الراهن، أقرب، في حالاتٍ كثيرةٍ، إلى أن يكون أجوفَ من أن يكون أعمىً.

العربي الجديد

——————————

دبلوماسية التذاكي الاصطناعي/ إلهام برجس

بخلاف النقاشات الدائرة في المؤتمرات الدولية، تبرز أدوار الذكاء الاصطناعي في لبنان، كما برزت في غزة، في ميدان الحرب. ما هي أبرز عناوين النقاش في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، على المستويين الدولي واللبناني؟

فجر الأول من نيسان/أبريل 2025، أغار الطيران الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت. أفادت تصريحات إسرائيلية بأن الغارة تلك غايتها “إزالة تهديد حقيقي”، وزعمت أنها تستهدف “عنصرًا في حزب الله قام بتوجيه عناصر من حماس لـ… تنفيذ عملية إرهابية خطيرة”.

نفّذ الجيش الإسرائيلي غارته في ساعات الفجر الأولى، في لحظة كان فيها سكّان المبنى السكني المستهدف نيامًا آمنين. وأعاد تذكيرنا بتكتيكاته العسكرية في غزّة منذ سنة وخمسة أشهر، الهادفة إلى إرهاب السكان عبر قتل من تسمّيهم “أهدافًا” خلال تواجدهم مع عائلاتهم وبين أطفالهم خلال ساعات الليل، علمًا أن إسرائيل تُوظّف، في خدمة هذا التكتيك الإرهابي، تقنيات الذكاء الاصطناعي في حربها على غزة ولبنان.

أين والدك؟

تعيدنا غارة الفجر هذه إلى نظام الذكاء الاصطناعي المسمّى “Where is Dady”، أو “أين والدك”، الذي يتتبّع الأفراد المستهدفين ويُبلغ الإسرائيليين بأمرهم فور عودتهم إلى منازلهم. يشبه الأمر وصول ضيف إلى باب المنزل والتوجه إلى الابنـ/ة بالسؤال لحظة فتح الباب: “أين والدك؟”. لكنّ الضيف، في هذه الحالة، ما هو إلا قذيفة أو صاروخ، يزهق أرواح الأبناء والجيران، وربما يقضي على المربع السكني بأكملة.

يتّبع هذا النظام مواقع الهواتف المحمولة، ثم يُخطر المشغّلين في الجيش الاسرائيلي بها. وقد نشرت مجلة +972 الإسرائيلية تحقيقًا استقصائيًا مفصّلًا يشرح مجالات استخدام هذه التقنية، فيما أكّدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن التقنية تُستخدم لتتبع “الهدف” في منزله العائلي، من دون أن تقدم شرحًا لكيفية عملها.

ولا يشكّل القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية استمرارًا لخرق قواعد القانون الدولي الإنساني الخاص بالحروب والنزاعات المسلحة فحسب، بل يُضاف إلى مئات الخروق المتعلقة باتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، الموقّع في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. كما يقوّض الجهود الدبلوماسية التي تعلّق الحكومة اللبنانية عليها آمالها لتأمين تطبيق الاتفاق، واستعادة الأسرى اللبنانيين، وتحقيق انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس التي يتمركز فيها الجيش الإسرائيلي عند الحدود اللبنانية ــــ الفلسطينية.

لكن فيما تعوّل الحكومة اللبنانية على أدوات الدبلوماسية “التقليدية” لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، يعوّل العالم على “دبلوماسية الذكاء الاصطناعي” للحد من مخاطر هذه التقنية عالميًا، في سياق يبدو في ظاهره استباقيًا، لكنّه في الواقع آنيٌ نظرًا لتأثيره الراهن على أرواح الناس.

وتتمحور دبلوماسية الذكاء الاصطناعي حول فكرة التعاون بين الدول لصياغة معايير وقواعد تضمن تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي تبعًا لقواعد أخلاقية، بما يضمن الشفافية والإنصاف والمساءلة. وفي هذا الإطار، مثلًا، تُعقد مطلع الشهر (3 و4 أبريل/نيسان) القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي في العاصمة الرواندية كيغالي، للبحث في إمكانات هذه التكنولوجيا وفي أفضل السبل لتعظيم هذه الإمكانات وتخفيف مخاطرها.

وقد سبق هذه القمة عقدُ ثلاث قمم دولية، في السياق نفسه، بين عامي 2023 و2025 في بليتشلي بارك (بريطانيا)، وسيول (كوريا الجنوبية)، وباريس (فرنسا)، علمًا أن الأخيرة التي عُقدت في شباط/فبراير الفائت، وُصمت بالفشل الدبلوماسي بعد امتناع بريطانيا والولايات المتحدة عن توقيع بيانها الختامي. وقد عُدّ إصدار القمة بيانًا ختاميًا بدلًا من إصدارها إعلانًا ينطوي على مقررات تتبناها الدول المشاركة، تحديدًا الغربية الكبرى، تراجعًا عما اعتبرته هذه الدول انجازًا خلال القمّتين الأخيرتين في بليتشلي بارك وسيول.

وتشترك القمم المذكورة الثلاث في تركيزها المفرط على الجانب الاقتصادي للذكاء الاصطناعي، وتجاهلها جوانب أخرى متصلة بحقوق الانسان، خصوصًا في مجالات حسّاسة كالهجرة واللجوء والسلامة العامة، بالإضافة إلى الرقابة الجماعية، والتصنيف العرقي، والتقنيات التنبؤية التي كثيرًا ما تُستخدم ضد الفئات المهمّشة. كذلك ركّزت القمم على مجالات الابتكار وخلق الوظائف، وتجاهلت السؤال الملحّ حول دور شركات الذكاء الاصطناعي في النزاعات المسلحة، وكيفية تطبيق القانون الدولي الإنساني على هذه التكنولوجيا.

ولا يقتصر هذا التجاهل على القمم السنوية، بل ينسحب الى اتفاقية مجلس أوروبا الإطارية بشأن الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، وهي أول معاهدة دولية ملزمة قانونًا في هذا المجال. إذ استثنت المعاهدة صراحةً “كلّ ما يتعلق بالدفاع الوطني”، وهو ما أظهر انتقائيةً خطيرة في النقاش العالمي الجاري اليوم، علمًا أن هذه الاتفاقية تضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل فضلًا عن الاتحاد الأوروربي.

ويُنظر إلى موقف واشنطن من اتفاقيات كهذه بوصفه انعكاسًا لرفضها القيود المتعددة الأطراف. إذ تفضّل الحفاظ على حرية الحركة في ميدان التكنولوجيا، والتهرّب مما يمكن أن يضع سقوفًا فوق تفوقّها في سباق الذكاء الاصطناعي، خصوصًا مع دخول الصين ميدان المنافسة.

وقد حاولت فرنسا من خلال القمة، مع دول أخرى، الدفع في اتجاه إقرار مبدأ “السيادة في مجال الذكاء الاصطناعي” (AI sovereignty)، أي قدرة الدولة على التحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات المتعلقة بها، وتطويرها داخل حدودها، والمواءمة بين القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية في هذا المجال. وجاء موقف كل من واشنطن ولندن الذي أفشل أهداف قمة باريس، ليُبرز التناقضات في مجال “الدبلوماسية الرقمية” والصراع الحادّ الهادف إلى السيطرة على المعرفة والتقنية.

لبنان: محاولات جنينيّة

بخلاف النقاشات الدائرة في المؤتمرات الدولية، تبرز أدوار الذكاء الاصطناعي في لبنان بشكل خاص، كما برزت في غزة، في ميدان الحرب. تبدو المناطق الحدودية مشاعًا أعزل أمام تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تمتلكها اسرائيل، ويعكس هذا الأمر فقدان السيادة بمعناها العام، لا السيادة الرقمية فحسب.

لكن في سياق محاولة جهات لبنانية اللحاق بالتطورات الهائلة في هذا المجال، برز في الآونة الأخيرة إصدار كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية “إرشادات حول حوكمة وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في لبنان”. تتشابه الإرشادات هذه مع ما تقترحه فرنسا لجهة التعامل مع العديد من المسائل، لا سيما مسألة السيادة الرقمية، وتأخذ مما خلصت إليه قمة بليتشلي بارك لجهة التركيز على أمن البيانات، وذلك في سياق وطني تُطرح فيه علامات استفهام كثيرة حول هذا العنوان.

غير أن أبرز تلاقٍ بين إرشادات الجامعة اللبنانية، والتوجه العالمي عمومًا، تمثّل في تحييد النقاش في توظيفات الذكاء الاصطناعي في القضايا العسكرية. وبذلك بدت القضايا المتعلقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، سواء في بلادنا التي تعاني حربًا أو خارجها، مفصولة عن الجرائم المرتكبة عبر أدوات هذا الذكاء، والمستمرة بحقنا حتى اللحظة.

أوان

—————————

سائق التاكسي السوري إذ يَفقد مهنته الإضافية/ خليل صويلح

العلاقة بين بعض سائقي التاكسي في سوريا وأجهزة الأمن؛ كيف تبدّلت بعد سقوط النظام؟

تحديث 04 نيسان 2025

تفترق مهنة سائق التاكسي السوري عن سواها في العالم، لاعتبارات محليّة في المقام الأول. إذ اتكأت مهنة بعض السائقين على أعمال إضافية، أبرزها أن يعمل هذا البعض مخبرًا لدى أحد أفرع الأمن، نظرًا لاختلاطه بأنماط مختلفة من البشر، ما يمنحه مخزونًا ثريًا عن توجهات الرأي العام لجهة الرضا أو الغضب أو السخط من ممارسات السلطة، وهو ما يتكشّف في التقارير اليومية التي ينجزها في نهاية وردية كل يوم!

تبدأ لعبة القط والفأر بين السائق والراكب باستكشاف اللهجة أولًا لمعرفة المنبت الجغرافي والبيئة التي ينتمي إليها الأخير بقصد “تقدير الموقف”، كأن يطرح الأول سؤالًا عن أحوال الطقس أو فوضى شارات المرور، أو الهندسة الخاطئة للأنفاق أو غلاء البنزين.

وبناء على الإجابة، يوجّه السائق بوصلته للإيقاع بالضحية، وذلك بأن يرمي طعمًا آخر لفحص جينات الكائن الذي يجلس إلى يمينه؛ هل هو شخص معاد للسلطة أم لا؟ وهل إجابته على أحد الأسئلة تعبّر عن قناعته الحقيقية أم ناجمة عن رَيبته من السائق؟ كما أنّ ما تبثه آلة التسجيل يفضح توجّهات السائق ومراميه في اصطياد ضحية، سواء انطوى البث على أغانٍ شوارعية أو أدعية دينية، أو كان رنين هاتفه بنغمة من أغنية وطنية.

وفي محاولة أخرى سيُلقي السائق قطعة جبنة إضافية أكثر دسمًا أمام الفأر الحذر، من موقع الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والأزمات اليومية المتراكمة، عسى أن يتورط الراكب بما يمور في صدره من سخط، ويدلق ما يعتمل في الداخل من آلام وانكسارات وهموم، الأمر الذي يعزّز قوة “التقرير” ورضا الجهة الأمنية التي ينتسب إليها السائق.

في هذا المكان الطارئ والمؤقت والمفخخ، تدور معركة صامتة بين الاثنين تنتهي بالكراهية المتبادلة من دون الإعلان الصريح عن ذلك. وفي حال تمكّن السائق فعلًا من الإيقاع بالضحية، ربما يغيّر وجهته نحو أقرب فرع أمني لتسليمه كذبيحة صالحة للسلخ!

والحكاية لا تنتهي عند هذا الحدّ، فهناك طراز آخر من السائقين، أولئك الذين يدّعون أنهم من جهة أمنية لابتزاز الراكب، وذلك بارتداء فيلد عسكري أو تشغيل أغنية تمجّد القائد، وبتسريب معلومة خاطفة تفيد بأن التاكسي يتبع لأسطول “المعلم”، ما يعني عدم الالتزام بالتعرفة!

وزيادةً في جرعة التهديد المبطن للراكب، سيزوّد السائق عربته المطهّمة بشعارات وطنية وملصقات توحي بالانتماء المباشر للسلطة، أشهرها على الإطلاق، الصورة الثلاثية للأب والابن والشقيق بالنظارة السوداء، أو نسر الجمهورية.

وعلى المقلب الآخر، سنتعرّف على نموذج ثالث، هو سائق آخر الليل المتخصص بزبائن الملاهي الليلية. وهو نموذج نعرفه على الفور من طبيعة الإكسسوارات التي تتدلى من سقف التاكسي، والأغاني الغجرية التي يبثها بصوتٍ عالٍ، بما يتوافق مع مزاج زبون آخر الليل أو الراقصة التي أنهت نمرتها توًّا، فيما تشير الشعارات المكتوبة على الزجاج الخلفي إلى رسائل عشق، وأخرى مثقلة بفلسفة السائق من طراز “رميت همومي بالبحر طلع السمك يلطم”!

بسقوط النظام السوري وبزوغ لحظة وطنية جديدة، عاجل بعض سائقي التاكسي إلى تغيير استراتيجيتهم الراسخة في الاصطياد، والخروج من الخندق/ المستنقع، وذلك بإزالة الشعارات القديمة والتخلي عن لعبة القط والفأر، والتصرّف من موقع الضحية كما لو أنهم ركّاب لا أكثر، يقلبّون نصًّا واحدًا بلا مراوغة أو نفاق أو خشية من الآخر.

لكنّ المشكلة العالقة حتى هذه اللحظة تكمن في غياب بوصلة المدينة عن وعي السائق المستجد، إذ تختلط عليه الخرائط والجهات: أين تقع ساحة المرجة، أو ساحة الحجاز أو ساحة السبع بحرات، وهل ما ينتظره في الطريق نفق معتم أم حاجز أمني، أم جسر نحو بساتين الغوطة؟

أوان

—————————

سقوط الأسد بعين الإعلام الإيراني.. إحباط وانقسام وتوظيف سياسي/ محمود البازي

لم يستطع الإعلام الإيراني المكتوب والمرئي أن يلتزم رواية واحدة في وصف ما جرى بسوريا منذ معركة ردع العدوان وسقوط الأسد.

2025-03-18

في لحظةٍ مفصليةٍ من تاريخ سوريا، جلس السياسي الإيراني محمد جواد لاريجاني في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ ليؤكد بثقةٍ أن “حكومة بشار الأسد لن تسقط”. لكن الواقع كان يسير في اتجاهٍ معاكسٍ، إذ انتهى حكم الأسد بعد هذا التأكيد الواثق بأيامٍ قلائل. التغيّر الكبير الذي شهدته دمشق لم يؤثر فقط في بنية الحكم التي أرساها الأسد الأب والابن عقوداً في سوريا، بل أعاد تشكيل موازين القوى في المنطقة كلّها بعدما خسرت إيران واحداً من أهمّ مراكزها الإقليمية.

في طهران، كان صنّاع القرار يواجهون ارتباكاً واضحاً بين الإصرار على إنكار واقع سقوط الأسد ومحاولة التكيف السريع مع معطياتٍ جديدةٍ، بينما حاول الإعلام الرسميّ التقليل من أهمّية الحدث. لاحقاً، اعترف لاريجاني أن بشار الأسد نفسه لم يكن يتوقع هذا السقوط، في إقرارٍ ضمنيٍّ بأن هذا التحوّل تجاوَز الحسابات التقليدية وفَرَضَ مساراتٍ غيرَ متوقعةٍ أعادت رسم خرائط النفوذ الإقليمي.

كان للتحوّل السوري الذي انتهى بسقوط الأسد فجر 8 ديسمبر 2024 صدىً واسعٌ في وسائل الإعلام الإيرانية. فإيران الأبُ الروحيّ لما يُسمّى “محور المقاومة”، ومن أقرب حلفاء النظام السوري السابق، بل عَدَّتْه حلقةَ الوصل الذهبية للمحور. وبتحليل مضامين تناوُل الإعلام الإيراني لمعركة سقوط الأسد وما تلاها، يمكننا أن نفهم كيف استقبلت طهران هذه التطورات، وما يعكسه هذا الاستقبال من علاقات أجنحة الحكم الإيرانية نفسها ونظرتها للتغيرات المتسارعة في المنطقة.

يشمل التحليل وسائل إعلامٍ مطبوعةً ومرئيةً وإلكترونيةً، تنتمي إلى طيفٍ واسعٍ من التوجهات الثورية والمحافظة والإصلاحية والمعتدلة. بما فيها وكالة الأنباء الرسمية، التي تميل حالياً إلى الإصلاحيين، والتلفزيون الإيراني الرسمي.

بُني هذا الرصد على مراجعةٍ واسعةٍ للمواد الإعلامية المنشورة في المدّة ما بين بدء معركة “ردع العدوان” في 27 نوفمبر 2024 إلى ما بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر بهدف بناء صورةٍ لتبدُّل السياسات التحريرية التي تقف وراء تلك الرسائل صعوداً وهبوطاً، منذ بدء المعركة حتى سقوط الأسد.

شمل التحليل صحفاً مطبوعةً، هي صحيفتا “شرق” و”اعتماد” ذواتا التوجه الإصلاحي، وصحيفتا “كيهان” و”وطن أمروز” ذواتا التوجه المحافظ، إضافةً إلى “جمهوري إسلامي” ذات النهج الوسطي المعتدل.

أما في الإعلام الإلكتروني، فقد ركّز الرصد على وكالات أنباء “فارس” و”تسنيم” و”مهر” الموزعة بين الخطاب الثوري والمحافظ. وشمل التحليل وكالة الأنباء الإيرانية ووكالة “إيلنا”، والموقع الإخباري التحليلي “انتخاب”، وجميعها تعكس التوجهات الإصلاحية. مع التركيز على التلفزيون الإيراني، الوسيلة الإعلامية المرئية الأوسع انتشاراً في إيران والتي تمثل الخطاب الرسمي لها.

تبنّت وسائل الإعلام الإيرانية وصف “الإرهاب” في حديثها عن معركة “ردع العدوان”، التي بدأت بهجوم إدارة العمليات العسكرية التابعة لفصائل الثوار السوريين على ريف حلب الغربي، وانتهت بسقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024. إذ صُوّرت المعركة بقيادة هيئة تحرير الشام على أنها هجماتٌ إرهابيةٌ ضد الحكومة السورية، في حين صُوِّر جيش النظام السوري على أنه يخوض حرباً على الإرهاب. واستُخدمت مصطلحاتٌ متشابهةٌ بين وسائل الإعلام الإيرانية لوصف مقاتلي “ردع العدوان”، مثل “الجماعات الإرهابية” و”الإرهابيون المسلحون” و”تنظيم جبهة النصرة الإرهابي” و”تنظيم هيئة تحرير الشام الإرهابي” و”الجولاني” لوصف أحمد الشرع قائدَ هيئة تحرير الشام وقتئذٍ، الذي غدا رئيساً لسوريا.

قدّمت وكالة أنباء “مهر” مبرّراتٍ لاستخدام مصطلح “الإرهابين” في وصف جميع المقاتلين وفصائلهم، مركزةً على اتحاد الفصائل المقاتلة تحت قيادة هيئة تحرير الشام “المصنّفة منظمةً إرهابيةً عند الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة”. تلك الصياغة استهدف غرس التشكيك في مشروعية فصائل المعارضة، وتقويض صورتها أمام الرأي العام الإيراني.

لكن مع مؤشرات انهيار نظام الأسد، بدأ هذا النهج الإعلامي يشهد تغيّراتٍ واضحةً، وكان ذلك أوضح في التلفزيون الرسمي الإيراني. ففي بداية المعركة استخدم تعبيراتٍ مثل “الإرهابيون التكفيريون المرتبطون بالقاعدة” و”الميليشيات الإرهابية”، عند الإشارة إلى المعارضة المسلحة. لكن مع اقتراب سقوط الأسد تغيّر الخطاب تدريجياً. فقبل يومين من السقوط، بدأ استعمال مصطلحات “الجماعات المسلحة” و”المعارضة المسلحة للحكومة السورية”. ولكن وسائل الإعلام الإيرانية عادت بعد يومٍ لاستخدام وصف “الإرهابيين” في وصف المجموعات نفسها، واستمرت على هذا الخطّ حتى الساعات الأولى غداة سقوط الأسد.

تعكس التقارير الإخبارية التي بُثت يوم السقوط هذا التحوّل المتذبذب في اللغة الإعلامية. ففي بداية اليوم أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى “تسلل تنظيم هيئة تحرير الشام الإرهابي إلى دمشق”، ولكن بعد ساعاتٍ قليلةٍ استعملت وصف “الجماعات المسلحة” الذي استمر بعد ذلك.

استعمل الطرفان، الإصلاحي والمحافظ، وصف “الإرهابيين” قبل سقوط الأسد. ولكن بعد سقوطه، تغيّر الأسلوب والخطاب. أظهرت وكالة “تسنيم” المحافظة ووكالة “إيلنا” ذواتا التوجه الإصلاحي تناقضاً وعدم انسجامٍ في الخطاب. إذ استخدمتا بعد سقوط الأسد مصطلحَي “الجماعات المسلحة” و”الجماعات الإرهابية” بالتبادل خصوصاً في الحديث عن هيئة تحرير الشام، وإن كان المصطلح الأول أكثر وروداً. مثالٌ على ذاك الارتباك خبران نُشرا في اليوم نفسه في وكالة “تسنيم” بعد أربعة أيامٍ من سقوط الأسد. كان عنوان الأول “هل سيكون العراق الهدف التالي للإرهابيين”، وعنوان الثاني “مدينة دير الزور تحت سيطرة مسلحي المعارضة”.

لم تغيّر الصحف المحافظة في وسائل الإعلام الإيرانية عموماً من لغتها الإخبارية، سواءً قبل إسقاط الأسد أو بعده. ومنها الصحيفتان المحافظتان “كيهان” و”وطن أمروز”، والصحيفة المعتدلة “جمهوري إسلامي” التي تُبقي على مسافةٍ من الإصلاحيين والمحافظين على حدٍّ سواءٍ، إذ استمرت تلك الصحف في استخدام مصطلح “إرهابيين” قبل سقوط الأسد وبعده. أما صحيفة “شرق” الإصلاحية فقد تحوّلت نحو مصطلح “الجماعات المسلحة”، وصحيفة “اعتماد” الإصلاحية أيضاً أبقت على مصطلح “المتمردين” الذي كانت تستعمله قبل سقوط الأسد.

صوّرت معظمُ وسائل الإعلام التي حلّلناها الصراعَ بين نظام الأسد ومعارضيه ضمن إطار “مكافحة الإرهاب”. وحاولت وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة والتلفزيون الرسمي التقليل من أهمية تقدم الثوار ميدانياً، في مقابل تضخيم دور قوات نظام الأسد. إذ تعاطى التلفزيون الرسمي مع أخبار تقدم الثوار بصيغٍ مثل “ادّعوا” و”يزعمون”، وركّز على أخبارٍ مثل “الخسائر الفادحة التي تكبدها الإرهابيون” و”الغارات الجوية الروسية ضد الإرهابيين”.

في البداية أنكرت وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة أخبار الانتصارات التي حققتها قوات ردع العدوان. فركّزت وكالة أنباء “فارس” مثلاً على إظهار تقدم جيش الأسد وصموده، وأكدت قدرته على مواجهة الهجوم وضخّمت من حجم عملياته على الأرض. واحدٌ من عناوين الوكالة قبل أسبوعٍ من سقوط الأسد كان “استهداف قافلة إرهابيين في إدلب من قِبل وزارة الدفاع السورية”.

استمرت وسائل الإعلام الإيرانية في محاولات تحجيم الحدث حتى الساعات الأولى التي تلت سقوط الأسد. فاستضاف التلفزيون الرسمي خبراء ومحللين سياسيين دفعوا بأن سقوط الأسد لا يمثل أزمةً لإيران، بل فرصةً جديدة. وفي نشرة أخبار الثامنة مساءً بالتوقيت المحلي لطهران، في يوم السقوط على قناة “خبر”، تحدّث أول الخبراء المُستَضافين بنبرة متفائلة وإيجابية. إذ عدّ أسلوبَ تعامل “الجماعات المسلحة” بعد سيطرتها على دمشق عقلانياً، ووصف التغيير السياسي في سوريا بأنه يحدث بطريقةٍ هادئة. وسعى إلى تحليل الوضع الجديد واستكشاف الفرص المحتملة لإيران، وتصوير إنهاء حكم الأسد فرصةً في إعادة بناء “مستقبل مشرق للمقاومة” وإيران.

من بين محاولات التقليل من شأن سقوط الأسد لإيران، جاءت تصريحات نشرها موقع “انتخاب” نقلاً عن محمد بيات، الخبير الإيراني بشؤون الشرق الأوسط. قال بيات إنّ الدرس الذي يجب أن تستخلصه إيران من سقوط الأسد هو ضرورة الحذر في تعريف محور المقاومة، “إذ إن هذا المحور يعني وجود قاعدةٍ اجتماعيةٍ تسعى إلى مواجهة نظام الهيمنة، بينما الأسد لم يكن محبوباً حتى بين العلويين أنفسهم”. وعن كيفية إيجاد قواسم مشتركةٍ مع الإدارة السورية الجديدة، كرّر بيات تصريح هيئة تحرير الشام ألّا مشكلة لديها مع إيران، مقترحاً الاستعانة بالتواصل مع تركيا وقطر لفتح مسار للحوار مع “الإخوان المسلمين”، مما قد يساعد على التحرك نحو خفض التوتر.

وبرّرت وكالة “فارس” سقوط الأسد بأنه “مؤامرات خارجية ضد سوريا”، وأكدت على “استمرار طريق المقاومة بدون دمشق”. وكانت الوكالة قبل سقوط الأسد قدّمت رواياتٍ بطوليةً عن صموده وحتمية انتصار حلفاء المقاومة في سوريا، ولكن تغيّر الخطاب بعد السقوط من “انتصار وشيك” إلى تبرير الهزيمة و”الحفاظ على روح المقاومة”.

يُعدّ إطار “المؤامرة الخارجية” من أشيع الأطر في تمثيل تطورات سوريا في وسائل الإعلام الإيرانية، سواء قبل سقوط الأسد أو بعده. كان هذا الإطار المركزي في الإعلام المحافظ والتلفزيون الرسمي لتحليل أسباب سقوط نظام الأسد. في المقابل، حاولت وسائل الإعلام الإصلاحية تقديم رؤيةٍ أشمل، فأبرزت عوامل أخرى متأثرةً بانتماءاتها الخطابية السياسية الداخلية في إيران.

عدّت وكالة “تسنيم” المحافظة معركة ردع العدوان بمثابة “فتنة جديدة” في سوريا، كما عنونت تقريرها في اليوم الأول من المعركة، وربطت فيه بين بدء الهجوم ووقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. عدّت الوكالة “ردع العدوان” معركةً إقليميةً تستهدف محور المقاومة، وأنّ ثمّة مؤامرةً خارجيةً كانت العامل الرئيس وراء السعي لإسقاط الأسد. وفي تقريرٍ سَبَقَ سقوط الأسد، نقلت “تسنيم” عن “مصادر عبرية” لم تحددها أن “ترامب وتركيا وإسرائيل هم من خططوا للأزمة السورية”.

اكتسب إطار المؤامرة الخارجية زخماً أكبر بعد خطاب المرشد الإيراني علي خامنئي في الحادي عشر من ديسمبر 2024، بعد ثلاثة أيامٍ من سقوط الأسد. أكّد المرشد في خطابه دورَ الولايات المتحدة وإسرائيل ودولةٍ إقليميةٍ لم يذكر اسمها (يرجّح أن مقصوده تركيا)، في التخطيط لإسقاط النظام السوري. نتيجة ذلك، ضخّمت وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة والتلفزيون الرسمي هذا الإطار في رواياتها الإعلامية، وكثفت الحديث عن الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وبعض الدول العربية بكونِها الدولَ “المتآمرة” لإسقاط نظام الأسد.

صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد الإيراني تبنّت إطار المؤامرة الخارجية قبل سقوط الأسد وبعده. وفورَ سقوطه نشرت تقريراً بعنوان “سقوط دمشق.. نهاية مهمة الإرهابيين وبداية هيمنة أمريكا”. وفي تحليلها عدّت سقوط النظام استكمالاً للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. وأكدت في تقريرٍ آخَر بعد ستّة أيامٍ من سقوط الأسد أن تركيا وإسرائيل قد خطّطتا لسقوط الأسد بهدف تقسيم سوريا.

صوّرت “كيهان” مرحلةَ ما بعد الأسد فترةً من الفوضى وانعدام الأمن. وتظهر تغطيتها تقارير عن الاقتتال بين الفصائل المعارضة ونهب الممتلكات العامة، وركزت على الهجمات الإسرائيلية على البنية التحتية السورية وسياسات الرئيس التركي التوسعية عواملَ ترسم مستقبلاً قاتماً لسوريا.

بالمثل ركزت صحيفة “جمهوري إسلامي” على المؤامرة الخارجية، لكنها اتهمت روسيا. واتخذت في ذلك اتجاهاً مختلفاً عن عموم وسائل الإعلام الإيرانية، التي عدّت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا سبباً من أسباب السقوط السريع للأسد، إلّا أنه لم يضع روسيا ضمن المتآمرين كما فعلت “جمهوري إسلامي”. على سبيل المثال، في 18 ديسمبر 2024 نشرت الصحيفة افتتاحيةً بعنوان “درس من صفقة سوريا”، وَصَفَت فيه الولاياتَ المتحدةَ وروسيا بأنهما الطرفان الرئيسان اللذان أبرما صفقةً بشأن سوريا، تليهما تركيا وإسرائيل. في التقرير صُوِّرَت روسيا على أنها “خائنة” عقدت صفقةً مع الغرب لتحقيق مصالحها الخاصّة، متجاهلةً تحالفها مع إيران ونظام الأسد. ومع ذلك، في الأيام التالية ركّزت الصحيفة بتوسّعٍ على ما رأته دوراً إسرائيلياً في إسقاط الأسد، في اتّساقٍ مع الخطاب الإيراني التاريخي عن المواجهة بين إسرائيل و”جبهة المقاومة”.

بعد سقوط النظام السوري، أصبحت أسباب هزيمة الأسد وانتصار المعارضة واحداً من المحاور الأساسية التي تناولتها وسائل الإعلام الإيرانية بالتحليل. وبرز دور “العوامل الداخلية” إطاراً تحليلياً رئيساً خاصّةً في الصحافة الإصلاحية.

ومن العوامل الداخلية التي ركّز عليها الإعلام الإيراني: الوضع الاقتصادي والفجوات العرقية والطائفية وغياب الحريات السياسية واستبداد الأسد والفساد الاقتصادي والإداري وضعف الجيش. وأعيد تأويل هذه العوامل لتُناسب المشهد السياسي في إيران. فقد سعت وسائل الإعلام الإصلاحية إلى إبراز أهمية دور الشعب في الحكم وتسليط الضوء على الحريات السياسية والاقتصادية، وعُدَّ سقوط الأسد نتيجةً حتميةً لتجاهل هذه العوامل. كان خطاباً عن الوضع الداخلي في إيران أكثر منه عن سوريا.

أعاد الإصلاحيون قراءة الأحداث السورية بعدسة السياسة الإيرانية الراهنة. مثلاً، في 9 ديسمبر 2024 نشرت وكالة “إيلنا” تحليلاً عنوانه “بشار الأسد وعلاقته بمشروع قانون العفة والحجاب”، ربطت فيه سقوط الأسد بعلاقته وشعبه مستخدمةً مفاهيم مثل “احترام حقوق الشعب” و”التسامح”، وربطتها بالمشهد السياسي والاجتماعي الإيراني. عدّت الوكالةُ المحسوبة على التيار الإصلاحي مشروعَ قانون “العفة والحجاب” الإيراني الذي يعارضه الإصلاحيون مشابهاً لحالة الأسد.

كذلك ربط موقع “انتخاب” الإصلاحي القضية السورية بالساحة السياسية الداخلية. فاستغلّها لتسليط الضوء على الخلافات الداخلية على قضايا مثل “الحجاب” و”حجب تطبيقات الإنترنت” في إيران، واعتبار التيار المنافس الذي يدعم تدخل الدولة في فرض الحجاب وحجب تطبيقات الإنترنت “ضد التنمية”.

ونشرت صحيفة “شرق” تقريراً بعنوان “قصة سقوط” بعد يومٍ واحدٍ على سقوط الأسد، ركزت فيه على عوامل مثل الاستبداد السياسي والفساد الإداري والسياسي وغياب الإصلاحات والأزمة الاقتصادية وانعدام الدعم الشعبي وتآكل الدولة بسبب الحرب الأهلية، وعَدَّتْها السببَ الرئيس في سقوط الأسد. وغطّت الصحيفة بعض تصريحات الإدارة السورية الجديدة، مثل عدم فرض الحجاب إجبارياً، باعتباره “خطوة نحو تعزيز الحريات الشخصية والاجتماعية”. سعت الصحيفة بهذا إلى تقويض خطاب التيار الأصولي المنافس في إيران.

في المقابل، استغلت المواقع المحسوبة على الاتجاه الأصولي والمحافظ الإشارة إلى العوامل الداخلية لسقوط الأسد في سياقاتٍ يمكن استعمالها إيرانياً ضد الإصلاحيين. فوكالة “تسنيم” رأت في تنفيذ السياسات الاقتصادية الغربية وعدم الاهتمام برفاهية الشعب سبباً من الأسباب الرئيسة لفشل الأسد. وحمّلت الوكالةُ الغربَ المسؤولية، في امتدادٍ لخطابٍ شائعٍ في الداخل الإيراني ضدّ مؤيدي الليبرالية واقتصاد السوق الحرّ.

تتبنى وسائل الإعلام الإيرانية الأصولية الإطار التحليلي “المقاومة أم المهادنة”، الذي ينحاز إلى خيار “المقاومة” ويحذّر من تبعات “المهادنة”. واستعملته في السياق السوري مستندةً إلى سقوط الأسد دليلاً على فشل استراتيجيات التسوية مع الغرب، وبهدف الردّ على الخطاب الإصلاحي المعارض. علاوةً على ذلك، فإن هذا الخطاب يحمل رسالة تحذيرٍ ضمنيةً لحكومة مسعود بزشكيان، التي تتبنى نهج “التهدئة والتفاوض مع الغرب”. على سبيل المثال، نشرت وكالة “تسنيم” في 9 ديسمبر 2024 مقالاً بعنوان “درس سوريا للمفتونين بالغرب”، انتقد تجاهل “التيار المؤيد للغرب داخل إيران” العوامل الخارجية لسقوط الأسد، وانتقد “القيم الليبرالية الديمقراطية الغربية” التي لم تنقذه.

وفي 16 ديسمبر نشرت وكالة “تسنيم” أيضاً مقالاً تحليلياً بعنوان “منطق اللا منطق”، استعرضت فيه سقوط الأسد لتوضيح أن “تكلفة المقاومة أقل من تكلفة المهادنة”. وتناولت تاريخ المفاوضات الإيرانية مع الدول الغربية، مشيرةً إلى “خيانة الغرب التزاماته”، وإلى أن الحوار معه ليس خياراً موثوقاً. وكالة أنباء “فارس” أيضاً ركزت على ثنائية المقاومة مقابل المهادنة، وعدّت المهادنةَ واحداً من عوامل سقوط الأسد، واستغلت هذا التحليل في تحدّي خطاب “حكومة الوفاق الوطني” للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.

تناولت صحيفة “كيهان” الأحداث السورية من زاويةٍ أُخرى، فوصفت الغرب بأنه “متآمر”، “استعماري”، “مجرم”، و”داعم للإرهاب”. واستخدمت مصطلح “الانحياز للغرب” في الإشارة إلى الذين يتبنّون الخطاب الإصلاحي داخل إيران. وشكّكت الصحيفة في جدوى “التفاوض مع الغرب” باستحضار تجربة سوريا. في مقالٍ تحليليٍ بعنوان “درس سوريا” نشرته الصحيفة في 15 ديسمبر 2024، ربطت بين “الثقة في الغرب وإلقاء السلاح” و”المؤامرات الخارجية”، وعدّت هذه الثقةَ من أسباب سقوط الأسد. وحذّرت من أن “التفاوض مع الأعداء قد يؤدي إلى تحويل إيران إلى سوريا أخرى”. استعملت “كيهان” سوريا لتعزيز “الرهاب من الغرب” و”الرهاب من التفاوض”، في مواجهة الحكومة الإيرانية وخطابها السياسي.

وتبنّت وسائل الإعلام الأصولية الأخرى والتلفزيون الرسمي الخطاب نفسه، إذ عدّت “ابتعاد الأسد عن المقاومة” و”ضعف الروح القتالية لدى الجيش السوري” و”الثقة في وعود الغرب” عوامل أساسيةً في سقوطه.

حضر نقاش الحوار والتفاوض مع حكام سوريا الجدد في وسائل الإعلام الإيرانية، وأيّده الإصلاحيون وعارضه الأصوليون. وكالة الأنباء الإيرانية، التي تمثل خطاب الحكومة الحالية وتمثل الإصلاحيين عادةً، عدّت التفاعل والتفاوض حلّاً للنزاعات في سوريا. واستندت إلى مواقف وزارة الخارجية الإيرانية التي تبنّت أهمية الحوار قبل سقوط الأسد وبعده.

ودعمت صحيفة “شرق” الإصلاحية، قبل سقوط الأسد، مواقف الحكومة بشأن التفاوض والحوار مع الدول المجاورة والمعارضة السورية. وبعد سقوط الأسد شدّدت الصحيفة، تماشياً مع مواقف الحكومة، على ضرورة “تشكيل حكومة شاملة” في سوريا.

كانت صحيفة “اعتماد” الأجرأ، فنشرت على صفحتها الأولى غداة سقوط الأسد صورة امرأةٍ سوريةٍ تحمل الورود في أحد شوارع دمشق وترفع شارة النصر احتفالاً بسقوط الأسد، وكان عنوان تغطيتها “القرار بيد الشعب”. حَوَت التغطية مقابلةً مع رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني سابقاً حشمت الله فلاحت بيشة، والذي نصح الحكومة الإيرانية بالاعتراف بمطالب الشعب السوري والتواصل مع الإدارة الجديدة في سوريا لضمان المصالح الإيرانية. وقال  بأن نظام الأسد لم يكن داعماً حقيقياً للقضية الفلسطينية، بل استغلّها لضمان بقائه.

ردّت صحيفة “كيهان” الأصولية على تغطية “اعتماد” بعنوانٍ عريضٍ “التشابه العجيب بين الجولاني وبعض الإيرانيين الموالين للغرب”، اتهمت فيه بعض الإصلاحيين الإيرانيين بتبنّي خطاب “الجماعات الإرهابية مثل هيئة تحرير الشام وزعيمها الجولاني”، الذي قالت إنه انتقل من القاعدة إلى أداةٍ أمريكيةٍ في سوريا. ووصفت خطاب الإصلاحيين بالتناغم مع الأجندة الغربية بدلاً من الدفاع عن مصالح إيران ومحور المقاومة.

غطى التلفزيون الرسمي ووسائل الإعلام الأصولية بعض مواقف الحكومة ووزارة الخارجية بخصوص التفاوض والتفاعل مع حكام سوريا الجدد. ولكنهم، بالتركيز على مفهوم المقاومة، سعوا إلى إضعاف خطاب الحكومة والإصلاحيين.

ظهر خطاب “انعدام الأمن والاضطراب” ضمن أطر تغطية وسائل الإعلام الإيرانية عن سوريا ما بعد الأسد. ومع أنه يظهر في معظم وسائل الإعلام، إلّا أن المروِّج الرئيس له هو الإعلام الأصولي والتلفزيون الرسمي.

في هذا الإطار، يصوّر الإعلام انعدام الأمن والفوضى وصراع القوى واغتيال العلماء النوويين السوريين وتدمير البنية التحتية الدفاعية على يد إسرائيل، باعتبارها عناصر تشكّل الصورة القاتمة للمرحلة الجديدة. هذا الخطاب، بعد التقليل من كارثية التحوّل السوري وأهميته على إيران، أحد الأطر المتكررة في التلفزيون الرسمي عن سوريا. إذ قارَنَ الوضعَ السوريّ بالليبيّ بعد “الإطاحة بالأنظمة بدعم من القوى الأجنبية”، ما يتضمن رسالةً بأن سقوط الأنظمة يفضي إلى عواقب مدمّرة.

صوّرت وكالة الأنباء الإيرانية أيضاً مرحلة ما بعد الأسد حقبةً من الفوضى وعدم الاستقرار، بالتركيز على الاضطرابات الداخلية في سوريا والهجمات الإسرائيلية والوجود التركي، وترويج فكرة تعاونٍ سرّيٍ بين “الجماعات المسلحة السورية” وإسرائيل.

ونشرت وكالة أنباء “تسنيم”، المقربة من الحرس الثوري الإيراني، في الحادي عشر من ديسمبر مقالاً عنوانه “بفرماييد شام” أيْ “تفضلوا على العشاء” (شام تعني بالفارسية العشاء، وبفرماييد شام هو برنامجٌ ترفيهيٌ للطبخ). حاول كاتب المقال إظهار أن إسقاط الأسد قد كلّف السوريين خسائر كبيرةً، ما يعني ضمنياً التحذيرَ من خطاب إسقاط النظام في إيران أيضاً. وساهمت وكالة “مهر” المحافظة في هذا الخطاب أيضاً وتناولت مواضيع مثل “تقسيم سوريا” و”اغتيال العلماء السوريين” و”الهجمات الإسرائيلية” و”اعتقال العلويين”. تسبب سقوط الأسد بحسب هذه التغطية بهذه الكوارث، ما يتضمن تحذيراً للمشاهدين من تبنّي هدفٍ مشابهٍ في إيران.

لم تهتم وسائل الإعلام الإيرانية بالتحقق من الأخبار قبل نشرها. فقد تبيّن مثلاً أن خبر اغتيال عالِمٍ نوويٍّ في دمشق مفبركٌ، ولكن ذلك لم يمنع وسائل الإعلام الإيرانية من إعادة نشره على نطاقٍ واسع.

بعد سقوط الأسد، لوحظ الإحباط في تغطية التلفزيون الرسمي والإعلام المحافظ، وبعض منصّات الإعلام الإصلاحي. مع ذلك، اتبعت وسائل الإعلام المحافظة سياسة بثّ الأمل، وتعزّز ذلك التوجه بعد خطاب المرشد الإيراني، الذي قال فيه إن سوريا “ستتحرر” بأيدي شبابها. بناءً على الخطاب، حاول الإعلام المحافظ تعزيز الأمل في المقاومة والتبشير بمستقبلٍ مشرق.

كثّف التلفزيون الرسمي هذه الرسائل في تقاريره وبرامجه التحليلية مكرّراً بثّ خطابات المرشد، وكذلك فعلت صحفٌ مثل “كيهان” و”وطن أمروز” ووسائل الإعلام المحافظة، فبشّرت بانتصار المقاومة وتحقُّق وعود المرشد. وكرّرت بثّ خطب أئمة الجمعة وتصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني التي تنشر الأمل بالنصر بعد الصبر والتضحية والصمود.

على الجانب الآخَر، صوّرت بعض وسائل الإعلام الإصلاحية سقوط الأسد هزيمةً لإيران، ولكن بتلميحاتٍ مواربة. وعدّته درساً يجب استيعابه مركزةً على الخسائر المالية والبشرية التي تكبدتها إيران في دعم النظام السوري، وعلى الضعف الاستخباراتي الإيراني في التنبؤ بتطورات الأحداث.

عدّت صحيفة “اعتماد” سقوط الأسد “هزيمة لإيران” صراحةً وضمناً في العديد من المقالات، واستخدمته أداةً لنقد السياسات العامة للدولة. على سبيل المثال، نشرت الصحيفة في 10 ديسمبر مقالاً بعنوان “الهزيمة المعرفية”، بقلم الكاتب المعروف عباس عبدي، وصف فيه سقوط الأسد بالهزيمة الكبيرة لإيران ووجّه انتقاداتٍ حادّةً إلى الشخصيات السياسية. وانتقد عبدي تبرير السياسيين الإيرانيين لهذه الهزيمة.

وركّزت وسائل الإعلام المحافظة على “توضيح أسباب وجود إيران في سوريا ودعمها الأسد”. وأَوْلَت اهتماماً خاصاً “بأهمية شهداء الدفاع عن المراقد في تعزيز جبهة المقاومة”، والتي تسمّيهم إيران “شهداء حرم”، واعتبرت الدفاع عن دور هؤلاء بمثابة “جهاد التبيين” كما تصفه. وكذلك فعلت وكالة “مهر” التي أعادت التذكير “بشهداء المراقد” وشرعية تضحياتهم، وأنهم سببٌ في تعزيز جبهة المقاومة.

وانشغلت بعض الوسائل الإعلامية المحافظة بنزع الشيطنة عن صورة بشار الأسد، مؤكّدةً دعمه المقاومة في مدّة حكمه سوريا، وذلك لتبرير حجم الدعم الإيراني له. وحاولت هذه الوسائل التشكيك بحجم جرائم الأسد ودموية نظامه، والطعن بمصداقية تقارير سجن صيدنايا العسكري.

يُظهر تحليل تغطية وسائل الإعلام الإيرانية لسقوط نظام الأسد في سوريا أطراً مختلفةً لتمثيل الحدث السوري، مثل “مكافحة الإرهاب” و”تحجيم الكارثة” و”المؤامرة الخارجية” و”العوامل الداخلية” و”المقاومة مقابل المهادنة” والدعوة للحوار والتفاوض أو التخويف منه، والتردد بين إثارة الأمل أو التخويف من الفشل، والتركيز على “انعدام الأمن والفوضى”.

أبرزت وسائل الإعلام المحافظة أطر “المؤامرة الخارجية” و”المقاومة أو المهادنة” و”انعدام الأمن والفوضى”، في حين ركّز الإصلاحيون على العوامل الداخلية للسقوط و”الحوار والتفاوض”.

وحاول كلّ طرفٍ، بإعادة قراءة الأحداث في سوريا بما يتناسب مع المشهد السياسي في إيران، تهميشَ خطاب الطرف الآخَر والتقليل من شرعيته. فتحولت الأحداث السورية وسقوط الأسد إلى موضوعٍ لتنازع الرؤى بحسب الاصطفافات والمعسكرات السياسية الداخلية.

وتعكس التغييرات في اللغة الإعلامية، مثل استخدام مصطلحات “الإرهابيين” أو “الجماعات المسلحة”، تغيّرَ مصطلحات وسائل الإعلام وفق تطورات الأوضاع الميدانية على الأرض.

يؤكد التقييم العامّ للرواية الإعلامية الإيرانية عن سقوط نظام الأسد أنه لم تظهر روايةٌ متجانسة. يعود السبب الرئيس في ذلك إلى تضارب الخطاب السياسي للحكومة الإيرانية من جهةٍ، ومراكز صنع القرار الأخرى المتمثلة بالمرشد الإيراني وقادة الحرس الثوري. وكذلك سرعة التطورات السورية التي لم تسمح للمنافذ الإعلامية برسم سياسةٍ تحريريةٍ متماسكةٍ وثابتة. ونهايةً بالاستقطابات السياسية الداخلية التي حوّلت تصوير الحدث السوري إلى أداةٍ في صراعاتها.

الفراتس

—————————

داعش في سوريا الجديدة.. المعركة لم تنتهِ بعد/ محمد حسان

قد تمثّل مرحلة ما بعد سقوط النظام في سوريا فرصة أمام تنظيم الدولة الإسلامية لإحياء نشاطه، وفرصة أيضاً أمام الدولة السورية الجديدة لإنهاء التنظيم.

2025-03-28

في 5 يناير 2025، بعد تسع سنواتٍ من الغياب، وطأت قدماي أرض سوريا قادماً من هولندا. لم تكن هذه الزيارة لتتحقق لولا سقوط الأسد. خصصتُ يوماً واحداً للقاء عائلتي في مسقط رأسي، دير الزور، الواقعة شرق سوريا. توجهت بعدها إلى تدمر وسط البلاد لدراسة مناطق تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بِاسم “داعش”، في البادية الممتدة بين محافظات حمص وحماة والرقة ودير الزور. وقد أصبحت هذه البادية ملاذاً آمناً لخلايا التنظيم منذ انهياره سنة 2017 إلى اليوم.

جابت سيارتي البادية من طرقٍ رئيسةٍ وفرعيةٍ، بدءاً من تدمر مروراً بجبال العمور ثم شمالاً إلى السخنة ومنها إلى مناطق شاعر والمراس. ثم اتجهت غرباً إلى مناطق الفرقلوس. وبعد استراحةٍ قصيرةٍ في حمص، سلكت طريقاً أثرياً إلى ريف حماة الشرقي وصولاً إلى الكوم، أحد أهم معاقل تنظيم الدولة الإسلامية، ثم إلى جبل البشري وبادية دير الزور الغربية. وانتهت الرحلة في محطة “تي 2” بالبادية الجنوبية لريف دير الزور الشرقي. شهدت هذه الرحلة تناقضاتٍ كبيرة. فقد تجوّلت في مناطق كانت تُعدّ قبل أقلّ من شهرين من أخطر المناطق في سوريا شاعراً بالنصر على تنظيمٍ كان، إلى جانب النظام السابق، سبباً رئيساً في مغادرتي دير الزور سنة 2014.

في السنوات التي أعقبت انهيار التنظيم حتى سقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024، طوّر داعش باستمرارٍ خطط نجاة. فبدّل هيكليته وخططه العسكرية ومواقع نشاطه وطرق تواصله مع المجتمعات المحلية وأدوات الحشد والتجنيد، واستفاد من أزمات خصومه الداخلية، فاستغلّ دوافع غضب السكان المحليين من السلطات في إعادة التجنيد والنشاط. ومع نهاية نظام الأسد وصعود قائدٍ من خلفيةٍ جهاديةٍ إلى الحكم، وتوقيع اتفاقٍ بين “قسد” والدولة السورية الجديدة في مارس 2025، بدا أن عمليات التنظيم قد توقفت.

شاع اعتقادٌ أن نشاط تنظيم الدولة الإسلامية انتهى في سوريا، خصوصاً مع صعود سنّةٍ محافظين إلى الحكم وفقدان التنظيم أهم أركان خطابه التعبوي. ولكن متابعة نشاط التنظيم السابق قبل سقوط النظام، وتكيّفه واستمراره وإصراره على الوجود في سوريا مع طبيعة العداوة بينه وبين الثورة السورية وفصائلها. ومع الثغرات التي يعاني منها الحكم الجديد، يتبدّى أن معركة داعش لم تنتهِ بعد. وقد يرى التنظيم أن أمامه فرصاً لإعادة الانبعاث في سوريا، كما يرى تحدّياتٍ تعيق التحقق السريع لهذه الآمال.

في نوفمبر 2017، أعلن النظام السوري وحليفتاه روسيا وإيران القضاء على تنظيم داعش في مناطق غرب نهر الفرات، بعد السيطرة على مدينة البوكمال الحدودية. بينما تأخر القضاء على التنظيم في مناطق شرق الفرات حتى 19 مارس 2019، بعد أن أعلنت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي يغلب عليها الطابع الكردي السيطرة على مخيم الباغوز، آخر جيوب التنظيم.

بعد سقوط مناطق تنظيم الدولة الإسلامية غرب الفرات، أعاد ترتيب صفوفه وتجميع قواه في البادية السورية، مع استمرار قتاله ضد قوات قسد في ريف دير الزور الشرقي. كانت قدرة التنظيم على البقاء في البادية نتيجة سياساتٍ عمل عليها في مراحل مختلفةٍ، منها ما سبق انهيارَه سنة 2017، وأخرى إبّان وجوده في السنوات الماضية على شكل خلايا. وتعلقت هذه السياسات بقضايا التسليح وتأمين الأموال والآليات، وتوفير حاجات عناصره من طعامٍ ودواءٍ ولباس.

اعتمد التنظيم ثلاثة مصادر رئيسةٍ لدعم قواته في البادية بالسلاح والذخائر آنذاك. أوّلها مدافن الأسلحة التي تركها أثناء سيطرته على شمال سوريا وشرقها بين سنتَيْ 2015 و2016. ومنها مستودعات عياش غرب محافظة دير الزور، أكبر مستودعات السلاح الاستراتيجية في شرق سوريا. مضافٌ لهذا مستودعات الأسلحة في مدينة تدمر، شرق محافظة حمص. وقد توفرت لتنظيم الدولة الإسلامية كمّيات أسلحةٍ زادت عن حاجته مع ركود جبهات قتاله، فخزّنها في أماكن تحت الأرض في البادية السورية بعيداً عن القصف الجوي الروسي وعيون طيران التحالف.

المصدر الثاني لدعم تنظيم الدولة الإسلامية كان “الغنائم” التي حصل عليها عقب هجماته على قوات النظام وحلفائه. أما المصدر الثالث فشراء السلاح من السوق السوداء من وسطاء متعاونين مع خلايا التنظيم، أبرزهم ضباطٌ فاسدون من جيش النظام السوري.

أُعيد انبعاث التنظيم في البادية السورية بإشراف زعيمه أبي بكر البغدادي، الذي كان يقيم في بلدة الباغوز قبل إخلائه منها بهجومٍ نفّذه التنظيم في 6 يونيو 2018 من محورين. الأول باتجاه بلدتَي الجلاء والرمادي الخاضعتين لسيطرة النظام غربي نهر الفرات، والثاني من بلدة هجين من الفرات. سيطر التنظيم في الهجوم على البلدتين ساعاتٍ، نُقل فيها البغدادي وأعضاء مجلس الشورى ومعتقلون مع أموالٍ من بلدة هجين بقوارب في نهر الفرات إلى قريتي الرمادي والجلاء، ومنها إلى مناطق سيطرته في البادية الجنوبية لدير الزور.

بعد ترتيب عمل التنظيم في البادية، قرَّرَ البغدادي ومجلس الشورى تأمين وجود التنظيم في إدلب. فانتقل من البادية إلى محافظة إدلب من منطقة الرهجان بداية سنة 2019. وفي فجر الأحد 27 أكتوبر 2019، قُتل أبو بكر البغدادي في عملية إنزالٍ أمريكيةٍ استهدفت مكان إقامته بريف إدلب الشمالي.

بعد مقتل البغدادي، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية تعيين أبي إبراهيم الهاشمي القرشي خلفاً له. عمل القائد الجديد على تثبيت التنظيم في البادية السورية وتعزيز عمل “الولايات الأمنية” في مناطق شرق الفرات، بعد هزيمته هناك وسقوط مخيم الباغوز في مارس 2019. وأسلوب الولايات الأمنية مردُّه عودة التنظيم إلى نموذج الجماعة المتمرّدة وحرب العصابات، لا إلى نموذج الدولة. فسعى إلى تعزيز وجود التنظيم في إدلب بهدف السيطرة عليها وإعلانها إمارةً جديدةً لمشروع “الخلافة”.

في يناير 2022، هاجمت مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية سجن الصناعة في الجهة الجنوبية لمدينة الحسكة. استمر الهجوم تسعة أيامٍ، انتهى بمقتل عشراتٍ من مقاتلي التنظيم ومعتقليه داخل السجن، ومقتل مئةٍ وأربعين عنصراً من قوات قسد. كان هذا أعنف هجمات التنظيم بعد سقوط مناطق سيطرته في سوريا والعراق.

واجهت هيئة تحرير الشام بقوّةٍ مساعي تنظيم الدولة الإسلامية لإنشاء إمارةٍ له في إدلب. لاحقت خلاياه المنتشرةَ والفصائلَ التي كانت على صلةٍ تنظيميةٍ أو فكريةٍ به، فحلّتها واعتقلت عناصرها.

في 3 فبراير 2022، نفّذت قوّاتٌ خاصةٌ أمريكيةٌ عمليةً عسكريةً في بلدة أطمة الحدودية في إدلب، قتلت فيها أبا إبراهيم القرشي. فأعلن التنظيم في 10 مارس 2022 مبايعة أبي الحسن الهاشمي القرشي خليفةً ثالثاً. بدأ الزعيم الثالث عهده بهجماتٍ عسكريةٍ وانتحاريةٍ استهدفت قادة فصائل سابقين في الجيش الحرّ بدرعا. ونفّذت المجموعات المحلّية في درعا سلسلة هجماتٍ ضدّ خلايا التنظيم هناك، قتلت فيها أبرز قياداته. كان آخرهم الخليفة نفسه الذي قتلته منتصف أكتوبر 2022 في مدينة جاسم، شمال درعا.

أعلن التنظيم تعيين أبي الحسين الحسيني القرشي خليفةً رابعاً. ونهاية أبريل 2023 أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “تحييد” الحسيني القرشي في عمليةٍ نفّذتها الاستخبارات التركية. تأخر التنظيم في تأكيد الخبر حتى 3 أغسطس، فأعلن مقتل خليفته في مواجهاتٍ مع هيئة تحرير الشام في إدلب، وتعيين أبي حفص الهاشمي القرشي خليفةً خامساً.

في عهدَيْ أبي الحسين وأبي حفص، بلغ نشاط تنظيم الدولة الإسلامية وتصعيده العسكري ذروتهما في سوريا. فقد بدأ في يونيو 2023 حملةً عسكريةً استهدفت مواقع النظام السوري في البادية. استمرت هذه الحملة تسعة أشهرٍ، بهجماتٍ شبه يوميةٍ، وانتهت في مارس 2024. وبحسب تقرير مركز عمران للدراسات، المنشور في مارس 2024، نفذ التنظيم 197 هجوماً بين أكتوبر 2022 وديسمبر 2023. قُسمت هذه العمليات إلى: مئةٍ وخمس عملياتٍ في دير الزور، وخمسٍ وعشرين عمليةً في الرقة والحسكة، وستّ عملياتٍ في حلب، وخمسٍ في كلٍّ من حماة ودرعا، وثلاث عملياتٍ في حمص، وعملياتٍ في كلٍّ من ريف دمشق والقنيطرة.

في هذا التصاعد بنشاط التنظيم، ركّزت خلاياه على جنوب دير الزور وشرق حمص وحماة، ممّا ضغط على مواقع النظام السوري الرئيسة. وقد أجبرت هذه الحملةُ الروسَ على تكثيف غاراتهم الجوّية فوق البادية لدعم القوات البرّية الإيرانية والسورية. ونشر النظام السوري تعزيزاتٍ في شرق حمص ودير الزور، من بينها قوّات الغيث التابعة للفرقة الرابعة، و”الفرقة 25″ (قوات النمر سابقاً)، وقوات الدفاع الوطني.

أدّى تعزيز وجود النظام في البادية والدعم الجوّي الروسي والبرّي الإيراني، إلى جانب الخسائر التي تكبّدها خاصةً مطلع سنة 2024، إلى ما بدا انخفاضاً في عمليات التنظيم حتى وصل أدنى مستوىً في يونيو 2024. شهدت الفترة اللاحقة تحولاً في هجمات تنظيم الدولة الإسلامية نحو أساليب دفاعيةٍ سلبية. فقد تجنّب الهجوم المباشر، واعتمد الألغام والعبوات الناسفة لاستهداف طرق الإمداد والطرق المحتملة لعبور قوات النظام.

في يونيو 2024، أنشأت قوات النظام مواقع دفاعيةً جديدةً في مناطق حيويةٍ في حمص ودير الزور وحماة، ما أسهم في الحدّ من نشاط التنظيم على طول هذه الجبهات. وقد أثمر هذا التحرك، فتراجع نشاطه في حمص. وكان يوليو الشهر الأوّل في 2024 الذي لم ينفّذ فيه أيّ هجماتٍ في المراكز الحضرية في دير الزور أو الرقة.

لم يدم انخفاض هجمات التنظيم طويلاً، فقد عاد مستهدفاً العاصمة دمشق. كان الهجوم الأول بتفجير دراجةٍ مفخخةٍ في منطقة السيدة زينب جنوب العاصمة، ثم بهجومين آخرين في مارس ومايو 2024 في دمشق. لم يعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجومين، ولكنهما يحملان نمط عملياته نفسها.

أظهر نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في الفترة التي سبقت سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024 طاقةً وقوةً متجدّدتين. وهدف العودة للسيطرة على مناطق مدنيةٍ لتشكيل نقطة انطلاقٍ لانبعاثه الثاني، بعد سنواتٍ من العمليات المستمرة ضدّ النظام وقوات قسد وحلفائهم.

أسهمت عوامل داخليةٌ وخارجيةٌ في استمرار التنظيم بين سنتَيْ 2017 و2024. وكان من أهمّها قدرته على استيعاب الصدمة التي لحقت به بعد انهياره، وإعادة هيكلة أجهزته الإدارية والعسكرية، وإعادة تخصيص موارده لمهماتٍ ذات أولوية. فبين سنتَيْ 2017 و2018، أعاد التنظيم ترتيب صفوفه، مغيّراً هيكليته الإدارية لتتناسب مع واقعه الجديد. وتحوّل من مشروع “الخلافة” السياسي إلى منظمةٍ متمردةٍ، نتيجة خسارته المدن والأرياف التي كان يسيطر عليها. وأدّى ذلك إلى التحول من المركزية إلى اللامركزية الإدارية والعسكرية. فأصبح عمله قائماً على وحداتٍ عسكريةٍ محدّدة النطاق الجغرافي، قادرةٍ على العمل المستقل نسبياً من غير حاجةٍ للرجوع باستمرارٍ إلى القيادة المركزية، بل إلى قيادات الولايات. وكانت أهدافه في هذا التحول حماية قيادته المتوارية وتسهيل عمل خلاياه وتكثيف عملياته العسكرية للحفاظ على فكرة التنظيم وشعاره “باقية وتتمدد”، في إشارةٍ إلى الدولة الإسلامية. وقد قاد هذا التحول الخليفة الثاني أبو إبراهيم الهاشمي القرشي.

كان تفعيل الفروع الإقليمية العامل الثاني الذي أسهم في استمرار التنظيم. فبعد سقوط “مشروع الخلافة”، سارعت القوى المناوئة للتنظيم إلى زيادة الضغط الأمني والعسكري على خلاياه في سوريا والعراق. دفع هذا التنظيم، في عهد الخليفة الثاني أبي إبراهيم القرشي، إلى تخفيف نشاطه في سوريا والعراق، والاعتماد على فروعه الإقليمية، لا سيّما في إفريقيا وآسيا الوسطى. وكان هدفه تجنب ردود الفعل المعادية وصرف الأنظار عن معاقله السابقة ومنح فروعه المنتشرة في العالم المبادرة، بعد أن كانت دائرة المركز تستحوذ على الاهتمام المحلي والدولي.

أما العامل الثالث فيبدو أنه متعلقٌ بتغيير النمط العسكري. اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية دمج خطط المجموعات العسكرية غير الحكومية مع خطط الجيوش التقليدية. يرجع أسلوب داعش الأول إلى جذوره في تنظيم القاعدة في العراق، واقتباسه تكتيكات حزب الله، بينما يرجع أسلوبه الثاني إلى انضمام ضباطٍ بعثيين سابقين في الجيش العراقي إلى تنظيم القاعدة ثم داعش. تخلّى التنظيم بعد انهياره عن تكتيكات الجيوش النظامية واعتمد تكتيكات حرب العصابات، فصار ينفذ الهجمات الصغيرة ذات الأهداف المحددة في أوقاتٍ وأماكن مختلفة. تجنّب التنظيم السيطرة على مناطق مأهولةٍ، لتفادي مواجهاتٍ مباشرةٍ مع القوى المعادية، ممّا قلّل من خسائره البشرية والعسكرية. فاعتمد التنقل المستمر في البادية، مستفيداً من إمكانية تخفّي عناصره ضمن تضاريسها.

تحوّل التنظيم ضمن استجابته للانهيار إلى هيكلية “الولايات الأمنية”، خاصةً في مناطق سيطرة قسد، والذي يعتمد خلايا سريةً تستهدف الأطراف المعادية. تتكوّن هذه الخلايا من عناصر درّبهم التنظيم سابقاً، وآخرين استسلموا لقسد لكنهم ما زالوا يقدمون الدعم السرّي، مُشكّلين بذلك الجهاز الضارب الذي اعتمد عليه في حربه الأمنية طويلة الأمد.

تخلّى التنظيم عن الهجمات واسعة النطاق، بعد أن درج قبل سقوطه على التضحية بمئات المقاتلين في هجماتٍ كبيرة بهدف تحقيق السيطرة. كما حدث في معركة مطار الطبقة في أغسطس 2014 والتي خسر فيها داعش أكثر من ثلاثمئة مقاتلٍ في أيامٍ قليلةٍ نتيجة الغارات الجوية للنظام. إلّا أنّه واصل هجومه على المطار حتى سيطر عليه.

ولكن بعد انهياره وسقوط مناطق سيطرته، اعتمد على هجماتٍ محدودةٍ تُنفّذها مجموعاتٌ صغيرة. وصلت هذه المجموعات واستهدفت طرق إمداد النظام في البادية، مستفيدةً من قلّة العتاد والأعداد التي تحتاجها، ووقوع طرق الإمداد بعيداً عن مراكز النظام. ففي هجماتٍ قرب قرية كباجب في محافظة دير الزور وطريق أثريا قرب حلب، لا تصل تعزيزات النظام إلا بعد انتهاء الهجوم. وتسمح طبيعة الأهداف المتحركة على الطرق باستخدام العبوات الناسفة والألغام، مما يبعد عناصر التنظيم عن الاستهداف المباشر، لاسيما بعد أن تقلصت أعداده مع تراجع عمليات التجنيد عقب هزيمته في سوريا والعراق.

لربما أخطأت القوى التي تحارب تنظيم الدولة الإسلامية في استعجال إعلان هزيمته. فعودة التنظيم في شمال سوريا وشرقها لم تكن بسبب تكتيكاته فقط، وإنما أيضاً  بسبب سياسات قسد التي أسهمت في استمراره. مقارنةً بالأطراف الأخرى، كان لقسد العدد الأكبر من عناصر التنظيم المعتقلين في سجونها، إضافةً إلى مخيم الهول، في محافظة الحسكة، الذي ضمّ أكبر عددٍ من عوائل المقاتلين المحليين والأجانب. وكان لها تجربةٌ في إخضاع عناصر التنظيم للمحاكمات والأحكام القضائية، ولكن لم تطبقها دائماً بسبب استخدامها هؤلاء المعتقلين وعائلاتهم ورقةً سياسيةً خارجياً. فمعظم الدول الغربية لم تشأ استقبال مواطنيها من عناصر التنظيم وعائلاتهم.

اعتقلت قسد آلافاً من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وعائلاتهم بين 2017 و2019، ووزّعتهم على مراكز اعتقالٍ. منها سجنا الحسكة وعين العرب (كوباني)، ومخيّما الهول وعين عيسى شمال سوريا. ثم أطلقت سراح كثيرٍ من المقاتلين، وخاصةً السوريين، بذرائع مختلفةٍ نتيجة التوسط العشائري أو العفو. وقبل سقوط النظام أفرجت قسد عن المزيد من عائلات مقاتلي التنظيم من مخيم الهول، من غير اتخاذ تدابير إعادة دمجهم في المجتمع. لم تُبذل أي جهودٌ لمعالجة الإرث الديني والعقائدي، مما أبقى بعض هؤلاء المقاتلين رهن أفكارهم الأولى التي نُسب إليها التطرف والعنف. وقد جنّد التنظيم عدداً منهم في وحداته شرق الفرات.

شهدت مناطق سيطرة قسد شمال شرق سوريا، كالمناطق السورية الأخرى، ظروفاً اقتصاديةً صعبةً نتيجة انخفاض سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار السلع الغذائية ونقص فرص العمل. تفاقمت الأزمة بسبب جائحة كورونا سنة 2021 وانخفاض الاستثمار، ما دهور الوضع الأمني. أسهمت سياسات قسد كذلك في الأزمة بإهدارها النفط والقمح ببيعهما إلى النظام السوري السابق، مما أدّى إلى نقص الوقود والخبز في مناطقها. كذلك غضّت الطرف عن تهريب المواد الغذائية والمستلزمات الطبّية من مناطق سيطرتها إلى مناطق النظام بسبب فارق الأسعار. وخصصت حصةً كبيرةً من موارد المنطقة للجهد العسكري ضدّ داعش والجيش الوطني السوري المدعوم تركيّاً. تفاقم سوء الظروف الاقتصادية وفشل المجالس المدنية، وعدم تمثيلها للمجتمعات المحلية، أدّى إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ في دير الزور والرقة والحسكة طالبت بمزيد من الموارد لدعم التعافي الاقتصادي. استغلّ التنظيم الفوضى المصاحبة للاحتجاجات والسخط الشعبي على أداء الإدارة لتقوية خلاياه وزيادة نشاطه.

بعد ضعف قبضة تنظيم الدولة الإسلامية شمال شرق سوريا، حاولت قسد بناء الثقة مع العشائر التي تشكّل غالبية المجتمعات المحلية، لاسيما قبائل العكيدات والبكارة وشمر والجبور والعفادلة. كانت هذه العشائر تدير المناطق الجغرافية والموارد الطبيعية في مناطق نفوذها قبل سيطرة داعش على تلك المناطق. وحاولت قسد كسب ولاء المجتمعات العشائرية بالسماح لها بالمشاركة في إدارة مناطقها. وقد حدث ذلك بتشكيل المجالس المدنية في الرقة ودير الزور والحسكة، والمجالس العسكرية التابعة لها. أُسندت قيادة هذه المجالس إلى شخصياتٍ عشائريةٍ، كما في حالة مجلس دير الزور العسكري الذي عُيّن لقيادته أحمد الخبيل من قبيلة العكيدات، وأُبقيت “قوات الصناديد” التي تمثل قبيلة شمر في هيكلية قسد.

سرعان ما انهارت هذه المحاولات لأسبابٍ كثيرة. أوّلها أن الإدارة الذاتية لم تمنح العشائر إلّا سلطةً شكليةً فقط، مع الحفاظ على السلطة الحقيقية في أيدي شخصياتٍ كردية. والسبب الثاني كان اغتيال العديد من زعماء العشائر، مثل الشيخ فيصل الهويدي في الرقة والشيخ مطشر الهفل في دير الزور. وفي حين اتَّهَم بعض المراقبين قسد بالتآمر لتنفيذ تلك الاغتيالات، لامَها آخَرون لعدم تأمين المنطقة.

حدثت أوسع حالات التمرد في نهاية أغسطس 2023 عقب اعتقال قوات قسد أحمد الخبيل، قائد مجلس دير الزور العسكري، وهو ما كان محفّزاً لانتفاضة عشيرته العكيدات. وكان إبراهيم الهفل، القائم بمشيخة العكيدات في سوريا نيابةً عن أخيه مصعب المقيم آنذاك في قطر، قد تزعم تمرداً مسلحاً فشل في النهاية.

وإن استطاعت قسد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بدعمٍ أمريكي، إلّا أنها أخفقت في معالجة أسباب وجود التنظيم في المناطق تحت سيطرتها، بل وأسهمت في الإبقاء على عوامل بعثه. أمرٌ مشابهٌ حدث في مناطق سيطرة النظام السوري السابق. فقد أسهمت سياساته في استمرار وجود التنظيم وتعزيزه. كذلك اختار سياسة الحرب وإخلاء مناطق سيطرته من أيّ أثرٍ للتنظيم، حتى على مستوى الحاضنة الاجتماعية المحتملة، إلّا في بعض الحالات التي استقطب فيها وجهاء أو شيوخ عشائر كانوا متحالفين مع التنظيم بعد سنة 2017 تحت مسمّى المصالحات بهدف كسب ولاءٍ محلّيٍ يحيّد التنظيم.

تجنّب النظام وحلفاؤه ملاحقة خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في البادية السورية في الفترة الأولى عقب انهياره، بسبب تركيزهم على معارك حلب وريف إدلب ضدّ فصائل الثورة السورية. منح هذا الوضع التنظيمَ فرصةَ بناء قدراته وتعزيز صفوفه. وبعد اتفاق سوتشي لوقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة في إدلب ومحيطها في مارس 2020، حاول النظام إنهاء وجود خلايا التنظيم في البادية السورية. ولكنه فشل.

كانت العمليات العسكرية ضد التنظيم في البادية ردود فعلٍ غير منتظمةٍ تفتقر إلى الاستراتيجية. أتت دائماً عقب هجماته العنيفة، التي أوقعت خسائر فادحةً في النظام وحلفائه. أعلن النظام وحلفاؤه “عملية تطهير” منتصف 2020، ردّاً على هجمات التنظيم على السخنة وحقلَيْ آراك والهيل النفطيَّيْن في البادية السورية. ثم عملية “الصحراء البيضاء”، والتي كانت ردّاً على مقتل الجنرال الروسي فيتشسلاف غلادكيخ في ريف دير الزور الجنوبي. ثم عملية أخرى مطلع 2021 بعد هجومٍ استهدف عناصر الفرقة الرابعة لجيش النظام.

افتقر الحلف المعادي للتنظيم إلى مخطّطٍ عسكري زمني محدّد للقضاء على تلك الخلايا، واعتمد هجماتٍ متقطعةً غالباً برّيةً دون إسنادٍ جوّيٍ، أو عملياتٍ جوّيةٍ فقط. وكان التنافس الروسي الإيراني على النفوذ في شرق سوريا من أسباب الفشل. فالقوات الروسية والإيرانية لم تؤدِّ دوراً كافياً في دعم العمليات العسكرية ضد خلايا التنظيم في البادية، وإنما ركّزت فقط على تعزيز مناطق نفوذها في الحواضر المدنية في ريف حمص ودير الزور وريف الرقة الجنوبي.

كان الضعف الاستخباراتي سبباً آخَر لفشل القضاء على خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في البادية. فشكل العمليات العسكرية ومناطق انطلاقها والنقاط المستهدفة تؤكد جهل القوى المهاجمة أماكن تمركز التنظيم. كما غابت عنها المعلومات اللازمة لرصد تحركات التنظيم وتوقع هجماته. كان وجود التنظيم في مناطق نائيةٍ بالبادية، بعيداً عن المجتمعات السكانية، عاملاً أسهم في حصانته الأمنية النسبية، ما عدا عمليات اختراقٍ محدودةٍ ومعلوماتٍ من متعاونين من خارجه.

في الأشهر الثلاثة التي سبقت سقوط النظام السوري لم تتراجع هجمات تنظيم الدولة الإسلامية. ففي نوفمبر 2024، نفذ التنظيم ستّ هجماتٍ في محافظات حمص وحماة ودير الزور، أسفرت عن مقتل ثمانيةٍ من جنود النظام واثنين من المدنيين.

ومع إعلان معركة “ردع العدوان” في 27 نوفمبر 2024 وإثر الانهيار السريع لقوات النظام السوري في حلب وحماة وحمص، والذي تبعه في 6 ديسمبر انسحابٌ سريعٌ لقوات النظام من دير الزور ومناطق السخنة وتدمر وسط حمص، تحرك التنظيم من البادية واستهدف أرتال قوات النظام المنسحبة. كما توسّع مؤقتاً في بلدات الكوم والطيبة والحميمة في ريف تدمر. وثمّة شكوكٌ بتنفيذه عمليةً في القريتين بريف حمص قُتل فيها عنصرٌ من الدفاع المدني السوري في 9 ديسمبر، لم يعلنها التنظيم رسمياً.

لم يتوسع تنظيم الدولة الإسلامية في محافظة دير الزور بسبب دخول قسد مركز المدينة وملء الفراغ الأمني الذي تركه النظام. وفي وقتٍ لاحق انسحبت قسد وتسلّمت قوات العشائر المحلية وقوات الدولة السورية الجديدة المدينة.

تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية لمنع التنظيم من الاستثمار في حالة الفوضى وإعادة تشكيل نفسه وسط سوريا. ففي 8 ديسمبر 2024، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية تنفيذ خمسٍ وسبعين غارةً على الأقل ضدّ معسكرات تنظيم الدولة الإسلامية وعناصره. كانت هذه المعسكرات مركز ثقل التنظيم منذ سنة 2019 ولعبت دوراً في عملية تجنيد وتدريب مقاتليه. وقد أكّد لي سكانٌ محليون في زيارتي أن “بعض الغارات الجوية استهدفت قوات التنظيم التي تجمعت لمهاجمة مدينتي تدمر والسخنة”.

وفي 16 ديسمبر 2024 أعلنت القيادة المركزية الأمريكية تنفيذ غاراتٍ قتلت فيها اثنَيْ عشر عنصراً وقيادياً من التنظيم في سوريا. ثم في 19 ديسمبر نفذت غارةً قتلت قياديّاً في التنظيم في محافظة دير الزور. وفي 23 ديسمبر أعلنت استهداف شاحنةٍ محمّلةٍ بالأسلحة تابعةٍ للتنظيم، وأعلنت دعم عمليةٍ هجوميةٍ في الثاني والثالث من يناير 2025 نفذتها قسد وقبضت فيها على زعيم خليةٍ هجوميةٍ للتنظيم.

دفعت الهجماتُ الجوية الأمريكية التنظيمَ إلى الانكفاء نحو مناطق وجوده السابقة لتجنّب مزيدٍ من الخسائر، والانتقال من محاولة السيطرة على الأرض إلى إرسال خلايا للتسلل إلى المحافظات ومراكز المدن. وهو ما فعله سابقاً قبل بناء شبكاتٍ جديدةٍ وتنفيذ هجماتٍ ضدّ أهدافٍ مدنيةٍ أو حكومية.

وكشفت معركة إسقاط النظام السوري حقائق كانت مجهولةً حول تنظيم داعش. وقد أتاح لي التنقل داخل الأراضي السورية فرصة اللقاء بقادةٍ سابقين في التنظيم، وآخرين ما زالوا على علاقةٍ به. ففي 9 يناير 2025، التقيتُ عبر وسيطٍ من أهالي تدمر أحدَ قادة التنظيم في البادية، الملقّب “أبو مقداد العراقي”.

جرى اللقاء في خيمة عائلةٍ بدويةٍ على بُعد خمسةٍ وثلاثين كيلومتراً غرب مدينة تدمر. ألحّ أبو مقداد أولاً أن عمليات قتل المدنيين في البادية بالسنوات السابقة، وخاصّةً جامعي الكمأة –وهي من الفطريات الصحراوية التي تؤكل– لم تكن من فعل مقاتلي التنظيم، متهماً الميليشيات المدعومة إيرانياً بتنفيذها. وقال إنّ تفاهماتٍ غير مباشرةٍ سابقةً منعت الصدام المباشر في البادية بين التنظيم وهيئة تحرير الشام بمعركة إسقاط النظام وما تلاها. وقال أيضاً إنّ التنظيم انقسم بعد سقوط النظام بين تيارٍ يفضل الوصول إلى تفاهمٍ مع الحكومة الجديدة ووقف نشاط التنظيم، وتيارٍ آخَر يصرّ على استمرار النشاط في سوريا.

ولكن ملامح المواجهة بين الحكومة الجديدة وتنظيم الدولة الإسلامية استؤنفت بعد سقوط النظام. فقد أعلنت الحكومة السورية الجديدة في 11 ديسمبر 2024 القبض على خليةٍ تابعةٍ للتنظيم كانت تنوي تفجير مقام السيدة زينب في دمشق، وقالت إنها أفشلت عدّة هجماتٍ أخرى. وفي 16 فبراير 2025 أعلنت القبض على أبو الحارث العراقي، وقالت إنه كان مسؤول ملفّ الوافدين ونائب مسؤول التجهيز في “ولاية العراق”، ومخطِّط عملية السيدة زينب التي أُفشلت وعملية اغتيال القيادي العراقي في هيئة تحرير الشام ميسّر بن علي الجبوري المعروف بلقب “أبو مارية القحطاني” في 5 أبريل 2024.

تمتدّ خطوط التماسّ بين مناطق نشاط تنظيم الدولة الإسلامية والحكومة السورية الجديدة في ريف دير الزور الغربي والجنوبي، ومدينتي السخنة وتدمر في بادية حمص وريف حماة الشرقي وريف الرقة الجنوبي. ولكن لم يسفر هذا التماسّ عن عملياتٍ عسكريةٍ بين الطرفين. فحكومة دمشق لديها أولوياتٌ أخرى مثّلت بالنسبة لها تهديداً أكبر على استقرار الحكم. أما التنظيم فيبدو أضعف من المواجهة المباشرة بعد تفرّغ عشرات ألوف مقاتلي الفصائل الثورية من المعركة ضد نظام الأسد.

وحالياً، تتحرك خلايا داعش بين مناطق نشاطه ومناطق سيطرة قسد أيضاً، عبر نهر الفرات ومنطقة الطبقة وريف الرقة الجنوبي الشرقي. هذا وسط تكثيف الولايات المتحدة نشاطها لفرض رقابةٍ جوّيةٍ على حركة التنظيم وعمليات تهريب السلاح.

هذا الهدوء الحذر بين التنظيم والحكومة السورية الجديدة، قد لا يمثل تغييراً في نظرة تنظيم الدولة الإسلامية لهيئة تحرير الشام وفصائل الثورة السورية بالعموم. فما يزال يراها جماعاتٍ وفصائل “مرتدة” و”عميلة” لصالح دولٍ إقليميةٍ وغربية. وقد نشر التنظيم موقفه الأول بعد سقوط نظام الأسد في 25 يناير 2025، إذ صدّر افتتاحيةَ صحيفته الرسمية “النبأ” بعنوان “سوريا الحرّة وسوريا الأسد”. وأكّد أن الفصائل التي أسقطت نظام الأسد إنما هي “صحوات” تحركت بأوامر غربيةٍ ضمن مشروع محاربة إيران وحلفائها في المنطقة عقب حرب السابع من أكتوبر 2023 في غزة. وزعم المقال أن هيئة تحرير الشام تسعى لإقامة دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ لإرضاء الغرب، مقابل السماح لها بالحكم.

ومن هنا، يبدو موقف التنظيم متناقضاً، بين موقفٍ عمليٍ أقرب إلى الهدوء وتجنّب الصدام مع الدولة الجديدة، وموقفٍ عقديٍ يرفض ويكفّر هذه الإدارة لعدم تطبيقها الشريعة وانفتاحها على فكرة الدولة والالتزام بالشرائع الدولية.

يبقى الثابت أن المرحلة الحالية في سوريا قد تمثّل فرصةً أمام تنظيم الدولة الإسلامية للتسلل إلى المناطق الحضرية الكبرى وتعزيز قدراته العسكرية بفضل انتشار السلاح. وبعد أن باتت حدوده في سوريا بلا حرسٍ بعد انهيار جيش النظام السوري وحلّه، تولّد فراغٌ عسكريٌ قد يسمح بتنقّل مقاتلي التنظيم. يُضاف إلى ذلك حداثة الجهاز الأمني السوري الجديد وهشاشته، والذي توسّع فجأةً من إدلب إلى سوريا كلّها، وهو ما قد يمثّل أيضاً ثغرةً يستطيع التنظيم استغلالها.

ولكن، وفق ما تشهده الأرض آنياً، يبدو أن رؤية التنظيم الحالية تتلخص بتأجيل مواجهةٍ قد تكون خاسرةً مع الدولة الجديدة، وتعزيز القوّة لتجنّب استنزاف قدراته المتبقية.

ينتظر التنظيم أيضاً تطورات ملفّ “مناطق قسد” ومصير مخيم الهول وعناصره المعتقلين في سجون الحسكة والقامشلي والرقة، والتي قد تُسهم في تعزيز صفوفه لو أُفرج عنهم. كذلك قد يعود التنظيم إلى عمله الدعائيّ لجذب مقاتلين جددٍ، وخاصّةً من الجهاديين الأجانب أو عناصره في ولاياتٍ أخرى، بسبب الفراغ الأمني الاستخباري في سوريا حالياً. وقد يعمل على استقطاب التيار الجهادي المتشدّد الذي كان ضمن هيئة تحرير الشام أو حلفائها، والذي قد لا يرضى توجّهات الحكومة الجديدة التي تسعى للتوافق مع المعايير الدولية.

ولكن تنظيم الدولة الإسلامية يواجه تحدّياتٍ أكبر تهدّد هذه الفرص. أوّلها خبرة هيئة تحرير الشام في محاربة داعش والقضاء على خلاياه في إدلب سابقاً، ممّا يرجّح قدرتها على تفكيك غالبية شبكات التنظيم في المناطق المأهولة. وقد يحدُّ سقوط نظام الأسد وإمكانيةُ تحقيق استقرارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ في البلاد من قدرة التنظيم على تجنيد متطوعين جددٍ، خصوصاً في شرق سوريا وشمالها، حيث جرت معظم عمليات التجنيد.

وقد يمثل الاتفاق بين حكومة دمشق وقسد في 10 مارس 2025 حلّاً ولو جزئياً للغضب في مناطق الجزيرة السورية ضد قسد، وهو ما دفع من قبلُ مقاتلين سابقين في التنظيم إلى العودة نحوه أو منحه متطوعين جدداً. ناهيك من التحديات والعوامل الخارجية التي قد تُعيق مساعي التنظيم، وأهمّها الوجود الأمريكي، خصوصاً القواعد العسكرية في التنف وحقل العمر والحسكة.

مع ذلك ربما لن تثني هذه التحدياتُ التنظيمَ عن السعي إلى استئناف نشاطه في سوريا، لمركزيتها إلى جانب العراق في مخيال التنظيم وأدبياته. يعزّز هذه المركزيةَ جاذبيةُ البلدين في رواية التنظيم عن الخلافة، وكونهما المركز الأول للتنظيم عندما أعلن الخلافة، وكونهما مقرّ الخلافة الإسلامية التاريخية. ولا تمتلك فروع التنظيم الإقليمية عمقاً رمزياً يؤهلها لتكون مركزاً آخَر للخلافة. وفي سوريا تقع قرية دابق التي ورد فيها حديثٌ نبويٌ عن معركةٍ بين المسلمين والروم قبل قيام الساعة، ويستعيده التنظيم في أدبياته بوصفه مَن يمثل المسلمين في معركة نهاية الزمان. ومن هنا جاءت تسمية مجلة التنظيم السابقة “دابق” وقد سيطر التنظيم على دابق في أغسطس 2014 وقاتل هناك حتى خسرها في أكتوبر 2016 أمام فصائل الجيش السوري الحرّ المدعومة تركيّاً.

تواجه الدولة السورية الجديدة خطر عودة نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، الذي أثبت قدرته العالية على التكيّف مع تغيّر الأوضاع العسكرية ومقتل قياداته المتكرر. فقد غيّر باستمرارٍ هيكليّته وأدوات تواصله وآليات الحشد والتعبئة وتكتيكات عملياته العسكرية، مستفيداً من ثغرات خصومه ومشاكلهم الداخلية. وأثبتت خطط الأطراف المحاربة للتنظيم فشلَها في إنهاء هذا الملفّ.

ومع تأخر وقوع المواجهات بين داعش والدولة السورية الجديدة، فإن التنظيم لم ينته بعد، وهذه المعركة قد تكون مؤجلةً لا منتهية.

الفراتس

——————————

الحداد كمعركة شخصية… كيف يواجه السوريون أحزانهم؟/ خولة أبوسعدة

الخميس 3 أبريل 2025

يهرع الناس بعد كل وفاة، إلى إعلان حالة الحداد. غالباً ما يكون هؤلاء من المحيطين بأهل الفقيد، أي أولئك الذين لم يطلهم الفقدان بشكل مباشر. يفرضون على أهل المتوفى المرور بمراحل الحداد وفق تصورهم الخاص، ويجبرونهم على ارتداء السواد، والبكاء، وقبول الفقدان، وكأنهم يحددون لهم متى يجب أن يحزنوا وكيف. يظنون أنّ من واجبهم، كونهم واعين وغير متأثرين بالكامل بالفقد، أن يدفعوا أهل الفقيد إلى البدء بالحداد لإنهائه سريعاً، لأنّ تأجيله يعني استمراره إلى أجل غير معلوم.

لكن هل يفهم الناس الحداد فعلاً؟ يعتقد كثيرون أنّ الحداد هو مجرد طقوس ظاهرية، كارتداء الأسود أو إزالة مستحضرات التجميل أو تغيير الصور الشخصية. ويظنّون أنه يبدأ عند لحظة الوفاة، وهذا قد يكون صحيحاً في الظروف العادية. لكن في سياقات الحرب، يصبح الأمر أكثر تعقيداً. في مثل هذه الحالات، يُفرض على أهل الفقيد تقبّل الحقيقة قبل المرور بمراحلها الطبيعية من إنكار وغضب وحزن، وكأنّ كلمة “حداد” تعني إعلاناً قاطعاً بأنّ الفقيد قد رحل إلى الأبد، دون أمل أو انتظار.

حديث الموتى

يقول لي الكثير ممن يأتون لاستشارتي: “أنا لست في حالة حداد”، ومع ذلك، يأتون للقائي. يقولون: “أنا هنا، لأنني لا أريد أن أعيش الحداد، أنا خائف منه”. عندها أوضح لهم أنّ الحداد ليس خياراً، بل مرحلة طبيعية يمرّ بها كل من فقد شخصاً عزيزاً.

لكن، هل هذه المرحلة إلزامية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه جميع المكلومين. حتى الأطفال يسألون: هل سأظلّ أعاني لفترة طويلة؟ هل يجب أن أتحمّل المعاناة لمدة عام أو أكثر؟ هل سأشعر بهذه الآلام النفسية والجسدية طوال حياتي؟

في سوريا اليوم، أصبح الموت أمراً يتكرر يومياً. لكنه في الوقت نفسه تجربة نادراً ما يعيشها السوريون بشكلها الاعتيادي. كثيرون ماتوا بعيداً عن أنظار أهلهم، إما في المعتقلات أو في منافٍ بعيدة. آخرون يفقدون أحبّاءهم أمام أعينهم بسبب الاقتتال، أو يشاهدون فقدانهم عبر مقاطع الفيديو المنتشرة في العالم. خلال السنوات الأخيرة، عاش السوريون مكلومين على أحبائهم دون القدرة على إلقاء تحية الوداع الأخيرة عليهم.

جعلت الـ15 سنةً الأخيرة من الموت موضوعاً متشابكاً، فهو غامض ومعقّد، لكنه مستهلك ومستنزف أيضاً. لم يعد مجرد حدث طبيعي، بل تحوّل إلى موت “ما بعد حداثي”، يحمل أبعاداً فرديةً، واستهلاكيةً، ورمزيةً، وأحياناً خياليةً.

ترويض الحزن

بدأ المحللون النفسيون بدراسة مفهوم الحداد، بدايةً من كارل أبراهام ثم سيغموند فرويد، الذي اشتهر بمقاله الشهير “الحداد والسوداوية”، في أثناء الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، كان فرويد، يعالج الجنود العائدين من الحرب، الذين تعرّضوا لصدمات نفسية جرّاء معارك لم تعد تعتمد على القتال المباشر، بل على القصف والدمار الجماعي. حاول بعض هؤلاء الجنود الفرار من الحرب، ما أدى إلى إعدام بعضهم بتهمة الهروب من الخدمة العسكرية. برغم ذلك، لم يتحدث فرويد في مقاله عن الجنود أنفسهم، بل ركّز على ما يُعرف اليوم بـ”الفقدان الغامض”، وهو الحداد الذي يعيشه الناس عندما لا يكون هناك يقين تام بوفاة شخص مفقود.

بعد الحربين العالميتين، توسعت دراسة الحداد، خاصةً لدى الأطفال الذين فقدوا آباءهم. على سبيل المثال، رأت ميلاني كلاين، أنّ كل حداد يعيد إحياء الحداد الأوّل في حياة الإنسان، أي الانفصال الأوّل عن الأمّ.

تشير الباحثة ماري فريدريك باكيه، إلى أنّ قدرة الإنسان على التعامل مع الفقد تعتمد على تجربة الطفولة الأولى في الانفصال. الطفل الذي ينشأ في بيئة توفر له الأمان العاطفي، يكون أكثر قدرةً على تحمّل الحداد مستقبلاً، بينما من لم يجد هذا الأمان يكون أكثر عرضةً لمشاعر الهجران والخوف عند مواجهة الفقدان.

في كتابها “ترويض الموت”، تشرح ماري فريدريك باكيه، أستاذة علم النفس المرضي السريري في جامعة ستراسبورغ، والمحللة النفسية ورئيسة المركز الدولي لدراسات الموت (CIEM)، كيف أنّ الحداد تجربة معقدة ذات أبعاد متعددة.

تضيف أنّ الطفل، في بداية حياته، يختبر الانفصال عن أمّه تدريجياً، ويتعلم التعامل معه. هذا التعلم يساعده لاحقاً على تحمّل الفقدان دون الشعور بالهجران أو الخوف. عندما تسير الأمور بشكل صحي، يكون الطفل قادراً على استكشاف العالم بحرية، مستنداً إلى الذكريات الإيجابية مع أمّه.

تشير باكيه، إلى أنّ قدرة الأفراد على مواجهة الفقدان تعتمد على مدى استبطانهم صورة أمّ متواجدة ومطمئنة في طفولتهم. الذين نشأوا مع أمّهات وفّرن لهم إحساساً عميقاً بالأمان، يكونون أكثر قدرةً على تجاوز الحداد مقارنةً بمن لم يحظوا بهذه الطمأنينة.

لكن الجميع يمرّون بمرحلة النكوص عند مواجهة الفقدان، حيث يعودون إلى الشعور بعدم الأمان الذي خبروه في الطفولة عند غياب الأمّ. ومع ذلك، فإنّ التفكير والتأمل يساعدان في تخطّي الصدمة تدريجياً.

المراحل الخمسة

وفقاً لنموذج إليزابيث كوبلر روس، يمرّ الحداد بخمس مراحل: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والقبول.

على عكس ما يظنّ البعض، هذه المراحل تصف تجربة الشخص المحتضر، وليس الأشخاص الذين فقدوا أحد أحبائهم. وعليه، لا يمكن إسقاطها بشكل صارم على تجربة الحداد.

عبر التاريخ، صُمّمت الطقوس لمساعدة الأحياء على التعامل مع الموتى. تتمحور هذه الطقوس حول جانبين:

الأول مرافقة الميت إلى “العالم الآخر”، وهو ما يفسر العادات التي تهدف إلى تحضير الموتى لرحلتهم الأخيرة، مثل تلبيسهم ملابس أنيقة، ووضعهم في نعش جميل، واختيار قبر يليق بهم.

الثاني، الجانب الاجتماعي للحداد، حيث يجتمع المجتمع المحيط لدعم الأشخاص المكلومين، لأنّ طقوس الحداد لم تكن للموتى فحسب، بل كانت مخصصةً للأحياء أيضاً.

عندما نتحدث عن الحداد مع شخص ما، فإننا نسأله عمّا إذا كان لا يزال يشعر بحالة الضيق؟ فإذا قال: “بالطبع، ما حدث كان رهيباً، لكن يمكنني التحدث عنه بهدوء، يمكنني محاولة ممارسة أنشطة أخرى، يمكنني التفكير في أمور أخرى، يمكنني حتى الضحك والابتسام”، فهذا يعني أنه تقدّم بشكل كبير في عملية الحداد.

بعد أن تتمّ طقوس الدفن، ويصبح الموت حقيقياً بالنسبة للشخص المكلوم، ولا يستطيع إنكاره، وبعد الرمزية التي تتجسد غالباً من خلال الطقوس الجنائزية، يصبح العمل العلاجي للحداد متمحوراً حول العقلنة التي تتم على مرحلتين: استبطان الشخص المتوفى، وتحرير الروابط التي كانت تجمعنا به.

يتشكل استبطان الفقيد في الأحلام، واستحضار الذكريات مع الأحبّاء، والبحث عن الصور والأشياء التي كانت تخصّه، وما إلى ذلك. أما فكّ التعلق العاطفي، فيتم من خلال استعادة الذكريات المرتبطة بالفقيد وإعادة النظر فيها لمواجهتها بواقع الفقدان ومن ثم تحريرها تدريجياً، أو بشكل أكثر دقةً، إعادة استثمارها كجزء من الماضي.

بهذه الطريقة، يتكيّف المكلوم تدريجياً مع حياة جديدة من دون الفقيد، ويستوعب الماضي الذي لم يعد موجوداً، ويتمكن من إعادة استثمار طاقته في المستقبل. هذه العملية تستغرق وقتاً، كما نعلم جميعاً.

دائماً ما أقول لمن يأتي إلى استشارتي، إنّ مرور عام على الفقدان مهم جداً، خاصةً عند حلول الذكرى السنوية للوفاة. لماذا؟ ببساطة لأسباب طبيعية جداً. خلال عام واحد، سوف تتغير الفصول، وتتساقط الأوراق، وتختلف الإضاءة، ويبدأ الشخص تدريجياً باستعادة إيقاع الحياة من دون الشخص المفقود، ويمرّ كل شيء من دونه.

وهذا ما يؤكده علماء النفس، مثل إرنست ليندمان، المحلل النفسي في فترة الحرب العالمية الثانية، الذي أشار إلى أنّ المكلوم يعيد إحياء اللحظات الماضية تدريجياً، ما يساعده على فك الارتباط العاطفي شيئاً فشيئاً.

في أربعينيات القرن العشرين، قدّم ليندمان، تعريفاً للعملية العلاجية للحداد، مشيراً إلى أنها تتألف من سلسلة من التغييرات الصغيرة التي تعدّل تدريجياً عادات الشخص المكلوم. وأوضح أنّ جميع المهام التي كان الشخص يشاركها مع الفقيد، سواء كانت حقيقيةً أو متخيلةً، يجب أن يتم تفكيكها واستيعابها ذهنياً وعاطفياً، بحيث يتمكن الشخص تدريجياً من تحمّلها وحده، ومن ثم، ربما، مشاركتها مع شخص جديد في حياته.

فردانية الحزن

على مرّ العصور، كانت المجتمعات والحضارات والديانات تفرض على المكلومين المرور بطقوس الحداد، حيث كان الحزن مشتركاً، والتعزية مسؤوليةً جماعيةً، والمواساة جزءاً من النسيج الاجتماعي. لم يكن الحداد مجرد تجربة فردية، بل كان يُنسج ضمن شبكة اجتماعية تعترف بالفقدان وتحيطه برعاية جماعية.

أما اليوم، فقد تغيّر المشهد تماماً. في المجتمعات الحديثة، حيث تُقدَّس قيم النجاح والإنتاجية، لم يعد هناك متّسع لمشاعر الحزن. يُتوقع من المكلومين العودة بسرعة إلى “الحياة الطبيعية”، وكأنّ الحداد رفاهية لا يحقّ لهم التمسك بها. يُمارَس ضغط اجتماعي غير معلن عليهم لإخفاء حزنهم، أو على الأقل تسريعه، كي لا يخلّوا بإيقاع الحياة العملية أو يزعجوا من حولهم بمشاعرهم.

وفي سوريا، أخذ الحداد بعداً أكثر تعقيداً. لم يُسمح للكثيرين حتى بالاعتراف بفقدانهم، إذ كان الخوف من فقدان شخص آخر، أو من الملاحقة الأمنية، يفوق القدرة على التعبير عن الألم. اضطر كثيرون إلى كبت أحزانهم، وكأنّ شيئاً لم يحدث، ما خلق ضغطاً نفسياً هائلاً عليهم، جعل الحداد أشبه بجدار صامت يحاصرهم من الداخل.

لكن على النقيض، لم يُترك الموت ليكون شأناً خاصاً بالمكلومين وحدهم. في ظلّ الأحداث المستمرة، أصبح الحديث عن الفقدان والمفقودين والشهداء ملكيةً عامة، يُستَخدَم دون استئذان، ويتحول إلى مادة متداولة في الخطابات العامة ووسائل الإعلام. صور الراحلين وقصصهم تُعاد وتُكرَّر، وغالباً ما تُضاف إليها تفاصيل تثير المشاعر وتزيد من التفاعل. سواء بقصد أو بغير قصد، تحوّل الحداد من تجربة إنسانية خاصة إلى طقس كرنفالي، تُفرض فيه على أهل الفقيد طريقة محددة للحزن، ويُسلب منهم حقهم في عيش الحداد على طريقتهم الخاصة.

ما كان ينبغي أن يكون لحظة عزاء وتأمّل شخصي، أصبح مساحةً مفتوحةً للجميع، حيث تُستثمر القصص لأغراض متعددة، من كسب المشاهدات إلى إبراز التعاطف الظاهري. ووسط هذا كله، يُهمَّش صوت العائلات والأحبّاء الحقيقيين للراحلين، وكأنّ الحزن لم يعد ملكهم، بل صار ملكاً للعامة. يأتي التعاطف المبالغ فيه، أو التعليقات القاسية، ليشعلا نار الفقدان من جديد، محطّمَين أيّ محاولة قد يقوم بها أهل الفقيد لتجاوز الألم والمضي قدماً.

في النهاية، لم يعد الحداد تجربةً تجمع الأحياء على معنى الفقد، بل تحول إلى مبارزة فردية يُفرض على المكلومين المشاركة فيها، سواء أرادوا ذلك أم لا.

صلاحية منتهية

لا توجد مدة زمنية ثابتة أو موحدة للحزن، ولكن مرور عام على الفقدان يساعد في الانتقال التدريجي إلى مرحلة التكيف. ومع ذلك، فإنّ عملية إعادة بناء الحياة بعد فقدان شخص عزيز تستغرق وقتاً أطول، وتعتمد على عوامل شخصية واجتماعية.

مع الموت اليومي في سوريا، يصبح من الصعب الاستماع والانتباه إلى الأثر العميق الذي يخلّفه إجبار أهالي الضحايا على الحداد وفق تصورات الآخرين. يُجبرون على مشاهدة جثث أبنائهم تُنشر على صفحات الإنترنت، وعلى رؤية أسمائهم تُتداول في المجال العام دون إذنهم أو رغبتهم. في خضمّ هذا التدفق العاطفي الجماعي، ينسى جمهور “التفاعل”، الأمّهات والآباء الذين لا يزالون، حتى هذه اللحظة، يحفرون حول سجن صيدنايا على أمل العثور على بقايا أبنائهم.

تلك الرفات التي ظهر أحد المؤثرين يحملها بيده بلا أدنى تأثّر، ودون أن يدرك حجم الألم الذي تتركه هذه المشاهد في قلوب أهالي المفقودين. يحوّل السوريون شاشاتهم إلى منصات للحداد، بينما لا تزال الجثث مرميةً في الأزقة، تصرخ بصمت طالبةً الرحمة، وطالبةً الدفن بما يليق بها تحت التراب.

اهدأوا، وترحّموا، وانتظروا حتى يكون أهالي الضحايا مستعدّين للحداد. ادعموهم فقط، فهذا كل ما يريدونه.

رصيف 22

————————–

ماذا فاتنا في سوريا؟/ سلافوي جيجيك

28 مارس 2025

لا تمثل التطورات الأخيرة، التي تبدو وكأنها انتصارات للأصولية الدينية، عودة الدين إلى السياسة، بل ببساطة عودة السياسة في حد ذاتها. إذا بدت هذه التطورات غريبة في أعين الغرب، فذلك لأن الغرب لم يعد يمثل أيّ شيء يستحق أن يقاتل الغربيون من أجله أو يموتوا في سبيله.

ليوبليانا- سقوط نظام بشار الأسد في سوريا مفاجئًا حتى المعارضة، التي تقودها حركة هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، مما وفر أرضًا خصبة لنظريات المؤامرة. ما هي الأدوار التي لعبتها إسرائيل وتركيا وروسيا والولايات المتحدة في هذا الانعكاس المفاجئ؟ هل امتنعت روسيا عن التدخل لصالح الأسد؛ لأنها ببساطة لا تستطيع تحمل تكلفة عملية عسكرية أخرى خارج الساحة الأوكرانية، أم كان هناك صفقة خلف الكواليس؟ هل وقعت الولايات المتحدة مرة أخرى في فخ دعم الإسلاميين ضد روسيا، متجاهلة دروس دعمها للمجاهدين في أفغانستان في الثمانينيات؟ وماذا فعلت إسرائيل؟

من المؤكد أنها استفادت من تحويل أنظار العالم عن غزة والضفة الغربية، بل إنها توسعت في احتلال أراضي جديدة في جنوب سوريا.

مثل معظم المعلقين، أنا ببساطة لا أملك إجابات عن هذه الأسئلة، ولهذا السبب أفضل التركيز على الصورة الأكبر. السمة العامة للمشهد، كما في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة، وفي إيران خلال ثورة 1979، هي أنه لم تكن هناك معركة كبيرة وحاسمة. النظام ببساطة انهار مثل بيت من ورق. انتصر الطرف الذي كان على استعداد بالفعل للقتال والموت من أجل قضيته.

حقيقة أن النظام كان مكروهًا عالميًا لا تفسر بالكامل ما حدث. لماذا اختفت المقاومة العلمانية ضد الأسد، تاركة فقط الأصوليين المسلمين ليتحكموا في الموقف؟ يمكن تطبيق السؤال نفسه على أفغانستان. لماذا كان الآلاف على استعداد للمخاطرة بحياتهم للهروب من كابول، ولكن ليس للقتال ضد طالبان؟

كانت القوات المسلحة للنظام الأفغاني القديم أفضل تسليحًا، لكنها ببساطة لم تكن ملتزمة بهذه المعركة.

مجموعة مماثلة من الحقائق أثارت اهتمام الفيلسوف ميشيل فوكو عندما زار إيران مرتين عام 1979 لقد صُدم بما رآه على أنه عدم اكتراث الثوار ببقائهم على قيد الحياة. كان ما يبحثون عنه هو “تحول من خلال النضال والمحنة، على عكس أشكال القوة الغربية الحديثة التي تهدف إلى التهدئة والتحييد والتطبيع…المهم لفهم هذه النقطة هو مفهوم الحقيقة الذي يعمل… مفهوم الحقيقة كجزئية، كمخصصة للأتباع.”

كما قال فوكو نفسه:

إذا كان هذا الموضوع الذي يتحدث عن الحق (أو بالأحرى، الحقوق) يقول الحقيقة، فإن “هذه الحقيقة لم تعد الحقيقة العالمية للفيلسوف… إنها مهتمة بالكلية فقط بقدر ما يمكنها رؤيتها من منظور أحادي الجانب، تشوهها وتراها من وجهة نظرها الخاصة. الحقيقة، بمعنى آخر، هي حقيقة يمكن نشرها فقط من موقعها القتالي، من منظور النصر المطلوب وفي النهاية، إذا جاز التعبير، من بقاء الموضوع المتحدث نفسه”.

هل يمكن اعتبار هذا المنظور دليلاً على مجتمع “بدائي” ما قبل حديث لم يكتشف بعد الفردية الحديثة؟

لأيّ شخص على دراية بالماركسية الغربية، الإجابة واضحة. كما جادل الفيلسوف المجري جورج لوكاش، الماركسية “صحيحة عالميًا” precisely لأنها “جزئية” لموقف ذاتي معين. ما كان فوكو يبحث عنه في إيران – الشكل النضالي “الحربي” لإخبار الحقيقة – كان موجودًا منذ البداية في فكر ماركس، الذي رأى أن المشاركة في الصراع الطبقي ليست عائقًا أمام اكتساب معرفة “موضوعية” بالتاريخ، بل هي شرط مسبق للقيام بذلك.

المفهوم الوضعي للمعرفة كتعبير “موضوعي” عن الواقع – ما وصفه فوكو بأنه “أشكال القوة الغربية الحديثة التي تهدف إلى التهدئة والتحييد والتطبيع” – هو أيديولوجيا “نهاية الأيديولوجيا”. من ناحية، لدينا معرفة خبراء يفترض أنها غير أيديولوجية؛ ومن ناحية أخرى، لدينا أفراد مشتتون، كل منهم يركز على “رعاية الذات” الفردية (مصطلح فوكو) – الأشياء الصغيرة التي تجلب المتعة لحياة المرء. من وجهة نظر الفردية الليبرالية هذه، أي التزام عالمي، خاصة إذا كان يتضمن مخاطرة بالحياة والأطراف، هو أمر مشبوه و”غير عقلاني”.

هنا نواجه مفارقة مثيرة للاهتمام: بينما لا يمكن للماركسية التقليدية على الأرجح أن تقدم تفسيرًا مقنعًا لنجاح طالبان، إلا أنها تساعد في توضيح ما كان فوكو يبحث عنه في إيران (وما يجب أن يثير اهتمامنا في سوريا). في وقت قمع فيه انتصار الرأسمالية العالمية الروح العلمانية للالتزام الجماعي في السعي نحو حياة أفضل، كان فوكو يأمل في العثور على مثال للالتزام الجماعي الذي لا يعتمد على الأصولية الدينية. لكنه لم يجد.

أفضل تفسير لسبب سيطرة الدين الآن على الالتزام الجماعي والتضحية بالنفس يأتي من بوريس بودين، الذي يجادل أن الدين كقوة سياسية يعكس التفكك ما بعد السياسي للمجتمع – انحلال الآليات التقليدية التي كانت تضمن روابط مجتمعية مستقرة. الدين الأصولي ليس سياسيًا فقط، بل هو السياسة نفسها. بالنسبة إلى أتباعه، لم يعد مجرد ظاهرة اجتماعية، بل أصبح نسيج المجتمع نفسه.

وبالتالي، لم يعد من الممكن التمييز بين الجانب الروحي البحت للدين وتسييسه: في عالم ما بعد السياسي، الدين هو القناة التي تعود من خلالها المشاعر العدائية. التطورات الأخيرة التي تبدو وكأنها انتصارات للأصولية الدينية لا تمثل عودة الدين إلى السياسة، بل ببساطة عودة السياسة بحد ذاتها.

السؤال إذن هو: ماذا حدث للسياسة الراديكالية العلمانية (الإنجاز العظيم المنسي للحداثة الأوروبية)؟

في غيابها، يعتقد نعوم تشومسكي أننا نقترب من نهاية المجتمع المنظم – النقطة التي لا عودة بعدها، والتي لا يمكننا حتى فيها اتخاذ إجراءات منطقية لـ”تجنب الدمار الكارثي للبيئة”، بينما يركز تشومسكي على عدم اكتراثنا بالبيئة، أودّ أن أوسع نقطته لتشمل عدم استعدادنا العام للانخراط في النضالات السياسية بشكل عام. اتخاذ قرارات جماعية لتجنب الكوارث المتوقعة هو عملية سياسية بامتياز.

مشكلة الغرب هي أنه غير مستعد تمامًا للقتال من أجل قضية مشتركة كبيرة. على سبيل المثال، “المسالمون” الذين يريدون إنهاء حرب روسيا في أوكرانيا بأي ثمن، سيدافعون في النهاية عن حياتهم المريحة، وهم مستعدون للتضحية بأوكرانيا لهذا الغرض. الفيلسوف الإيطالي فرانكو بيراردي محق. نحن نشهد “تفكك العالم الغربي”.

+مؤمنون بلا حدود

————————–

الثقافة و«التكنوقراط»: هل كان يجب على النخب التخلّي عن الأيديولوجيا؟/ محمد سامي الكيال

04 نيسان 2025

انتشرت مقولات «تجاوز الأيديولوجيا» أو رفضها في الفضاء الناطق بالعربية، منذ أواخر الحرب الباردة، إذ بدا وقتها للمهتمين بالشأن العام، من مسيّسين ومنتجي ثقافة، أن الأيديولوجيات السياسية السائدة، وعلى رأسها القومية والشيوعية، وصلت إلى نهاياتها، بنتائج فاشلة أو كارثية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية. وبدأت موجة من «المراجعات» بين الأجيال الأقدم، فيما نشأ جيل جديد، من مواليد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بدا كثيرٌ من أفراده متجاوزاً بالفطرة للأيديولوجيا، وهذا ما ظهر بوضوح أثناء ما يُعرف بانتفاضات «الربيع العربي»، التي رافقتها تنظيرات عن لحظة غير أيديولوجية، أو بعد أيديولوجية، حرّكت «الشباب».

لا تشير مقولات «التجاوز» تلك إلى أي معنى منضبط للأيديولوجيا، في النظرية السياسية والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا، بل كان المعنى فقط هو تجاوز الأيديولوجيات التي اعتُبرت يسارية، فيما أيديولوجيا الإسلام السياسي اعتُبرت «الإسلام»، أو «ثقافة المجتمع» ببساطة، التي يجب احتضانها وتفهّمها. انتشرت أيضاً مقولات عن «ليبرالية» ما، تبنّاها كثيرون، بوصفها روح العصر، واختلطت تدريجياً بالأيديولوجيا الناشطية، المقبلة مع «المنظمات غير الحكومية»، التي لعبت دوراً أساسياً في إنتاج مقولات فترة «الربيع» وما بعده.

يبدو كل هذا مثيراً للاستغراب، إذ يصعب عموماً الحديث عن مجتمع بشري دون أيديولوجيا. أما تعريفاتها القديمة، بوصفها نوعاً من «الوعي الزائف»، الذي يحجب عن حامليه رؤية واقعهم ومصالحهم، على خلاف «العلميّة» أو «البراغماتية»، فلم يعد مواكباً لكثير من مناهج ومنظورات العلوم الإنسانية المعاصرة. فسواء كان مرجعنا التعريفات الأوسع للأيديولوجيا، العائدة لكل من المفكرين الفرنسيين لويس ألتوسير وجاك لاكان، اللذين اعتبراها مؤسّساً للذات الفردية والجماعية نفسها؛ أو نظرنا إلى الدراسات المعاصرة، حول الأنظمة الاجتماعية والرمزية والتواصلية، فلن نخرج عن إدراك الحضور الأساسي للأيديولوجيا، في كل قول وممارسة ووعي أو لا وعي إنساني. تجاوز الأيديولوجيا غالباً مقولة أيديولوجية رديئة، تحاول التعمية على تصورها الخاص للعالم والذات والمصلحة، والموقع الاجتماعي الذي تنطلق منه، فتبدو أقرب لـ»الوعي الزائف»، الذي ترفضه، من أي أيديولوجيا متسقة، واعية بذاتها.

ما الأيديولوجيا التي تجاوزها كثير من النخب والناشطين الناطقين بالعربية إذن؟ ليس اليسار والقومية، فما يزال لهاتين الأيديولوجيتين حضور تأسيسي في الخطابات المعاصرة، ونرى شتاتاً منهما في معظم القول السياسي في الحيز العام، إلى جانب المقولات الإسلامية والناشطية. ربما ما تم «تجاوزه» هو الاتساق نفسه، أي القدرة على تقديم خطابات متماسكة سياسياً وفكرياً ومنطقياً، لها بنىً واضحة، ومناهج في إنتاج المعنى والدلالة، وسلسلة من المفاهيم والمصطلحات، القابلة للتحليل والقياس والنقد. تبدو خطابات «ما بعد الأيديولوجيا»، على الطراز العربي، مجموعة من الجُمَل الإنشائية غير المتسقة، يصعب استخلاص المعاني منها، وتحركها دوافع مثل الإحساس، التجربة الذاتية، التريند، والإجماع الأخلاقي في أوساط ودوائر معيّنة، على موقف وقول ما.

قد يمكن وصف كل هذا بالرداءة، ولكن المشكلة ليست فقط في مستوى ذلك النوع من الأيديولوجيا «المتجاوزة» للأيديولوجيا، وإنما في خطورتها، إبان الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الأشد، التي نعيشها دون انقطاع منذ أكثر من عقدين من الزمن. نتحدّث هنا عن نوع من التقلّب الخطابي، الخاوي من النظرية والمنهج، والذي يُعفي صاحبه من مسؤولية قوله ونتائجه، ويعطيه رخصة في التناقض، وإرسال الإشارات مزدوجة المعنى، والتراجع السهل، وتغيير التوجّه، وفي الوقت نفسه ابتزاز الآخرين أخلاقياً وعاطفياً. هذا المزيج قد يكون مدمراً، أو حتى قاتلاً. إنه نمط من التطرّف الأيديولوجي، الذي يداري نفسه، أو يمارس الاحتيال بعبارة أدق، ما يجعله «ظلامياً» بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن ما نمط السلطات التي تدافع عنها تلك الظلامية؟

أيديولوجيا «التكنوقراط»

طُرحت مقولة «التكنوقراط» في العقدين الآخرين، وكأنها الحل السحري، لكل مشاكل السياسة والاقتصاد والإدارة والتنمية، ويمكن اعتبارها بديل «المتجاوزين» عن الأيديولوجيا، التي لا توصل، حسب رأيهم، إلى أي نتيجة. قد يكون من المكرر الإشارة إلى مدى رداءة مقولة «التكنوقراط» هذه، إذ لا يوجد خبير أو متخصص، بريء من القناعات والانحيازات والرؤى السياسية، أي الأيديولوجيا؛ كما أن المشكلات العامة، في أي مجال كان، ليس لها حل «تقني» وحيد، وغيره أيديولوجيا، وإنما يُحدد الإطار الفكري والنظري والسياسي للحكم، ولخبرائه ومستشاريه، نوعية الحلول التقنية الممكنة، أي أن «التقني» في النهاية سياسي، وانتشار مقولة «التكنوقراطية» ارتبط غالباً بالتوجهات السياسية والاقتصادية، التي انتشرت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، والتي يصرّ عدد من معارضيها على تسميتها بـ»الأيديولوجيا النيوليبرالية». وبغض النظر عن هذه التسمية غير الدقيقة، فإن عقيدة «التكنوقراطية»، تحوي كثيراً من الاحتيال الأيديولوجي، إذ يُقدّم التكنوقراطي، والسياسي الذي يعيّنه، قراراته وإجراءاته وكأنها العلم أو التقنية المحضة، التي لا يمكن نقاشها من غير المختصين، ومعارضتها نوع من التعصّب. يجعل هذا من «التكنوقراطية» شكلاً سلطوياً لسحب السياسة من المجتمع، وجعلها حكراً على نخب محددة، أي أنها سياسة ضد ديمقراطية في العمق. وقد كانت، في الدول الغربية، أحد أسباب الردّة الشعبوية ضد أحزاب يمين ويسار الوسط، وأنظمتها السياسية، التي ازداد تصلّبها التكنوقراطي مع الزمن.

في كل الأحوال، تقدّم الشعبوية اليمينيّة اليوم نمطها الخاص من التكنوقراطية، كما نرى في الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت تتصدّرها شخصيات مثل أيلون ماسك وأشباهه. ما يشير إلى أن الشعبوية، بوصفها استراتيجية سياسية، ليست نقيضاً لعقيدة التكنوقراط بالضرورة.

وبعيداً عن «العالم الأول»، فإن الجهاديين أنفسهم، في منطقتنا، صاروا من أنصار «التكنوقراطية». هم ليسوا شعبويين، لأنهم معادون جذرياً لمفهوم السيادة الشعبية نفسه، وإنما يسعون إلى إعادة تربية رعاياهم، ليصبحوا «مجتمعاً إسلامياً» حقيقياً، عبر حوكمة، تجمع من جهة بين السيادة الدينية، الأمنية والميليشياوية، التي ترى أن الحاكمية لله؛ و»التكنوقراطية» الضد سياسية من جهة أخرى، الرافضة لحضور أي قوة مجتمعية منظّمة. وكله باسم تجاوز «الأيديولوجيا»، لمصلحة ثقافة المجتمع المسلم، والطاقات الشابة، ورفض المحاصصة، أو أي ادعاء آخر.

ربما ساهمت لا أيديولوجية ما سُمّي «الربيع العربي» بإيصالنا إلى هذا المآل المؤسف: المطالبة بالحرية؛ و»الشعب الذي يريد»، عبر «الشارع»، ودون برامج سياسية واضحة، أو اتساق فكري ونظري، تحوّلا إلى تأييد أكثر المنظورات معاداةً للديمقراطية، أي حكم المتغلّبين، أو من يظنون أنهم حازوا الغلبة؛ وإلى الرهان على «التكنوقراطية»، التي باتت أقرب لتعويذة. فـ»الثائر»، الفاقد لأي منظور واضح، قد توصله تجربته الذاتية، أو إحساسه الخاص بالعدالة، إلى الاندفاع وراء أشد القوى تدميراً للحياة. والأهم، أن التجربة والإحساس، اللذين لا يهتمان بأي اتساق أو نظرية، يمكن استعمالهما وتطويعهما، بل تزييفهما بسهولة، لتحقيق مكاسب من أي سلطة تبدو متغلّبة. لا يذكّر هذا إلا بإحساس العدالة الخاص بعناصر الميليشيات، الذين قد ينطلقون من «مظلومية» ما، ليصلوا إلى تدمير الحياة في مجتمعاتهم ومجتمعات الآخرين.

طبقة «لا أيديولوجية»

ربما يصحّ القول إن طبقة جديدة، من الناشطين والميليشياويين، باتت هي السائدة في المجتمعات المُدمّرة، نتيجة حروب ما بعد «الربيع العربي»، وهي الطبقة الأكثر انتفاعاً من اقتصاد الظل، الذي ازدهر في تلك الحروب. وما يجمع فئتيها أساساً، استفادتهما من أموال المساعدات الخارجية، التي لم تكن كلها تصنّف ضمن «الاستجابة الإنسانية العاجلة»، بل أيضاً شملت تصنيفات، مثل الدعم والمناصرة والتمكين والتأهيل، ما أنتج علاقات متشابكة، وشديدة التعقيد، بين المشرفين على نظام المساعدات ذاك، أي القوى المسيطرة على الأرض، وناشطي المنظمات المحترفين.

أشارت تقارير غربية متعددة، مثل تقرير «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS) الأمريكي، الصادر عام 2021 عن سوريا، إلى الكيفية التي أدارت بها قوى الأمر الواقع، من ميليشيات ومنظمات وبقايا دول، أنظمة المساعدات تلك، وكيف وجّهتها لمصلحتها، لتُحَسّن أوضاعها، كلما ازدادت الأمور سوءاً، وكلما ازدادت حاجة الناس إلى المساعدات. إلى درجة أن بعض المعلقين الغربيين، طالب بقطع المساعدات المالية عن المنطقة، والاكتفاء بالمساعدات العينيّة. إلا أن العلاقة بين فئتي الطبقة، أي الناشطين والميليشياويين، قد تتجاوز التشابكات الضرورية على الأرض، والمصالح المادية المباشرة، إلى نوع من التلاقي الأيديولوجي العام، القائم على ادعاء «تجاوز الأيديولوجيا»، فالميليشياوي الذي قد يكون جهادياً، ومتحزّباً للإسلام السياسي، يستطيع أن يدّعي أنه لا يفعل أكثر من ممارسة عقيدته وثقافته؛ أما الناشط، الذي يكرر غالباً المزيج الأيديولوجي الدارج في المنظمات غير الحكومية، والذي يمكن تسميته «الناشطية» Activism، فيتخفّى غالباً وراء مفاهيم حقوقية مجرّدة، كما أن عليه التمتّع بـ»المهارة بين الثقافات»، التي تتيح له تفهّم عقيدة وثقافة الجميع، بمن فيهم الجهاديون.

عملياً، الفئتان ليستا متجاوزتين للأيديولوجيا، وإنما هما متجاوزتان للمجتمع نفسه، بمعنى أنهما مجموعتان لا تعرّفان نفسيهما ضمن أي موقع اجتماعي واضح، بل عبر تجريد متعالٍ على الجميع، قد يكون الدين أو الحق أو الأخلاق أو الهوية، ولا أقلّ من ذلك. ولم يزدهرا وينالا الصدارة، إلا على أنقاض المجتمع.

قد يبدو القول إن تلك الطبقة تعتبر نفسها من التكنوقراط نوعاً من التهكّم، إلا أن هذا فعلاً ما يذكره أفرادٌ منها بكل وضوح وجديّة، فمديرو المنظمات غير الحكومية وموظفوها؛ والميليشياويون، الذين فُرِّغوا لأداء بعض الوظائف الإدارية والسياسية، يرون أنفسهم من الخبراء والمتخصصين، القادرين على قيادة المجتمعات، بعيداً عن الأيديولوجيا. لا يمكن بالطبع التفتيش في النوايا، ومعرفة إن كانوا يؤمنون بادعاءاتهم، أو يمارسون احتيالاً واعياً، إلا أن هذه المعرفة غير ضرورية، فكثير من الوقائع التي نشهدها، تبدو نوعاً من المحاكاة الساخرة، أو الكوميديا السوداء. هذه التكنوقراطية معادية للثقافة نفسها، بمعنى أنها تساهم في تدمير كل ما تبقّى من تقليد متحضّر في المنطقة، وتعمل، بشكل واعٍ أو غير واع، على التجهيل، عبر تشويه معظم المفاهيم؛ وإخفاء علاقات السلطة والهيمنة، وراء جمل إنشائية لا تقول شيئاً؛ ونشر أدوات تفكير رديئة، تجعل عدم الاتساق، والضعف المنهجي، ومعاداة التفكير النظري، نوعاً من الفضائل.

ربما نحتاج إلى بعض الأيديولوجيا الواعية لمواجهة كل هذا، أي إلى نسق سياسي وفكري، مدرك لأبعاد المأساة التي تتعرّض لها المنطقة؛ ويسعى لجعل الدفاع عن المجتمع، وما تبقّى من ثقافة، المهمة الأولى لكل تحرّك فردي أو جماعي.

 كاتب سوري

 القدس العربي

—————————

حين تحكُمنا الركاكة/ رشا عمران

04 ابريل 2025

طلبت من ذكاء صناعي يساعدني في الترجمة والبحث عن مراجع أدبية وعلمية أن يلخّص لي كلمة وزير الثقافة السوري الجديد، محمّد صالح، في أثناء تنصيبه، فكتب لي نصّاً من 350 كلمة فيه خطّة كاملة للثقافة السورية مستقبلاً. كتب لي عن صناعة الكتاب الورقي وكيفية التعامل مع التطوّر الرقمي في موضوع النشر، وعن تطوير السينما والمسرح والدراما التلفزيونية، وعن ضرورة الاهتمام بالموسيقا والفن الغنائي، وعما يجب أن تكون عليه علاقة الدولة مع المبدعين والمثقفين، وعن أهمية الانفتاح على الثقافات المحلية المتنوعة التي تُغني المجتمع السوري، الانفتاح على ثقافات العالم خصوصاً مع انتشار السوريين في كل العالم واتقانهم للغات جديدة؛ وعن دور الثقافة في تحقيق السلم الأهلي في بلد مثل سورية خارج لتوه من حرب طويلة، وعن ضرورة اهتمام الدولة بثقافة الطفل لتنشئة أجيال جديدة، يمكنها غداً إتمام خطط بناء المجتمع السوري. ومذكّراً بالإرث الثقافي الذي تستند إليه سورية، و إلى تاريخها الطويل في الابداع الأدبي والمعرفي. وذكر لي بعض أشهر الكتاب والمبدعين السوريين (رجالا ونساء)؛ منوها إلى ما أضافوه للثقافة العالمية.

لم يقترب صديقي الذكي بحرف واحد مما قاله الوزير محمّد صالح. بدا كما لو أن منشئوه لم يقوموا بتحديث معلوماته بعد إعلان الحكومة السورية الجديدة، فهو لم يذكر اسم الوزير. قدّم لي برنامج عمل يفترض بأي وزير ثقافة جديد أن يقدّمه. في المقابل، طلبت من الذكاء الصناعي الشهير (تشات جي بي تي) الطلب نفسه فكتب لي: ” خلال حفل تنصيبه، ألقى محمد صالح، وزير الثقافة السوري الجديد، كلمة افتتحها بآيات من القرآن الكريم وأبيات شعرية، مؤكّداً أن سورية للجميع بكل أعراقهم ومنابتهم، وأن وزارة الثقافة ستعمل على تعزيز ثقافة الخير والإحسان. كما أشار إلى تجربته في نقل معاناة السوريين عبر قناة الجزيرة، معبراً عن فخره بكونه جزءاً من مرحلة جديدة في تاريخ سورية”. ثم سألتُه عمّ يمكن أن يكون قصد الوزير في ذكره ثقافة الخير والإحسان، فردّ مختصراً: “قد يكون يقصد بذلك تعزيز قيم التسامح والتعاون والتضامن بين السوريين بمختلف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها سورية”.

وكما تلاحظون، عجز أشهر ذكاء صناعي عن فهم ثقافة الخير التي ذكرها وزير الثقافة السوري الجديد الذي بدأ عهده بأبياتٍ من قصيدة عمودية ركيكة تستعيد أمجاد الماضي إلى حاضر يراه مستمرّاً إلى يوم القيامة. … خلال الأشهر الماضية، نظمت مجموعة لا بأس بها من مثقفي سورية (مخرجين ومسرحيين وسينمائيين وكتّاب وتشكيليين وصحفيين وعاملين في السياسات الثقافية في الداخل والخارج) ما يشبه تجمّعاً من دون إطار رسمي لمحاولة إنقاذ ما يمكن من الثقافة السورية العريقة التي تهاوت خلال سنوات الحرب، وتحوّلت إلى ثقافةٍ تمجّد القتل والقاتل؛ وانتخب مجموعة منه للتواصل مع مندوبين عن سلطة الأمر الواقع وقتها للبحث في شأن الثقافة السورية، ولتسهيل إقامة فعاليات ثقافية متنوّعة، وبحث شؤون النقابات والمعاهد الفنية، كما قدّم التجمّع خطّة عمل متكاملة، تتفوّق فعلا على خطة الذكاء الصناعي السابقة. ويمكن لأي حكومة جديدة لديها رغبة حقيقية بإعادة بناء المجتمع السوري أن تعتمدها لما فيها من ثراء وتنوع وشمولية. لكن الأحداث التالية بينت أن مصير خطّة العمل تلك كان الإهمال والإتلاف. فالتعيين المفروض لأعضاء النقابات، بدلا من الانتخابات كما يفترض أن يحدُث في دولة وليدة على أنقاض دولة استبداد وحكم شمولي، واختيار وزير للثقافة يشيطن، بثقة بالغة، كل الثقافة السورية التي كانت قبل “بني أمية الجدد”، ويرى في المعرفة ترفاً لا ضرورة له، وكل منجزه الثقافي برنامج لا يعتدّ به في قناة الجزيرة، وقدرة على نظم أبيات ركيكة من الشعر العمودي، هو ليس سوى نموذجٍ لما ستكون عليه سورية القادمة وللذهنية التي ستدير شؤونها السياسية والثقافية والاجتماعية.

وبالمناسبة، طالما أن الثقافة بالنسبة للحكام الجدد في سورية هي الإحسان، أما كان ينبغي لهم أن يضمّوا وزارة الثقافة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ما يعطي الوزيرة الوحيدة في الحكومة امتيازاً مضافاً لامتيازاتها الثلاث السابقة؟

العربي الجديد

—————————

اسم المؤلف/ ممدوح عزام

04 ابريل 2025

منذ أن حضر الاسم الواضح في النصوص الأدبية، تبدّلت العلاقة بين المجتمع والسلطة من جهة، والكتابة من جهة ثانية، مثل ما تبدّلت العلاقة بين المؤلّف نفسه وإنتاجه الإبداعي. ففي الحكاية والأسطورة، لم يكن أحد ينشغل باسم المؤلف الذي كتبها، وكان المجتمع عموماً، كما السلطات الحاكمة، متصالحاً مع المضمون أو يميل إلى تجاهله. بينما أصبح اسم المؤلف حاضراً بقوة في الرواية والقصة والمسرحية، كما في جميع الفنون أيضاً كالرسم والموسيقى، وبات المجتمع رقيباً، ومُلاحظاً، وملاحقاً أو مطارداً للمؤلّف والنَّصّ.

يشير اسم المؤلف إلى المسؤولية الأدبية، والفكرية، والأخلاقية في التعبير الأدبي. بينما تتملّص الجماعة، أو المؤلف المجهول للحكاية، والملحمة، والأسطورة، من مثل هذا التقييد أو التبعات. فوجود المؤلّف فيها حقيقيٌّ، إذ لا يوجد نصٌّ شفهيٌّ أو مكتوبٌ دون مؤلّف، واسمه مجهول، ولكن المسؤولية غائبة تقريباً، والرقابة شبه معدومة. وقد يكون هذا الأمر هو الذي جعل السلطة العربية في القرون الماضية كلها تمتنع عن حظر “ألف ليلة وليلة”، كما حدث في عصرنا.

وإضافة إلى ذلك، بات اسم المؤلف اليوم يشغل وظيفة إعلانية أو إعلامية في السوق الضخمة الكبيرة التي يتوافر فيها آلاف الأسماء من الروائيين، والشعراء، والمسرحيين، والنقاد، في العالم كله. ويترتب على الاسم، لا على الموضوع، أو المادة المُقدمة، شعراً، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية، في معظم الحالات التي تعالجها الإعلانات، قراءة خاصة، أو تناولاً مختلفاً عن اسم آخر. وفي مثل هذه الحالات، فإن الكثيرين يقرؤون النصوص، أو يقتنونها، أو يعرضونها في واجهات مكتباتهم، تحت تأثير سلطة اسم المؤلف.

فرواية لماركيز، حتى بعد رحيله، سوف تحظى باهتمام الإعلام في العالم كله، دون أن يعرف أحد بعد مستوى الكتابة فيها أكثر من أي اسم آخر. ومن الذكريات التي يعرفها الجيل الأدبي الذي أعقب مرحلة الستينيات في سورية، أي جيل السبعينيات وما بعد، أنَّ شعراء وروائيي تلك الحقبة هيمنوا بأسمائهم على الحياة الأدبية السورية في العقود التالية، بفضل الإعلام الذي سوّق تلك الأسماء، لأسباب أغلبها سياسي أو حزبي، لا لقيم فنية وفكرية، وكثير من تلك الأسماء لم يعد لهم أي تأثير في الحياة الأدبية السورية أو العربية.

وتزداد هذه السلطة في حال فاز الاسم بإحدى الجوائز المعروفة في العالم، مثل “جائزة نوبل”، أو “جائزة غونكور”، بينما نلاحظ أنَّ المؤلّف العربي أيضاً يكتسب مكانة خاصة، مبنيّة على الشهرة، لدى قطاعات واسعة من القرّاء العرب، في حال فوزه بـ”جائزة البوكر العربية” الأكثر شهرةً ومكانةً اليوم.

من جانب آخر، تميل الرقابة في كثير من البلدان إلى منع مؤلّفات كاتب بعينه، ومن المعروف أنَّ القائمين على معرض الكتاب في سورية في النظام السابق كانوا يمنعون الكتب نسبة لمؤلفيها.

وسواء كنّا نتحدث عن الحضور القوي أو المنع الرقابي، فقد يكون واحداً من الأسباب التي تؤخّر وصول النص الجيد إلى القرّاء في حالة المنع، أو يمارس استبعاداً لغيره حين يهيمن على الساحة الأدبية، ويحرم الأسماء المجهولة التي قد تكون أفضل منه أدبياً وفنياً في حال سيطر الاسم، دون القيمة الأدبية فقط.

* روائي من سورية

العربي الجديد

————————-

اعتداء على فريق “تلفزيون سوريا” في حرستا

الجمعة 2025/04/04

ظهرت مراسلة “تلفزيون سوريا” حنين عمران، في بث مباشر عبر صفحتها الشخصية في “فايسبوك” وهي داخل سيارتها في مدينة حرستا بريف دمشق، لتروي تفاصيل المضايقات والتهديدات التي تعرضت لها مع زميلها المصور أثناء محاولتهما إعداد تقرير ميداني في المنطقة.

وقالت عمران في البث المباشر الذي ظهرت فيه بحالة من الانفعال والاستياء، أن “ضابط أمن” تابع للمجلس التشريعي في المدينة، اعتدى على المصور وسحب منه البطاقات الصحافية، أثناء محاولتهما توثيق شكاوى من سكان المدينة بشأن “تجاوزات المجلس”.

وأشارت عمران إلى أن الضابط الذي يُدعى أبو ماجد، ويُعرف عن نفسه كعضو في “مجلس الشورى” المحلي المكلف بإدارة الشؤون الإدارية، قام بالتدافع مع المصور طاهر عمران وسحب البطاقات الصحافية منه، مضيفة أن “حرستا تبدو خارجة عن سلطة الدولة وعن القانون”، ودعت وزارة الإعلام السورية إلى التدخل.

وفي مقطع الفيديو، ظهر أبو ماجد وهو يطلب منها المغادرة، زاعماً أن البطاقات الصحافية التي بحوزتها “غير صادرة عن وزارة الإعلام”، بينما هددها شخص آخر قال أنه من مجلس الشورى، بأن “لا يُسمح لها بمغادرة حرستا” إن لم تتوقف عن البث المباشر، في تهديد اعتبرته عمران صريحاً ومباشراً ضدها.

وأضافت عمران أن ما تعرضت له “استعراض للقوة” من جهة لا تخضع لأي سلطة رسمية، وقالت أن هذه الممارسات تعيد إلى الأذهان الأساليب الأمنية التي كانت سائدة في عهد نظام الأسد السابق. ونقلت عن أبو ماجد قوله لها من نافذة السيارة: “أنتِ تتجاوزين حدودك”، معتبرة أن هذه الحادثة “برسم وزارة الإعلام”، فيما تحدثت عن اعتداء جسدي ولفظي بحق المصور المرافق لها أيضاً.

وأوضحت عمران في منشور لاحقاً، أن أشخاصاً من وزارة الداخلية والأمن العام تواصلوا معها، وأبلغوها أن الشكوى وصلت، وتم التعهد بحل القضية. وذكرت أنها حذفت مقطع الفيديو “احتراماً لخصوصية المدينة”، مؤكدة أن هدفها لم يكن إثارة الجدل أو الإساءة لأي جهة، بل فقط إيصال الشكوى. وشكرت كل من تضامن معها، وأوضحت أن المعتدين ينتمون إلى “مجلس الشورى” وليس إلى الجهات الرسمية التابعة للأمن العام.

وبحسب ناشطين، فإن “مجلس الشورى” هو كيان محلي غير رسمي، يتألف من أفراد من سكان المدينة، يتولون إدارة الشؤون اليومية، ويشبهون إلى حد ما “اللجان الشعبية” التي كانت تعمل زمن نظام الأسد. وأشار بعض المعلقين إلى أن أعضاء المجلس يرتدون زياً عسكرياً ويحملون السلاح، ما يثير تساؤلات حول طبيعته وحدود سلطته القانونية كما أن الاسم يعطي دلالات بأن المجلس ذو طبيعية دينية.

في ضوء ذلك، عبر عدد من المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي عن استيائهم مما جرى مع عمران، معتبرين أن الحادثة تمثل استمراراً للممارسات القمعية السابقة. وكتب أحدهم: “نعم، إنها سوريا الحرة يا سادة”.

من جهته، أعرب المراسل كنان البريهي، زميل عمران في القناة، عن تضامنه معها في منشور قال فيه: “صديقتي وزميلتي حنين، أنتِ جزء من هذه الثورة العظيمة، والثورة السورية فخورة بك”.

ويعتبر “تلفزيون سوريا” من أبرز المنصات الإعلامية المعارضة لنظام الأسد، ولعبت دوراً محورياً في تغطية معارك “ردع العدوان” عقب سقوط النظام، ويغطي مراسلوها مختلف المناطق السورية، بينما تبث القناة برامجها من مقرها في تركيا.

وعملت عمران مراسلة لـ”تلفزيون سوريا” من داخل دمشق منذ قبل سقوط النظام، وكانت آنذاك تمارس عملها الصحافي بسرية تامة، ما عرضها لاحقاً للاعتقال من قبل أجهزة الأمن السورية.

——————————–

عن فنجان قهوة حلمت به في بيت أمّي لعشر سنوات/ زينة قنواتي

03.04.2025

لماذا كان على السوريين أن ينتظروا 14 عاماً كي يلمسوا حرّيتهم؟ لماذا كان يجب أن نفقد كلّ تلك الأرواح، وأن يُعذّب البشر في مسالخ عائلة مستبدّة، وأن نرى شكل الجحيم الحديث، وأن نُدكّ في السجون، ونُحرم من كلّ حقوقنا؟

استغرق الأمر إذاً قرابة عشر سنوات، كي أتمكّن من شرب فنجان قهوة عربية في مطبخ أمي. هناك حيث تشرق شمس البلاد الدافئة، وتغرق المدينة في العتمة في غياب التيّار الكهربائي مساء. هناك حيث امتلأت الجدران أخيراً بصور المفقودين والمغيّبين والمقتولين، عوضاً عن صور الرئيس، التي كانت سابقاً تملأ شوارع المدينة. انقضى جزء طويل من أعمارنا ونحن ننتظر أن تنتهي الحرب، أن يموت الطاغية، أن يختفي، وأن نعود لنلمس مدننا.

كانت حياتي حتى لحظة 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، مجروحة ومقطّعة الأوصال، كنت أتعايش مع جرح بدا كأنه أبدي، جرح النفي والغربة والعزلة.

في أوروبا، وفي مدن كثيرة قبلها، قمت بتربية طفلين وحدي، وحلمت عشرات المرات أن تحملهما أمّي معي، وأن يكون لعائلتي بيت في مدينتي نفسها، أقضي عندهم مع أولادي عطل نهاية الأسبوع، وأحمل لهم طعام الغداء عندما أطهو طبقاً يحبّونه، وأبكي في حضنهم جرح أمومتي الوحيدة.

كنت أريد أن لا تمرّ السنوات ال 14 الماضية بهذا الكمّ من الوحدة.

لكننا هنا، في لحظة تاريخية، ما زلت أحاول استيعابها، فقد عاشت سوريا وسقط الأسد.

الرحلة إلى دمشق

حطّت بي الطائرة في مطار بيروت، المدينة التي صدمتني أيضاً بآثار الحرب الأخيرة العميقة فيها، والأبنية المهدّمة على طريق المطار في الضاحية الجنوبية.

كان الثلج يتساقط كثيفاً على الطريق، تماماً كما كان عندما غادرت دمشق آخر مرة.

عند النقطة الحدودية بين سوريا ولبنان، توقّف قلبي لحظة عن الخفقان، تذكّرت خوفي من الاعتقال، من الاختفاء، تذكّرت أصدقاء فُقدوا عند هذه النقطة الحدودية.

عبرت بسلام، ومن دون أي أثر للأجهزة الأمنية للنظام السابق، كيف اختفى فجأة؟ كيف هرب؟

هناك سؤال ملحّ عن عدم وجودنا في بلدنا، وعن وجود هذا النظام فيها لكلّ تلك السنوات، لا يمكنني أن أجيب عنه أبداً…

لماذا كان كلّ هذا؟

لماذا كان على السوريين أن ينتظروا 14 عاماً كي يلمسوا حرّيتهم؟ لماذا كان يجب أن نفقد كلّ تلك الأرواح، وأن يُعذّب البشر في مسالخ عائلة مستبدّة، وأن نرى شكل الجحيم الحديث، وأن نُدكّ في السجون، ونُحرم من كلّ حقوقنا؟

لماذا لم يتوقّف العالم عند أوّل مجزرة قام الأسد بارتكابها؟ أسئلة لا تملك إجابات منطقية، ففي عالم عبثي لا شكّ في أننا لا يمكن أن نبحث إلا عن الإجابات العبثية.

رأيت أمّي وأبي في بيتي الذي ترعرعت فيه أخيراً، عانقتهما بقوّة، وبكينا كثيراً…

لم أكن بصحبة أطفالي هذه المرّة، كانت زيارة مخصّصة لي فقط، فلم أرد أن يعيش أطفالي معي هذه التجربة العاطفية الثقيلة.

استسلمت للنوم تلك الليلة في سرير طفولتي، في غرفتي الأولى، بين كتب مدرستي وقصصي أنا وأختي، وبعض من ألعابنا التي احتفظت بها أمّي كي يلعب بها أطفالنا، لكن أطفالنا كبروا قبل أن تسنح لهم تلك الفرصة.

 كان البرد قارساً، وكانت عظامي ترتجف، لكن قلبي كان دافئاً كالحطب.

 سُرقت منا أعمارنا بعيداً عن سوريا، وليس فقط بيوتنا وأحبابنا.

فمن يُعيد لنا ذلك الزمن؟

الصباح الأول في دمشق

أُطلّ من النافذة التي حلمت بها سنين طويلة، على كنيسة وجامع قديمين، ونخلة محمّلة بثمار حمراء غضّة، وحديقة وأساطيح دمشقية، امتلأت بألواح الطاقة الشمسية التي أصبحت مصدر الطاقة الوحيد للعائلات القادرة على شرائها.

عند النافذة أستعيد ذاكرتي وحياتي، هل كانت تبدو كذلك دوماً؟ أسأل عن الجارة المقعدة التي كانت تجلس كلّ طفولتي عند نافذتها على كرسي متحرك…

تغيّر الزمن، ولم يعد كثير ممن كنت أعرفهم أحياء على أية حال.

تصحبني أمّي في يومي الأول إلى دمشق القديمة، أتذكّر شيئاً لم أُدرك قبل أني نسيته، كان هذا طريقاً دائماً لي ولأمّي، نتسوّق، ونشرب قهوتنا، ونمشي طويلاً تحت سقف سوق الحميدية الأثرية، وعند حمّامات خان أسعد باشا نجلس صامتتين.

 ما الذي يمكن أن نقوله عن كلّ ما جرى؟ لا شيء…

يملأني الفرح للحظات، قبل أن أُدرك كمّ الدمار والقسوة والفقر، الذي وصلت إليه هذه البلاد.

 للجوع وجوه في دمشق، خلّفتها سنوات الحصار والقحط والقهر، وجوه لم أرَ مثل ملامحها قبلاً، منكفئة نحو الجوف، بطبقات جلد مترهّلة متراكمة فوق عظام الوجوه النحيلة.

وللكرامة أيضاً وجوه في دمشق، في الرغبة الملحّة على استمرار الحياة، في الأمل المعقود على تحقيق العدالة ولو جزئياً، بالحب الملازم للقاء العائدين من غربة قسرية ومنافٍ كانت تبدو أبدية.

أشمّ رائحة دمشق الممتزجة بالمازوت ودخان السيارات والبهارات والشاي. وأفكّر في كلّ تلك المساحات التي قُصفت فوق رؤوس قاطنيها، أي جرح هذا الذي سيُمحى من قلوب من عاشوه؟

أستوعب أيضاً أن عائلتي قد نجت من كلّ ذلك الموت، وأن كلّ من بقي في سوريا هو ناجٍ من موت كان ساكن البلاد.

لا أنام خفيفة تلك الليلة، تُثقلني آلام المدينة، وأبكي كلّ ما فقدت.

يزداد شعوري بالبرد يوماً بعد آخر، وفي ازدياد انقطاع الماء والكهرباء، اللذين يصلان إلى البيوت بصعوبة لمدة ساعتين متفرّقتين يومياً، تبدو الحياة أصعب مما يمكن تخيّله.

فصل جديد من العمل

عملت خلال السنوات الثمانية الماضية، التي تلت تخرّجي في جامعة الإعلام في تشيكيا، في منظّمات نسوية، تُعنى بشكل مباشر بحقوق النساء السوريات، وتوثيق الانتهاكات التي يواجهنها تحت وطأة الحرب والعسكرة، والقوى المتصارعة التي توزّعت في سوريا، وطغى عليها الوجه القاتم للذكورية. فقد فجّرت سنوات الحرب، صراعات داخلية، وعمّقت في نواحٍ كثيرة دوائر العنف المتوارثة، التي أطبقت على حياة النساء السوريات بشكل مباشر.

 لكنهن مضين في النضال، ورغم أن نضال النساء السوريات كان مقيداً، وضيّقاً ما بين القصف والنزوح والتهجير والنفي والاعتقال والقتل أيضاً، إلا أنهن استمررن في العمل.

شعرت لحظة سقوط النظام السوري البائد، بأن كلّ ما عملنا لأجله أصبح له معنى، وأننا سنرى الشمس، أو شعاعاً منها على الأقل.

لم آتِ إلى دمشق في رحلة شخصية فقط، لكنني أتيت لأقابل نساء خارجات من المعتقلات، وأوثّق قصص نجاتهن، وخياراتهن الشجاعة في الوقوف في وجه الطاغية، لأسأل عن تلك الشجاعة التي تقودهن إلى العمل تحت رهبة الموت والتعذيب؟

وعن الوصمة التي تواجههن في المعتقلات وبعد تحرّرهن منها، وأي أعباء يحملن فوق أكتافهن اليوم؟

ورغم قتامة المشهد، أرى الأمل يتسلّل إلى وجوههن…

الأمل؟

سألت نفسي مراراً في دمشق عن معنى الأمل، إن كان هناك ما يدفعنا إلى التمسّك به؟

اكتشفت أننا لا نملك خياراً آخر.

في بلاد سُويت أجزاء كبيرة منها بالأرض، ومُسحت وجوه أصحابها، هل نملك سوى الأمل كي نبقى أحياء؟

التقيت صديقة حياتي في دمشق، لمى، بعد عشر سنوات من الغياب، أردت وأنا أجلس أمامها ودموعي تتساقط على وجنتيّ بغزارة، أن أقول لها: اشتقتلك… أردت أن أُخبرها كم كانت حياتي لتكون أحنّ لو أنني كنت قربها، وقرب كلّ من أحبّ.

قالت لي لمى: “لم أتوقّع أن نلتقي مجدداً أبداً، فقد أصبح حلم زيارتك دمشق ضرباً من الخيال، كما أصبح كثير من أمنياتنا أحلاماً”.

تحقّق إذاً بعض خيالاتنا، فهل يمكن أن تكتمل الصورة المنكسرة للسلام الذي ننتظره لسوريا؟

الصورة لـ: غيفارا نمر

العودة

أوضّب حقيبتي ليلاً بين أمّي وأبي على السجّادة الصوفية، قرب مدفأة مازوت صغيرة بالكاد تقوم بتدفئة نفسها. أختار من المكتبة الواسعة، كتابي المفضل لإيزابيل ألليندي “الحب والظلال”، لأحمله معي إلى برلين أحدث مدن غربتي، حيث أعيش منذ عام ونصف العام.

في ذلك الكتاب قرأت للمرة الأولى في طفولتي عن مقبرة جماعية، كان مفهوماً صاعقاً بالنسبة لي، ولم أتوقّع أنني سأمشي يوماً في مدينتي الجميلة فوق مقابر جماعية، ربما تحمل عظام أصدقاء مدرستي، وأهل مدينتي، وأطفال لم يتسنَّ لهم بعد أن يفكّروا بطعم الخبز والزعتر، وحلوى الشارع الرخيصة.

الصورة لـ: غيفارا نمر

تردّد أمي على مسمعي، وهي تحدّث نفسها: “متل الحلم… جيتك لعنا متل الحلم”.

أفتح الصفحة الأخيرة من كتاب “الحب والظلال”، فأقرأ:

“على ضوء الفجر الذهبي، توقّفا لينظرا إلى أرض وطنهما للمرة الأخيرة

فهمست إيرين:

هل سنعود؟

رد فرانشيسكو:

سنعود

وسترسم هذه الكلمة مصيرهما خلال السنوات التالية:

سنعود، سنعود”

زينة قنواتي/ مسؤولة التواصل في منظّمة “وومن فور وومن إنترناشيونال”، لم تتمكّن من زيارة سوريا في السنوات العشرة الماضية، بسبب ناشطيتها وعملها من أجل دعم حقوق النساء السوريات ضد حكم بشار الأسد.

درج

—————————

الشرع والسوداني وبيانهما/ مصطفى فحص

4 أبريل 2025 م

مبادرة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالاتصال بالرئيس السوري أحمد الشرع مهنئاً بتشكيل الحكومة السورية الجديدة، خطوة شجاعة في طريق إعادة بناء الثقة بين الحكومتين بعد عقود من العداء السياسي الذي أسس له نظاما «البعث» في دمشق وبغداد، وتحول في مرحلة صعبة إلى عداء عقائدي كاد يطيح بكل الروابط الإنسانية والاجتماعية والثقافية والدينية بين الشعبين.

لكل من الطرفين معاناته على جانبَي الحدود؛ إذ عانى العراق منذ 2003 من الممر السوري الذي استُخدم لتصدير الإرهابيين إليه بإشراف وتنظيم من نظام آل الأسد، حيث بلغت ذروته في 19 أغسطس (آب) 2009، في ما سُمّي بأحداث الأربعاء الأسود، والتي دفعت رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى اتهام النظام السوري بالوقوف خلفها، وطلب من مجلس الأمن تشكيل لجنة تحقيق مستقلة وتقديم المرتكبين إلى محكمة الجنايات الدولية.

في المقابل، عانى الشعب السوري كثيراً من تدخل الجماعات المسلحة العقائدية، العراقية وغير العراقية، دفاعاً عن نظام بعثي يرتكب إبادة جماعية بحق شعب يطالب بالحرية، ويحمل هذه الجماعات مسؤولية تأخير سقوطه عدة أعوام ارتُكبت خلالها مجازر لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة السوريين.

إنسانياً وأخلاقياً، لا يمكن التمييز أو التفضيل بين بعثَين، ولا التفضيل بين سلفية جهادية سنية وأصولية جهادية شيعية؛ من قمع «الانتفاضة الشعبانية» سنة 1991 إلى ثورة الشعب السوري 2011، وما بينهما من مجازر وارتكابات في كلا البلدين، ارتُكبت باسم الدين والعقيدة، وكادت تطيح بكل الروابط الجامعة بين شعوب المنطقة، وليس فقط بين الشعبين السوري والعراقي.

بالعودة إلى الاتصال وأبعاده الإنسانية المتعددة، كبادرة حسن نية لِلَملمة الجراح بين الشعبين؛ فهو يساهم في رأب الصدع وتجاوز ماضٍ أليم بمحطاته الدموية، ويشكل مصلحة تؤسس لعلاقة حسن جوار واستقرار سياسي وأمني تحتاجهما العاصمتان اللتان تربطهما مصالح جيوسياسية واقتصادية، باعتبارهما ممراً أساسياً لجوار عربي وإسلامي يملك الكثير من المشتركات.

يُسجَّل للرئيسين الشرع والسوداني شجاعة استثنائية في قرار التواصل وتحمل أعبائه الداخلية نتيجة مواقف الرؤوس الحامية في الجهتين من دعاة القطيعة والانتقام. فالمرونة التدريجية والخطوات السريعة والمبكرة في الاتجاهين ساعدت على إنضاج العلاقة الضرورية، بدءاً من الزيارة المبكرة لمدير المخابرات العراقية حميد الشطري، إلى دور الوسيط العراقي عزت الشاهبندر، ودور القيادة الكردية في أربيل، والموقف المبكر للزعيم العراقي مقتدى الصدر عشية سقوط الأسد، وتأكيده على حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وصولاً إلى زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بغداد، واحتمال مشاركة الرئيس الشرع في القمة العربية المقبلة في بغداد.

وضمن خطوات رأب الصدع، استقبل الشرع في 29 من الشهر الفائت وجهاء ورجال دين من المسلمين الشيعة السوريين. هذا اللقاء من شأنه تعزيز الحوار الوطني، ودحض إشاعات المتطرفين من الجهتين، خصوصاً كلام الشرع عن حرية المعتقد، وتشديده على «قدسية مرقد السيدة زينب بنت عليّ لدى الرئاسة السورية»، وقوله إنه شخصياً متعلق به منذ صغره، وسيزوره عمّا قريب، مؤكداً أنه ترك إدارة المراقد الشيعية لأبناء الطائفة ليديروها ويتصرفوا بها. فكلامه عن المرقد يشير إلى أن الشعب والحكومة السوريين هما من يحميان المقدسات، وليس افتعال سرديات معاكسة كانت ذريعة لحماية نظام مجرم.

وهنا تعود الذاكرة إلى بيان رجلَي الدين الشيعيين اللبنانيين الراحلين: العلامة هاني فحص، والعلامة محمد حسن الأمين، في شهر أغسطس (آب) 2012؛ أي قبل نحو 13 سنة، وإعلان تأييدهما المطلق لثورة الشعب السوري ومناصرتهما غير المترددة لها. يُضاف إليه رسالة العلامة فحص الشهيرة قبل وفاته إلى قيادة «حزب الله» في 5 أغسطس 2014 حول تدخلهم في سوريا، والتي قال فيها: «إن الطريقة التي اتبعتموها لنصرة حبيبكم النظام ورئيسه في سوريا، قد لا تنهض فوائدها الزهيدة لتنهض بقليل جداً من أضرارها العميقة على سوريا ولبنان والعراق وعليكم».

وعليه، يُفتح مسار جديد في العلاقة بين الدولتين، فيه كثير من الألغام والمكايد ومشاريع التقسيم والفتن التي ذهب ضحيتها أبرياء كثر، آخرهم أهلنا في الساحل. لكن في المقابل، هناك من نَبَّه وأسس مبكراً لإمكانية الصلح والتصالح الذي يحتاج إلى قرارات شجاعة.

الشرق الأوسط

—————————–

وريث أرض الشام/ سليمان جودة

 3 أبريل 2025 م

أعتقد دائماً في صدق العبارة التي أطلقها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فقال: «أظهروا لنا أحسن ما عندكم، والله أعلم بالسرائر». ولو شاء أحد أن يختار عنواناً للحكومة السورية الجديدة التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع قبل عيد الفطر بيومين، فلن يجد أفضل من هذه العبارة، لأنها بالنسبة إلى الحكومة بمثابة الشيء الذي يقال عنه إنه يوافق واقع الحال.

وعندما قال الرئيس الشرع إنه «سعى قدر المستطاع لاختيار الأكفأ»، وإنه «فضّل المشاركة على المحاصصة في الاختيار»، فإنني أجده صادقاً فيما قال، وبالذات فيما يخص تفضيل المشاركة على المحاصصة في تشكيل الحكومة. ولا أعرف ما إذا كان اعتراض الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي البلاد على تشكيلة الحكومة، سوف يعطل الاتفاق الذي وقَّعته «قوات سوريا الديمقراطية» مع الشرع، أم أن هذا شيء وذاك شيء آخر؟

إنك إذا تطلعت إلى العراق فلن تحتاج إلى جهد كبير لترى عواقب المحاصصة، وإذا تطلعت إلى لبنان فلن تحتاج إلى جهد كبير أيضاً لترى عواقب المحاصصة نفسها، وبالتالي فإن محاولة الإفلات من هذه العواقب في تشكيلة الحكومة السورية الجديدة أمر يجب أن يُحسب للإدارة في دمشق، كما يجب أن نظل نحسب ذلك في ميزان هذه الحكومة الآن على الأقل، ثم إلى أن نرى أثر التجربة في حياة الناس هناك.

كَمْ يتمنى المرء لو أن رئيس الوزراء في بغداد يجري اختياره على أساس عراقيّته وحدها، وليس على أي أساس آخر يتصل بانتمائه إلى طائفة بعينها. وكَمْ يتمنى المرء لو أن هذا هو الحاصل في منصب رئيس البرلمان، وكذلك في موقع رئيس الدولة. كَمْ هو ثقيل على الأُذن أن تسمع كلمة سُني، أو شيعي، أو كردي، وأنت تستعرض الأسماء التي تشغل هذه المواقع الثلاثة. فعراقيّة المواطن في بلاد الرافدين أشمل وأجمل، وهي تساوي بين الكل إذا تعلق الأمر بما على كل مواطن من واجبات أو بما له من حقوق، ولا شك في أن المواطنة بصفتها مبدأ تبقى مظلة كافية لأن تمتد فوق الجميع، فتكون كأنها السقف الذي يحمي ويُظلّل ويحتوي.

وكَمْ يتمنى المرء في لبنان ما يتمناه في العراق، ولكن المحاصصة المقيتة كانت ولا تزال تُفسد على الأشقاء في البلدين حياتهم، وكانت ولا تزال تُفرِّق ولا تجمع. فالمشاركة هي الصيغة الأفضل، لأنها لا تتطلع في بيانات البطاقة الشخصية لكل مواطن إلا إلى جنسيته، وما عداها لا يهم ولا يجب أن يهم.

من علامات المشاركة التي قصدها الشرع وهو يتحدث عن حكومته الجديدة، أن فيها وزيراً كردياً للتعليم، وأن فيها وزيرة مسيحية للشؤون الاجتماعية، وأن فيها وزيراً علوياً للنقل، وأن فيها وزيراً درزياً للزراعة.

هذه صيغة أفضل بالتأكيد، لأن المعنى أن الأكراد والمسيحيين والعلويين والدروز موجودون في الحكومة، وأن أساس الوجود في الحالات الأربع هو المشاركة لا المحاصصة. ولكن الشيء المؤسف أن الإدارة الذاتية الكردية اعترضت، وأنها وصلت في اعتراضها إلى حد قولها إنها ليست معنية بتنفيذ قرارات هذه الحكومة.

هذا شيء مؤسف لأن دمشق تتكلم عن المشاركة، بينما الإدارة الذاتية الكردية تتكلم عن المحاصصة، التي لم تظهر في أي بلد إلا أفسدت الحياة فيه، لأن الانتماء في الحالة الثانية إنما هو إلى الطائفة، لا إلى الوطن بكل ما يعنيه من رحابة، ومن امتداد، ومن اتساع.

ومما قاله الشرع وهو يتعرض للانتقادات التي طالت حكومته، إن إرضاء الكل ليس ممكناً، وإنه حاول الإرضاء ما استطاع. وهذا صحيح إذا تطلعنا إلى ما يقوله بمنظار عبارة الخليفة الراشد الثاني، ولكن لأن الشرع يجلس في عاصمة الأمويين، فإن «شعرة معاوية» الشهيرة يجب ألا تفارق يديه.

«شعرة معاوية» لا بد أن تكون حاضرة أمام الشرع في قصر الشعب طول الوقت. فالذين يتربصون بسوريا كثيرون، والذين خسروا نفوذهم فيها لا يسلِّمون بالخسارة، والذين استثمروا فيها على مدى سنين يصعب عليهم أن يكون استثمارهم بغير عائد، والسوريون الذين فقدوا كل شيء أيام نظام الأسد يريدون الآن كل شيء أيضاً.

كل سوري – كردي مدعوٌّ إلى أن يترفق بسوريا لأنها وطنه الأم، وكذلك كل مسيحي وعلوي ودرزي، لأن حضن الأم أوسع من حاضنة الطائفة، ولأن الروح المعنوية في «شعرة معاوية» هي التي لا بد أن تكون بوصلة لدى الطرفين. فإذا شدها الشرع اليوم فليس أمام الطرف الثاني إلا أن يُرخيها، وإذا أرخاها الطرف الثاني فإن دمشق سوف يكون عليها أن تشدها، ولا يوجد خيار آخر إلا أن تنقطع الشعرة، لا قدَّر الله.

الشرق الأوسط

—————————–

سوريا أمام مهمة عاجلة لاحتواء المقاتلين الأجانب/ طوني فرنسيس

ما يقرب من نصف المسلحين رحلوا إلى إيران والبقية قيد الاستيعاب والاحتواء

الجمعة 4 أبريل 2025

كان نظام الأسد سباقاً إلى الاستعانة بمقاتلين أجانب عندما لجأ في وقت مبكر إلى إيران لقمع احتجاجات السوريين، وأرسلت طهران من سمّتهم “مستشاريها” على رأس ميليشيات مذهبية من دول عدة أسهمت في تعميق إضفاء الطابع الديني- المذهبي على الصراع.

تواجه السلطات الجديدة في سوريا سلسلة من التحديات التي عليها حلها بسرعة لتقصير فترة المرحلة الانتقالية وجعلها معبراً فعلياً نحو سوريا الموحدة المستقلة، وطناً يتسع لكل أبنائه الذين هبّوا طوال أكثر من 14 عاماً للخلاص من نظام ديكتاتوري فئوي.

وعلى رغم الخطوات الكبيرة التي خطتها القيادة الجديدة المنتصرة نتيجة معارك نهاية العام الماضي، فإن انقسامات بارزة لا تزال قائمة في الجسم السوري، حيث لا تزال قوى مسلحة تعمل خارج سلطة القيادة في الشمال والجنوب وحيث يحتاج الاتفاق المبدئي الموقع مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى مزيد من الجهود لترجمته على أرض الواقع، فيما تطرح المشكلة الدموية مع العلويين ضرورة بتّ مسألة علاقة السلطة بالأقليات، وهي مشكلة قابلة للحل بقدر ما يمكن أن تتحول إلى صاعق يفجر المجتمع السوري ويطيح بأحلام قيام الدولة السورية الموحدة .

لقد أدت صدامات الساحل في مارس (آذار) الماضي إلى مقتل المئات، أكثرهم في مجازر ذات طابع طائفي، وقيل إن مرتكبي المجازر هم في أكثريتهم ممن لا ينتمون إلى قوات الشرعية الجديدة، بل إن بينهم كثيراً من الأجانب “المهاجرين” المنضوين في تنظيمات مصنفة إرهابية على المستوى الدولي، وأدى سلوكهم الدموي إلى موجة تهجير جديدة طاولت الآلاف من أبناء الطائفة العلوية الذين قصدوا لبنان، حيث سبقهم إليه مئات آلاف السوريين السنّة هرباً من بطش نظام بشار الأسد الذي ينتمي إلى تلك الفئة المكلومة الآن.

كان نظام الأسد سباقاً إلى الاستعانة بمقاتلين أجانب عندما لجأ في وقت مبكر إلى إيران لقمع احتجاجات السوريين، وأرسلت طهران من سمّتهم “مستشاريها” على رأس ميليشيات مذهبية من دول عدة أسهمت في تعميق إضفاء الطابع الديني- المذهبي على الصراع.

أتت هذه التركيبة بـ”حزب الله” من لبنان و”فاطميون” من أفغانستان و”زينبيون” من باكستان وغيرهم من بقاع النفوذ الإيراني، وقاتل هؤلاء تحت شعارات مذهبية أبرزها “حماية المراقد المقدسة” لدى الشيعة وشمل قتالهم مناطق سورية واسعة، مما أدى إلى تشتيت أهلها داخل البلاد وخارجها.

وخرجت إيران ومستشاروها ومعها ميليشياتها من سوريا مع فرار الأسد إلى موسكو، وعاد “حزب الله” منهكاً تحت الضربات الإسرائيلية للبنان، وفرّ ما يزيد على الفي مقاتل من الأفغان والباكستانيين بسلاحهم إلى العراق حيث يدور نقاش حول مصيرهم يتناول نزع سلاحهم إلى جانب نزع سلاح الميليشيات العراقية أو ترحيلهم إلى إيران، حيث الجهة التي تديرهم، الحرس الثوري الإيراني.

وفازت “هيئة تحرير الشام” في المعركة وكانت التنظيم الرئيس الذي أعد للحظة الفوز تلك، لكن كثيراً من المنظمات الأخرى كانت موجودة لمشاركتها النصر، وهناك مقاتلون جاؤوا على مدى الأعوام الماضية إلى سوريا يحملون أفكاراً تراوحت ما بين فكر تنظيم “القاعدة” ومشروع تنظيم “داعش” المهزوم خلال معركته الأخيرة في العراق وبعد ذلك في سوريا، وأتى هؤلاء من أكثر من 18 دولة، فبعضهم انضوى تحت لواء “الهيئة” مثل “أجناد القوقاز” (في أرياف حلب وإدلب وجبال الساحل) و”عصائب الإيغور” و”حراس الدين” الذي يضم أردنيين وأتراكاً ومغاربة ومصريين وتونسيين .

التنظيم الأخير تأسس عام 2018 كأحدث فروع “القاعدة” في بلاد الشام وحاول أن يخلف “جبهة النصرة” التي خرجت من “القاعدة” وتحولت إلى “هيئة تحرير الشام”، فاصطدم معها إلى أن أعلن حلّ نفسه في الـ28 من ديسمبر (كانون الثاني) عام 2024 لأن “المهمة في سوريا انتهت بعد تحرير أرض الشام من الطاغية”، على ما جاء في بيان التنظيم.

وكان الرئيس أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) لاحق “حراس الدين” في مناطق نفوذه، وواصلت الولايات المتحدة اصطياد قادته بعدما اعتبرت أن إجراءات حلّه بقيت شكلية.

وحاولت السلطات الجديدة احتواء المقاتلين الأجانب الذين ساعدوا في تأمين انتصارها على النظام، ولم يكُن في الأمر ما يفاجئ، فالأسد، على ما قيل وزّع جنسيات ومكاسب على عناصر في الميليشيات التي قاتلت إلى جانبه، وفي التاريخ شواهد وأمثلة عن مقاتلين أجانب جرى احتضانهم في بلدان خاضوا معارك من أجلها.

“الفيلق الأجنبي” الفرنسي الذي تأسس عام 1830 مثال على ذلك، وفي التاريخ الأقرب نال مقاتلون إلى جانب المقاومة الفرنسية ضد الألمان الجنسية الفرنسية، والنموذج الأبرز والأقرب ربما يكون الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا الذي قاتل إلى جانب فيديل كاسترو، فحاز الجنسية الكوبية ثم أصبح وزيراً في هذه الدولة.

وتختلف الظروف والتوجهات بين بلد وآخر أو حال وأخرى، لكن الثابت أن المقاتلين الأجانب لم يتحولوا يوماً إلى صناع قرار في البلدان التي عملوا فيها، وتجربة “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا” مثال بارز.

في سوريا كان توجه السلطة الجديدة احتضان الأجانب الذين ساعدوا في فوزها ومحاولة ضبطهم، وهذا ما كان يعنيه المرسوم الذي أصدره الرئيس أحمد الشرع نهاية العام الماضي والذي تضمن ترقية ستة جهاديين أجانب من بين 49 رفّعوا إلى مناصب عليا في الجيش الجديد، وبين هؤلاء ألباني وأردني وطاجيكي وآخرين من بينهم إيغوري وتركستاني وتركي.

وكانت هذه الترقية خطوة تنسجم مع ما يعتبره الشرع احترام “تضحيات” الأجانب والإصرار على احتوائهم مع جماعاتهم في أطر وزارة الدفاع الجديدة، وما على هؤلاء في حال رفضهم الاندماج سوى البحث عن حلول أخرى تراوح ما بين العودة لبلدانهم واللجوء إلى دول أخرى أو “الهجرة” إلى ساحات قتال جديدة تستجيب لأفكارهم ومصالحهم، مما كانت مجموعة شيشانية فعلته عام 2023 (“أجناد القوقاز”) عندما انتقل 170 عنصراً منها إلى أوكرانيا للقتال ضد الروس، خصوصاً ضد قوات الرئيس الشيشاني رمضان قديروف ذراع موسكو في معارك أوكرانيا.

لكن الاحتواء ليس عملية سهلة إزاء جماعات تقودها أفكار دينية لا تعترف بالأوطان ويسهل اختراقها من أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية كافة، فأثناء اشتباكات الساحل السوري ظهر أن قسماً من المقاتلين الأجانب، فضلاً عن مجموعات تتبع الأجهزة التركية في الشمال، قاما بدور أساس في ارتكابات تخطت حدود عملية ضبط النظام.

وتحدثت تقارير إعلامية عن قيام “جهاديين” قرغيز وأوزبك وشيشان، كانوا طردوا من الساحل مطلع العام، بارتكاب مجازر إثر تلبيتهم “النفير العام”، وإلى جانبهم برز دور فصائل موالية لتركيا في فرقة “سليمان شاه” المعروفة بـ”العمشات” وفرقة “الحمزة” (الحمزات) وهما جزء من “الجيش الوطني” الذي تدعمه تركيا لخوض معاركها ضد الأكراد.

وأظهرت تلك الاشتباكات أخطار الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها “الأجانب” في السياسات الداخلية لسوريا، خصوصاً مع حتمية التوصل إلى حلول سلمية للانقسامات القائمة، ولم تلغِ مخاوف قوى دولية وإقليمية من إعادة تنشيط هؤلاء على جبهات عدة، ولذلك اختارت أميركا والاتحاد الأوروبي وقبلهما المجموعة العربية دعم حكومة الشرع، فهي المسؤولة أولاً وأخيراً عن إعادة بناء بلادها ومنع تحولها إلى بؤرة للفوضى والإرهاب.

(اندبندنت عربية)

———————————

المقاتلون الأجانب ما بين الفصائل السورية و”داعش”/ عبد الحليم سليمان

استغل تنظيم “القاعدة” في العراق تدهور الأوضاع مع بدء الاحتجاجات الشعبية وتحولها لمواجهات مسلحة ودخل إلى ساحة القتال لمساندة الحركات المعارضة

الجمعة 4 أبريل 2025

لم يشهد التاريخ السوري الحديث نشاطاً لحركات إسلامية مسلحة إلا في ثمانينيات القرن الماضي وكانت على علاقة بجماعة “الإخوان المسلمين” لتعود مجدداً مع المواجهات بين المعارضة والنظام السوري عام 2011 ثم تصل إلى أقصى تشددها مع سيطرة مقاتلين على مناطق واسعة في البلاد، بخاصة مع ظهور تنظيم “داعش” وتوافد عشرات آلاف المجاهدين الأجانب إلى الأراضي السورية.

يعود تاريخ تدفق المقاتلين الأجانب إلى الفصائل السورية للأشهر الأولى من الحرب في سوريا عام 2011، وحمل هذا الانضمام طابعاً قتالياً مناصراً للسوريين في مواجهة قوات نظام بشار الأسد، ولا سيما بعدما تحولت الاحتجاجات الشعبية إلى مواجهات مسلحة في معظم المناطق.

ويعود تاريخ العمل المسلح الديني لتنظيم “الطليعة المقاتلة” التابع لـ”الإخوان المسلمين” الذي تأسس في نهاية الستينيات من القرن الماضي ودخل في مواجهات عدة مع نظام الأسد الأب، إلا أن ذروته كانت معركة حماة عام 1982، معتمداً بذلك على تاريخ السلفية التي برزت في سوريا خلال عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته والتي كانت في حيز فكري من دون الولوج في السياسة والحياة العامة.

ولعل دخول المقاتلين الأجانب إلى سوريا ليس الظاهرة الوحيدة من نوعها في الصراعات المسلحة فإنه يعتبر جهاداً دينياً مسلحاً برز ضمن مناطق عدة في العالم كأفغانستان والشيشان والبلقان وليس انتهاء بالعراق حيث قام نظام بشار الأسد بإرسال المقاتلين إليه عقب سقوط نظام صدام حسين لمواجهة القوات الأميركية والتحالف الدولي هناك، في وقت تحولت دمشق إلى محطة ترانزيت للانتقال إلى داخل الحدود العراقية التي كانت تشهد فوضى وتراخياً، فكان من بين أولئك المقاتلين سوريون أشرفت قوى الأمن السورية على تجنيدهم ومتابعتهم ومراقبتهم لدى تنفيذ مهماتهم داخل الأراضي العراقية في مواجهة القوات الأميركية.

وعمد الأمن السوري إلى اعتقال من كان يعود منهم “حياً” وكان من بينهم أفراد نفذوا عصياناً مسلحاً داخل سجن صيدنايا في الحادثة المشهورة التي وقعت خلال صيف عام 2008.

العراق الرافد الأبرز

وشكلت الأحداث والمواجهات والدعاية الجهادية في العراق قرباً جغرافياً وزمنياً وحتى اجتماعياً مع سوريا التي استعرت فيها المواجهات بين القوات النظامية مع بدء تدفق الدعم الخارجي من جهة، مقابل مجموعات مسلحة أسسها ضباط وعناصر منشقون من الجيش السوري مع مسلحين محليين في مناطق مختلفة لتتحول من حال غير منسقة إلى فصائل تحت مسمى “الجيش السوري الحر” الذي لاقى دعم دول عدة من بينها الولايات المتحدة التي سرعان ما تراجعت وأوقفت دعمها، بخاصة بعد تسليم فصائل من “الجيش الحر كميات” من سلاحها إلى “جبهة النصرة” (“هيئة تحرير الشام” لاحقاً) في منطقة إدلب عام 2015.

ومع احتدام القتال بين السوريين وجد تنظيم “القاعدة” الفرصة سانحة للتغلغل في سوريا، فبدأ عناصر “جبهة النصرة” بالمشاركة في خطوط الجبهات إلى جانب “الجيش الحر” أواخر عام 2011 في مواجهة نظام الأسد، لتعلن عن تأسيسها رسمياً بداية 2012 ويزداد معها تدفق المقاتلين الأجانب إلى داخل الأراضي السورية حيث شكل الصراع في هذا البلد بوابة استقطاب كبيرة لهم، فوصل عددهم إلى 360 ألف شخص بالتناوب ما بين مقاتلين وعائلاتهم حتى نهاية عام 2015 وغالبيتهم قاتلوا في صفوف تنظيم “داعش” وكذلك “جبهة النصرة” ودخل معظمهم عبر الأراضي التركية بمن فيهم المقاتلون العرب وكذلك الأتراك الذين شكلوا النسبة الأكبر من الانضمام إلى هذا القتال.

الانقسام مع “داعش”

وظهر الانقسام بصورة مفاجئة بين “داعش” و”جبهة النصرة” في أبريل (نيسان) عام 2013 عقب كلمة لزعيم التنظيم وقتها أبو بكر البغدادي أعلن خلالها دمج “جبهة النصرة” التي كان يترأسها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) مع تنظيم “داعش” في العراق لتتشكل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، مما رفضه الجولاني وطالب بالتحكيم والبيعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم “القاعدة” العالمي الذي بدوره ألغى الدمج الذي أعلنه البغدادي وحكم لمصلحة “جبهة النصرة” بإبقاء الجولاني زعيماً لها، مما أثر في المقاتلين الأجانب الذين استجابوا إلى دعوة البغدادي عند إعلان الدمج، في حين بقيت النسبة الكبرى من المقاتلين السوريين مع “جبهة النصرة”.

وعلى رغم الأساس الجهادي لدى التنظيمين، فإن “النصرة” كانت أكثر مرونة في التعامل مع الكتائب والفصائل السورية وتعمل بصورة مشتركة مع “الجيش الحر”، خصوصاً أن الأخير كان يستغل اندفاع مقاتلي “النصرة” وثباتهم في القتال ولا سيما الانغماسيون منهم الذي كانوا يقودون عربات مفخخة ويفجرونها في تحصينات القوات النظامية، في حين أن “داعش” كان يفرض السيطرة على “الجيش الحر” ودخل في مواجهات قضت على فصائله في معظم المناطق التي سيطر عليها، بل إن كثيراً من عناصر هذه الكتائب قبلوا الانضمام إلى التنظيم وأصبحوا أمراء ومسؤولين فيه.

وعلى رغم هذا الانقسام، فإن العنصر الأجنبي كان موجوداً لدى التنظيمين، بخاصة أن كثيراً منهم يحملون مزايا القتال في سوريا من حيث الفكر الأيديولوجي والإيمان بالقتال حتى النهاية لأنهم في “مهمة مقدسة”، إضافة إلى خبرات عسكرية جلبوها معهم سواء من كانوا عسكريين وضباطاً في جيوش بلادهم أو مجاهدين في مناطق مختلفة بما فيها الشيشان وأفغانستان وراكموا الخبرات في مواجهة الجيوش النظامية في تلك البلدان.

وبعد القضاء على تنظيم “داعش” عسكرياً وإنهاء سيطرته الجغرافية من قبل التحالف الدولي و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) خلال معركة الباغوز، توزع عدد من عناصر التنظيم بمن فيهم الأجانب في مناطق سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا في الشمال السوري وكذلك مناطق شمال غربي البلاد التي كانت مختلطة السيطرة ما بين الفصائل و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة)، في حين أن أكثر من ألفي مقاتل أجنبي وثمانية آلاف من عائلاتهم محتجزون داخل سجون “قسد” ومخيمي الهول وروج في شمال شرقي سوريا.

لكن وزن المقاتلين الأجانب بات في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” وأصبحت غالبيتهم جزءاً من تشكيلته العسكرية كالحزب التركستاني ومقاتلين عرب وطاجيك وإيغور من خارج سوريا وغيرهم ممن يحملون جنسيات مختلفة، فجرت مكافأتهم على القتال في مواجهة النظام السوري السابق ورُقي عدد منهم كضباط في الجيش السوري الذي يجري تأسيسه، في حين أن مطالب دولية توجه لدمشق بضرورة إبعاد العناصر الأجنبية من مراكز القيادة والسلطة في العهد السوري الجديد.

(اندبندنت عربية)

—————————

مصدر مطلع في وزارة الدفاع قال لـ “اندبندنت عربية” إن النية قائمة ليصل تعداده إلى 20 فرقة ليناهز قوامه 300 ألف مقاتل

الجمعة 4 أبريل 2025

الخطوة الأولى في تركيبة الجيش السوري الجديد تمثلت في تأسيس لجنتي التعيينات والهيكلة، إذ تتمتع كل منهما باستقلالية تامة عن الأخرى.

لم يتح للجيش السوري الوليد التنفس لبحث سبل تمويله وعسكرته بالشكل الأمثل عدداً وعتاداً، فكيف ستشكل الإدارة الجديدة جيشاً وطنياً محترفاً؟

بعد انتصار الانتفاضة السورية وإسقاط نظام بشار الأسد أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2024، كان لا بد من رسم سياسة إستراتيجية جديدة تفكك بموجبها مراكز ثقل وارتكاز وقوة النظام السابق، وقد تجلى ذلك في “مؤتمر النصر” الذي عقدته الإدارة الجديدة في قصر الشعب أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو الاجتماع الذي تمخضت عنه جملة قرارات قانونية ودستورية وسيادية من بينها حل “حزب البعث الاشتراكي” الذي ظل يحكم سوريا ضمن سياسة الحزب الواحد لعقود، وحل الجيش السوري السابق والأجهزة والإدارات الأمنية والفصائل المتحالفة معها أو الميليشيات الموالية لها.

وزارة الدفاع والجهود المكوكية

وتلك القرارات كادت تفرغ سوريا من قدرتها الدفاعية تماماً لولا المساعي الحثيثة لوزارة الدفاع بقيادة اللواء المهندس مرهف أبو قصرة إلى مسابقة الزمن لتشكيل جيش جديد من رحم الفصائل التي شاركت في عملية “ردع العدوان” التي أودت بحكم الأسد، لكن العقبات الأساس التي واجهت التنفيذ تمثلت في قلة التعداد العام ومشكلة التسليح والحاجة إلى تدريب عسكري مكثف من قبل خبراء، إضافة إلى أزمة خسارة سوريا نحو 80 في المئة من قدرتها الدفاعية والهجومية إثر 400 غارة شنتها مقاتلات الجو الإسرائيلية على مواقع ومعدات ومعسكرات ومعدات للجيش السوري السابق خلال الساعات الـ 48 التي تلت سقوطه، مما ترك أثراً عميقاً يمكن لحظه بسهوله إثر تداعي منظومة الدفاع الجوي بمضاداته من نوعي “بانستر” و”أس 200″ وراداراته وقوامه البشري، علاوة على استهداف المدافع والمركبات والآلات الثقيلة والأفراد، علماً أن الغارات الإسرائيلية لم تتوقف بعد ذلك بل لا تزال مستمرة ضمن ما يصنفه جيش الدفاع الإسرائيلي بـ “منع نشوء قوة تهديد” تؤثر في أمنه القومي في القريب أو البعيد، لذا تبقى إسرائيل أخطر القوى الإقليمية على ترسانة الجيش الوليد الذي لم يتح له التنفس بعد للبحث في سبل تمويله وعسكرته بالشكل الأمثل عدداً وعتاداً، بحسب عسكريين.

الجود من الموجود

وعلى رغم ذلك حاولت الوزارة خلال الأشهر الثلاثة الفائتة “الجود من الموجود”، فبعد تعيين اللواء أبو قصرة وزيراً للدفاع من رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع، جرى ترفيع وتعيين اللواء علي نور الدين النعسان المنحدر من بلدة طيبة الإمام في ريف حماه رئيساً للأركان، كما أن وزير الدفاع ينحدر من بلدة حلفايا في ريف حماه.

والخطوة الأولى في تركيبة الجيش السوري الجديد جاءت عبر تأسيس لجنتي التعيينات والهيكلة، إذ تتمتع كل منهما باستقلالية تامة عن الأخرى إلى أن هدفهما المشترك هو توحيد فصائل الانتفاضة في بوتقة جيش وطني موحد يخضع للإدارة المركزية، فلجنة الهيكلة تولى إدارتها العميد الذي جرى ترفيعه بعد انتصار الانتفاضة، عبدالرحمن حسين الخطيب، وهو أردني الجنسية، ومن لجنة الهيكلة ولدت لجنة خاصة مهمتها إجراء جرد شامل لجميع فصائل الانتفاضة، وقد عمدت اللجنة المنبثقة عن اللجنة الأم إلى وضع آليات وضوابط وقوانين صارمة على صعيد الإحصاء، أبرزها إقرار الفصيل بتبعية المقاتل له وإجراء مقارنة بين رقم سلاحه واسمه، درءاً للتلاعب وإقحام أسماء جديدة لم تشارك في المعارك، وفي حال حصل ذلك، أي إذا وجد مقاتل لا يرتبط برقم سلاح محدد، فيجري تحويله إلى الانتساب المباشر للجيش خارج الفصيل الذي ادعى تمثيله.

تجري الرياح بما تريد الوزارة

أما عن اللجنة الثانية فقد تولاها رئيس أركان الجيش اللواء نعسان، وكانت مهمتها تعيين كبار مسؤولي الدولة العسكريين وقادة الفرق والألوية أحياناً، شرط أن يعتمد التعيين على الخبراء العسكريين التقنيين المشهود لهم بحسن إدارة المواقف العسكرية والقتالية، وضمناً من أثبت جدارة عليا في تخطيط المعارك والتنفيذ لها، “ويبقى الشرط الأساس أن تكون كامل الهيكلية بين اللجنتين تقتضي اعتراف الفصائل بالشرع رئيساً ومبايعته خلال ‘مؤتمر النصر’ مما يسهل على اللجان حصر السلاح بيد الدولة وإعداد وزارة دفاع متجانسة”، بحسب الخبير العسكري حاتم هلبة.

وكانت مهمات تلك اللجان قائمة بوتيرة متسارعة في وقت يعقد وزير الدفاع جولات لقاء مكوكية مع قادة الفصائل لضمها تحت عباءة وزارة الدفاع الجديدة، لكن الحديث حول اختيار الأكثر حنكة وقدرة عسكرية لتسلم مناصب عسكرية ذهب أدراج الرياح مع خروج أسماء التعيينات اللاحقة لـ “مؤتمر النصر” والتي شكلت مزيجاً من صدمة وخيبة لأوساط المراقبين للشأن السوري من جهة، وللسوريين من جهة ثانية، وللغرب الذي رأى بعض مسؤوليه في عدد من التعيينات تحدياً للمجتمع الدولي، على قاعدة أن بعض من تسلم المناصب الكبرى مدرج على لوائح العقوبات الأوروبية والأميركية، ومدان بمجازر حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية.

7 فرق مبدئياً

وبعد انتهاء عمل اللجان والفرز والاتفاقات تمخضت الوزارة الجديدة عن سبع فرق قتالية تضم كامل فصائل غرفة عمليات “ردع العدوان”، فجرى تعيين العميد عناد درويش مسؤولاً للشؤون الإدارية في وزارة الدفاع، والعميد محمد منصور مسؤولاً عن شؤون الضباط، وهيثم العلي قائداً لفرقة حمص، وبنيان أحمد الحريري قائداً لفرقة درعا، وأبو القاسم بيت جن قائداً للقوى الجوية، أما قائد فرقة “العمشات” سابقاً العميد محمد الجاسم فقد أصبح قائداً للفرقة (25) في حماه، وقائد فرقة “الحمزات” سابقاً العميد سيف بولاد أصبح قائداً للفرقة (76) في حلب، والأخيران كانا يتبعان للجيش الوطني الذي ترعاه تركيا شمال سوريا، ومدانان بجرائم حرب وعقوبات أميركية نافذة، إضافة إلى تعيين الأردني عبدالرحمن الخطيب قائداً للحرس الجمهوري، وتعيين مختار التركي ذي الجنسية التركية قائداً لفرقة دمشق أو ما يعرف بـ “حامية دمشق”.

النية 20 فرقة

مصدر مطلع في وزارة الدفاع قال لـ “اندبندنت عربية” إن النية قائمة ليصل تعداد الجيش إلى 20 فرقة ليكون قوامه 300 ألف مقاتل، بعد اتخاذ القرار بإلغاء الجندية الإجبارية ليكون جيشاً محترفاً ونموذجياً، لكن ذلك التوسع يعتمد على التوافق مع قوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد) وفصائل السويداء المحلية واللواء الثامن في درعا بقيادة أحمد العودة جنوب سوريا، وتلك الجهات الثلاث لم تبد أية مرونة في التفاوض حتى الآن مما يجعل مهمة توسعة الجيش أكثر صعوبة، ومسألة إيجاد حلول لا بدائل أكثر مشقة لإتمام السيطرة على الحيز الجغرافي الأوسع من البلاد، وتالياً مواجهة التهديدات المحتملة وعلى رأسها خلايا إيران وخطر “داعش”، ولذلك قامت المؤسسة العسكرية بخطوات لدمج مكاتب التوجيه الشرعي التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” وفصائل “ردع العدوان” بغية تشكيل مؤسسة جديدة هي إدارة التوجيه المعنوي بقيادة الشرعي في “هيئة تحرير الشام” مظهر الويس، وتُلقى على عاتق تلك الإدارة مهمة إعداد مناهج متقدمة ومتطورة لتطوير عقيدة قتالية عسكرية تقوم على الولاء للوطن لا الطائفة.

وفي هذا الصدد يقول الخبير الأمني مصطفى وهبي إن “مهمة إدارة التوجيه المعنوي تبدو شاقة للغاية، فالفصائل التي شاركت في الانتفاضة خرجت من رحم السلفية ومن الصعب عليها تقبل الأيديولوجية الوطنية بهذه السهولة، كما أن هناك ملف المقاتلين الأجانب، فهل ستتمكن الإدارة الجديدة من أدلجتهم بصورة عصرية متجددة تتناسب وقيم ومبادئ وتطلعات الحرية وانتصار الثورة وتشكيل وطن لجميع أبنائه؟ وأين هو دور هذه الإدارة من حالات القتل اليومية والخطف والاعتداء والانتهاكات والسرقة وحرق المنازل ومجازر الساحل؟ ولكن يبدو أن الأمر أقرب لذر الرماد في العيون أو كمن ينفخ في النار، وبالتالي فإن تحقيق تجانس فعلي أكثر من صعب”، مضيفاً “هل سيخضع أبو عمشة وبولاد لميثاق الشرف العسكري بعد ما فعلوه بالأكراد في عفرين وريف حلب من قتل وانتهاك وأكثر من ذلك، وهي الأسباب ذاتها التي وضعتهم تحت خانة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية، فالجيش السوري الجديد فيه شرفاء كثر، لكن فيه متطرفين ولصوصاً ومنتهكين وقتلة، ولن تستطيع سوريا بناء نفسها بنفسها ولا بالمحاباة، وفي مرحلة قريبة عليها أن تستمع إلى النصح الداخلي والخارجي وأن تقبل تدخلات لوجستية وفكرية محدودة لضمان دفع العجلة إلى الأمام، إن كانت الإدارة الجديدة تنوي طمأنة بقية المكونات حقاً، بعد ضربها العلويين وطعنها الأكراد وتنفير الدروز منها”.

فوق المجزرة

بين السادس والـ 10 من مارس (آذار) الجاري تعرض الساحل السوري من مدن طرطوس إلى بانياس وجبلة واللاذقية مع عشرات القرى التابعة لها، لواحدة من أقسى عمليات التطهير العرقي التي راح ضحيتها أكثر من 2000 أعزل علوي، بين نساء وأطفال وشيوخ ورجال مع عدد من المسيحيين، بحسب ما أحصاه “المركز السوري لحقوق الإنسان”، وما وثقه المعارض البارز الحقوقي هيثم المناع، وقد انطلقت آلة القتل تلك إلى الساحل السوري من محافظات عدة إثر إعلان نفير عام في مساجد كثيرة وحملة تحريض غير مسبوقة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت القصة بدأت بمواجهات بين الأمن العام السوري ومناصري النظام السابق، لكنها تطورت وارتقت لمرحلة الاستباحة الموثقة بالأسماء والصور.

ومع جلاء غبار المجزرة، بحسب وصف شهود، تمكنت منظمات محلية ودولية حكومية وغير حكومية من معرفة المتسببين فيها، وأشارت أصابع الاتهام مباشرة بالأدلة والقرائن إلى جهتين، الأولى مقاتلين أجانب من جنسيات أيغورية وتركستانية وطاجيكية وشيشانية وخلافه، والثانية لمجموعات محلية غير منضبطة على رغم تبعيتها لوزارة الدفاع، ولم تكن تلك المجموعات سوى “العمشات” و “الحمزات”، أي الفرقتين (25) و(76)، وقبل المجزرة كان الجاسم أبو عمشة نال ترفيعة لرتبة عميد وتقلد قيادة الفرقة (25) في حماه على رغم العقوبات التي تحاصره، وربما كان ذلك مفهوماً في سياق إعداد جيش يشترك فيه الجميع على أساس التحرير، أما المفاجأة فكانت بترفيع سيف بولاد وتوليته رئاسة الفرقة (76) في حلب بعد “مجازر الساحل”، مما فتح الجرح مجدداً لدى أهالي المكلومين متسائلين عن فحوى العدالة الانتقالية.

لئلا تكون عدالة استفزازية

ويرى بعض الحقوقيين وفقهاء القانون في تصاريح إلى “اندبندنت عربية” أن العدالة الانتقالية هي سبيل متين للخلاص من ثغرات وأحقاد الماضي، وبحسب القاضي أدهم مديني فإن تطبيق العدالة يبدأ بمحاكمة الجناة الأساس وتعويض الضحايا من دون تأخير، مشيراً إلى ضرورة تشكيل لجنة للمصالحة الوطنية مبنية على أسس ومعايير قانونية ومجتمعية وعرفية تنظر في 14 عاماً من الحرب والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد.

ويتابع، “قد يرى بعضهم أن تطبيق العدالة الانتقالية سيكون منقوصاً ما لم يشمل جميع الأطراف، وهو رأي يؤخذ به ولكنه قد يفاقم الانقسام والاستفزاز في الشارع، لأن التاريخ يعلمنا أن المنتصر لا يُحاسب، وهنا نخشى تنامي الصراع مجدداً والدخول في متاهة متجددة من المشكلات عوضاً عن إتمام مشروع مصالحة وطنية جامعة، ولذلك فإنه يبدو من الشاق جداً خلال المرحلة الراهنة تعويض الضحايا لجملة أسباب، أولها مادي يتعلق بالموارد، ولكن يمكن الاستئناس بتجارب لجان المصالحة وما حققته من إنجازات عظيمة في جنوب أفريقيا وبعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994”.

(اندبندنت عربية)

—————————

هل من مستقبل لـ”الشرع” في بلد منهار؟/ اسماعيل درويش

مراقبون يجمعون على أن استمراره في الحكم مرتبط بالقدرة على قيادة المرحلة الانتقالية وتلبية متطلبات الشارع

الجمعة 4 أبريل 2025

ملخص

 استطاع خلال قيادته فصائل المعارضة إسقاط نظام الأسد، وهو استحقاق تاريخي يحفظه له السوريون، لكن في المقابل يواجه سقف توقعات عالياً من الشارع السوري، وشرخاً مجتمعياً وعقوبات دولية، وهكذا ترتبط فرصه في الاستمرار بالحكم بمدى قدرته على قيادة السفينة السورية إلى بر الأمان.

قبل أشهر قليلة جداً لم يكن اسم الرئيس السوري أحمد الشرع متداولاً على الصعيد السوري ولا الإقليمي ولا الدولي، بل كان شخصاً يقود جماعة مصنفة على قائمة الإرهاب، ومعروفاً لدى الجميع باسم أبو محمد الجولاني، وقد بقي أعواماً عدة يقود “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب شمال سوريا، واتسمت مناطق سيطرته بالانضباط الأمني الشديد مقارنة بباقي المناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية، بل حتى مقارنة بمناطق سيطرة النظام السابق الذي كان يمثل الدولة الرسمية لدى المجتمع الدولي.

وما بين يوم وليلة قاد الجولاني معركة “ردع العدوان” لينتصر فيها باسم أحمد الشرع، وهو نصر قال الشرع عنه إن جميع السوريين شاركوا فيه، سواء المهجرين أو النازحين أو المقاتلين.

وأعلنت إدارة العمليات العسكرية تنصيبه رئيساً للبلاد خلال المرحلة الانتقالية، لينطلق بعد حصوله على صفة رسمية في إجراء زيارات دبلوماسية يلتقي بها نظراءه من زعماء العالم.

لكن الشرع الذي يقود سوريا اليوم يحكم بلداً منهكاً وعلى حافة الانهيار في ظل فقر بنسبة تزيد على 80 في المئة من الشعب السوري، وعقوبات خانقة، وفصائل ليست كلها على قلب رجل واحد.

مع بداية المرحلة الانتقالية، واجه الرئيس السوري تحديين كبيرين، عسكرياً وسياسياً، تمثل الأول في الأحداث التي جرت في الساحل السوري وأسفرت عن مقتل المئات من عناصر الجيش، وسط تقارير حقوقية وثقت مقتل عشرات المدنيين على أساس طائفي، وأما التحدي السياسي فتمثل بالإعلان الدستوري، إذ وصفه مراقبون بأنه شمولي منح رئيس البلاد صلاحيات وسلطات واسعة النطاق، فما فرص الشرع في الاستمرار بحكم البلاد في ظل كل هذه التحديات؟

وسام إسقاط الأسد

الباحث السياسي ورجل الأعمال السوري محمود الدرعاوي يقول لـ”اندبندنت عربية” إن “هناك فرصة قوية للشرع للاستمرار بحكم سوريا لأسباب عدة، مع ذلك لا يمكن نكران أن الأحداث التي جرت في الساحل السوري سيكون لها أثر سلبي، لكن ليس لدرجة رفض القبول الدولي بالشرع، بمعنى آخر فإن استمرار الشرع بالحكم يتعلق بالقبول سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وبطبيعة الحال سينظر المجتمع الدولي خلال تقييمه إدارة الرجل إلى تاريخ (هيئة تحرير الشام) والتنظيمات المصنفة راديكالية، وقبول الهيئة يتطلب إثبات العكس، وذلك يحتاج إلى بعض الوقت”.

ويضيف الدرعاوي “من جانب آخر فإن غالب الشعب السوري والمحيط العربي وجزءاً غير صغير من العالم استطاع الشرع أن يحظى بالقبول لديه، ولمعرفة سبب ذلك علينا العودة إلى عام 2011 عندما انطلقت الثورة السورية، فلم يكن لدى السوريين قناعة كبيرة بأنه يمكن إسقاط نظام الأسد الذي يجثم على صدر البلاد منذ خمسة عقود بالطرق السلمية أو بالتظاهرات، لذلك في بداية التظاهرات لم يكن هناك احتضان دولي جاد لها، واليوم بعد كل الذي حصل في سوريا يرى بعض الشارع السوري أن الشرع كان بمثابة المخلص من هذا النظام، لكن هذه النظرة للشرع، كمخلص، ستتلاشى تدريجاً في حال تأخرت مسألة تطوير البلاد وإعادة الإعمار. بمعنى آخر فإن بقاء سوريا تحت الضغوط الحالية وتردي الوضع المعيشي ستكون لهما آثار سلبية على الشرع نفسه، وبطبيعة الحال من حق الشارع أن يطالب بتحسين وضعه، إذ إن لدى السوريين طموحات بأن تصبح بلادهم في الأقل مثل دول الجوار، الأردن أو لبنان أو تركيا”.

ويتابع رجل الأعمال السوري “الشرع قدم نفسه قبطاناً للسفينة السورية، وهو بشكل أو بآخر مقبول لدى الغالبية، في حين توجد عليه تحفظات لدى بعض السوريين وعدم قبول لدى آخرين، لكن القبول النهائي وفرصة الاستمرار بالحكم مرجعها قيادته المرحلة الانتقالية، فإذا استطاع الشرع أن يقود السفينة إلى بر الأمان، وأن يتجاوز هذه المرحلة، مع تقديم تطمينات للدول المتحفظة بأن سوريا ليست بلداً يصدر الثورة ولا أي فكرة راديكالية، ربما بعد ذلك يلقى القبول الدولي”.

ويستطرد “من أهم القضايا التي يسأل عنها المجتمع الدولي اليوم: هل لدى الشرع سيطرة على كل الفصائل العسكرية المختلفة، خصوصاً تلك التي تنادي بأشياء لا ينادي بها السوريون، وأيضاً عليه معالجة قضية المقاتلين الأجانب، فعلى رغم أنهم قلة قليلة ولا يشكلون أي خطر فإن المجتمع الدولي أعطى هذه القضية أكبر من حجمها الحقيقي، بهدف اتخاذها ورقة ضغط أو تأخير بعض الأمور كالانفتاح على سوريا”.

يرى الدرعاوي أن “أحداث الساحل السوري لها جوانب سلبية وأخرى إيجابية، الأولى تتعلق بالانتهاكات التي حصلت والمرفوضة سورياً وإنسانياً وإسلامياً، ولا يخفى أن هناك انتقاماً حصل نفذه بعض الأشخاص نظراً إلى القتل الذي تعرضت له عائلاتهم أو أسرهم أو ذووهم على أيدي النظام السابق، ذلك النظام الذي كان يستخدم جزءاً من الطائفة العلوية لقمع الشعب السوري، لذا فإن نظام الأسد يتحمل جزءاً كبيراً من الانتهاكات التي حصلت في الساحل السوري.

أما الجانب الإيجابي للقضية، بحسب الدرعاوي، فهو “قدرة الحكومة في فترة وجيزة جداً على أن تسيطر على الوضع، وكما نعلم فإنه بعد هجوم الجماعات الموالية للنظام السابق على الأمن العام، كان هناك نحو 300 ألف شخص من مختلف الأراضي السورية تطوعوا على الفور بهدف الحفاظ على مكتسبات الثورة، وعلى رغم ذلك استطاعت الحكومة السيطرة على الوضع وإعادة الاستقرار إلى الساحل”.

ويختم المحلل السياسي حديثه “بالمختصر أعتقد أن هناك فرصة عالية للشرع للاستمرار بالحكم، لكن بسبب اسمه شخصياً قد يتأخر الاعتراف من بعض الدول، وأيضاً قد يتسبب في تأخير رفع كامل العقوبات، لكن المسألة لا تعدو مسألة وقت، ويمكن أيضاً الاعتماد على الحضن العربي، خصوصاً الدول ذات الثقل الكبير مثل السعودية وباقي دول الخليج ومصر، إذ إن اكتساب الدعم العربي سيكون له أثر إيجابي كبير”.

مأزق “رجل المرحلة”

خلافاً لما يقوله الدرعاوي، يرى الصحافي السوري ج ب، أن “أحمد الشرع لم تكن لديه الفرصة لحكم سوريا حتى قبل أحداث الساحل، فكيف بعد المجازر التي حصلت”، مضيفاً لـ”اندبندنت عربية”، “هناك حالات سابقة في التاريخ، فبعد الثورات أو تغيير نظام الحكم في أي بلد غالباً تكون أول قيادة بعد التغيير فاشلة، والشرع يسيطر على بلد منهار كلياً، اقتصاد تحت الصفر، فقر مدقع، عقوبات قاسية، شرخ مجتمعي كبير للغاية، لذلك كل ما يمكن له فعله هو تسيير المرحلة الانتقالية فقط لا أكثر، واليوم فإن كل سوري يؤمن بالوطن، أو كل شخص يريد استقرار سوريا يجب عليه دعم الشرع كونه صمام الأمان ضد نشوب حرب أهلية، لكن كما أسلفت فهذا الأمر لن يتجاوز المرحلة الانتقالية، وليس هناك أمل كبير بأن تتحسن الأوضاع أو يبدأ الإعمار في المستقبل القريب والمتوسط، لذلك أعتقد أن مهمة الشرع تقتصر على تسيير أمور البلاد خلال هذه الفترة قبل حصول التغيير الذي قد تستقر به سوريا إن أراد السوريون والمجتمع الدولي لهذه البلاد أن تستقر”.

الضابط السابق في الجيش السوري العقيد علي ناصيف، يرى أن “الشرع يعتبر رجل المرحلة، وهو استحق هذه المكانة لأن الجهد الأكبر في عملية إسقاط النظام كان لـ(هيئة تحرير الشام) التي يقودها، وإجماع كل الفصائل المقاتلة وغالبية القوى الفاعلة في سوريا على أن يكون هو رئيس المرحلة الانتقالية، وهذا مؤشر توافق داخلي حيث يلقى الشرع قبولاً واسعاً من غالبية الشعب السوري مع بعض التحفظات من بعض المكونات، أما بالنسبة إلى التوافق والقبول الدولي فهو متفاوت، فهناك دول إقليمية ترحب بالسياسات التي يتبعها، وبالانفتاح على الدول المحيطة والمجتمع السوري، وأخرى ترى أن لديه انفتاحاً على المجتمع الداخلي والعلاقات الخارجية، وتصريحاته في كل مناسبة توحي بأنه يعمل لتعزيز العلاقات السورية مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، وهناك بعض الدول من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديها تحفظات على بعض السياسات الداخلية، وبصورة خاصة على تعيين بعض الأجانب في مراكز قيادية بالدولة”.

ويضيف ناصيف لـ”اندبندنت عربية”، أن “هناك أيضاً بعض الملاحظات داخلياً وخارجياً على عدم الإسراع بتفعيل وزارتي الدفاع والخارجية وتعزيزهما بالضباط المنشقين من الجيش والشرطة، والاستفادة أيضاً من المنشقين السياسيين والقانونيين والحكوميين، أما في ما يتعلق بأحداث الساحل فمن المعروف أنها تمت بدعم من أياد خارجية لضرب الاستقرار الداخلي، والتعامل معها أكد أنه لا بد من الاستفادة من المنشقين العسكريين من الجيش والشرطة، وفي شأن الإعلان الدستوري من المؤكد أنه غير ممكن حالياً، ففي هذه الظروف لا يمكن إجراء أي انتخابات أو استفتاء، لذلك وُضع إعلان دستوري ريثما تتهيأ الظروف الداخلية لإجراء انتخابات برلمانية وبعدها يُكتب ويُعلن الدستور وتناقش كل فقراته من قبل لجان متخصصة منبثقة من مجلس الشعب”.

والنتيجة التي توصل إليها المراقبون هي أن فرصة الشرع للاستمرار بالحكم مرتبطة بمدى قدرته على قيادة المرحلة الانتقالية، وتلبية الحد الأدنى من متطلبات الشارع السوري، خصوصاً أن سقف التوقعات لدى المواطن أعلى بكثير من قدرة الحكومة بسبب التقييدات الكبيرة المتعلقة بالعقوبات وعدم وضوح الموقف الأميركي حتى الآن، فإذا ما رفعت واشنطن العقوبات واعترفت بالشرع ستستكمل حكومته شرعيتها الدولية وتبدأ خطوات إعادة الإعمار بجدية أكبر، مما يعني تدفق مليارات الدولار للبلد المنهك، وهو مقدمة تمهد لاستمرار الشرع في حكم سوريا كرئيس شرعي محلياً وإقليمياً ودولياً.

(اندبندنت عربية)

—————————

من يسلح الجيش السوري الجديد؟/ بهاء العوام

حكومة الرئيس أحمد الشرع تخطط لجمع وتدريب وتسليح 300 ألف مقاتل على مرحلتين

الجمعة 4 أبريل 2025

تخطط القيادة السورية الجديدة إلى تشكيل جيش قوامه 300 ألف مقاتل، لكن ما ورثته سلطة الرئيس أحمد الشرع من أسلحة النظام البائد لا تكفي لتجهيز هذا الجيش، ولا بد لها من شراء أنواع مختلفة من الذخائر والآليات والمعدات لإتمام المهمة، لكن صعوبات عدة تحد من قدرة دمشق على التعامل عسكرياً مع دول الجوار والعالم.

انهار جيش نظام الرئيس بشار الأسد قبيل ساعات من سقوط العاصمة دمشق بيد المعارضة السورية المسلحة، خلت الثكنات ومقرات القوات المسلحة بعدما هرب الجنود تاركين وراءهم كل شيء، إلا من بعضهم الذين حملوا مسدسات وبنادق للتحوط من خطر ما في المستقبل، ثم أعادوها عندما فتحت السلطة الجديدة السبيل أمام أبواب التسوية لأوضاعهم وخدماتهم.

لم تهنأ فصائل المعارضة بما غنمته من أسلحة تركها الجنود الهاربون، فقد أغارت إسرائيل بعد سقوط الأسد مباشرة على مئات المواقع للجيش السابق، ولا تزال حتى اليوم تلاحق أي تحرك يمكن أن يدرج تحت عنوان العمل العسكري أياً كان مكانه في سوريا، وليس فقط في مناطق الجنوب التي تريدها تل أبيب خالية من السلاح لأجل غير مسمى.

ثمة أسلحة إيرانية وصينية وكورية شمالية كانت بحوزة نظام الأسد، لكن لا يعرف بدقة ماذا بقي منها بعد حرب دامت لأكثر من عقد كامل وقصف إسرائيلي استهدف مناطق مختلفة على امتداد الجغرافية السورية، وهنا يبرز السؤال حول تسليح جيش الدولة الجديدة ومن يمكن أن يقوم بهذا الدور في ظل الظروف الداخلية التي تعيشها البلاد، والهواجس الخارجية، الأمنية والسياسية، التي تحاصر وتضغط على حكومة الرئيس أحمد الشرع. 

الاستراتيجية الكبرى

من وجهة نظر المتخصص العسكري العميد إلياس حنا، فإن تسليح الجيش السوري يجب أن يستند على استراتيجية كبرى تضعها الدولة الجديدة وتحدد فيها العدو والأخطار والعلاقة مع المحيط العربي والإقليمي والدولي، فتصنيف العدو والصديق يسهم في رسم سياسة الدولة، ويضع محددات وتجليات العقيدة العسكرية التي يبنى عليها الجيش.

يقول حنا في حديث مع “اندبندنت عربية”، إن استراتيجية الأمن الكبرى تنتج عقيدة عسكرية توضح آلية تنظيم الجيش وتدريبه وتسليحه، وفي سوريا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التعددية الإثنية والعرقية فيها، وبقاء الدولة لأكثر من خمسة عقود متتالية تحت حكم نظام مركزي السلطة وله قائمة من الخصوم والأصدقاء وضعها وفقاً لمصالحه.

تخطط القيادة في دمشق إلى إعداد 300 ألف مقاتل على مرحلتين أولها تشمل 50 إلى 80 ألفاً، وبحسب تصريحات نقلت عن الرئيس السوري أحمد الشرع في فبراير (شباط) الماضي، فقد تقدم الآلاف للانضمام إلى الجيش السوري الجديد عقب إطاحة نظام الأسد، وفتح باب التطوع من قبل وزارة الدفاع التي يقودها مرهف أبوقصرة.

ويشير حنا إلى أن أسواق التسلح اليوم حول العالم مفتوحة ولكنها مراقبة من قبل دول كأميركا وإسرائيل، فلا يمكن لدول تستورد السلاح الأميركي مثلاً أن تصدره إلى سوريا من دون موافقة الولايات المتحدة، ولن تقوم دولة مصنعة مثل تركيا بتصدير أسلحة محلية إلى جارتها الجنوبية إلا لتحقيق أهداف سياسية وأمنية قد يصعب على دمشق تنفيذها.

وبحسب حنا اعتمدت سوريا خلال حقبة الأسد الأب والابن على دول مثل روسيا وإيران في تسليح الجيش، لكن ذلك لم يعد ممكناً على الغالب بسبب تاريخ البلدين مع الثورة السورية ضد النظام السابق، فالتعاون العسكري مع أي من الدولتين سيتسبب على الأرجح بغضب القاعدة الشعبية للسلطة الجديدة، وقد يخلق إشكاليات لا طائل من إثارتها. 

المعطيات الأولية تقول وفق حنا، إن سوريا اليوم في حاجة إلى أسلحة برية وجوية وبحرية لكن أولوية الدولة يجب أن تكون لتنظيم الجيش وتدريبه، ذلك لأن هاتين المهمتين تمهدان لتحديد حاجات القوات المسلحة والدول التي يمكن الاستعانة بها في هذا الشأن، وفق تلك الاستراتيجية الكبرى التي يفترض أن ترسمها سلطة دمشق في المقام الأول.

الشرق والغرب

الجيش السوري السابق كان شرقي العقيدة العسكرية، وقبل سقوط الأسد حاز وفق تقارير متخصصة قائمة من الأسلحة الروسية تضمنت 330 طائرة مقاتلة وقاذفة، مئات المروحيات، أنظمة دفاع جوي من طراز (أس 200 وأس 300)، كذلك صواريخ أرض- أرض ودبابات وغواصتان وفرقاطتان و16 زورقاً مسلحاً وخمس كاسحات ألغام.

برأي المتخصص العسكري العقيد أسعد الزعبي، تمتلك سوريا اليوم فرصة الاختيار بين معسكرين عسكريين شرقي وغربي ترسخا بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقاء أي منهما سيحدد العقيدة العسكرية للدولة، ومن ثم تسليح جيشها، ذلك لأن كل عقيدة بينهما لها متطلباتها في التدريب والدراسة والبنية التحتية والاستراتيجيات الأمنية والسياسية.

ويقول الزعبي في حديث مع “اندبندنت عربية”، إن اختيار أسلحة الجيش السوري الجديد يقوم على ثلاثة عوامل رئيسة مترابطة في ما بينها هي العقيدة العسكرية والموازنة والعلاقات الدولية، فالجيش السابق كانت عقيدته شرقية، ولذلك جميع أسلحته كانت من روسيا بالدرجة الأولى ثم الصين وإيران وكوريا الشمالية، وهو ما جعل تدريب القوات المسلحة ومواقعها العسكرية وكلياتها ومراكز أبحاثها مصممة لاستخدام تلك الأسلحة فقط.

يشير الزعبي إلى أن الدولة السورية الجديدة تميل نحو المعسكر الغربي في التسلح، ذلك لأنها تبحث التعاون العسكري مع تركيا الدولة العضو في الـ”ناتو” والمصنعة لعدة أنواع من العتاد العسكري الأميركي والأوروبي، لأن المضي نحو هذا الخيار رهن بتوجهات وخطط سلطة دمشق الأمنية والعسكرية والسياسية وإمكاناتها المادية أيضاً.

والعلاقات الدولية من ناحية تصنيف الحلفاء والأعداء تعد من المحددات الرئيسة لنوع التسلح الممكن للجيش السوري الجديد، فالعلاقات الجيدة مع دول الغرب يعني توافقاً في الرؤى تجاه سياسات دول مثل الولايات المتحدة إزاء المنطقة، وإلا لن يكون ممكناً حتى لتركيا تزويدك بعتاد عسكري أميركي أو أوروبي جديد وفعال في الميدان.

الصناعة المحلية

الخيار الآخر المتاح أمام دمشق في الاستيراد إن أرادت هامش مناورة في مواقفها السياسية، هو الحصول على أسلحة غربية من الجيل الثاني أو الثالث، فلا يشعر المصدرون بالحرج أو يتعرضون للمساءلة القانونية من بلاد المنشأ لتزويد الجيش السوري بها، إضافة إلى إمكانية الحصول على أسلحة محلية التصنيع من دول مثل تركيا.

بالنسبة إلى التصنيع المحلي فيعتقد العميد إلياس حنا أن اللجوء إليه لن يكون خياراً متاحاً إلى حد كبير، خصوصاً مع مراقبة إسرائيل للنشاط العسكري في المنطقة عموماً ورفضها تحول سوريا إلى دولة مصنعة للسلاح، ومن ثم مهددة لأمنها القومي كما قال القادة السياسيون والعسكريون في تل أبيب خلال مناسبات عدة بعد سقوط نظام الأسد.

التحدي الآخر أمام التصنيع المحلي للأسلحة يتمثل بالبنية التحتية اللازمة، فقد دمرت إسرائيل وفقاً للعقيد أسعد الزعبي، جميع مصانع السلاح ومراكز أبحاث تطويره التي كانت تعمل لدى النظام السابق، وإحياء هذه المنشآت سيكون صعباً جداً بسبب الكلفة المالية من جهة، والظرف الإقليمي والدولي التي تعيشه سوريا اليوم من جهة ثانية.

وتمكن الجيش السوري السابق من إنتاج أنواع من الصواريخ والمسيرات والقذائف والأسلحة الفردية، كذلك عرفت فصائل المعارضة التي انضوت تحت راية الجيش الجديد، تجربة في التصنيع المحلي فأنتجت قذائف الهاون ومواد متفجرة للعبوات الناسفة والأفخاخ، كذلك تدرب أفرادها خلال الحرب على أسلحة تركية وغربية المنشأ.

(اندبندنت عربية)

————————–

القيادات الأجنبية في سوريا الجديدة تطرح معضلة استقلالية القرار/ مصطفى رستم

يستبعد البعض أن تمثل تلك التنظيمات الأجنبية خطراً عسكرياً كبيراً نظراً لقلة عددها وضعف تمويلها ومحدودية انتشارها الجغرافي

الجمعة 4 أبريل 2025

“خروج كل الأجانب المقاتلين والمتدخلين على الأرض السورية هو مطلب شعبي قبل أن يكون مطلباً أميركياً، ويندرج في مقدمة المطالب الأميركية لرفع العقوبات عن سوريا”.

لحظ المشهد الأمني والسياسي السوري تحولاً سريعاً ودراماتيكياً… فبعد إعلان سقوط نظام بشار الأسد عمت فرحة عارمة أرجاء البلاد مع زوال حكم استمر قرابة نصف قرن، وسادت أجواء من التفاؤل بين أبناء البلد المتعطش للحرية وبناء نظام جديد يحمل العدالة والمساواة والديمقراطية. لكن هذه الآمال حملت في طياتها نوعاً من الحذر والترقب لشكل الحكم الجديد، لا سيما بعد تسلم قادة مجموعات متطرفة مناصب سياسية وعسكرية بارزة تتمتع بصلاحيات واسعة. وكان مبعوثون لكل من دول أميركا وفرنسا وألمانيا حذروا الإدارة الجديدة في سوريا من تعيين متطرفين أجانب في مناصب عسكرية رفيعة، ما عكس قلقاً أمنياً دولياً.

وذلك في وقت تسعى دمشق إلى إقامة علاقات مع دول أجنبية بعدما أعلنت السلطات ترفيعات وتعيينات في مناصب عليا في الجيش لأشخاص من بينهم مقاتلون أجانب.

في غضون ذلك، أعلن رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع دمج المقاتلين الأجانب في المجتمع من خلال السماح لهم بالحصول على الجنسية السورية كمكافأة لهم على مساندة الشعب السوري، في حال الاتساق مع أيديولوجية وقيم السوريين. وفيما لم تصدر أي تقارير رسمية أو إحصاءات تشير إلى عدد المقاتلين الأجانب، ذكرت ترجيحات أن عددهم التقريبي يصل لقرابة 3800 مقاتل من جنسيات مختلفة.

ومن واشنطن العاصمة الأميركية، اعتبرت الصحافية الأميركية- السورية والمقربة من البيت الأبيض، مرح البقاعي لـ “اندبندنت عربية”، أن “خروج كل الأجانب المقاتلين والمتدخلين على الأرض السورية هو مطلب شعبي قبل أن يكون مطلباً أميركياً، ويندرج في مقدمة المطالب الأميركية لرفع العقوبات عن سوريا”. وقالت إنه “مطلب شعبي ودولي ملح من أجل رفع العقوبات والبدء بعملية إعادة الإعمار التي ستؤدي إلى الاستقرار الأمني السياسي الذي تحتاج له سوريا بصورة سريعة جداً”.

‏وتابعت “أرى من الضروري أن تبدأ الحكومة السورية الوليدة في الاستجابة للمطالب الأميركية، وفي مقدمتها عدم إعطاء الأجانب العسكريين مناصب عليا في الدولة، ما سيعزز من الوحدة الوطنية السورية ويقطع الطريق أمام كل أجندة لا تتفق مع إرادة السوريين في وحدة شعبهم وأرضهم وتحقيق آمالهم في السيادة والاستقلال”.

قادة ومراكز حساسة

أما الشارع السوري فينقسم حول قرارات تصدر بحق المجموعات الأجنبية التي باتت تتصدر سُدّة الحكم والقيادة بخاصة الجيش، ولعل أول القرارات التي صدرت عن الإدارة الجديدة ترفيع ومنح رتب عسكرية لما يفوق على 40 ضابطاً عسكرياً بينهم قادة من جنسيات أجنبية. ويصف الباحث في شؤون سوريا السياسية محمد هويدي هذه التعينات والترفيعات في قيادة الجيش بأنها “تنسف كل مصداقية الإدارة الجديدة بالعمل من أجل هوية وطنية وبناء جيش سوري جديد”.

وأضاف “من هذه الأسماء عبدة البشري- ألباني الجنسية وأيضاً عمر محمد جفتي- تركي الجنسية، والمصري علاء محمد الباقي وعبد العزيز داوود من تركستان، وهذه الأسماء التي تم تعيينها بالجيش إضافة إلى أسماء أخرى “تؤكد مرة جديدة أن هذا الجيش ليس سورياً بل أممياً مفتوحاً أمام أيديولوجيات إسلامية متشددة، وهذا خطأ بالنسبة للإدارة الجديدة التي تقدم نفسها على أنها تفكر بعقلية الدولة”.

كذلك يعتقد أن التعيينات توحي بأن السلطات لا تفكر بعقلية الدولة بل بعقلية الجماعة العابرة للحدود، وهم مصنفون في دولهم على قوائم الإرهاب، “بمعنى أنك تضع هذا الجيش تحت طائلة العقوبات والتصنيف الإرهابي، وتحديداً الأسماء المصرية الذين صدرت مذكرات اعتقال بحقهم”.

حضور على الأرض

وحذر ناشطون من توسع دور المقاتلين الأجانب إلى حد تأثيرهم في صناعة القرارات، أو من التحرك بشكل غير منضبط والإساءة للمجتمع السوري وعاداته وتقاليده، لافتين إلى أن الأمر وصل حد “إقامة حدود شرعية من دون اللجوء إلى محاكمات أو تحقيق في أحداث الساحل”.

وهنا يرى الباحث السياسي هويدي أن “الشخصيات الأجنبية لها حضورها في المشهد السياسي والعسكري ولها تأثير في الإدارة السياسية، ولولا هذا التأثير لما صدرت قرارات تعيينهم في الجيش السوري، وهو تأثير كبير يتعدى التأثير السياسي إلى مرحلة صناعة القرار”، وفق وصفه، بخاصة “أننا أمام فصائل متنوعة ومتعددة منها حركة “أحرار الشام” و”فرقة المنتصر” و”فرقة محمد الفاتح” و”المهاجرين” الإيرانية ولواء القوقاز الروسي ولواء الأوزباكستاني و”الحزب التركستاني” الصيني و”الجماعة الطاجاكية” و”الجماعة الألبانية” و”جماعة البلوش” الأفغانية و”عتبة بن فرقد” الأذربيجانية وجماعة “أبو يعقوب التركي” وكتيبة “الأيغور”.

وأضاف “ربما هم يعرقلون أي خطوة نحو مشروع وطني مهم وذات تأثير داخلي ويرضي المطالب الغربية ويحقق ما تم الاتفاق عليه مع الدول العربية والمجتمع الدولي”.

ويضرب هويدي أمثلة في أحداث عدة كان للأجانب دور فيها منها “اعتقال أحمد حسون مفتي الجمهورية السابق الذي كان له الحق بالسفر لإجراء العلاج بعد حمايته من قبل الإدارة التي تراجعت وأصدرت مذكرة اعتقال بحقه، ما يشير إلى وجود مطبخين لصناعة القرار السياسي وكذلك الاجتماعي. ثم قرار إغلاق البارات والمقاهي في دمشق القديمة وهو القرار الذي أيضاً تراجعت عنه محافظة دمشق لاحقاً. هذه الشخصيات الأجنبية لها تأثير في الإدارة الجديدة وما نخشاه أن تكون الإدارة الجديدة الحلقة الأضعف بين صناع القرار في سوريا”.

الطريق نحو التجنيس

ووسط تداول أخبار تفيد ببقاء المجموعات الأجنبية، أكد ناشطون أن “الإدارة الجديدة تسعى إلى اتباع خطط لتجنيسهم في البلاد كمكافأة لهم على مساندة الشعب السوري والاستدلال بأمثلة حدثت في العراق لمقاتلين إيرانيين، في حين تعمل الحكومة الجديدة على إلغاء الجنسية لآلاف الإيرانيين”. وترى أوساط قريبة من قيادة “هيئة تحرير الشام” أن “أغلب المقاتلين الأجانب تزوجوا سوريات ولديهم أولاد، لقد سبق لسوريا أن احتضنت الكثير من الأجانب من جنسيات مختلفة ومنحتهم الجنسية”.

مقابل هذا يشير رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان إلى الأمم المتحدة في جنيف، السفير هيثم أبو سعيد، في تصريحات صحافية إلى أن “تجنيس المقاتلين الأجانب ومنحهم هويات جديدة هو أسلوب استخدمته بعض الدول والجماعات المسلحة لتعزيز نفوذها الديمغرافي والسياسي”.

بدورها لفتت الإعلامية مرح البقاعي الانتباه إلى “مؤشرات عدة توحي بأن رأس الهرم في الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يتجه إلى الاعتدال في سياساته والتعاون مع كل الأطراف من أجل تحقيق السلام العادل للسوريين والمنطقة”. وتقول “نحن سمعناه يكرر أكثر من مرة أنه يمد يد التعاون للجميع بما فيهم إسرائيل للتوصل إلى سلام عادل يضمن الحقوق السورية الوطنية مع دولة هي في النهاية جارة. ومن هذا المنطلق لا أرى أية مقاربة تصح بين نظام ‘طالبان‘ الذي يخص دولة أفغانستان وظروفها الاجتماعية الحياتية والسياسية، وبين ما يحدث الآن في سوريا. ونتمنى أن تستمر الحكومة السورية في هذا الاتجاه المعتدل الذي سيضمن السلام والأمن والاستقرار للشعب السوري أولاً”.

الفرص والتحديات

مستقبل حضور المقاتلين الأجانب سيشكل تحدياً أمام الإدارة الجديدة ولا سيما بعد تصريحات الولايات المتحدة الأخيرة بعدم منحهم مناصب قيادية، ومواقف باريس بأنها لا تمنح “شيكاً على بياض”.

في المقابل يستبعد رئيس مركز “ريكونسنس” للبحوث والدراسات، وعضو نادي الصحافة الوطني في واشنطن، عبد العزيز العنجري في حديث لـ”اندبندنت عربية” أن “تمثل تلك التنظيمات الأجنبية خطراً عسكرياً كبيراً نظراً لقلة عددها وضعف تمويلها ومحدودية انتشارها الجغرافي”، وأشار إلى أنه “في حال اتخاذ قرار بالتخلص منها، ستكون محاصرة من أربع جهات”.

وأردف “مع ذلك، تعترف إدارة الشرع بفضلهم وتؤكد على حقهم في الحياة داخل سوريا، وتسعى إلى دمجهم تدريجاً في المجتمع مع تقليص نفوذهم القيادي”.

وإلى ذلك، يطالب هويدي الإدارة الجديدة “التعامل بحزم مع الفصائل المقاتلة الأجنبية لتفويت الفرصة من نجاة سوريا من حمام دم”، ويردف “لا بد من بناء الدولة وفق أسس سليمة وصالحة لاستمرارية الدولة، والتحدي كبير أمام هذه الورقة إذا لم يتم التعاطي معها وفق ما يحقق الاستقرار ورفع العقوبات. أعتقد أننا سندخل في صراع أمراء الحرب في سوريا وهي ورقة خطيرة وبمثابة لغم قد ينفجر في وجه الإدارة الجديدة في أية لحظة”.

وعن حجم توليهم المناصب جزم الباحث في القانون الدولي، فراس حاج يحيى في حديث خاص، أنه “لا توجد إحصاءات دقيقة حول نسبة المقاتلين الأجانب في المناصب القيادية، لكن التقارير تشير إلى دمج عدد منهم في هياكل السلطة الجديدة، سواء في المؤسسات العسكرية أو الحكومية. هذا الأمر يثير مخاوف داخلية، بخاصة بين الأقليات الدينية، بشأن تأثيرهم في مستقبل البلاد”.

يواجه هذا الدمج تحديات عدة، أبرزها نقص التدريب الرسمي لدى بعضهم وتوترات مع الضباط السوريين بسبب حصولهم على رتب عالية، إضافة إلى التساؤلات حول استقلالية القرار العسكري والسياسي في ظل وجود قيادات أجنبية داخل مؤسسات الدولة، وهذا يعتبر التحدي الأكبر للحكومة السورية الجديدة في مدى قدرتها على التعامل مع هذا الملف على أساس وطني قبل أي اعتبارات أخرى.

بدوره، قال الباحث في القانون الدولي فراس حجاج يحيى إنه “وفقاً للمادة 6 من المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969، يمكن منح الجنسية العربية السورية بمرسوم بناء على اقتراح الوزير من دون التقيد بالشروط المنصوص عليها في المادة 4 للأشخاص الذين أدوا للدولة أو للأمة العربية خدمات جليلة، فالقانون لم يحدد تفاصيل أو معايير محددة لتعريف ’الخدمات الجليلة‘، مما يترك تقدير نوعية هذه الخدمات وأهميتها للسلطات المعنية. أنا شخصياً أقترح أن يجري منحهم صفة اللجوء في سوريا تقديراً لجهودهم ولحفظ سلامتهم وعدم إعادتهم لبلادهم خشية الملاحقة، وأيضاً هذه الوضعية تمنحهم وعائلاتهم الاستفادة من كل الميزات من رواتب وتقاعد وتأمين صحي وتعليمي من دون حق الانتخاب أو تولي وظائف خدمة عامة عسكرية أو مدنية، مما يعني دمجهم في المجتمع السوري، وبذلك نجد حلاً وسطياً لا يتضمن منحهم الجنسية ولا إعادتهم لبلادهم أو بلاد أخرى”.

(اندبندنت عربية)

—————————–

هل أجبرت الفصائل المسلحة على التحالف لإسقاط الأسد؟/ اسماعيل درويش

بدأ الشارع يطالب بعملية عسكرية ضد النظام كونه من دون حلفاء وليست لديه القدرة على مواجهة قوى المعارضة

الجمعة 4 أبريل 2025

كانت الفصائل تتقاتل في ما بينها لكن قبيل سقوط نظام الأسد بأشهر تغير الوضع، وتشكلت “غرفة عمليات ردع العدوان” بقيادة “هيئة تحرير الشام”.

بعد سقوط النظام حُلت الفصائل وأصبح المقاتلون مخيرين بين العودة للحياة المدنية أو الاندماج ضمن وزارة الدفاع بشكل رسمي.

في الخامس من مارس (آذار) 2020 وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين اتفاقاً على وقف إطلاق النار في الشمال السوري، جاء ذلك بعد سلسلة عمليات عسكرية نفذها جيش النظام السوري السابق بدعم جوي روسي، ودعم بري من الجماعات الإيرانية. الحملة العسكرية استمرت أشهراً عدة، وأسفرت عن سقوط مئات الضحايا وآلاف النازحين، إلا أن تركيا بعدما شعرت أن النظام السوري ينوي السيطرة على مدينة إدلب تدخلت عسكرياً وأوقفت التقدم، وبعد محادثات بين مسؤولين روس وأتراك، وُقع الاتفاق الذي أسس لمرحلة هدوء في سوريا لم تشهدها البلاد من قبل.

ما هي إلا أشهر قليلة بعد توقيع اتفاق مارس، حتى بدأت الفصائل المختلفة في الشمال السوري تنظر بعين الريبة إلى بعضها بعضاً. فعلى امتداد مناطق واسعة بريف حلب الشمالي كانت تسيطر فصائل الجيش السوري الوطني المدعومة تركياً، وفي مدينة إدلب تسيطر “هيئة تحرير الشام”، وفي المنطقة الممتدة من أقصى ريف اللاذقية الشمالي حتى مدينة الباب بريف حلب، تنتشر فصائل من مختلف التيارات والأيديولوجيات، منها ما يصنفه المجتمع الدولي على قائمة التنظيمات الإرهابية، ومنها فصائل تصنف على أنها “معارضة مسلحة معتدلة”، وهي التي يدعم المجتمع الدولي وجودها.

كل هذه الفصائل لم تكن يوماً على قلب واحد على الإطلاق، فتقاتلت في ما بينها، وأسفر الاقتتال الداخلي الذي تكرر مرات عدة عن سقوط ضحايا من مختلف الأطراف ومن المدنيين الذين هم بالأصل كانوا محاصرين، إلا أن أقوى فصيل هناك كان “هيئة تحرير الشام”، نظراً إلى القيادة المركزية والعمل المنظم الذي كانت تتمتع به الهيئة، وكان بين الحين والآخر يظهر قائدها أحمد الشرع في أسواق ومناطق إدلب، واعداً الأهالي بالعودة إلى دمشق، بيد أن هذه الوعود لم تكن تؤخذ على محمل الجد.

بالنسبة إلى الجيش السوري الوطني وفصائل المعارضة المعتدلة فقد اشتركت في كثير من عملياتها القتالية مع القوات التركية في مواجهة التنظيمات المسلحة الكردية التي تصنفها أنقرة على قائمة الإرهاب.

وفي مطلع 2024 باتت “هيئة تحرير الشام” الفصيل الأكثر قوة وتنظيماً في عموم الشمال السوري، وتراجعت حدة الاقتتال الداخلية بين الفصائل، وخلال فترة ما بين 2020 و2024 نفذت الهيئة عمليات ضد تنظيم “حراس الدين” المصنف على قائمة الإرهاب الأميركية، استطاعت فيها إضعاف التنظيم بصورة غير مسبوقة، لدرجة أنه تلاشى وأعلن حل نفسه بعد سقوط النظام.

بعد إطلاق الفصائل الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى”، وبدء إسرائيل حربها على غزة ثم لبنان، دعمت إيران من خلال وجودها في سوريا “حزب الله” اللبناني، فتلقت ضربات موجعة وصلت حد استهداف قنصليتها لدى دمشق، وقتل كبار ضباطها في سوريا. تزامناً انتظمت روسيا بشكل أعمق في الصراع الأوكراني وبدا أهم حليفين لنظام الأسد في أشد حالتهما ضعفاً، لذلك بدأ الشارع السوري المعارض يطالب بعملية عسكرية ضد النظام، كونه من دون حلفاء وليست لديه القدرة على مواجهة قوى المعارضة بمختلف فصائلها، إلا أن مطالبات الشارع كانت توجه أنظارها نحو “هيئة تحرير الشام”، أكثر من رغبتها بأن تقود باقي الفصائل العمليات خشية من حصول خلافات، أو تنفيذ العملية بشكل غير منظم.

مصدر أمني رفيع المستوى من “هيئة تحرير الشام” يقول في حديث خاص، إنه “بعد الحملة التي شنها النظام على إدلب عام 2020 والاتفاق الموقع مع روسيا، بدأت تركيا تراقب وتهتم بالوضع في الشمال السوري بصورة أكبر، وعند دراسة الأتراك وضع الفصائل المعارضة، وجدوا أن ’هيئة تحرير الشام‘ كانت الفصيل الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة على إدارة أي معركة مرتقبة، لذلك كان هناك نوع من بناء الثقة بين الطرفين، هذا الأمر أدركته باقي فصائل المعارضة، فكان هذا أحد الأسباب التي دفعت باقي الفصائل إلى القبول بالتحالف مع ’هيئة تحرير الشام‘، وتنفيذ عملية تحرير البلاد تحت قيادتها”.

اختياري وإلزامي في آن

العميد عمار الواوي يقول في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إن “موضوع التحالف مع الفصائل انتهى ومضى عليه الزمن، ولم يعد هناك ’هيئة تحرير شام‘ مستقلة ولا فصائل مستقلة، الجميع حسب قرار الرئيس الشرع يندمجون تحت مظلة وزارة الدفاع.

ضرورة المرحلة

من جانب آخر يرى أحد الضباط المنشقين عن الجيش السوري السابق في حديث خاص، أن “تحالف ’هيئة تحرير الشام‘ مع الفصائل الأخرى كان خياراً فيه نوع من الاستراتيجية لمستقبل سوريا، لأن الفصائل الأخرى لديها عدد كبير من المقاتلين والسلاح وبعضها يتلقى دعماً من دول إقليمية، وعدم تحالفها مع ’هيئة تحرير الشام‘ كان سيؤدي إلى صدامات قد تتطور إلى صراع، لذلك أعتقد أن هذا التحالف كان ضرورياً في مرحلة ما بعد سقوط النظام، وكان خطوة لا بد منها وإلزامية في تلك المرحلة، بمعنى آخر لم تفرض الهيئة عليهم التحالف معها كما أنهم لم يختاروا ذلك بل فرضت المرحلة والمصلحة ذلك”.

بات إلزامياً

الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، يقول “اليوم أصبح هناك دولة سورية ووزارة دفاع تحتكر السلاح، لذا لم يعد هناك ما يسمى الفصائل، إذ إن نظام الحكم الجديد أو السلطة الجديدة منعت وجود سلاح خارج إطار الدولة، لذا فإن المقاتلين الموجودين ضمن الفصائل هم أمام خيارين، إما ترك العمل العسكري كلياً والعودة إلى أعمالهم المدنية، أو أن يكونوا ضمن وزارة الدفاع ضمن تشكيلات الدولة”.

خيار وحيد

من جانب آخر، يرى الباحث السوري نور الدين البابا أن “التحالف الذي حصل بين الفصائل وصفوف الانتفاضة السورية كان عن قناعة تامة، بمعنى أن عموم المعارضين في سوريا أصبحت لديهم قناعة بضرورة التحالف، وهذا ما حصل في الواقع، ونجحت غرفة عمليات ردع العدوان في إسقاط النظام، وكانت هذه الغرفة عبارة عن تحالف بين كثير من المقاتلين والفصائل، وعمادها الأساس ’هيئة تحرير الشام‘، وأيضاً هناك فصائل مشاركة مع الهيئة مثل ’حركة أحرار الشام‘ وغيرها”.

للإجابة عن سؤال التحالف بين الهيئة والفصائل، رأى مراقبون أن التحالف الذي جرى خلال الفترة الذي سبقت سقوط النظام كان اختيارياً ولم يُفرض من قبل أي فصيل، وكان إلزامياً من ناحية أن المرحلة اقتضت ذلك، أما بعد سقوط النظام فلم يعد هناك ما يسمى تحالف، فالفصائل باتت مجبرة على حل نفسها، ومخيرة بالانضمام إلى وزارة الدفاع السورية لتكون ضمن تشكيلات الدولة الرسمية.

(اندبندنت عربية)

—————————-

هل يمنح الشرع 7500 مقاتل أجنبي الجنسية السورية؟/ عبد الحليم سليمان

حاربوا معه في إدلب تحت راية “هيئة تحرير الشام” لكن الولايات المتحدة تطالب باستبعاد جميع المسلحين

الخميس 3 أبريل 2025

في مارس 2023 كشفت مصادر خاصة من مكتب المقاتلين الأجانب لوكالة “نورث برس” السورية، أن عدد المقاتلين من جنسيات غير سورية يزيد على الـ7500 مقاتل في إدلب، منهم نحو 6200 تقريباً من الإيغور والقوقاز والطاجيك والشيشان، وهم رأس الحربة القتالية الأبرز على جبهات مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام”، بينما الأجانب العرب وأكثرهم من شمال أفريقيا يشغلون مناصب إدارية وأمنية وعسكرية بحسب المصادر.

وسط صحن جامع أمية الكبير في العاصمة دمشق، وقف رئيس حزب “العدالة والتنمية” السوري عمر شحرور وإلى جانبه الجهادي الأجنبي أبو دجانة التركستاني، محتفياً به وسط جموع من الزوار ويحرسهم عناصر الأمن العام بملابسهم السوداء.

شحرور توجه بالشكر لكل المجاهدين الأجانب الذين جاؤوا إلى سوريا “لينصروا الشعب السوري” ووعد بحصولهم على الجنسية السورية. المقطع أثار ردود فعل متباينة بين السوريين الذي شجبه البعض وأيده البعض الآخر، في حين ذكر آخرون بمحاولات النظام السابق تجنيس المسلحين التابعين للميليشيات الإيرانية وإعطائهم نفوذاً في البلاد على حساب السوريين.

ولا يعتبر كلام شحرور هو الأول من نوعه، بل يستند إلى تصريح سابق للرئيس السوري أحمد الشرع في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وبعد أيام من سقوط نظام الأسد حيث أعلن فيه أن المقاتلين الأجانب، الذين ساعدوهم في الإطاحة بالنظام، قد يسمح لهم بالحصول على الجنسية السورية، موضحاً أن المقاتلين الأجانب الذين دخلوا سوريا للقتال ضد الحكومة السورية كانوا جزءاً من الحركة التي أدت إلى سقوط بشار الأسد ويجب الاحتفال بهم، وفق تعبيره.

لا حصر لأعدادهم

لا يعرف بالضبط عدد المقاتلين الأجانب بشكل رسمي حتى الآن، لكن التقديرات تتحدث عن عدة آلاف منهم وينحدرون من جنسيات مختلفة بما فيها جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وفي مارس (آذار) 2023 كشفت مصادر خاصة من مكتب (المقاتلين الأجانب) لوكالة “نورث برس” السورية، أن عدد المقاتلين من جنسيات غير سورية يزيد على الـ7500 مقاتل في إدلب، تحت راية أو موالين لـ”هيئة تحرير الشام”، نحو 6200 تقريباً من الإيغور والقوقاز والطاجيك والشيشان، وهم رأس الحربة القتالية الأبرز على جبهات مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام”، بينما الأجانب العرب وأكثرهم من شمال أفريقيا يشغلون مناصب إدارية وأمنية وعسكرية بحسب المصادر.

وبحسب الوكالة وفي ما يتعلق بالمقاتلين الأجانب ممن تركوا الهيئة ورفضوا موالاتها في القتال أو حتى بالفكر، فأعدادهم خارج الإحصاءات الرسمية، ويقيمون مع عائلاتهم ضمن بلدتي الفوعة وكفريا وسرمين بريف إدلب الشمالي الشرقي، وأيضاً في منطقة أريحا وجسر الشغور وقرى متفرقة، وتحتوي سجون الهيئة على 340 منهم، بحسب المصدر ذاته، بتهم الانتماء لـ”داعش” أو عمالة خارجية.

وفي الـ27 من فبراير (شباط) الماضي أوردت وكالة أنباء كازاخستان الدولية “كازينفورم” أن رئيس مجلس الأمن القومي في قيرغيزستان مارات أيمنكولوف أفاد في حديثه أمام مؤتمر الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون الأمني في آسيا الوسطى بأن حسب بعض التقديرات، ما يصل إلى 20 ألف مقاتل أجنبي انضموا إلى قوات الأمن السورية، بما في ذلك أعضاء من “حركة تركستان الشرقية الإسلامية”، وبحسب الوكالة ووفقاً للخبراء، فإن في صفوف هؤلاء المقاتلين يوجد أشخاص ينحدرون من آسيا الوسطى وشمال القوقاز.

وأضاف رئيس مجلس الأمن القومي القيرغيزي أن نحو 5 آلاف مسلح، باستثناء أفراد عائلاتهم، من أصول آسيوية وسطى، مشدداً على أن دول المنطقة تشعر بالقلق إزاء احتمال “انتشار الإرهابيين متعددي الجنسيات الذين وصلوا إلى السلطة في هذا البلد إلى ما وراء حدود سوريا”.

ترقيتهم إلى ضباط

قامت القيادة العامة بتسمية مقاتلين سابقين في صفوف الفصائل المعارِضة في رتب لواء وعميد وعقيد في الجيش الجديد المزمع تشكيله، وأفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بأن بين هؤلاء العناصر البالغ عددهم 49 نحو ستة “جهاديين أجانب”، ألباني وأردني وطاجيكي وآخر من الإيغور وتركي ومصري.

وتكرر الولايات المتحدة الأميركية منذ سقوط نظام بشار الأسد ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة، مواقفها بشأن المقاتلين الأجانب المنضوين إما إلى الجبهة مباشرة أو فصائل جهادية قاتلت إلى جانب المعارضين السوريين خلال السنوات السابقة.

فمنذ الأيام الأولى لتسلم الرئيس السوري أحمد الشرع منصبه تكرر واشنطن طلبها من دمشق باستبعاد المقاتلين الأجانب من أية مناصب رسمية في الدولة، بل تعتبره شرطاً جازماً ضمن قائمة معقدة من طلبات أميركية للتفكير وإعادة النظر في رفع العقوبات، وتقدم بشكل دبلوماسي وعلني عبر المسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحتى قبل مجيئه.

وجرت الطلبات في لقاء مساعدة وزير الخارجية باربارا ليف وكذلك دانييل روبنستاين، وكل تلك الطلبات تتمحور حول مكافحة الإرهاب واستبعاد المقاتلين الأجانب وعدم تشكيل أي تهديد على دول الجوار، وضمان حقوق الأقليات الدينية والعرقية، إضافة إلى الكشف عن المواطنين الأجانب المخفيين وليس انتهاءً بعملية سياسية شاملة مثلما ذكرت تامي بروس المتحدثة الجديدة باسم الخارجية في إدارة ترمب.

لا شك أن ملف استبعاد المقاتلين الأجانب نهائياً وفي عجالة سيشكل تحدياً كبيراً أمام الرئيس الشرع، فهؤلاء قاتلوا إلى جانب تنظيمه في محاربة قوات نظام الأسد ولديهم خلفيات وقدرات عسكرية وأمنية كبيرة كانت تشكل في غالب الأحيان رأس حربة في مواجهة القوات النظامية والميليشيات الإيرانية، كذلك أنهم قدموا ضحايا بأعداد كبيرة في جبهات مختلفة وخاضوا مع الشرع معارك السلاح والفكر لا سيما في مواجهة النظام والفصائل السورية في بعض الأحيان، وكذلك تنظيم “داعش” الأمر الذي يضع الرئيس السوري في مأزق في حال قبل الطلبات الأميركية أو أبقى على المقاتلين الأجانب في مراكز قيادية.

هذا في الوقت الذي تزداد فيه التقارير عن تغلغلهم في المجتمع السوري بعد ما كانوا في بقعة جغرافية محاصرة مثل منطقة إدلب، حيث باتوا يستقرون الآن في معظم المحافظات السورية التي تسيطر عليها حكومة دمشق بما فيها العاصمة التي تشكل لهم رمزاً جهادياً ودينياً يدعو للاحتفاء مثلما فعل والد المجاهد التركستاني أبو دجانة الذي حضن ولده وقبله وهو يبكي فرحاً بـ”نصر المسلمين” أمام باب الصالة الرئيسية لجامع أمية ذو الدلالة الرمزية لدى المسلمين

(اندبندنت عربية)

—————————-

بداية الحلم الدستوري الوطني.. الجمعية التأسيسية السورية (1949 – 1950)/ طالب الدغيم

2025.04.04

جرت انتخابات الجمعية التأسيسية في سوريا في 15 من تشرين الثاني/نوفمبر 1949، ومع أن تلك الانتخابات كانت شديدة الأهمية في سوريا، إلا أن نسبة إقبال الناخبين عليها كان فاتراً، ولم تتجاوز 45% في دمشق، و31% في حلب.

ولعل سبب الفتور هو التنافس والصراع بين الأحزاب السياسية، إذ دعا الحزب الوطني المواطنين لمقاطعة الانتخابات بعد رفض الحكومة الأتاسية العودة إلى دستور 1930، ورَفضِها دعوة البرلمان الذي حله حسني الزعيم للانعقاد، ليكون بديلاً عن انتخابات جديدة.

رأى كثيرون بأن انتخابات الجمعية كانت أول انتخابات نيابية حرةٍ في تاريخ سوريا الحديث، حيث أُعطيت تعليمات للناخبين للإدلاء بأصواتهم سراً، وتحت إشراف حكومي دقيق.  ونظراً لحرية تلك الانتخابات، أعلنت أكثر الصحف الحزبية “الإسلامية والقومية اليسارية” المتابعة، بأنها كانت من أكثر الانتخابات نزاهة في سوريا حتى ذلك التاريخ[1]. وقد شهد رجال الصحافة المحليون والأجانب، بأن الحرية التي مارسها الناخبون في انتخاب أعضاء الجمعية لم يكن لها مثيل في المشرق العربي[2].

وبذلك تحولت مقاعد الجمعية إلى ائتلاف جديد، مبني على تحالف شعبي إسلامي (بين حزب الشعب والجبهة الإسلامية)، بعد فوز حزب الشعب بـتسعةٍ وأربعين مقعداً، والجبهة الاسلامية بأربعةِ مقاعد، ونال المستقلون أربعين مقعداً.  وأخذت العشائر تسعةَ مقاعد، وفق القانون الانتخابي الجديد[3].

بدأت أولى جلسات الجمعية التأسيسية في 29 من كانون الثاني/يناير 1949، وانتُخب رشدي الكيخيا (أمين عام حزب الشعب) رئيساً لها.  وتم اختيار لجنةٍ دستوريةٍ عامة مؤلفة من ثلاثةٍ وثلاثين عضواً، واختارت اللجنة ناظم القدسي رئيساً لها، وكُلفت بوضع دستور جديد[4]. وتكونت اللجنة من أعضاء حزبيين وقانونيين ومستقلين، كانوا قد نالوا الثقة الشعبية في الانتخابات.

عَقدت اللجنة الدستورية العامة في الجمعية اجتماعاتٍ تمهيدية، وانتخبت لجانا فرعية “لجنة تحضيرية ولجنة صغرى”.

وتداولت اللجنة التحضيرية في خمسةٍ وأربعين اجتماعاً مُقترحات اللجنة الصغرى، وقرأت خلالها نحو خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً، من بينها دساتير عربية.  وبعد ذلك، أحيلت خلاصة نقاشات اللجنتين إلى اللجنة العامة لتعديلها.  وقد تجاوزت اجتماعات اللجنة العامة تسعة وعشرين اجتماعاً، وقامت بقراءةِ مسودة الدستور مرتين. ثم عرضت المسودة على الجمعية التأسيسية للحصول على الموافقة أو التعديل أو الرفض، وذلك في نيسان/ أبريل 1950[5]. وقد استغرقت مرحلة إعداد اللجان الثلاثة للدستور نحو ثلاثةَ أشهر كاملة تقريباً[6].

ومع ذلك، فلم تُعتَمدْ مسودة الدستور بشكل مباشر، بسبب عدم التوصل لاتفاق حول قضايا خلافية في عدد من مواده[7].  فانتخبت الجمعية لجنةً حزبية مشتركة، للوصول إلى حلٍ وسط حول تلك المواد.  وقد أنهت اللجنة أعمالها في تموز/يوليو 1950.  ومن ثم وافقت الجمعية بالأكثرية على تعديلات اللجنة النهائية في 5 من أيلول/سبتمبر 1950[8].

أكد دستور الجمعية لعام 1950 في مادته الأولى، على عروبة سوريا، ونظامها الجمهوري النيابي (م1). وأنها وحدة سياسية لا تتجزأ (م1).  وأضيف لها بأن السيادة من حق الشعب، وتقوم على مبدأ “حكم الشعب بالشعب وللشعب” (م2).  وكانت تلك الفقرة مستمدة من دساتير أميركا الشمالية، ومن دستور فرنسا لعام 1946، وأضيفت لها عبارتا “ديموقراطية” و”ذات سيادة” حتى تتناسب مع الأوضاع السياسية المتأزمة في سوريا في تلك المرحلة.

وفي سياق المرحلة، نشبت خلافات ساخنة حول المادة الثالثة، التي نصت على أن دين الدولة الاسلام.  فأخذت تلك المادة حيزاً كبيراً من النقاشات. وجرى تثبيت المادة كما وردت في دستور سوريا للعام 1930، بأن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام، وتكون حرية الاعتقاد مصونة للجميع على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم[9].

وقد تمثل الإنجاز القانوني المهم في دستور 1950 في طرحه مواد تتعلق بالحريات الفردية، وتأكيده على المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين(م28).  واعتبر عبد الوهاب حومد بأن دستور 1950 حقق ما يمكن تسميته بــ “مساواة الحظوظ الاجتماعية”، ووصفه بالقول: “هو مسألة خبزٍ، وبطن جائع، وهو رسالةُ عدالةٍ يتبناها الإسلام”[10].

 شمل الدستور الجديد وعوداً بالتغيير، والإصلاح الجذري في بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي.  حيث حُددت الملكيات العامة، وجرى تعيين طرق حيازة الملكية الخاصة(م21).  وكما نص الدستور على أن العمل هو أساس للحياة الاجتماعية، وهو حق للجميع (م26). والدولة تكفل توفيره لهم (م26)، وتقوم بحمايته من خلال تحديد عدد الساعات، وتحسين الظروف الاقتصادية والصحية للعاملين، وتأليف النقابات ضمن القانون (م29). ونص الدستور على إعطاء أولوية للتعليم، فهو  حق لكل مواطن سوري، ومن الضروري توسيعه في المناطق الريفية (م28)[11].  ولكن السؤال هنا: ما القيم الثقافية والاجتماعية التي حملتها صيغة الدستور الجديد لعام 1950؟

في قراءة تحليلية للدستور، يبدو لنا الفرق بينه وبين دستور سوريا الذي عدله الفرنسيون في عام 1930، ولا سيما فيما يتعلق باهتمام الدستور الجديد بالحقوق المواطنية والحريات العامة، والإلحاح على قضايا الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، والتأكيد على البعد الهوياتي القومي الاشتراكي في سوريا.

فقد عكست ديباجة الدستور التأثيرات الليبرالية التحررية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الغربية.  وفي الوقت ذاته، فقد كشفت مواده عن نفوذٍ كبير للنخبة الراديكالية اليسارية ذات التوجهات الاشتراكية.  فألحت تلك القوى على تغير النظام الاجتماعي والاقتصادي، والذي أُهمل طويلاً، نتيجة انشغال السوريين بأزماتهم بعد الاستقلال.  واعتبر حومد بأن ذلك الدستور أكد على القيمة الأخلاقية والروحية للحياة الدستورية الجديدة[12]، فأعطى المرأة المتعلمة حق الانتخاب، ومهد لها حق الترشح، بإعلان أديب الشيشكلي ذلك في دستوره عام 1953. 

وقد أشاد مصطفى السباعي (رئيس الجبهة الاسلامية الاشتراكية) بدستور 1950، وعدَّه “أول دستورٍ تُصدره هيئة منتخبة من قبل الأمة “و”لا علاقة له بسلطةٍ أجنبيةٍ أو استبدادية”.  ورآه يكتسي “ثوباً إسلامياً واشتراكياً معتدلاً”، ويمثل “صورةً صادقةً لرغبات الشعب”[13]، وهو ما يكشف مستوى التطور السياسي والثقافي في سوريا خلال المرحلة بين عامي 1920 و1950.

ومع ذلك، فإن دستور الجمعية احتوى على بعض الثغرات القانونية في صياغته، ولا سيما أنه تضمن مواد لا تقبل التعديل بسهولة، وسبب ذلك هو مخاوف النخبة الدستورية التي وضعته، من أن يَستغل السياسيون والعسكريون السلطةَ لصالحهم بعد انقلابين متتابعين.  وكذلك تزايد حدة الاستقطاب العنيفة بين القوى الحزبية المتصارعة، فكان لا بد من وجود مواد دائمة تُسرع عمله وتكون خاتمة للتعديلات المستمرة[14].  وقد كشف عيوب الدستور توري الذي رأى بأن “دستور 1950 احتوى على أكثر من مئة وستين مادةً جامدة”. مما أفسح المجال لكثرة التأويلات بشأنه، بسبب تركيزه على البنود الجزئية أكثر من المبادئ الأساسية الضرورية[15].

لعل أول ثغرة قانونية احتواها الدستور الجديد، هو إضافة المادة (165) في آخره، والتي نصت على تحويل الجمعية التأسيسية إلى مجلسٍ نيابي.  وكان من المنتظر أن يَحل الرئيس هاشم الأتاسي الجمعية، وتبدأ انتخابات نيابية جديدة.  ولكن التوتر السياسي، ومخاوف حزب الشعب (ذي الأغلبية داخل الجمعية) من عودة الحزب الوطني للسلطة، أو وصول قوى يسارية منافسة له في حال أجريت انتخابات جديدة.  وذلك دفعه لإقناع الأعضاء المستقلون في الجمعية، بأهمية تحويل الجمعية إلى برلمان للحيلولة دون عودة الفوضى إلى سوريا[16].

فكانت تلك القضية آخر النقاشات الحادة التي جرت في جلسات الجمعية، حيث طرح الأعضاء عدة أسئلة للنقاش، ومنها:

1ــ هل ستنقلب الجمعية إلى مجلس نيابي؟

2 ــ إذا تم تحويل الجمعية إلى برلمان هل المجلس قادر على تحمل مسؤولياته الداخلية والخارجية بناء على الدستور الجديد؟

وفي نهاية النقاشات، تم الاتفاق بين الأكثرية في الجمعية على تحويلها إلى مجلس نيابي، وتسلم صلاحيات النيابة المنصوص عليها في الدستور الجديد.  ومن ثم أعلن الدستور السوري بعد يوم واحد في 5 من أيلول/ سبتمبر 1950. وانتَخب النواب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، فأدى اليمين الدستورية رئيساً أمام البرلمان الجديد[17]. 

وبذلك مثَّل دستور 1950 حصيلةً دستورية لتجارب المراحل السياسية التي عاشتها سوريا بين أعوام 1908 و1950م. وقد عكس مناخاً من الحرية السياسية والاجتماعية في سوريا، وشكل وثيقة أولية كشفت طبيعة قضايا الخلاف الاستقطاب السياسي التي عاشتها سوريا فيما بعد، ولا سيما ما تعلق بقضايا مصيرية، كالأقليات داخل الدولة، وشكل الهوية السورية، والحريات السياسية، والإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية الفردية وغيرها.

في الواقع، رغم أن دستور الجمعية عام 1950، شكل انتعاشه نوعية للحياة المدنية، وللحريات السياسية التي أثبتتها النقاشات الشعبية والحزبية في تلك الفترة، إلا أنه كشف مطامح النخب الحزبية التي كانت تستولي على سلطة القرار، كحزب الشعب واليساريين الاشتراكيين، وأظهر اختلاف وجهات نظر قادة المجلس العسكري للجيش السوري. وبالتالي، فإنه بالرغم من الأهمية الليبرالية لتلك المرحلة، إلا أن تسلط النخب وسيطرتهم على القرار بالتحالف مع الجيش أثّر على الحياة الدستورية إلى درجةٍ كبيرة. ولهذا لم يَستمر العمل بالدستور طويلاً، وتعرض للإلغاء عدة مرات، وكان آخرها في شهر آذار/مارس 1963.

المراجع:

Torrey op. cit, 151.  [1]

وشارك في انتخابات الجمعية التأسيسية من المواطنين، نحو مليون ناخب سوري، مؤهلين للتصويت، وبينهم 8964 امرأة مصوتة. 

[2]نتائج انتخابات الجمعية، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثانية والستون، 15 من أيلول/سبتمبر 1950، 1169.

[3] الكيالي، المرجع السابق، 356.   

[4]تألفت اللجنة الدستورية في سنة 1950 من ناظم القدسي رئيساً، وعبد الوهاب حومد مُقرراً، وزكي الخطيب نائب الرئيس.  والأعضاء هم: إسبر اليازجي، وأنور إبراهيم باشا، وجميل العبد الله، وجلال السيد، وحسين الشوفي، وحامد منصور، وحكمت الحراكي، ودهام الهادي، وراتب الحسامي، ورئيف الملقي، ورزق الله الأنطاكي، وزكي الخطيب، وسعيد حيدر، وشاكر العاص، وعارف الطرقجي، وعبد اللطيف المقداد، وعبد اللطيف يونس، وعبد الله تامر، وعبد الحميد الدويدري، وعبد الوهاب حومد، وعبد الوهاب سكر، وعصمت شاهين، وعلي بوظو، وقاسم الهنيدي، وقدري المفتي، ولطيف غنيمة، ومحمد …. خير الحريري، ومحمد الشواف، ومصطفى السباعي، ومنير العجلاني، وهايل السرور وغيرهم، انظر: تقرير رئيس الجمعية رشدي الكيخيا، محاضر الجمعية التأسيسية، مُلحق الجلسة الحادية والعشرين، 15 من نيسان/أبريل 1950، 4 ــ 5

[5]محاضر الجمعية التأسيسية، المرجع نفسه، 4 ــ 5.

 [6]يوسف إيبيش ويوسف خوري، المرجع السابق، 746. 

[7] Torrey, op. cit, 170.

[8] عبد الوهاب حومد، تقرير لجنة الدستور، محاضر الجمعية، الجلسة التاسعة والثلاثون، 25 من تموز/يوليو 1950، 659.  وفي: محاضر الجمعية، الجلسة الحادية والأربعين، 29 من تموز/يوليو 1950، 660 ــ 665.  للاطلاع على نموذج من صيغة الدستور النهائية، انظر: الملحق 2. 

[9] محاضر الجمعية التأسيسية، المرجع السابق، 668.

[10]يوسف ايبش ويوسف خوري، المرجع السابق، 743. 

Majid, op.cit, 157.   [11]

[12] عبد الوهاب حومد، الجريدة الرسمية للجمهورية السورية، الجلسة الرابعة والأربعون في 1 من آب/أغسطس 1950، العدد 9، بتاريخ 1 من مارس 1951، 730.

[13] مصطفى السباعي، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، 24 من يوليو 1950، 637 ـــ 638.

Majid, op. cit, 158 -159.  [14]

Torrey, op. cit, 175. [15]

وكما أشار إلى عيوب دستور 1950 النائب المستقل عبد السلام حيدر.  فهو عده دستوراً قليل المرونة، وكما تظهر مواده وكأنه وضع كقانونٍ مؤقتٍ، وليس دستوراً ثابتاً.  وكما أنه احتوى مواد تفصيليةً كثيرة تتعلق بالتعليم، والوظائف العامة، والمعاهدات الدولية في المواد (25و36و60)، انظر: عبد السلام حيدر، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، 24 من تموز/يوليو 1950، 638 ـــ 640.

[16]محاضر المجلس النيابي، الجلسة الأخيرة للجمعية التأسيسية، 9 من أيلول/سبتمبر 1950، 10.

[17]الحوراني، المرجع السابق، ج2، 1240 ــ 1241.

تلفزيون سوريا

———————————-

ملف القواعد الروسية في سوريا: صراع المصالح بين موسكو وأوروبا/ ماهر الحمدان

2025-04-04

لا يزال ملف القواعد الروسية في سوريا أحد أكثر الملفات تعقيداً في المشهد الجيوسياسي الحالي. فمن جهة، تصر روسيا على الإبقاء على قواعدها العسكرية الاستراتيجية التي توفر لها منفذاً حيوياً على البحر الأبيض المتوسط، ومن جهة أخرى، يزداد الضغط الأوروبي لإخراج القوات الروسية من البلاد فوراً. يترافق ذلك مع تزايد الرفض الشعبي للوجود الروسي، خصوصاً مع ورود تقارير عن احتضان قاعدة حميميم عدداً من قادة “فلول النظام البائد” المتورطين في شن هجمات على قوات الأمن الداخلي والمدنيين في مناطق مثل اللاذقية، طرطوس، حماة وحمص.

عرض روسي جديد إلى دمشق

وفقاً لمصدر مطلع تحدث لموقع “لبنان الكبير”، قدَّمت روسيا عرضاً للرئاسة السورية عبر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، يتضمن خمس نقاط رئيسية:

– استئناف صفقة القمح: تزويد سوريا بكميات من القمح بأسعار مخفضة، مع الاشارة إلى أن هناك 300 ألف طن لم يتم توريدها بعد. هذا العرض يحمل أهمية كبرى لسوريا التي تواجه أزمة غذائية متفاقمة بفعل العقوبات الاقتصادية والانخفاض الحاد في الانتاج المحلي نتيجة الحرب وتأثير التغيرات المناخية على الزراعة.

– كبح القوى المعادية: تعهد روسيا بكبح بقايا فلول النظام السابق والدول الاقليمية التي تسعى الى دعمهم، ما يشير إلى استعداد موسكو للعب دور أكبر في استقرار النظام الحالي من خلال ضبط اللاعبين غير المنضبطين على الساحة السورية.

– الدعم في مجلس الأمن: استخدام موسكو لحق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن لصالح دمشق، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل الضغوط المتزايدة التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتمرير قرارات تمس المصالح السورية.

– تسليح الجيش السوري: دعم الجيش السوري عسكرياً، وهو أحد أهم الجوانب التي التي يمكن أن تراهن عليها دمشق، خصوصاً أن روسيا كانت المورد الرئيسي للأسلحة لسوريا، في وقت لا تستطيع فيه أوروبا أو الولايات المتحدة تقديم مساعدات عسكرية بسبب العقوبات.

– تفعيل اتفاقية أمنية مع إسرائيل: التزام موسكو بضمان أمن الحدود السورية مع الجولان المحتل ضمن اتفاقية سبق التفاوض عليها في قاعدة حميميم. هذا البند يعكس محاولات روسيا للحفاظ على توازن دقيق بين دعمها لسوريا وعلاقاتها مع إسرائيل، التي نفذت عشرات الضربات الجوية ضد أهداف إيرانية وسورية خلال السنوات الأخيرة.

سيناريوهات الرفض والبدائل المطروحة

في حال رفضت دمشق العرض الروسي، فقد تطرح موسكو سيناريو خروج منسق للقوات الروسية، يراعي الحفاظ على مكانتها الاقليمية والدولية. أما في حال قبول العرض، فستتم إزالة الديون جزئياً أو كلياً كجزء من المفاوضات المستقبلية.

على الرغم من أن موسكو لم تفرض حتى الآن أي تهديدات مباشرة، إلا أن الضغط غير المباشر قد يكون واضحاً من خلال تقليل الدعم الاقتصادي، مثل توريد النفط والغاز أو تقليص الدفعات المالية المطبوعة في موسكو، ما قد يؤدي إلى خلل كبير في التوازن الاقتصادي الداخلي لسوريا.

المصدر نفسه أشار إلى أن العرض الروسي جاء بتنسيق من الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ورئيس إحدى الجمهوريات الروسية ذات الأغلبية المسلمة، الذي يشغل منصباً مهماً في مجلس الأمن الروسي. حتى الآن، لم ترد الرئاسة السورية على المقترح، وليس هناك مؤشرات واضحة على قبوله.

بين موسكو وأوروبا.. هامش محدود للمناورة

آرام الدوماني، أمين سر التحالف السوري الوطني، يرى أن دمشق تمتلك فرصة محدودة للمناورة بين العروض الروسية والضغوط الأوروبية. “ربما يكون الحل الأمثل هو الإبقاء على قاعدة روسية واحدة ولكن ضمن شروط متفق عليها، مقابل حوافز من أوروبا.”

ويضيف: “روسيا تطرح هذه العروض كبداية لمفاوضات طويلة، وقد تكون مستعدة لتقديم مزيد من التنازلات. أما أوروبا، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، فلديها أيضاً أوراق ضغط، خصوصاً في ظل العقوبات المفروضة على سوريا. لا يمكننا إهدار أي فرصة، فنحن في وضع كارثي، نعاني من الإنهاك جراء الحرب، ونترقب رفع العقوبات الدولية التي قد تحدث خلال أشهر أو ربما سنة، بناءً على قرار إدارة ترامب المرتقب. كما أن للمملكة العربية السعودية دوراً كبيراً في تحديد مسار هذه التطورات.”

مستقبل الوجود الروسي في سوريا

الواضح أن روسيا لا تنوي الانسحاب من سوريا بسهولة، بل تسعى إلى تعظيم مكاسبها الجيوسياسية والاقتصادية. ومع احتدام الصراع بين القوى الكبرى، ستكون المفاوضات القادمة بمثابة اختبار حقيقي لقدرة دمشق على تحقيق توازن يضمن استمرار دعم حلفائها، من دون خسارة فرص الانفتاح على أوروبا.

في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح سوريا في استثمار هذا التنافس الدولي لصالحها، أم أنها ستجد نفسها في موقف الخضوع لإحدى القوتين من دون تحقيق مكاسب استراتيجية؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف عن المسار الذي ستتبعه دمشق في هذا الملف الشائك.

موقع لبنان الكبير

————————————-

 في بؤس نخبة سورية/ معقل زهور عدي

تؤسس نخبة سورية اليوم منطقها في حقل السياسة باستخدام أدوات ثقافية ليس لفهم الواقع ولكن للتحايل عليه , بصراحة أكثر لتزييفه , وحين تقوم بتزييف الواقع فهي تلوي عنق الحقائق لتخدم في النهاية النتائج التي تريد التوصل إليها .

في مواجهة ظاهرة يبدو أنها أقلقت نخبة سورية كونها تسير ليس كما تحب تلك النخبة بل بطريق معاكسة تتمثل في ذلك التأييد الشعبي الواسع غير المعهود الذي يتمتع به العهد الجديد , هذا التأييد الذي يجعل من الوقوف ضده والسعي لإسقاطه لصالح نموذج خيالي مركب من مدينة ديمقراطية فاضلة كان يجب أن تنبثق تلقائيا وفورا مع إسقاط النظام البائد الذي تصر تلك النخب على تشخيصه بكونه ” استبداديا ” مع خطين تحت كلمة “استبدادي” مع كونه – كما تدعي- رغم استبداديته لم يكن نظاما بمرجعية دينية ( لاحظ كيف يعطى امتيازا عن العهد الجديد بطريقة ناعمة ) أما نظام الشرع فهو استبدادي بمرجعية دينية ( صلبة ) .

بعد هذا التشخيص الذي سأتحدث لاحقا عن مدى زيفه , تصبح المشكلة التي نواجهها هي هذا التأييد الشعبي الواسع الذي يسد على النخبة الطريق نحو السلطة .. من أجل رفع الشعب الجاهل إلى الجنة الديمقراطية التي لايدركها عقله .

وكي لاتقع النخبة في هجاء الشعب فهي تختار هدفا أسهل ( سوف تارغت ) كما يقال , والهدف هنا هو من لايستجيب لها من المثقفين في الوقوف ضد العهد الجديد , فهؤلاء هم من يمنح “قطيع الأغنام” شيئا من الشرعية الثقافية وحين يمكن عزلهم أو إقناعهم بالانضمام لركب النخب المعارضة يصبح من السهل مهاجمة الشعب أو ” قطيع الأغنام ” السائر وراء عاطفته الدينية .

والتحايل في الهجوم علي تلك النخب التي لاتسير كما يريدون سهل وبسيط , إخفاء وقوفهم مع شعبهم وفهمهم لمعاناته وتطلعاته , واستبدال ذلك بكونهم لاينقدون بما يكفي العهد الجديد , بل يصفقون له والحقيقة أن المسألة ليست في جوهرها في النقد ولكن في مهاجمة العهد الجديد بوصفه استعادة للاستبداد بطريقة أسوأ من استبداد بشار الأسد .

وحين يكون الأمر كذلك فليس المطلوب نقد العهد الجديد ولكن استبداله , فهو” مجرد سلطة سياسية مؤسسة على العسكر بمرجعية دينية صلبة ومتشددة , وعلى المثقفين أن يفهموا أن السلطة شيء والدولة شيء آخر , بالتالي فالهجوم على السلطة واستبدالها لايعني الوقوف ضد الدولة” هكذا تصبح المسألة بعد أن يتم تزييفها .

الآن أين يكمن الزيف في أسس التحليل والتضليل في نتائجه الخطيرة :

من البداية فالنظام السابق ليس محض نظام استبدادي ونقطة على السطر , هذا يشبه من يقول عن السم إنه مجرد مشروب مر الطعم , النظام السابق ياسادة نظام إبادي وحشي كاد يقتلع شعبا بكامله من أرضه ويرميه في أصقاع الأرض عبر البحار بعد أن قتل مايقارب مليونا منه بالقصف بالبراميل والصواريخ البالستية والمدفعية الثقيلة والطيران الذي لم يستخدمه حاكم ضد شعبه كما استخدمه بشار الأسد , وحين لم يفلح بانهاء المعركة لصالحه لجأ للأسلحة الكيماوية ولولا أن منعته الدول الكبرى عن استخدامها وجعلتها خطا أحمر ليس للشفقة والانسانية ولكن لاعتبارات استراتيجية دولية لأباد مدنا بكاملها بالسلاح الكيماوي . ثم استقدم النظام الايراني بكل ثقله وأذرعه الميليشاوية والطيران الروسي بكل قوته وفعاليته في قصف حلب وادلب وقرى حماة وغيرها لحسم الصراع بأية طريقة والبقاء في الحكم ولو بجزء من سورية.

الحقيقة الناصعة التي يتعامى عنها مثقفو الغفلة أن الشعب السوري في غالبيته الساحقة كان يباد بكل مافي الكلمة من معنى , وإلا فما هي دلالة أن يقتل مليون انسان حوالي 90% منهم من المدنيين ومعظمهم من الشباب ويسجن مئات الألوف ليموتوا تحت التعذيب ويطرد مايزيد عن عشرة مليون من مدنهم وقراهم لتتحول إلى أنقاض لايعيش فيها سوى البوم والغراب .

لم تكن إبادة العرب المسلمين في الأندلس بعيدة عن إبادة السوريين لو استمر نظام بشار الأسد ” الاستبدادي” فهم لم يبادوا بقتلهم جميعا بالسيف ولكن أبيدوا بطرق شتى منها القتل ومنها السجن والتعذيب ومنها التهجير وهكذا سنة بعد سنة اختفى شعب كان يعد بحوالي سبعة مليون عربي مسلم يوصف بأنه كان أرقى شعب أوربي في زمنه .

الآن حين نخفي حقيقة وجوهر نظام بشار الأسد الابادي الوحشي ونعيد تعريفه بكونه ” استبدادي ” فما نفعله هو أننا نزيف الحقيقة بتخفيف صفته إلى حد كبير لدرجة أني لا أشك أن بشار سيكون سعيدا جدا حين يوصف بأنه ” مستبد ” ولاحظوا معي أن إعادة تعريف بشار ونظامه بالاستبداد يجعله نظاما عاديا ضمن عشرات الأنظمة الاستبدادية في المنطقة .

هذا التزييف في إعادة تعريف النظام البائد يعطيه الحق في أن يقارن بأي استبداد آخر فكيف باستبداد يجري إضفاء الطابع الديني المتزمت عليه مع التلاعب با ستحضار كل المخيال المرتبط بسلوك القاعدة الوحشي تجاه المذاهب الأخرى وتجاه من يعارضها .

أما التزييف في النتائج التي تريد النخبة البائسة الوصول إليها فهي طرح ماهو منطقي وينسجم مع مقدماتها الكاذبة وهو التالي : ” لماذا نقبل بسلطة استبدادية لتحل محل استبداد الأسد ؟ ” ولاحظوا معي أننا هنا لم نعد بصدد النقد ولكن بصدد الاستبدال هذه واحدة , الثانية تكمن في استخدام بديهة معروفة لكن لاتنطبق على الواقع الراهن حين يتم تذكيرنا ” بذكاء ” أن السلطة غير الدولة , يعني لاتخافوا على الدولة نحن نريد فقط استبدال السلطة , أما الواقع فهو أن الدولة السورية انهارت مع انهيار النظام وأن السلطة الحالية بكل عيوبها هي وحدها القادرة والمؤهلة لاعادة بناء الدولة , وحين تسقط هذه السلطة فلن تنبثق الدولة السورية بل ستتمزق سورية إلى أشلاء لكن ماذا يهم هذه النخبة التي لاتنظر سوى إلى سرة بطنها ؟.

أخيرا : لماذا لاتبتعد تلك النخبة قليلا عن الألعاب البهلوانية وتقول لنا بصراحة واستقامة كيف ستستبدل هذه السلطة بكل النعومة والسلاسة التي توحي بها ؟

هل عن طريق التدخل الأمريكي أم الاسرائيلي أم الروسي أم عن طريق زرع الفوضى والأعمال الارهابية بالتحالف مع فلول النظام ؟

نعم نحن مع العهد الجديد وسنقف ضد من يسعى لإسقاطه , فلايوجد شعب يختار العودة لمقصلة الإبادة .

وضمن ذلك سنظل ننقد أخطاءه ونسعى بكل الطرق السلمية للدفع باتجاه الدولة الوطنية الديمقراطية .

—————————

على وقع حلحلة ملفات متوسطية عالقة.. أي دور فرنسي مرتقب في سوريا ولبنان؟/ محمد كساح

4 أبريل 2025

تحاول باريس استغلال الفرصة السانحة لملء جزء من الفراغ الذي خلّفه إخلاء سوريا من اللاعبين الروسي والإيراني، حليفي النظام السابق، للعودة بدور أكبر بدأت ملامحه بالتشكل خلال القمة الخماسية التي عُقدت بحضور الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، خاصةً أن الظروف باتت ملائمة. فالسلطة السورية الجديدة مستعدة للمشاركة في إطفاء حرائق الإقليم، كما أن هناك ملفات يمكن حلها بسرعة كبيرة، على رأسها ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، وقضية اللاجئين الذين يشكلون ضغطًا كبيرًا على كل من اليونان وقبرص المشاركتين في القمة.

وضمت القمة الاستثنائية التي عقدت، الأسبوع الماضي، كلًا من الرئيس السوري أحمد الشرع، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرئيس اللبناني جوزاف عون، والرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس. وتطرقت إلى مجموعة من الملفات الحساسة التي تؤثر على العلاقات بين الدول المشاركة، وعلى مستقبل المنطقة في ضوء التحديات المشتركة التي تواجهها.

وقال بيان صادر عن رئاسة الجمهورية العربية السورية إن الرئيس الشرع دعا إلى ضرورة إنهاء هذه العقوبات التي تؤثر بشكل مدمر على الاقتصاد السوري. فيما أبدى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعمًا مشروطًا لرفع بعض القيود الاقتصادية، مشيرًا إلى أنها خطوة ضرورية لتحقيق تقدم سياسي داخل سوريا.

وخلال القمة التي انعقدت عبر تقنية “الزووم”، تم مناقشة تعزيز التعاون بين الدول المتوسطية في مجالات متعددة، أبرزها الطاقة والنقل. بينما أكد رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، على ضرورة تعزيز التنسيق الإقليمي لمكافحة الهجرة غير الشرعية، مشيرًا إلى استعداد بلاده للمساهمة في مشروعات الطاقة في سوريا والشرق الأوسط. من جهتها، نوهت قبرص بأهمية زيادة التعاون المشترك في هذه المجالات، مؤكدة ضرورة احترام سيادة الدول وإرساء العدالة الانتقالية في المنطقة.

قضايا اللاجئين العالقة

وتعليقًا على ذلك، يرى السياسي السوري أيمن عبد النور، في حديثه لموقع “الترا سوريا”، أن “القمة مهمة لأنها تظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كأحد الزعماء الكبار في الاتحاد الأوروبي، والذي يسعى إلى حل وتفكيك المشكلات التي تواجه دول الاتحاد الأوروبي مع دول أخرى”.

ويضيف أن القمة تعالج المشكلات التي تواجهها كل من اليونان وقبرص، والمتعلقة باللاجئين السوريين واللبنانيين، نظرًا لكثافة الهجرات من سوريا ولبنان نحو قبرص، ولأن اليونان تعد بوابة المهاجرين إلى أوروبا.

ويلفت عبد النور إلى أن “الرئيس الفرنسي طرح نفسه كزعيم أوروبي قادر على حل هذه المشكلات، سواء فيما يتعلق بإعادة اللاجئين أو التواصل مع الحكومة السورية لمعرفة معلومات مهمة حول اللاجئين المطلوبين الذين دخلوا أوروبا، والتي لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من الحصول عليها في ظل النظام السابق”. ويستبعد عبد النور أن تكون القمة الخماسية مرتبطة بملف ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، لأن هذا الملف كان سابقًا للقمة، وجرت التحضيرات له منذ أكثر من شهر.

وحول ملف العقوبات الغربية وهل يمكن أن تسهم القمة في رفعها، يوضح عبد النور بأن “الغرب واضح جدًا في هذه القضية، فهو يشترط على السلطة الجديدة عددًا من الإجراءات مثل إشراك الأطراف السورية في الحكم بشكل فعلي، والمساعدة في مكافحة الإرهاب، وتحقيق الأمان تمهيدًا لعودة اللاجئين، لتخفيف العقوبات لا رفعها”.

هل الظروف ملائمة لباريس؟

ويلاحظ المحلل السياسي درويش خليفة أن “باريس تبحث عن مكان لها في المنطقة بعد إقصاء الدور الإيراني والروسي، وهي بحكم وجودها التاريخي في المنطقة تحاول استغلال ضعف موسكو وطهران، وترهل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية فيهما، لتكريس حضور قوي في سوريا”.

ويتابع خلال حديث لـ”الترا سوريا” أن “الظروف حاليًا ملائمة للدور الفرنسي المرتقب، والذي سيكون عودة فرنسية بوضع جديد مغاير للوضع السابق عندما كانت دولة مستعمرة لسوريا ولبنان”.

ولا يعتبر درويش أن الاجتماع الذي جرى بمثابة قمة، نظرًا لأن الملفات التي تم التطرق إليها كانت محددة، مثل ترسيم الحدود، وضبط القوات الموجودة بالقرب من الحدود، وعودة الوئام بين البلدين بعد اضطرابات عديدة، منها تدخل الجيش السوري سابقًا في لبنان، وتدخل “حزب الله” اللبناني في سوريا بعد الثورة السورية ومساندته للنظام المخلوع. ويرجح أن “تلعب فرنسا دورًا يمكن أن يعوض خروجها من دول غرب أفريقيا مثل غانا والنيجر، مقابل التمدد الروسي في تلك الدول”.

بالموازاة، جرت الإشارة إلى ملف العقوبات الغربية على سوريا خلال القمة، فهل يمكن أن يتم رفعها تدريجيًا كأحد مخرجات هذا اللقاء؟ يجيب خليفة أن “أوروبا رفعت العقوبات جزئيًا في وقت سابق، لكن هذه الخطوة تبقى بدون قيمة كبيرة إن لم تبادر واشنطن إلى رفع العقوبات الأميركية، لأن نظام التحويلات البنكية هو نظام أميركي وأي قفز على هذا النظام لن يكون مجديًا للسوريين”.

وهذه ليست المرة الأولى التي تحاول باريس العودة إلى المنطقة بدور فعال بغض النظر عمن يرأس السلطة في دمشق، بحسب ما يشير خليفة، فقد حضرت قمة بغداد سابقًا بالرغم من مناوئتها للنظام البائد، ما يعني أن الحضور الفرنسي لا يرتبط بالنظام الحاكم بقدر ما يستغل فرصة الفراغ الذي خلفه سقوط النظام السابق.

الترا سوريا

—————————

هل يستوعب وزير الثقافة مسؤوليات وزارته؟/ إيناس حقي

3 أبريل 2025

تشكلت الحكومة الانتقالية في سوريا وسط ترقب شديد وتسريبات واهتمام شعبي عام لا مثيل له في الزمن المعاصر، لأن الوزارات “الأسدية” لم تكن يومًا تثير الاهتمام، ولم تكن الشخصيات التي تقبل التكليف الوزاري في ذلك الزمان تغير من إنجاز الوزارات في ظل انتشار الفساد وقلة حيلة الوزراء في مواجهة التغول الأمني. كان تكليف الوزارة الانتقالية حدثًا أُعطي أهمية استثنائية، فدُعي أفراد من المجتمع لحضور التكليف، وكان للحفل عريف يقدم الوزراء ويتيح لكل منهم إلقاء كلمة قصيرة تتضمن رؤيته لوزارته قبل قيامه بأداء القسم أمام رئيس الجمهورية.

سادت في الأوساط الثقافية والفنية توقعات وتمنيات فيما يتعلق بوزير الثقافة الجديد، وكان على رأسها أمنية بأن تكون الوزارة من حصة النساء، لكن ضآلة الحصة النسائية جعلت الوزارة تنتهي إلى تكليف محمد صالح، وهو مقدم برنامج “تأملات” في قناة الجزيرة سابقًا.

لم يسر محمد صالح في كلمته على هدي بقية الوزراء، إذ لم يخبرنا برؤيته ولا بخطته للوزارة، وإنما مال إلى البلاغة والخطابة وألقى علينا من شعره، مما جعل كلمته الأكثر تداولًا على وسائل التواصل الاجتماعي لأنها لامست العواطف والمشاعر مقارنةً ببعض الكلمات التكنوقراطية التي ألقاها الآخرون.

ورغم ابتعاد كلمة وزير الثقافة عن خطة، إلا أنه عرف الثقافة ثلاث مرات، وكان كل تعريف يستحق التوقف عنده، إذ قال إن الثقافة هي أن نُفتت ونبتعد عن كل المنظومة الثقافية التي كان يتبناها الوضيع الهارب البائد، وإن الثقافة هي عمل الخير وعمل الإحسان، وإنها ثقافة التآخي. وابتعد الوزير بذلك عن كل التعاريف السائدة عالميًا للثقافة التي تتنوع وتتجاوز المئات، ولعل أبرزها تعريف “اليونيسكو” للثقافة التي ترى أنها “في معناها الواسع، مجموع السمات المميزة الروحانية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجموعة أو جماعة اجتماعية”. وفي تعريفها الأنثروبولوجي، تشكل الثقافة هوية المجتمع. مما يجعل أغرب ما قاله الوزير في كلمته أنه “لا يمكن أن نذهب إلى ترف المعرفة في وقت تسود فيه الحاجة”، فما الترف في إعادة تعريف الهوية السورية اليوم؟

الثقافة السورية اليوم أمام استحقاق استثنائي، يتطلب منها إعادة صياغة الهوية الجامعة السورية، ويمكن للثقافة اليوم أن تقدم نموذجًا لهذه الهوية يتجاوز الطوائف والإثنيات، بل ويعيد بناء الإنسان السوري، وهذا ليس ترفًا بل ضرورة وطنية وأولوية، يجب أن تكرس لها كل الإمكانات.

تضطلع وزارة الثقافة السورية بمهام الإشراف على الآداب والفنون، وتتبع لها أجسام عديدة منها المراكز الثقافية في كل المحافظات، والمكتبة الوطنية، ومطبعة الوزارة، والمعاهد المسرحية والموسيقية والسينمائية، والمؤسسة العامة للسينما، ومديريات المسارح والموسيقى والمتاحف، وهي مسؤولة عن الحفاظ على التراث المادي واللامادي لسوريا، كما تنظم المعارض والمهرجانات والاحتفالات. وكل هذه المهام الواسعة والممتدة تحمل الوزارة مسؤوليات جمة لإعادة إحياء الحياة الثقافية والفنية التي قضى عليها “الأسدان”، الأب فالابن، قضاء مبرمًا.

يمكن تفهّم أن إعادة إحياء الثقافة وبناء الهوية الوطنية مهام لا يمكن أن تتم دون ميزانيات ضخمة، وأن حال الدولة السورية اليوم لا يسمح بتخصيص ميزانية هائلة للثقافة في ظل أولويات أخرى كالخدمات وإعادة الإعمار، لكن النظر إلى الثقافة كترف سيؤخر عملية البناء كثيرًا، وسيجعل الهوية السورية الهشة عرضة للتفتت وللتمزق أكثر مما هي مفتتة وممزقة.

إن إعادة لئم الجراح السورية النازفة هو عملية بطيئة وقد تستغرق دهرًا إن لم يتم وضعها ضمن الأولويات، بل وإن إهمالها قد يؤدي إلى انفجارات لا تحمد عقباها، لكن هذه العملية البطيئة يمكن تسريعها إن كانت على أولويات وزارة الثقافة الجديدة.

تستطيع الفنون والآداب لعب دور أساسي في عملية العدالة الانتقالية، ولنا في تجارب سابقة خير دليل على هذا الدور. فقد استطاع مسرح المقهورين في أميركا اللاتينية أن يجعل للمواطن صوتًا يسمع، وأتاح للجمهور التعبير عن رأيه وبناء مواطنة جماعية. كما استطاع المسرح السياسي والمدني أن يلعب دورًا في تسجيل التاريخ وفي توثيق الشهادات كما في رواندا. تقول آنا تكسيريا عن عرض “راوندا 94” الذي وثق شهادات ضحايا المجزرة مستعينةً بمقولة للمسرحي البيروفي يوياشكاني: “لا نريد أن نكون جزءًا من تاريخ الفن بل من تاريخ بلدنا”. المسرح هو المكان المناسب لدراسة وتحليل التاريخ كما لعرض حقيقة العالم، ويستطيع الفن أيضًا أن يساهم في عملية تخليد ذكرى الضحايا من خلال الأعمال الفنية التي تتناول سيرهم وتذكر الجمهور بتضحياتهم.

لا تبشّر كلمة وزير الثقافة بقدرة عميقة على فهم المسؤولية الكبيرة المناطة به، ولا توحي بخطة لدور مدروس في بناء الهوية الوطنية الجامعة القائمة على مبادئ المواطنة، لكن الثقافة والفن السوريين لم يكونا يومًا انعاكاسًا لسياسات الدولة، فلو كانا كذلك لما وجدنا أي شكل من أشكال الفن والثقافة في العهد الأسدي، لم يتوان الفنانون والمثقفون السوريون عن تنفيذ ما وجدوا أنه مصلحة بلدهم وإن وضعهم ذلك في مواجهات مفتوحة مع السلطات.

ولا نتمنى اليوم أن نعود إلى ذلك الشكل من المواجهات، وإنما نتمنى إما أن يفتح المسؤولون قلوبهم وآذانهم للانتقادات، وأن يعدلوا سريعًا ما يبدر عنهم خطأ فيصوبوا المسار، أو أن يستقيلوا في حال أحسوا أن المهمة تفوق طاقاتهم.

تبقى سوريا اليوم، التي تبدو كل الاحتمالات أمام مستقبلها مفتوحة، أرحم وأرحب من سوريا مسدودة الأفق التي طردت منها أبناءها وقتلتهم أو أجبرتهم على الصمت.

الترا سوريا

——————————

=======================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 04 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

—————————

سُنَّة وعلويون” إن بقينا على غفلتنا/ مالك داغستاني

2025.04.03

الأسبوع الماضي، بعد نشر مادتي “طائفيون بربطات عنق”، نالني ما نالني من التأنيب الذي صدر عن أصدقاء كثر أحبهم. سأعترف بأنه تأنيب ودودٌ بالقياس مع ما بدت لهم أنها مادة قاسية. خضت نقاشات خاصة مع بعضهم. منهم من كان غاضباً بشدّة مما ورد في مقالتي، بعضهم أقل غضباً، مع كثر استحسنوها، بل واعتبروها منصفة.

لن أكتمكم، ولن أكتم أصدقائي من الطرفين، أن الموقف العميق في معظم تلك النقاشات والمواقف كان يعتمد على الجذر الطائفي لصاحب الموقف إن كان سنّياً أو علوياً، حتى لو أن أصحاب الموقف لا طائفيون، كما أنا متأكد. اكتشفت، خلال تلك المعمعة، أن شيئاً واحداً قد شفع لي لدى المعترضين، وهو أنهم يعرفون تماماً أني أحمل في قلبي وعقلي ما يشبه ميزان الذهب، خصوصاً حين أكتب، كي لا أترك لشيء أن يتفلّت خلال الكتابة.

أهم ما توصلت إليه، شخصياً، خلال تلك النقاشات، الصريحة بمعظمها، أن هناك قشرة رقيقة لم نرفعها بعد، تغطي طبقة مترسبة في دواخلنا، لم نتمكن حتى الآن، من الوصول إليها خلال أعمق المكاشفات. الأمر الذي ينطبق حتى على الأكثر شفافية بيننا. تبدو تلك القشرة أحياناً تخفي ما يشبه الميل العاطفي طائفياً (هو أنسب توصيف توصلت إليه لحالتنا). ليبدو هذا الميل في موقعٍ أقل من أن يصلح لوسم صاحبه بأنه طائفي، وهنا لن أبرئ نفسي.

كيف ذلك؟ لستُ باحثاً مختصاً أصلح للإجابة عن هذا السؤال الشائك الذي يحتاج إلى دراسات معمقة، ولكن سأحاول أن أتلمس، بشكل سريع (سطحي للأسف)، بعض الجوانب والأسباب التي أجد أنها أورثتنا ما نحن عليه اليوم. أهمها، حجم الجريمة التي ارتكبها نظام الأسد الأب، خصوصاً خلال مواجهات الثمانينات حيث تشكّلت بدايات الشرخ، كي لا نذهب بعيداً في تاريخ الطوائف وتشكّلها وحقائق باطنيتها الدينية عند العلويين، وتقيّتها السياسية عند السنّة.

بدأ الأمر مع المجازر التي ارتكبها حافظ الأسد ليس بحق الإخوان المسلمين، أعدائه المعلنين بحسب خطابه السياسي، بل بحق بيئات السنّة في أكثر من مدينة سورية، عبر أجهزة الأمن وعبر “سرايا الدفاع” والوحدات الخاصة، ذات الصبغة العلوية التي قادها رفعت الأسد وعلي حيدر وهاشم معلا وغيرهم من الأسماء المعروفة في تلك المرحلة، ما أكسب المواجهة بعداً طائفياً ملموساً في المجتمع، فجعل تلك البيئات، من الجانبين، تنكمش تجاه المختلف طائفياً. فبدا كأن العلويين هم من ارتكبوا الجريمة من وجهة نظر السنة، وبدا للعلويين أن الطرف الآخر (السُنَّة) كان يخطط لإبادة العلويين عبر اقتلاع النظام، بحسب الرواية غير المعلنة التي حاول الأسد ترويجها وترسيخها في البيئة العلوية.

كانت رسالة الأسد الأب يومها للسوريين “سوف أحكمكم إلى الأبد” التي تحولت شعاراً فيما بعد، أما السنّة فقد قرؤوا الشعار “العلويون سيحكمونكم إلى الأبد”. ثم جاء توريث الابن ليؤكد لهم، إن الأبد العلوي الذي اعتقدوه دوماً كان صحيحاً. فالتوريث لم يكن دستورياً (أرجو ألا تسخروا من استخدامي لمثل تلك التعبيرات) ولا حتى عائلياً بالمعنى الملكي للتوريث من وجهة نظر السُنّة، لكنه طائفي ارتدى ثوباً عائلياً، ليجد تبريراً ولو كان واهياً. فتهمة أنه توريث عائلي أخف وطأة من أن يكون توريثاً طائفياً.

ثم لتأتي بعدها الجريمة والمجزرة الكبرى خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة على يد الابن الذي ورث الحكم، والتي مرة أخرى طالت تلك البيئات، حيث ضحايا القتل تحت التعذيب وضحايا القصف وتدمير المدن والقرى، والكيماوي والبراميل. وكانت الحصيلة قتل وتشتيت تلك البيئات وتهجيرها، ومرة أخرى بدا لهؤلاء أن المرتكب هو العلوي، في معظم الحالات، ومن السذاجة إقناع الضحايا بغير ذلك، حتى لو صحَّ نسبياً في بعض الحالات.

كل هذا جعل من العلوي في الذهن السوري الأكثري شريكاً أصيلاً للقاتل، إن لم يكن هو القاتل بصفته الطائفية. بدا هذا حتى في أذهان أكثر المنصفين، ولن ينفع هنا ولن يغير في الأمر تبريرات من مثل بأن الأسد أفقر البيئات العلوية مما جعلها تتوجه لأجهزة الأمن والحرس الجمهوري، بصفتها تلك وليس بسبب الانتماء الطائفي، فباقي البيئات السورية ليست أكثر غنى، بل هناك بيئات أشد فقراً وتخلفاً، لكن الأسد اعتمد العصبية الطائفية لشدّ أزره والحفاظ على بقائه في السلطة، ونجح في ذلك عبر تقديمه بعض المكاسب المادية مما تنتجه الدولة، وعبر نهب منظّم (تعفيش) طال تلك البيئات لسنوات طويلة.

تلك الممارسات رسّخت لدى عموم الجمهور قناعاته الصلبة التي نشهد نتائجها اليوم بتصويب الاتهام نحو العلوي بصفته شريكاً للقاتل. ولن ينجو من هذا الانحياز حتى أشد المنصفين والعقلانيين من السُنَّة، فحتى لدى هؤلاء، من ذوي التفكير الهادئ، هناك ندبة ترسخت خلال نصف قرن، حتى لو ادّعوا عدم وجودها.

المخيف للمستقبل، أن ما يحدث اليوم من قتل طائفي ومجازر انتقامية في الساحل، لم تتوقف حتى الآن، سيترك ندبة أخرى مماثلة في الطرف المقابل، حتى لدى المنصفين الذين يعرفون دوافع ما يجري وسياقه التاريخي، نحن نرى بوادرها اليوم،، لتجعل من السنّي حتى لو كان عقلانياً ومنصفاً شخصاً ينتمي إلى جهة مقابلة، وهذا ما نشهده بوضوح في ظلّ الاستقطاب الحاد حالياً. شخصياً، حاولت خلال هذا الأسبوع تلمس تضاريس تلك الندبة في داخلي فلم أصل إلى نتيجة، ومع ذلك ليس لديَّ أدنى شك بأنها موجودة، ربما في مكان أعمق من الذي وصلت إليه حتى الآن.

خلال زيارة امتدت شهراً إلى سوريا بعد سقوط الأسد، سمعتُ من الكثيرين في مجتمع المدينة، عن فرحهم بكسر احتكار العلويين لوظائف الدولة، بل وحتى الأمنيات بطردهم منها، هنا أتحدث بشكل خاص عن مدينتي حمص، حيث يتداول الناس نسباً مئوية حقيقية كاسحة عن احتلال العلويين للوظائف في كل مؤسسة أو دائرة حكومية في المدينة. توزيع الريعية المادية الناتجة عن الوظائف الرسمية في الدولة على أساس طائفي، ليس أمراً غير ذي أثر لدى هؤلاء المواطنين الذين كانوا يجدون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة في “سوريا الأسد” إلى ما قبل سقوطه بيوم واحد.

الصراخ اليوم لدى أصدقاء علويين بأننا ذاهبون إلى الكارثة، وإلى شرخ اجتماعي وطائفي سوف يمتد لعشرات السنوات محق وصحيح تماماً، لكن الأكثر صحةً أنه لا الكارثة ولا مختلف أنواع الشروخ الاجتماعية والدينية والطائفية والإثنية ابتدأت في الساحل خلال آذار/مارس الماضي. بدأ هذا قبل نصف قرن وما زال مستمراً إلى اليوم، ويجب العمل فوراً على وقفه، لنتمكن، بعد زمن ربما ليس بالقليل، من القول إننا عائدون من الكارثة، ولسنا ذاهبين إليها.

أسهل حياة للفرد، عندما يتعلق الأمر بالخوض في القضايا العامة، هي السير ببلادةٍ مع قطيع ما، وتبني أفكار هذا القطيع مهما كانت ركيكة، دون طرح الأسئلة، ودون الشعور بالمسؤولية الوطنية، مع ما يرافق ذلك، من ضرورة رمي القطعان المنافسة أو المعادية بما بها وما ليس بها. ستجد قربك من سوف يصفق لك، دون أية توقعات إيجابية من قطعان الطرف الآخر التي ستشتمك بطبيعة الحال، ولن يشعرك ذلك بأي ضير ما دام الأمر صادراً عن الآخرين (الأشرار). إنه الموقع الذي لا أريده لنفسي، ولا أتمناه لأي سوريّ، خصوصاً أصدقائي.

حين أعود عشر سنوات للخلف وأذكر ما كنت أريده لسوريا، وما كانت تريده جبهة النصرة أو ما يريده أبو محمد الجولاني شخصياً لها، ثم أرى ما وصلنا إليه اليوم، فأنا أشعر أن الواقع أقرب الآن إلى حلمي عن سوريا من أحلام الجولاني، بل وأشعر أني منتصر أكثر منه، رغم أنه يقطن اليوم في قصر الرئاسة.

فأنا، كمواطن سوريّ، بقيت على الكثير من الثوابت التي أؤمن بها وتحقق جزء منها، أكثر مما فعل هو خلال تحوّلاته الحادّة ليغدو الرئيس أحمد الشرع. رغم ما يرافق ذلك اليوم من مخاضات عسيرة أهمها الفلتان الأمني في كثير من المناطق، الأمر الذي أخشى أنه متعمد وليس كما يُوصّفه البعض. ولكن هل أعني أن هذا هو النصر الذي كنت أريده لسوريا؟ لا إطلاقاً، ولكنه  النصر الذي سوف يفتح الباب السوري على غد مازلت مصراً أنه أفضل بعد كسر قفل أبد الأسد.

باختصار، هذا هو واقعنا اليوم بصورته الفجّة ودون تزيينات. نحن أمام كارثة وطنية مكتملة الأركان، ورثناها عن حقبة الأسدين، والمخجل المعيب أننا نتابع بها، وهذه مسؤولية السلطة الحالية. المطلوب منا، بل وليس أمامنا، سوى أن نبتكر لها حلولاً مستدامة، غير إقصائية، تخفف منها شيئاً فشيئاً، ليكون بالإمكان حلّها بعد سنوات، وإلا فإن مفاقمتها عبر انتهاج طريق الغلبة الطائفية، باعتماد سياسات مخاتلة وشكلية سوف تبقي الكارثة مشتعلة تحت رماد من نوعٍ ما. كارثةٌ ستظهر في التاريخ ثانية أمام الأجيال السورية الجديدة، هكذا قال التاريخ على الدوام، وهذا ما سيفعله بنا إن بقينا على غفلتنا.

تلفزيون سوريا

——————————

دمشق ترد على “العفو الدولية” حول أحداث الساحل: انتظروا نتائج التحقيق/ حسام رستم

03 ابريل 2025

في رده على تقرير منظمة العفو الدولية المتعلق بأحداث الساحل السوري، قال مصدر في وزارة الداخلية السورية (اشترط عدم ذكر اسمه)، في حديثه مع “العربي الجديد”، إن “الأحداث الدموية التي حصلت في الساحل السوري حصلت فيها انتهاكات ضد المدنيين، ورجال الأمن والجيش، وكثير من هذه الانتهاكات تقف خلفها عصابات الفلول، والاستهداف لم يكن ضد المدنيين السوريين من الطائفة العلوية فقط، بل أيضاً جرى استهداف مدنيين كثر من جميع الطوائف، ولبحث هذه الجرائم بواقعية وتجرد، شُكِّلَت لجنة وطنية لتقييم الأضرار، وتحديد المسؤولين، وتقييم نسبة مسؤولياتهم”.

وأكد المصدر أن الحكومة السورية حريصة على حفظ السلم الأهلي، وفرض القانون، واستدامة الوفاق الوطني، تحقيقاً للمصالح العليا للشعب السوري، ومن واجباتها حماية كل السوريين بغض النظر عن طائفتهم، أو عرقهم. وأضاف: “القفز فوق المعطيات الميدانية، والحقائق، والافتراء على عمل لجنة التحقيق، هو أمر غير مهني، وينافي أدنى درجات الموضوعية، ويعتبر انحيازاً لرواية سياسية من أطراف معروف تاريخها، وواضح تحالفها مع دول معادية لسورية بلداً وشعباً” بحسب قوله.

وشدد المصدر نفسه على أن الحكومة تسعى لدعم لجنة التحقيق الوطني في استكمال عملها على نحو مريح، ومهني، ويهمها تحقيق الأفضل للسوريين، كما أكد انفتاح الحكومة للتعاون في سبيل ذلك من أي جهة محايدة تستطيع دعم السلم الأهلي والاستقرار في سورية.

وكانت منظمة العفو الدولية قد أصدرت، يوم أمس الأربعاء، تقريراً حصل عليه “العربي الجديد” ومن المقرر أن ينشر الخميس، أكدت فيه أن فصائل مسلحة موالية للحكومة السورية الجديدة قتلت مدنيين من الأقلية السورية العلوية عمداً، ودعت للتحقيق في هذه الانتهاكات باعتبارها جرائم حرب.

ودعت “العفو الدولية” الحكومة السورية إلى ضمان إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة في جرائم القتل غير القانوني وجرائم الحرب الأخرى ومحاسبة الجناة، واتهمت المنظمة الحكومة السورية بأنها لم تتدخل على مدى يومين لوقف المجازر، كما أنها أجبرت أهالي الضحايا على دفنهم في مقابر جماعية ومن دون مراسم دينية.

وأضافت أنه “من الأهمية بمكان أن تقدم السلطات الجديدة الحقيقة والعدالة لضحايا هذه الجرائم، لإرسال إشارة بقطيعة مع الماضي وعدم التسامح مطلقاً مع الهجمات على الأقليات، فمن دون عدالة، تخاطر سورية بالعودة إلى دوامة جديدة من الفظائع وسفك الدماء”.

وينتظر السوريون بعد أيام قليلة نتائج لجنة التحقيق الحكومية التي شكلها الرئيس أحمد الشرع للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت في الساحل السوري بداية شهر مارس/ آذار الفائت، حيث من المنتظر أن تقدم اللجنة نتائج عملها بموعد أقصاه 9 إبريل/ نيسان الحالي، وهي المهلة المحددة في القرار التأسيسي للجنة.

ورغم تراجع وتيرة الأحداث الأمنية نسبياً خلال الأيام الأخيرة في مدن ومناطق الساحل في الفترة الممتدة بين 6 و10 مارس/ آذار الفائت، إلا أن انتهاكات لا تزال تطاول مدنيين على أساس طائفي، وآخرها جريمة القتل التي وقعت في قرية حرف بنمرة بريف مدينة بانياس التابعة لطرطوس، وأدت إلى مقتل ستة مدنيين.

وحول الحلول القانونية لتعويض أسر الضحايا ومعاقبة الجناة، قال المحامي غزوان قرنفل في حديث لـ”العربي الجديد” إن المطلوب هو إجراء محاكمات علنية للأشخاص أو العناصر الذين ارتكبوا تلك الجرائم حتى توجه من خلالها رسالة إلى المجتمع بأن أي جريمة لن تبقى بلا عقاب، وخصوصاً من العناصر الذين أوكلت لهم الدولة مهمة حماية الناس لا قتلهم.

وأضاف قرنفل أن على الحكومة السورية أن تصرف لذوي الضحايا تعويضات مالية تعوض بعضاً من ضررهم. وأردف: “وأرى هنا أنه من المهم أن تعجل الدولة في إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية؛ لأنها تفيد معنى أننا، بصفتنا سلطة، معنيون أيضاً بمحاسبة القتلة والمجرمين ممن ارتكبوا جرائمهم خلال سنوات الصراع، وأننا لا نهتم فقط بضحايا أحداث الساحل وهذا حق لهم، وإنما بكل الضحايا الذين قتلوا بالقصف أو تحت التعذيب، وأن لهم نفس الحق بمقاضاة الفاعلين وبتلقي التعويضات العادلة أيضاً”.

ورأى قرنفل أن هناك الكثير من الإجراءات من المهم البدء بها، منها معاقبة أولئك الذين يبثون خطاباً تحريضياً، أو ينشرون فيديوهات تسبب انقساماً وطنياً، كما من المهم حسن اختيار العناصر المشاركين في حماية تلك المناطق، وخلق حالة تواصل مستمر بين ممثلي الحكومة في تلك المحافظات وهيئات مجتمعية من الساحل بهدف إرسال رسائل تطمين وإشراكهم في حفظ أمن مناطقهم بطريقة منسقة مع الحكومة.

ووفق بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ارتفع عدد القتلى خارج نطاق القانون، منذ 6 مارس/ آذار الحالي حتى الـ12 من الشهر نفسه، في الساحل السوري، إلى 878 قتيلاً. وقتلت فلول نظام الأسد، بحسب الشبكة، ما لا يقل عن 429 شخصاً؛ 204 أشخاص من عناصر قوات الأمن العام و225 مدنياً. أما القوى المسلحة المشاركة في العملية العسكرية ضد فلول نظام الأسد التي شملت، بحسب الشبكة، فصائل عسكرية وسكاناً محليين مسلحين (سوريين وأجانب) وعناصر الأمن العام، فقتلت ما لا يقل عن 449 شخصاً، بينهم مدنيون وعناصر من فلول الأسد منزوعي السلاح.

العربي الجديد

—————————

=======================

واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 04 نيسان 2025

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

———————————

دمج “قسد” في مؤسسات الدولة السورية.. المكاسب لتركيا والمخاوف لإسرائيل/ دعاء حسين

26 مارس 2025

بينما يبدو الرئيس السوري أحمد الشرع مستفيدًا من الاتفاق الذي وقعه مطلع الشهر الجاري مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على شمال شرق سوريا منذ نحو ست سنوات، لدمج مؤسساتها المدنية والعسكرية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول الغاز، فإن نظيره في أنقرة رجب طيب إردوغان قد يكون المستفيد الأول من هذا التطور.

في هذا السياق، جاءت تصريحات إردوغان المُرحبة باتفاق الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي، وتأكيده على أن “التطبيق الكامل للاتفاق الذي تم التوصل إليه سيخدم الأمن والسلام في سوريا”، لتعكس أن المكتسبات التركية من اتفاق الشرع وقسد، التي يغلب عليها المكوِّن الكردي، ليست قليلة.

وتسيطر قسد التي تأسست في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا عام 2015، حيث أسست منطقة إدارة ذاتية ووضعت قوانين ونظامَ حكم خاصًا بها، على نحو 25.6% من الأراضي السورية منذ 2019، إذ مدَّت نفوذها إلى أجزاء واسعة من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة التي تشكل ما يُعرف باسم “الجزيرة”، بالإضافة إلى مناطق في شرق محافظة حلب.

وصحيحٌ أن القوات التي شُكِّلت بدعم أمريكي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على تلك المناطق في عام 2014، هي قوات متعددة الأعراق، لكن المكوِّن الكردي يغلب عليها إذ أن أغلب مقاتليها هم من وحدات حماية الشعب الكردية التي تكونت من مجموعات مختلفة تابعة لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة “تنظيمًا إرهابيًا”.

وتمثل منطقة إدارة قسد حوالي نصف طول الحدود بين سوريا وتركيا والعراق. وتمتد الحدود بينها وبين العراق من شمال محافظة الحسكة وحتى ريف دير الزور بمسافة تصل ل 460 كيلومترًا. بينما تمتد الحدود بينها وبين تركيا من منطقة عين ديوار شمال محافظة الحسكة في الحدود بين سوريا وتركيا والعراق إلى منبج بريف حلب بمسافة تصل إلى 420 كيلو مترًا.

تحجيم النزعة الانفصالية

تكشف تصريحات إردوغان المتتالية عداءً شديدًا لقسد. ففي 25 ديسمبر/كانون الثاني 2024، قال الرئيس التركي خلال اجتماع برلماني في أنقرة “على المسلحين الأكراد في سوريا إلقاء أسلحتهم وإلا سُيدفنون في الأراضي السورية”.

أما وزارة الدفاع التركية فأعلنت في ديسمبر/كانون الثاني 2024 أن الجيش التركي قتل 21 مسلحًا كرديًا في شمال سوريا والعراق، من حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية السورية.

حالة العداء هذه تعود بجذورها إلى بداية تأسيس الجمهورية التركية في عشرينيات القرن الماضي، إذ تخشى تركيا كيانًا كرديًا مستقلًا، وخاضت طوال عقود طويلة صراعًا مسلحًا مريرًا مع حزب العمال الكردستاني، وضع أوزاره الشهر الماضي عندما دعا زعيم الحزب المسجون في تركيا عبد الله أوجلان الشهر الماضي إلى هدنة طويلة مع أنقرة أعلن الحزب استجابته لها.

تخشى تركيا بطبيعة الحال من دولة كردية مستقلة على الأراضي السورية، من شأنها أن تشكَّل وقودًا للنزعة الانفصالية للأكراد في تركيا. بالتالي؛ فإن دمج قسد في إطار دولة سورية موحدة ينهي هذه المخاوف، خاصةً وأن إدارة الشرع حليفة لتركيا. ومن مصلحة الحكومة التركية عدم تفكك الدولة السورية ووجود دولة موحدة بحكومة قادرة على تأمين حدودها، وبالتالي تأمين الحدود مع تركيا، والعمل على إقامة علاقات تجارية واقتصادية وعودة اللاجئين السوريين لسوريا.

تراجع المخطط الإسرائيلي

منذ سقوط نظام الأسد تحاول إسرائيل لعب أدوارٍ في الداخل السوري، لا تقتصر فقط على توجيه ضربات عسكرية أو احتلال مناطق جديدة، بل أيضًا تدعم أفكارًا لإنشاء دولة فيدرالية. لكن على الجانب الآخر، فإن هذا النفوذ المتزايد لأنقرة في سوريا يثير مخاوف إسرائيلية ومن الإدارة الجديدة في دمشق.

موقع “والا” الإسرائيلي، نقل عن مصادر أمنية لم يُسمِّها قولها إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُجري مشاورات أمنية لمناقشة المخاوف بشأن النفوذ التركي في سوريا، وأنه يُحاول تصوير المواجهة مع تركيا على أنها حتمية.

وفي محاولة لتعزيز هذه الحالة، تلعب إسرائيل على الجانب الدرزي، مع سماحها بتوجيه مساعدات غذائية لبلدات درزية في الجولان السوري المحتل، وأتاحت لعمال سوريين فرص عمل في الأراضي الخاضعة لسيطرتها في الجولان.

وسبق وحاولت استمالة أكراد سوريا قبل سقوط نظام الأسد، وهو ما ظهر في تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إذ قال “الأكراد أقليات مثل إسرائيل، ويجب أن تتحالف إسرائيل مع أقليات مثلها. الأكراد ضحايا القمع الإيراني والتركي، ويجب أن تعزز إسرائيل علاقتها بهم”.

ومع عقد الاتفاق بين الشرع ومظلوم، تراجع المخطط الإسرائيلي لسوريا مقابل تعزيز الوحدة التي تفضلها تركيا التي تخشى استخدام ورقة الأكراد ضدها وهو ما ظهر في تصريح إردوغان عندما قال في خطابه في البرلمان “نرى بوضوح كيف يريدون إنشاء دويلات صغيرة تابعة لهم من خلال استخدام التنظيمات الانفصالية أداة في شمال العراق وسوريا”.  

دعم التسوية السلمية

اتفاق قسد مع دمشق قد يصب فيما يسعى إليه الجانب التركي حاليًا لوقف الصراع العسكري مع الأكراد، خاصة مع مؤشرات تسوية سلمية للنزاع مع حزب العمال الكردستاني. وظهر مؤشرات لذلك التوجه عندما صافح دولت باهشلي زعيم حزب الحركة القومية وهو حليف لحزب العدالة والتنمية، نواب حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب الكردي في افتتاح الفصل التشريعي الجديد للبرلمان.

وأيد إردوغان هذه المصافحة، كما دعا باهشلي عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون للتخلي عن السلاح، وحضور البرلمان للإعلان عن حل الحزب. 

بإتمام اتفاق الشرع مع قسد، تحقِّق أنقرة مكاسب استراتيجية دون إطلاق رصاصة واحدة، فدمج القوات الكردية ضمن الدولة السورية يُنهي فعليًا مشروع الإدارة الذاتية الذي طالما خشيت تركيا امتداده إلى أراضيها.

ومع ترحيب إردوغان، يبدو أن أنقرة وجدت في هذا الاتفاق وسيلة لتأمين حدودها دون الحاجة إلى عمليات عسكرية مكلفة، مستفيدة من تحوّل دمشق إلى شريك في تحجيم النزعة الانفصالية الكردية.

في المقابل، تتراجع المشاريع الإسرائيلية التي راهنت على تفكيك سوريا لصالح كيانات فيدرالية، بينما تعزز تركيا نفوذها كصانع رئيسي لمستقبل المنطقة.

المنصة

——————————

وريث أرض الشام/ سليمان جودة

 3 أبريل 2025 م

أعتقد دائماً في صدق العبارة التي أطلقها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فقال: «أظهروا لنا أحسن ما عندكم، والله أعلم بالسرائر». ولو شاء أحد أن يختار عنواناً للحكومة السورية الجديدة التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع قبل عيد الفطر بيومين، فلن يجد أفضل من هذه العبارة، لأنها بالنسبة إلى الحكومة بمثابة الشيء الذي يقال عنه إنه يوافق واقع الحال.

وعندما قال الرئيس الشرع إنه «سعى قدر المستطاع لاختيار الأكفأ»، وإنه «فضّل المشاركة على المحاصصة في الاختيار»، فإنني أجده صادقاً فيما قال، وبالذات فيما يخص تفضيل المشاركة على المحاصصة في تشكيل الحكومة. ولا أعرف ما إذا كان اعتراض الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي البلاد على تشكيلة الحكومة، سوف يعطل الاتفاق الذي وقَّعته «قوات سوريا الديمقراطية» مع الشرع، أم أن هذا شيء وذاك شيء آخر؟

إنك إذا تطلعت إلى العراق فلن تحتاج إلى جهد كبير لترى عواقب المحاصصة، وإذا تطلعت إلى لبنان فلن تحتاج إلى جهد كبير أيضاً لترى عواقب المحاصصة نفسها، وبالتالي فإن محاولة الإفلات من هذه العواقب في تشكيلة الحكومة السورية الجديدة أمر يجب أن يُحسب للإدارة في دمشق، كما يجب أن نظل نحسب ذلك في ميزان هذه الحكومة الآن على الأقل، ثم إلى أن نرى أثر التجربة في حياة الناس هناك.

كَمْ يتمنى المرء لو أن رئيس الوزراء في بغداد يجري اختياره على أساس عراقيّته وحدها، وليس على أي أساس آخر يتصل بانتمائه إلى طائفة بعينها. وكَمْ يتمنى المرء لو أن هذا هو الحاصل في منصب رئيس البرلمان، وكذلك في موقع رئيس الدولة. كَمْ هو ثقيل على الأُذن أن تسمع كلمة سُني، أو شيعي، أو كردي، وأنت تستعرض الأسماء التي تشغل هذه المواقع الثلاثة. فعراقيّة المواطن في بلاد الرافدين أشمل وأجمل، وهي تساوي بين الكل إذا تعلق الأمر بما على كل مواطن من واجبات أو بما له من حقوق، ولا شك في أن المواطنة بصفتها مبدأ تبقى مظلة كافية لأن تمتد فوق الجميع، فتكون كأنها السقف الذي يحمي ويُظلّل ويحتوي.

وكَمْ يتمنى المرء في لبنان ما يتمناه في العراق، ولكن المحاصصة المقيتة كانت ولا تزال تُفسد على الأشقاء في البلدين حياتهم، وكانت ولا تزال تُفرِّق ولا تجمع. فالمشاركة هي الصيغة الأفضل، لأنها لا تتطلع في بيانات البطاقة الشخصية لكل مواطن إلا إلى جنسيته، وما عداها لا يهم ولا يجب أن يهم.

من علامات المشاركة التي قصدها الشرع وهو يتحدث عن حكومته الجديدة، أن فيها وزيراً كردياً للتعليم، وأن فيها وزيرة مسيحية للشؤون الاجتماعية، وأن فيها وزيراً علوياً للنقل، وأن فيها وزيراً درزياً للزراعة.

هذه صيغة أفضل بالتأكيد، لأن المعنى أن الأكراد والمسيحيين والعلويين والدروز موجودون في الحكومة، وأن أساس الوجود في الحالات الأربع هو المشاركة لا المحاصصة. ولكن الشيء المؤسف أن الإدارة الذاتية الكردية اعترضت، وأنها وصلت في اعتراضها إلى حد قولها إنها ليست معنية بتنفيذ قرارات هذه الحكومة.

هذا شيء مؤسف لأن دمشق تتكلم عن المشاركة، بينما الإدارة الذاتية الكردية تتكلم عن المحاصصة، التي لم تظهر في أي بلد إلا أفسدت الحياة فيه، لأن الانتماء في الحالة الثانية إنما هو إلى الطائفة، لا إلى الوطن بكل ما يعنيه من رحابة، ومن امتداد، ومن اتساع.

ومما قاله الشرع وهو يتعرض للانتقادات التي طالت حكومته، إن إرضاء الكل ليس ممكناً، وإنه حاول الإرضاء ما استطاع. وهذا صحيح إذا تطلعنا إلى ما يقوله بمنظار عبارة الخليفة الراشد الثاني، ولكن لأن الشرع يجلس في عاصمة الأمويين، فإن «شعرة معاوية» الشهيرة يجب ألا تفارق يديه.

«شعرة معاوية» لا بد أن تكون حاضرة أمام الشرع في قصر الشعب طول الوقت. فالذين يتربصون بسوريا كثيرون، والذين خسروا نفوذهم فيها لا يسلِّمون بالخسارة، والذين استثمروا فيها على مدى سنين يصعب عليهم أن يكون استثمارهم بغير عائد، والسوريون الذين فقدوا كل شيء أيام نظام الأسد يريدون الآن كل شيء أيضاً.

كل سوري – كردي مدعوٌّ إلى أن يترفق بسوريا لأنها وطنه الأم، وكذلك كل مسيحي وعلوي ودرزي، لأن حضن الأم أوسع من حاضنة الطائفة، ولأن الروح المعنوية في «شعرة معاوية» هي التي لا بد أن تكون بوصلة لدى الطرفين. فإذا شدها الشرع اليوم فليس أمام الطرف الثاني إلا أن يُرخيها، وإذا أرخاها الطرف الثاني فإن دمشق سوف يكون عليها أن تشدها، ولا يوجد خيار آخر إلا أن تنقطع الشعرة، لا قدَّر الله.

الشرق الأوسط

—————————–

تداعيات إقليمية للتقارب التركي ــ السوري ــ الكردي/ هدى الحسيني

3 أبريل 2025 م

بعد شهر من دعوة الزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان، حزبه إلى إنهاء تمرده الذي دام 40 عاماً مع تركيا، صار مستقبل المجتمعات الكردية المنتشرة هناك وفي سوريا والعراق المجاورتين، معلقاً في الميزان.

أثار بيان أوجلان غير المسبوق في 27 فبراير (شباط) الماضي الذي حث فيه حزب العمال الكردستاني على نزع السلاح وحل نفسه، الآمال بين المواطنين الأكراد في تركيا بأن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يمكن أن يكون مستعداً لمنحهم حقوقاً ديمقراطية كجزء من التبادل لدعمهم لتمديد حكمه الطويل.

استمرت الآمال بعد ذلك في 11 مارس (آذار) المنصرم من خلال اتفاق تاريخي بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتحالفة مع الولايات المتحدة. وتسيطر (قسد) التي يهيمن عليها الأكراد، على شمال شرقي البلاد.

وبموجب الاتفاق، مُنح الأكراد السوريون الحقوق الكاملة كمواطنين للمرة الأولى منذ سيطرة نظام الأسد على السلطة عام 1970.

إن مخاطر مبادرة السلام المتجددة هذه بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني عالية. بعد عقود من الصراع الشديد، ستكون لنجاحها أو فشلها آثار عميقة على الاستقرار الداخلي وعلى الديناميات التركية الإقليمية، لا سيما في سوريا والعراق.

أعطى إردوغان دعمه المؤقت لمحادثات السلام مع أوجلان، المحتجَز في سجن شديد الحراسة في جزيرة تركية صغيرة، لكنه حذَّر حزب العمال الكردستاني من أن أي تكتيكات تأخير ستقابَل بهجمات تركية مكثفة على قواعده في سلسلة جبال قنديل شمال العراق.

أما الآن، فمن المتوقع أن ينعقد مؤتمر لحزب العمال الكردستاني في الأسابيع المقبلة للتصويت على دعوة أوجلان إلى حله، على الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان إردوغان سيقدم عفواً عن الجماعة.

في المقابل، شجَّع إردوغان إدارة «هيئة تحرير الشام» على المضي قدماً في عملية دمج قوات «قسد» في الجيش الوطني لإزالة تهديد الجماعة التي يقودها الأكراد والتي تشكل تهديداً لتركيا.

تقول أنقرة إن أعضاء وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، العمود الفقري لـ«قسد»، يعملون أيضاً كمسلحين لحزب العمال الكردستاني، وهو ادِّعاء نَفَتْه وحدات حماية الشعب، ويتصرفون على أنه أمر مشكوك فيه من معظم المحللين السياسيين الذين يركزون على هذه القضية. وإن العوامل الاستراتيجية الأعمق قد تؤثر على حسابات أنقرة تجاه الأكراد. كما أن المشهد الإقليمي المتغير في أعقاب هجوم «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على جنوب إسرائيل، والهيمنة المتزايدة لإسرائيل، وتراجع النفوذ الإقليمي الإيراني، قد غيَّرت جميعها النظرة الاستراتيجية إلى تركيا. إذ إن السلام مع حزب العمال الكردستاني -وعلى نطاق أوسع، مع الفصائل الكردية في سوريا- سيسمح لأنقرة بتعزيز مكاسبها الإقليمية. كما أن اتفاق السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني ستكون له أيضاً آثار بعيدة المدى على شمال العراق، حيث قامت تركيا بعمليات عسكرية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق منذ أوائل التسعينات وكثَّفتها بعد انهيار محادثات السلام الأخيرة في عام 2015.

هناك علامات قليلة -وحتى من دون علامات- على أن أنقرة مستعدة لتوسيع نطاق حقوق الأقليات لتشمل الأكراد. إنما هناك صعوبة أيضاً في تصور أن أنقرة قد تقدِّم عفواً لكل مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وإن إردوغان والأكراد في تركيا وسوريا ينظرون إلى عملية السلام الوليدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني من وجهات نظر مختلفة تماماً.

وفي حين رأى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا أن دعوة أوجلان إلى حل حزب العمال الكردستاني إشارةً إلى النصر النهائي للدولة التركية على التمرد الكردي، تميل الحركة السياسية الكردية إلى قراءتها على أنها تطور للمقاومة الكردية إلى مرحلة جديدة وغير عنيفة تماماً.

إن كلا الجانبين قرأ الآثار المترتبة على بيان أوجلان عن السياسة الكردية الإقليمية، وبخاصة في سوريا، بشكل مختلف.

كما أن الحكومة التركية جادلت بأن القضاء على حزب العمال الكردستاني يجب أن يعني أيضاً زوال فروعه الإقليمية، وبخاصة «قسد» في سوريا.

لكنَّ الكثيرين من الأكراد يعتقدون أنه مع احتمال خروج حزب العمال الكردستاني من الصورة، يجب على تركيا التخلي عن موقفها العدائي تجاه الهياكل السياسية الكردية خارج تركيا، وقبل كل شيء اتباع سياسة أكثر تصالحية تجاه الحكم الذاتي الكردي في سوريا.

ستحدد هذه المواقف المختلفة وقدرة الجانبين على التوفيق بينها، ما إذا كانت هذه المرحلة الأخيرة من عملية السلام الكردية -التي يمكن القول إنها المحاولة الواعدة والأكثر تقدماً حتى الآن- يمكن أن تنجح حيث فشلت الجهود السابقة. ومن الواضح أن قيادة «قسد» قلقة بشأن احتمال سحب الولايات المتحدة دعمها، وأيضاً من أن تركيا قد تشن هجوماً عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر عليها.

ومن المشكوك فيه أن تكون «قسد» مستعدة للحل الفعال، وعلى أي حال ستواصل الضغط من أجل الحقوق الكردية في سوريا ونظام سياسي لامركزي مفوض. كما أن الفشل في تحقيق السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، وكذلك بين «قسد» ودمشق، سيترك تداعيات إقليمية وسيؤدي إلى العودة إلى صراع شديد في العراق وسوريا. وسيخلق ذلك فرصة لإيران لزيادة زعزعة استقرار سوريا وشمال العراق كوسيلة للرد على تركيا بسبب دعمها الإطاحة بنظام الأسد وطرد الميليشيات الإيرانية التي أبقته في السلطة.

الشرق الأوسط

——————————–

خطوات بطيئة في تنفيذ اتفاق الحكومة و”قسد”.. هل يماطل الطرفان لكسب الوقت؟/ أحمد العكلة

3 أبريل 2025

رغم مرور عدة أسابيع على توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي اتفاقًا يقضي باندماج الوحدات الكردية التي تسيطر على شرق سوريا بالجيش السوري، إلا أن عدم دخول القوات الحكومية لمناطق شرق الفرات، ورصد منظمات حقوقية انتهاكات من قبل الوحدات الكردية بحق السكان، وتواصل الاعتقالات؛ باتت تثير أسئلة واسعة حول مدى جدية تطبيق الاتفاق.

وبحسب مصادر حكومية، فإنه خلال الاجتماعات بين اللجنة الخماسية الحكومية مع الجنرال مظلوم عبدي، فإن الأخير طلب ثلاث سنوات لتطبيق الاتفاق، بينما أصرت اللجنة بطلب من الشرع بأن ينتهي تطبيق الاتفاق نهاية العام الجاري.

وكانت اللجنة الخماسية المكلفة بتطبيق الاتفاق قد عقدت أول اجتماعاتها في مدينة الحسكة شمالي شرقي سوريا في آذار/مارس. وخلال الاجتماع، جرى تداول للآراء بين المشاركين فيه، وتمت مناقشة آلية عمل اللجان والتي من المقرر أن تبدأ العمل بشكل مشترك في شهر نيسان/أبريل الحالي.

واجتمع مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مع اللجنة الخماسية، وشارك في الاجتماع عضو القيادة العامة لوحدات حماية المرأة روهلات عفرين، إلى جانب رئيس اللجنة من جانب سلطة دمشق حسين سلامة، إضافةً إلى أعضاء آخرين من الجانبين.

مصدر قيادي في “قسد” قال في حديث لـ “الترا سوريا” إن سير عجلة الاتفاق تتطلب التزامًا من قبل حكومة دمشق في إشراك قوات سوريا الديمقراطية في العملية السياسية بشكل كامل، حيث غابت فعاليات مناطق شرق سوريا عن ما يسمى الحوار الوطني، ومناقشات الإعلان الدستوري، وكذلك تشكيل الحكومة السورية.

    تثير مماطلة الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في تنفيذ اتفاق الشرع – عبدي أسئلة واسعة حول مدى جديتهما في تطبيقه

وأضاف أنه: “لا يمكن أن يكون هناك خطوات من طرف واحد دون أن يكون هناك خطوات مماثلة من الطرف الآخر، وهذا الأمر أوصلناه للجنة الخماسية، وخصوصًا رفضنا للإعلان الدستوري وضرورة صياغة دستور يراعي جميع المكونات السياسية في سوريا”.

وخلال اجتماع اللجنة الخماسية مع الجنرال عبدي، تم التطرق للإعلان الدستوري، والحاجة لعدم إقصاء أي مكون سوري من لعب دوره والمشاركة في رسم مستقبل سوريا وكتابة دستور، وتوقف الاجتماع مطولًا على ضرورة وقف إطلاق النار على كامل الأراضي السورية.

ويترأس اللجنة المشكلة من طرف الحكومة محافظ دير الزور السابق حسين السلامة، وهو قيادي سابق في “هيئة تحرير الشام”، وستتولى اللجنة المشكلة الإشراف على بدء تطبيق الاتفاق الموقع بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع. وسيتم تشكيل لجان تخصصية لاحقًا، تبحث القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تناولها الاتفاق.

يرى الباحث في مركز جسور للدراسات، أنس شواخ، أن “رفض قسد وأذرعها السياسية للإعلان الدستوري والتشكيلة الحكومية هي أداة ضغط أكثر من كونها تعكس موقفًا حقيقيًا على الأرض، فلو كان الرفض حقيقيًا ومقصودًا به الرفض بشكل كامل لكان الاتفاق لم يوقع من الأساس، ولكن الاتفاق معرضًا للفشل أو التعطل، والخيارات الأخرى، وعلى رأسها الخيار العسكري طبعًا، مطروحة لعدة اعتبارات”.

وأضاف في حديث لـ”للترا سوريا” أن: “الأدوار الدولية قد تتدخل وهي مؤثرة في هذا الأطار وهي بطبيعة الحال الموقف الأمريكي والموقف التركي وربما بدرجة أقل الموقف الفرنسي، المواقف الدولية تنطلق من مصالح هذه الدول بشكل رئيسي. الموقف التركي مرتبط بمكافحة تنظيم حزب العمال الكردستاني والتنظيمات المرتبطة به في سوريا، والتي تعتبرها تركيا العمود الفقري لـ(قسد) وتصر على عدم وجود أي تهديد”.

ويضيف: “الموقف الأميركي أيضًا حريص بداية على استثمار دور الشراكة الذي لعبته “قسد” خلال السنوات الماضية كشريك محلي في عمليات مكافحة تنظيم “داعش”، وأيضًا هي حريصة على عدم إحداث فراغ أمني في المنطقة”.

وعقدت الحكومة السورية وقوات “قسد”، في 1 نيسان/ ابريل، اتفاقًا بشأن حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب التي تتمركز فيهما قوات “قسد”، يقضي بدخول قوات الدولة السورية للحي.

العميد والخبير العسكري محمد الخالد يؤكد في حديث لـ”الترا سوريا” بأن “قسد”: “تدرك بأن الحصول على حكم فيدرالي أو حكم لا مركزي بات غير ممكن، خصوصًا بعد طلب الولايات منها الاندماج مع الحكومة السورية واحتمال سحب ترامب للقوات الأميركية، لذلك فهي تحاول تحصيل أكبر قدر من المكاسب قبل سحب القوات الأميركية من شرق سوريا عبر رفع سقف المطالب والحصول على مكاسب سياسية”.

ويضيف بأن: “قسد ليس لديها قدرة على مواجهة هجوم عسكري من قبل الدولة السورية وتركيا في حال رفع الغطاء الأميركي، لذلك فهي مضطرة لتنفيذ الاتفاق خلال الفترة المقبلة مع محاولة الحصول على مناصب سيادية في الجيش والحكومة”.

وكان الاتفاق الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، في 10 آذار/ مارس، قد نص على ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، كما نص على وقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية.

كذلك تم الاتفاق على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز وضمان عودة كافة المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم، وتأمين حمايتهم من الدولة السورية ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول نظام بشار الأسد، وكافة التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها ورفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري. وتم الاتفاق على أن تسعى اللجان التنفيذية إلى تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي.

———————————–

مسؤول كردي: اتفاق حلب خطوة تمهيدية لعودة مهجّري مدينة عفرين

انسحاب للقوات الكردية من حلب وإبقاء لقوى الأمن الداخلي

القامشلي سوريا: كمال شيخو

2 أبريل 2025 م

بعد إعلان التوصل، أمس، إلى اتفاق جديد يخص إدارة حيي الشيخ مقصود والأشرفية الخاضعَيْن للإدارة الذاتية داخل محافظة حلب، ثاني كبرى مدن سوريا، اللذَيْن تقطنهما غالبية كردية، يُلقي بدران جيا كرد، مستشار الإدارة الذاتية منذ تأسيسها عام 2014، الضوء على مزيد من التفاصيل، فيقول إن اتفاق أحياء حلب دخل حيز التنفيذ لحظة التوقيع عليه بوصفه قراراً يلزم الطرفَيْن، في سياق أوسع لتطبيق بنود الاتفاق الموقّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي في 10 من شهر مارس (آذار) الماضي.

ويلفت المسؤول، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «لا يوجد جدول زمني لتنفيذ بنود هذا الاتفاق، لكنه مرتبط بالدرجة الأولى برغبة الإدارة الذاتية ودمشق، للتحضير الجيد لتطبيقه بشكلٍ سلس دون مشكلات جانبية».

ولفت مستشار الإدارة إلى أن بعض البنود يتطلّب تطبيقها مزيداً من الوقت، سيما انسحاب القوات الكردية التي يشملها الاتفاق، من الحيَّيْن. وأشار جيا كرد إلى «أن القوات المعنية بالانسحاب إلى مناطق شرق الفرات مع أسلحتها هي وحدات حماية الشعب (أشايس)، ووحدات حماية المرأة»، اللتان تُعدان العماد الرئيسي لقوات «قسد».

كما أن قوى الأمن الداخلي وحواجزها «ستحتفظ بحماية الأمن في تلك المناطق، لأن عناصرها يتحدرون من الحيين الشيخ مقصود والأشرفية في حلب»، لكنها ستعمل وفق آلية محددة بالتنسيق مع وزارة الداخلية لتعزيز دورها في حماية السكان، دون تدخل أي فصيل أو مجموعة عسكرية، على حد تعبيره.

وجاء اتفاق الأحياء الكردية بحلب، بعد أسبوع على اتفاقية بين هيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية، مع وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية رعته منظمة «اليونيسف»، وتُعنى بسير العملية الامتحانية لطلبة الشهادتَيْن الإعدادية والثانوية العامة لأبناء المناطق الخاضعة لنفوذ الإدارة الذاتية في المدارس الحكومية السابقة للحكومة نفسها والموزّعة في المنطقة، ليُصار إلى تقديم الامتحانات للعام الدراسي الحالي، على أن يتم إطلاق تطبيق إلكتروني للراغبين في تسجيل أسمائهم للامتحانات.

وعن دخول قوات وزارة الدفاع بالحكومة السورية الحيين الكرديين بحلب، نفى بدران جيا كرد، دخول أي قوات منها إلى الشيخ مقصود والأشرفية، وتابع: «سيبقى هذا الاتفاق الموقّع بين الجانبين نافذاً، إلى حين الوصول لاتفاقٍ نهائي» بين الطرفَيْن. كما تضمن إبقاء المؤسسات المدنية والمجالس المحلية القائمة في الحيين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين من الطرفَيْن بعد تحرير مدينة حلب نهاية العام الماضي.

وأقر الاتفاق على الخصوصية الكردية لهذه الأحياء، وضمان حماية واحترام الخصوصية الاجتماعية والثقافية لسكانهما، والإبقاء على النظام التعليمي كما هو حتى يتم اتخاذ قرار شامل لمناطق شمال وشرق.

وتأتي هذه الاتفاقات بعد سياق اتفاق تاريخي بين رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، والقائد العام لقوات «قسد» مظلوم عبدي، في 11 من مارس الماضي، الذي ينص على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية لهذه القوات التي تسيطر على مناطق شاسعة في شمال شرقي البلاد؛ ضمن هياكل ومؤسسات الدولة، واستعادة السيطرة على حقول النفط والغاز والمعابر الحدودية الواقعة شرق البلاد.

وشدّد مستشار الإدارة الذاتية على أن هذا الاتفاق يُعد مرحلة أولى لخطة أشمل تهدف إلى ضمان عودة آمنة لمهجري مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، وهذه المدينة الكردية خضعت لسيطرة فصائل مسلحة موالية لتركيا بموجب عملية عسكرية تركية (غصن الزيتون) أطلقتها أنقرة في مارس 2018.

وختم جيا كرد حديثه بالقول، إن المفاوضات لا تزال جارية لتحقيق هذا الهدف، مؤكداً أن «عفرين بوصفها وحدة سياسية وجغرافية وقومية متكاملة مع المناطق الكردية الأخرى، ستحتل مكانة بارزة في المفاوضات المستقبلية»، في إشارة إلى المناطق الخاضعة لنفوذ الإدارة الذاتية بشمال شرقي سوريا.

——————————

أهم تفاصيل اتفاق تبادل الأسرى بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية؟

الحرة – دبي

04 أبريل 2025

شهد دوّار شيحان، قرب حي الأشرفية، بمدينة حلب، شمالي سوريا، الخميس، تجمّع عدد من الأهالي بصمت وترقّب، فيما اصطفت عربات تقلّ موقوفين بوجوه أنهكها الزمن والانتظار.

 إنها اللحظة التي طال انتظارها: أولى مراحل تبادل الأسرى بين الحكومة الجديدة في دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تنفيذًا لاتفاق  وصف بـ”التاريخي” جمع الطرفين على طاولة واحدة.

المقدم محمد عبد الغني، مدير مديرية الأمن الداخلي في حلب، تحدث للصحفيين مؤكدًا أن المرحلة الأولى شملت إطلاق سراح أكثر من 200 موقوف من الجانبين، في خطوة وصفها بـ”بداية لتبييض كامل للسجون”.

وأوضح أن الاتفاق جرى بجهود سورية خالصة، بعيدًا عن أي تدخل خارجي، بمباركة من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي.

بينما لم تُعلن “قسد” أو “الإدارة الذاتية” أي تفاصيل رسمية عن العملية، قالت مصادر محلية إن الحكومة السورية أفرجت عن قرابة 100 شخص ممن كانوا محتجزين لدى السلطات، على أن تُستكمل العملية على مراحل خلال الأيام المقبلة.

ا

والعدد الإجمالي للموقوفين الذين سيتم تبادلهم يتجاوز 600 شخص، بحسب تصريحات رسمية.

المشهد لا يقتصر على تبادل الأسرى. ففي الخلفية، تُروى حكاية حيي الأشرفية والشيخ مقصود، اللذين سيطرت عليهما “قسد” بشكل كامل منذ عام 2015، واحتفظت بهما حتى بعد دخول “إدارة العمليات العسكرية” إلى معظم أحياء حلب في نهاية نوفمبر 2024.

منذ ذلك الحين، خيم التوتر على المناطق المحيطة بالحيين، وشهدت اشتباكات متقطعة وعمليات قنص موثقة من قبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي تحدثت عن مقتل 65 مدنيًا بينهم طفل وامرأتان خلال شهرين فقط.

ومع بداية أبريل، وُقّعت اتفاقية بين رئاسة الجمهورية والمجلس المدني لحيي الأشرفية والشيخ مقصود، ضمّت 14 بندًا، كان أبرزها انسحاب تدريجي لمقاتلي “قسد” من الحيين، وتسليم السلاح للأمن الداخلي، وتشكيل لجان تنسيقية وخدمية، إضافة إلى تبادل الأسرى.

الاتفاق، بحسب نائب محافظ حلب علي حنورة، يمثل تطبيقًا عمليًا لبنود الاتفاق الأشمل الموقع بين الشرع وعبدي في 10 مارس، والذي نص على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لـ”قسد” ضمن هيكل الدولة السورية، في خطوة غير مسبوقة منذ بداية النزاع.

“حماية الخصوصيات”

البنود الأخرى في الاتفاق المحلي شملت تعيين إداري للحيين، وحماية الخصوصية الثقافية والاجتماعية لهما، ومنع المظاهر المسلحة، وفتح المعابر، ومنع الملاحقات القضائية بحق أشخاص لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وتخصيص تمثيل عادل لسكان الحيين في المؤسسات المحلية.

مستشار الإدارة الذاتية، بدران جيا كرد، رحّب بالاتفاق واعتبره “خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار والتعايش المشترك”.

وأكد في منشور عبر منصة “إكس” أن قوات الأمن الداخلي ستبقى في مواقعها ضمن آلية محددة بالتنسيق مع وزارة الداخلية السورية، محمّلًا الحكومة المركزية مسؤولية أي تهديد قد يواجه الحيين.

الاتفاقية، كما يؤكد عبد الغني، دخلت حيز التنفيذ مباشرة بعد توقيعها، ومن المرتقب أن تشهد الأيام المقبلة خطوات عملية متسارعة، تتضمن إطلاق دفعات إضافية من الأسرى، وإنهاء الوجود العسكري لقسد في مناطق الشيخ مقصود والأشرفية، وتفعيل الجانب الخدمي والإداري بالكامل.

ورغم أن طبيعة الاتفاق تحمل بعدًا سياسيًا وعسكريًا، فإنها من وجهة نظر مراقبين تمثل محاولة لكسر الجمود بين الطرفين وفتح قنوات عمل مشترك في واحدة من أعقد المناطق السورية من حيث السيطرة والتوازنات.

وتُشير المعلومات إلى أن بنود الاتفاق يمكن أن تُستخدم لاحقًا كنموذج لتفاهمات مماثلة في مناطق أخرى، خصوصًا في شمال شرقي سوريا، ضمن مسعى عام لإعادة هيكلة الإدارة والسلطة تحت مظلة الدولة السورية.

الحرة – دبي

—————————

اتفاق بين دمشق و”قسد” على تحييد سد تشرين وتسليمه لإدارة مدنية

2025.04.03

كشفت مصادر خاصة لـ”تلفزيون سوريا” عن التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) يقضي بتحييد منطقة سد تشرين بريف حلب الشرقي، وتسليم إدارتها لجهة مدنية خاصة، من دون وجود عسكري لأي طرف على الأرض.

وبحسب المصادر، فإن تنفيذ الاتفاق سيجري بشكل ضمني خلال الفترة المقبلة، ويأتي في سياق مساعٍ لتجنّب أي تصعيد ميداني أو مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة.

وأوضحت المصادر أن الاتفاق يهدف إلى “نزع فتيل التوتر” وخلق حالة من الاستقرار في محيط السد.

أهمية سد تشرين

يقع سد تشرين في محافظة حلب، جنوب شرقي منبج على بعد 30 كيلومتراً، ويُعد من المنشآت الحيوية في المنطقة، بسعة تخزينية تبلغ 1،9 مليارات متر مكعب، وبارتفاع 25 متراً وطول 900 متر.

ويُستخدم السد لتوليد الطاقة الكهربائية وتنظيم المياه، مما يجعل تعرّضه لأي أضرار خطراً كبيراً على حياة المدنيين واستدامة الموارد.

———————-

=======================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 04 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

———————————–

البيئة الدولية الجديدة..فرض منطقة نفوذ إسرائيلية على المشرق العربي/ عزمي بشارة

الجمعة 2025/04/04

إذا استتبَّ الأمر لترامب والأوليغارشيا الجديدة الحاكمة في الولايات المتحدة، وخلا لهما الفضاء مدّة كافية من دون ممانعة خارجية أو داخلية معتبرة، فسوف تشهد أعراف العلاقات بين الدول وقواعدها التي استقرّت عليها منذ الحرب العالمية الثانية تحوّلاً جذرياً. يمكن إجماله بانتقالٍ إلى سيادة مشروطة لقانون الغاب، يفترس في ظلّها القوي الضعيف شرط أن يتمكّن من الاستفراد به، أي إذا لم تتصدّ له تحالفاتٌ بين من يستضعفهم.

سابقاً، في ظل نظام القطبين، جرى ترسيم حدودٍ تقريبية لمناطق النفوذ، ودار الصراع بينهما، بما في ذلك الحروب بالوكالة، على ما يقع خارج تلك المناطق. وفي عصرٍ عُدَّ عصر زوال الاستعمار، لم يكن لأيٍّ منهما الحقّ بالاستيلاء على ما يريده لمجرّد أن يدّعي مصلحة اقتصادية عارية له فيه، وذلك حتى ضمن مناطق سيطرته، حيث استُخدمت في تبرير تلك السيطرة مسوّغات أيديولوجيةٍ كونيةِ الادّعاء مثل الاشتراكية والديمقراطية الليبرالية ومكافحة الشيوعية وغيرها.

ومع انهيار نظام القطبيْن، لم ينشأ نظام متعدّد الأقطاب كما خُيِّل لبعضهم، بل نظام قطب واحد في مركزه الولايات المتحدة مع وجود دولٍ إقليمية كبرى توازنه. وحتى بعد أن أصبحت الصين قوةً عالميةً اقتصاديةً عظمى تنافس الولايات المتحدة، فإنها ظلت على المستوى السياسي والاستراتيجي قوة إقليمية. وأعلن قطب النظام الأحادي هذا احترامَه النظام الدولي القائم، بل زعم الاضطلاع بمهمّة حماية القانون الدولي، تلك الحماية التي راوحت في حدود ازدواجية المعايير المشهورة، وهي، في نظري، عبارة أخرى لوصف معيارية المصالح الحصرية.

تُبان معالم نظام دولي جديد بالتدريج من خلال تصرفات الإدارة الأميركية. ويستشفّ من هذه التصرّفات اعتراف بوجود دولٍ قويةٍ على الساحة الدولية شرط أن تقرّ بتفوّق مركز هذا النظام، وهو الولايات المتحدة. وتعترف الأخيرة بمناطق نفوذٍ للدول القوية الأخرى تُطلق أيديها فيها للهيمنة والسيطرة، وفقاً لظروف كلٍّ منها. ولكن عليها أن تقبل صاغرة عزم البيت الأبيض الجديد على ترجمة هذا التفوّق اقتصادياً من خلال تعديل الميزان التجاري لمصلحة أميركا، بحيث تحظى بامتيازاتٍ بفضل قوتها الاقتصادية والعسكرية فقط، لا لتحالفاتها، ولا جاذبيّة نموذجها، ولا المساعدات التي تقدّمها، ولا بسبب قيادتها “العالم الحر”، فقد قرّر البيت الأبيض الاحتفاظ بامتيازات الدولة العظمى عاريةً من زينتها ومن مسؤوليات الدولة العظمى وواجباتها.

وهي تحتفظ بهذه الامتيازات، حين تدير ظهرها لحلفائها، وتعكف على رعاية مصالحها حصراً تحت عنوان “أميركا أولاً”، وذلك وفقاً لتحديد الأوليغارشيا المتنفّذة حالياً لهذه المصالح بأضيق فهمٍ ممكنٍ لها. ولا تُحرج من مطابقةٍ صريحةٍ لهذا التعريف مع مصالح أفرادها بتهيؤاتهم، ونرجسيّاتهم. وفي بالهم نظام ما بعد ليبرالي وما بعد اجتماعي، تتقلّص في ظله الحقوق الاجتماعية إلى أدنى حدٍّ ممكن ودولةٍ أمنيةٍ قويةٍ ليس من مهامها العناية بمواطنيها “الأقل حظاً”، ولا وضع ضوابط ومحاذير على شركات التكنولوجيا الكبرى، ولا تقييد مشاريع الذكاء الاصطناعي. لقد أدرك مالكو شركات التكنولوجيا الكبرى ومديروها قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة أن مصالحهم لا تتفق مع الليبرالية التي داروا يوماً في فلكها، بل مع الشعبوية اليمينية غير المعنيّة بأي قيود على التكنولوجيا ووسائل التواصل، والتي تحمي تمدّد نفوذ هذه الشركات على المستوى العالمي. فاستداروا نحو التحالف مع أشدّ القوى يمينيةً وشعبويةً في السياسة والاقتصاد. هكذا التقى أرباب الذكاء الاصطناعي مع رأس المال العقاري غير المنتج وأساطين الشعبوية والأمية السياسية.

يحتاج هذا الموضوع معالجة طويلة مستقلة، ولكن ما يهمّنا هو تزامن (وتلاقي) الابتعاد عن منجزات الديمقراطية الليبرالية داخلياً مع إطلاق العنان للجشع خارجياً، فأميركا تعلن على رؤوس الأشهاد أنها تريد ببساطة أن “تأخذ” (وفقاً لمعجم مفردات ترامب الفقير) قناة بنما، أو يُتاح لها العودة للسيطرة عليها، وأنها تريد أن تنتزع جزيرة غرينلاند الغنيّة بالموارد الطبيعية من الدنمارك، وضم كندا لتصبح ولاية أميركية. وهذا كله بالتوازي مع العمل على تقويض ما عُدّ نظاماً عالمياً للتجارة الحرّة، وإقرار سياساتٍ حمائيةٍ بمبادرةٍ من زعيمة النظام الرأسمالي العالمي من خلال رفع التعرفة الجمركية في التبادل التجاري مع الخصوم والحلفاء، فلم تعد تزعجها أواصر التحالف، فلا فارق جوهرياً بين الحلفاء والخصوم من منظور عقيدة “أميركا أولاً”، و”لنجعل أميركا عظيمة” الشعبوية نحو الداخل والإمبريالية نحو الخارج. والديمقراطية، بحد ذاتها، ليست أولوية، بل أصبحت في نظر الساكن الجديد في البيت الأبيض عائقاً.

وبين سطور الخطاب السياسي الجديد لترامب وأعوانه الموالين له، اعترافٌ بمنطقة نفوذٍ لروسيا وتفهمٌ لمطامعها في أوكرانيا، واعترافٌ بمنطقة نفوذ للصين، بحيث تتولّى تايوان المسؤولية عن مصيرها، وبحيث تلزَم دول مثل كوريا الجنوبية واليابان ودول أوروبا الغربية بالاضطلاع بدورٍ أكبر في الدفاع عن نفسها. ويجاهر حكام أميركا الجدد بموقفٍ سلبيٍّ من نهج الليبرالية السياسية الأوروبية والحقوق الاجتماعية الراسخة في بعض بلدانها، ويشجّعون اليمين المتطرّف فيها جهاراً نهاراً.

وفوق هذا كله، الجالس في البيت الأبيض منذ كانون الثاني/يناير لهذا العام مولعٌ بالقادة الأقوياء الذين تؤهلهم زعامتهم للدخول في صفقاتٍ بغضّ النظر عن ممارساتهم داخل بلدانهم، فليست حقوق الإنسان أو غيرها على جدول أعماله.

لم تستقر هذه البيئة الجديدة بعد، وقد لا تستقر، فما زالت المعارضة الداخلية الأميركية للسياسات الجديدة في حالة تبلور، ولكنها سوف تظهر بالتأكيد في الانتخابات النصفية للكونغرس، وربما قبل ذلك، لا سيما مع جلاء النزعة التسلطية المتناقضة مع أبسط مبادئ الديمقراطية، وتكاثر المتضرّرين من تقليص خدمات الدولة ومن رفع التعرفة الجمركية. ولم تتبلور بعد أشكال المقاومة الخارجية لهذه السياسات، فثمّة ارتباكٌ وحيرة، ولكن الفراغ لن يستمرّ مدة طويلة. ولهذا الافتراض دواعٍ وأسباب ليس هنا مجال الخوض فيها، أهمّها تضرّر مصالح دول كبيرة ومهمّة تبحث عن سبل للتصدّي في أوروبا وغيرها.

ضمن تشكّل البيئة الدولية الجديدة، تشجع الإدارة الأميركية إسرائيل على فرض ما يمكنها فرضه في سورية وفلسطين ولبنان، باعتبار أنها، في نظرها، القوة الإقليمية الأقوى، والأشد استعداداً لاستخدام القوة الضارية كما أثبتت خلال العامين الأخيرين، في مقابل ما تُبديه الدول العربية من وهنٍ وعجز، وحتى تواطؤ في بعض الحالات.

هل يصبح المشرق العربي منطقة نفوذ إسرائيلية؟ وما السبيل إلى منع ذلك؟

يشهد المشرق العربي انفلاتاً إسرائيلياً بلغ حد التوحش. ويُتاح هذا الانفلات بضوء أخضر أميركي. وفوق ذلك، تنفق الإدارة الأميركية الجديدة، التي تبخل على حلفائها في كل مكان، على إسرائيل بسخاء، فالأخيرة بالنسبة لها ليست مجرّد حليف يمكن الاعتماد عليه في منطقة مهمّة، بل هي أيضا حليف داخلي في أميركا.

في المقابل، تطالب الإدارة الأميركية دول الخليج العربية الثريّة بدفع الأموال بأشكالٍ شتى (استثمارات، زيادة صفقات الأسلحة وغيرها) ثمناً للتحالف معها وما تعدّه حمايتها. وأصبحت بعض الدول العربية تعوّل على محاربة إسرائيل حركات المقاومة، وضرب محور إيران وتحجيم نفوذ الأخيرة في المنطقة. وخلال هذه العملية الدامية المتواصلة منذ عامين، والتي تحوَّلت إلى عملية إبادة في قطاع غزّة، واتخذت أشكالاً أخرى، لا تقل خطورةً من ناحية أثرها السياسي، في بقية أرجاء فلسطين وفي لبنان، وفي غياب فعلٍ رسميٍّ عربيٍّ مضاد، تفرض منطقة نفوذ إسرائيلية في المشرق العربي ويجرى توسيعها باستمرار. لقد انحرف هذا التطوّر الواضح للعيان عن المسار الأصلي للتعويل على القوة الإسرائيلية.

لم تحاول الدول العربية المحيطة بفلسطين وقف الحرب، حتى بعد أن انقطعت صلة الحرب بالردّ على عملية طوفان الأقصى، وباتت حرب إبادة، وعجزت حتى عن إغاثة النساء والأطفال والشيوخ بإلزام الاحتلال على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وهو ما يفترض أن يكون مصدر حرج، حتى لمن ينتظرون القضاء على المقاومة. فمن الذي سوف يحسب حساباً لدولٍ تعجز عن إرضاء رأيها العام بهذا الحدّ الأدنى من الفعل والفاعلية؟

لقد تجاوزت الأحداث نهج انتظار إراحة إسرائيل نفسها والمنطقة من “إزعاج” حركات المقاومة التي يحول نشاطُها دون تطبيع العلاقات، ويعرقل تشكيل محورٍ حليفٍ للولايات المتحدة يمتد من دلهي إلى تل أبيب. واتضح أن إسرائيل غير قادرةٍ على “استئصال شأفة المقاومة” كما ترغب طالما تواصل الاحتلال، ولا على منع تعاطف الشعوب العربية معها. ولكنها باتت تستغلّ اندفاعتها الحربية الشرسة في غياب وازع داخلي أو رادع خارجي، وفائض القوّة الذي نجم عنها، لتحقيق أهدافٍ مثل تهجير الفلسطينيين وضم الضفة الغربية؛ ويُفترض أن تمنع هذه الأهداف، بحدّ ذاتها، أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل. وإضافة إلى ذلك، في ظل الانفلات الإسرائيلي بدعم غير مشروط من الإدارة الأميركية، لم تعُد الحرب تمهّد لتحالفٍ في محور عربي- إسرائيلي، بل إلى هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي. من يريد تحالفاً مع كيان استعماري استيطاني عليه أن يفهم على الأقل أن هذا سيكون شكل التحالف.

ولن يؤدّي انتظار شنّ الحرب على إيران، مثل ما لم يؤدّ انتظار نتائج الحرب على المقاومة الفلسطينية، إلا إلى تعزيز التغوّل الإسرائيلي في الاتجاه المذكور… تعمل إسرائيل على تكريس واقع سياسي جديد، يخضع فيه “الملف الفلسطيني” لنفوذها الحصري، ولا حقّ لأحد بالتدخّل فيه، لا بمبادرة سلام ولا بـ”عملية سلام”. كما تعمل على تجاوز ذلك بالمجاهرة بأنّ لقادتها رأياً في كيفية حكم سورية ولبنان وإدارتهما، وربما غيرهما في المستقبل. وتدعمها الولايات المتحدة في ذلك، بل وتوصي القادة العرب بالتشاور مع نتنياهو بشأن قضايا الإقليم بعد أن أثبت “نجاعة” منطق القوة.

ترفض إسرائيل التسليم بالإدارة الجديدة في سوريا، وتعمل على فرض نزع السلاح عليها بالقصف الشامل غير المسبوق، الذي لا تجد كلاماً لتبريره سوى قدرتها على فعل ذلك، أي الهيمنة نفسها، كما تعمل على فرض منطقة نفوذٍ لها في جنوب سورية، في مقابل ما يمكن أن يصبح، من منظورها، منطقة نفوذ تركية في شمالها. كما تشترط نزع سلاح حزب الله، ونزع سلاح لبنان عملياً. وتتبنى الولايات المتحدة وبعض الدول العربية هذه الشروط، وبدلاً من مساعدة لبنان على مواجهتها في ظروفه الجديدة، تضغط عليه لنزع سلاح حزب الله بالقوّة ولفتح خطوط سياسية، وليس فقط عسكرية، بين سورية ولبنان وإسرائيل، غير مكترثة لاحتمال أن يقود نهجٌ كهذا إلى حروبٍ أهلية.

تخطئ أي قيادة سورية أو لبنانية إذا أعربت عن استعدادها لفتح خطوطٍ سياسيةٍ مع إسرائيل، وهي تحتلّ أراضيهما وتعلن إملاءاتها على الملأ وكأنها وصيةٌ عليهما، فلن يكون موضوع الاتصال الانسحاب من الجولان والعودة إلى حدود عام 1967، بل التدخّل في شؤون البلدين الداخلية. ولا سبيل لمقاومة هذا المخطّط الإسرائيلي في سورية سوى تقديم نموذجٍ وطنيٍّ تعدّدي غير طائفي، بل معادٍ للطائفية، قادر على توحيد الشعب السوري في الشمال والجنوب والشرق والغرب في الدولة السورية، وتجاوز رواسب المرحلة السابقة للتوصل إلى تفاهم بين لبنان وسورية لمواجهة هذه الضغوط. ثمّة بديهيةٌ ثابتةٌ منذ بدء الصراع، ومفادها أن كل ما يصبّ في مصلحة الدول العربية وشعوبها يضر بإسرائيل.

إذا قارنّا هذا التغوّل الإسرائيلي بالمراحل التي كانت فيها إسرائيل تلوذ بالصمت لكي لا تثير حساسياتٍ لدى الحلفاء العرب ورأيهم العام خلال الحرب الأميركية على العراق، أو خلال الثورة في مصر، ندرك حجم التغيير الحاصل.

شرط مواجهة العدوانية المتمادية لدولة ما في أي منطقة قانون دولي يُفرض فرضاً، أو قوة دولية راغبة وقادرة على وقفه، أو مواجهة القوة بالقوة إقليميّاً. لكن هذه العوامل غائبة في حالة إسرائيل. والقوى المستعدة لمقاومة التمدد الإسرائيلي بالقوة هي فقط حركات المقاومة، التي ثبت بشأنها ما صح دائماً، وهو أنها في ظروف العالم العربي، بما في ذلك الحصار المفروض عليها فيه، قادرة على المقاومة، ولا يفترض أن تسعى إلى خوض الحروب، وحتى أن تتجنّبها إذا فرضت عليها.

تصرّفت الدول العربية خلال الحرب الإسرائيلية على فلسطين في غزة كلٌ من منظور نظامها ومصالحه وعلاقاته الإقليمية والدولية، لا سيما مع الولايات المتحدة. ولم يتبلور تصوّر عربي أو إقليمي مشترك بالحد الأدنى في مقاربة تحدٍّ إقليميٍّ مفروضٍ عليها. ولذلك، حتى بعدما تحوّلت الحرب إلى عملية إبادة، لم نشهد محاولة عربية لوقف الحرب، ولو بإصدار تهديدٍ واحدٍ بقطع العلاقات. لقد كان بإمكان الدول العربية وقف الحرب، وما زال بإمكانها ذلك لو توفّرت الإرادة.

ويفترض أن يدرك أيّ شخصٍ عاقلٍ أن لا مصلحة للدول العربية، حتى الحليفة للولايات المتحدة، بأن يصبح المشرق منطقة نفوذٍ إسرائيلية. وتتوفر لدى البلدان العربية عناصر قوةٍ هائلةٍ لا تحتاج تفعيلها كلها لمنع تحول المشرق إلى مجال نفوذٍ إسرائيلي. لكنها تحتاج تجاوز الضغائن والخلافات وتغيير طريقة التفكير السائدة لديها لكي تتوصّل إلى إجماع على وقف هذه الصيرورة الجارية، إذا افترضنا أنها تدرك كنه هذه الصيرورة، أي التحوّل إلى منطقة نفوذٍ إسرائيليةٍ ومخاطره. ويفضّل أن يحصَّن مثل هذا الموقف من خلال التوصل إلى نظام أمن إقليمي بالتفاهم مع إيران وتركيا، بحيث يشتمل على احترام كاملٍ لسيادة الدول العربية، فتتمكّن من تأكيد عدم حاجتها للحماية الأميركية أو الإسرائيلية. ربما كان ما سبق مجرّد أضغاث أحلام وتمنّيات، فقد أثبتت تجربة غزّة أنه “قد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً”. ولكن ما يشير إليه عنوان هذا المقال هو تحوّل نوعي، من الواجب توضيحه، بغضّ النظر عن تشاؤم كاتبه البنيوي والعميق من احتمال أن تغيّر الحكومات العربية منظورها، فترى الأمور على نحوٍ مختلفٍ لمجرّد أنها فكرة مقنعة.

إذا فشلت حكومات الدول العربية في التحرّك لوقف هذه الصيرورة الخطيرة، فسوف يترسخ وضع جديد تجد نفسها فيه خاضعة للإملاءات الإسرائيلية. وهذا ليس في مصلحتها. ولكن الأمر لن يستقرّ للهيمنة الإسرائيلية على المدى البعيد، إذ سوف تجتمع التناقضات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي مع قضية فلسطين ورفض الشعوب العربية الهيمنة الإسرائيلية على بلدانها. وقد خلَّفت حرب الإبادة الإسرائيلية احتقاناً هائلاً في الوطن العربي لم تتبيّن أبعاده وآثاره بعد.

المدن

—————————–

لكي تكفّ إسرائيل شرّها عن سورية/ معن البياري

04 ابريل 2025

صار مؤكّداً، للمرّة الألف على الأقل، أن إسرائيل لا تريد أن تكفّ شرّها عن سورية. … توضح شراسة الاعتداءات المتتالية، شبه اليومية أحياناً، أن ثمّة قراراً لدى دولة الاحتلال أن تبقى سورية في أضعف حال، بلا إمكاناتٍ عسكريةٍ لأيِّ جيش طبيعي، بلا أيِّ تسليح، ليس فقط لكي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، بل أيضاً لتظلَّ ملعباً مستباحاً للمعتدي الإسرائيلي، بطيرانه وعتاده وجنوده. وأمام هذا الحال، سيتعلّق السؤال بالمطلوب الملحّ من السلطة في دمشق، ماذا عليها أن تصنع؟. بديهيٌّ أن التوازن الاستراتيجي الذي أطنب عنه كثيراً حافظ الأسد كان ينفع في تزويد كتّاب افتتاحيات صحيفة تشرين وزميلاتها بذخيرةٍ لغويةٍ لا تحفل بها غرفة قيادة الأركان الإسرائيلية. وبديهيٌّ أنه سيكون محرجاً، بل ومرفوضاً، الاستغراق أكثر وأكثر في اللغة الباردة التي تعاطت بها القيادة السورية الراهنة بشأن الاعتداءات الإسرائيلية في الأشهر الأربعة الماضية. وحسناً من الخارجية السورية أنها سمّت استهداف إسرائيل عدّة مواقع عسكرية ومدنية سورية في دمشق وحمص ودرعا عدواناً، وانتهاكاً سافراً للقانون الدولي وسيادة الجمهورية العربية السورية. والمأمول أن تنشط الوزارة المعنيّة باتصالات دبلوماسية وسياسية مع العواصم الكبرى، ومع مجلس الأمن والأمم المتحدة، أقلّه ليشعُر العالم بأن الدولة السورية تؤدّي أضعف الإيمان بشأن استهدافٍ ضد أراضيها وقدراتها العسكرية، وضد شعبها من قبلُ ومن بعد، وقد سقط منه شهداء وجرحى.

ليس من حاجةٍ للقول إن دولة البغي تنعُم بفرصةٍ ربما لم تتوقّع مثلها، لمّا قامت قبل أزيد من 75 عاماً، أن العالم العربي منكشفٌ مبطوحٌ قدّامها، بلا أيِّ حوْل، منزوع الإرادة وبلا أيِّ قدرةٍ على أي قرارٍ جدّي، بل وفيه من يقيم أقوى العلاقات والتحالفات معها، فأن يضرب سلاح الجو الإسرائيلي في سورية، كيفما شاء ووقت شاء، نشاطٌ روتينيٌّ في يوم عملٍ عاديٍّ له، وتتفهّم هذا كل الدول العربية، المسمّاة منها مركزية والأخرى غير المسمّاة مركزية. وترفع هذه الدول، من النوعيْن، بعض شعورٍ بشيءٍ من الحرج، بالبيانات اللفظية إياها، والتي لا تشغل الدولة العبرية نفسَها بأي اكتراثٍ بها. ومن شديد البؤس أن يثرثر بعضُنا إن قصف الطيران الحربي الإسرائيلي مطاراً عسكرياً في حماة وقاعدة في حمص ومركز بحوثٍ في دمشق، الليلة قبل الماضية، رسالة تبعثها تل أبيب إلى أنقرة، وإنْ ذاع أن القاعدة المستهدفة كان مقرّراً أن تصير تركية، فالرسالة إلى السوريين، وليس إلى أحدٍ غيرهم، مفادُها بأنه غير مسموحٍ لهم أن يعملوا من أجل تعافي بلدهم، فهذه الاعتداءات الشرسة، غير المسبوقة على سورية، معطوفةٌ عليها تلك المحاولات الإسرائيلية لاحتضان السوريين الدروز، وكأن حكومة الاحتلال حاميتهم، وكذا تصريحات أكثر من مسؤولٍ في دولة العدوان بشأن الحكم في سورية الجديدة، وتعيين هويّته، في سفورٍ معلنٍ تنسب فيها الدولة المذكورة وصايةً على الشعب الذي أطاح بشّار الأسد ليتخيّر طريقه إلى النظام السياسي الذي يريد.

ليس في المقدور أن يُطرح جوابٌ عن السؤال الملحّ تُطالَب به السلطة السورية الراهنة لدفع الشر الإسرائيلي عن البلاد، ولكبح جموحه وهو يستهين بكل الأعراف والاعتبارات، سيّما وأن إمكانات الدولة السورية وقدراتها على أوضح ما يكون عليها الانكشاف والضعف وقلة الحيلة، وسيّما وأن الإسناد العربي لن يتحقّق بالمُراد الذي يشتهيه كل سوري، وكل مواطن من المنامة إلى نواكشوط. والبديهيُّ عن وجوب تحصين السلم الأهلي في البلاد، وصيانة الوحدة الوطنية، وإقامة إجماعاتٍ سوريةٍ تلتف حول وطنيةٍ عامة، وبناء مؤسّسات للدولة ذات مناعةٍ ضد الفساد والإفساد، ويتمثّل فيها كل السوريين عن استحقاقٍ وجدارة، البديهي عن هذا كله وغيره متطلّبٌ رئيسٌ في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل، وفي العمل من أجل صوْغ استراتيجيةٍ وطنيةٍ من أجل هذا الهدف. ويبقى من عدّة دول عربية، ومنها في الخليج، أن تقدّم كل عونٍ لسورية من أجل بناء مؤسّستها العسكرية المسلحة، القادرة على إشعار العدو الإسرائيلي بأن الخروج من الحمّام ليس كما دخوله، وبأن في وسع الشعب السوري أن يقع على معادلةٍ أخرى، غير التسليم بالضعف والعجز، فثمّة ما يمكن تثميره والبناء عليه، وفي الأول والأخير أهل مكّة أدرى بشعابها.

العربي الجديد

——————————-

ضربات إسرائيلية استباقية تزعزع استقرار سورية/ مالك ونوس

04 ابريل 2025

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي ليل الأربعاء (2 إبريل/ نيسان 2025) عشرات الغارات الجوّية على عدّة مواقع عسكرية سورية بينها قاعدة التياس (أو ما يعرف بمطار تيفور شرقي تدمر)، التي تخطّط تركيا لاتخاذها قاعدةً جوّيةً لها. وكان لافتاً ما قالته الإذاعة الإسرائيلية مباشرةً بعد الهجوم من أن هذه الغارات تعدّ بمثابة رسالة للرئيس التركي، أي أنها محاولة لمنع تركيا من إقامة قواعدَ في سورية، ما يشير إلى أن العدوّ سيمنع أيّ محاولة تثنيه عن الاستمرار في ضرب سورية وإضعافها إلى أقصى درجة ممكنة. وليست هذه الرسالة هي الأولى، فقد شنّ جيش الاحتلال ضربات مماثلة على هذه القاعدة قبل أسبوع، وأعقبها تصريح لمصدر عسكري إسرائيلي قال إنها رسالة إلى تركيا. وإذا كانت هذه الضربات تهدف إلى إضعاف سورية، فإن لها أهدافاً أخرى، أخطرها منع استقرار هذه البلاد، وهو ما يمكن أن يمنع استقرار الدول المحيطة بسورية، ومنها تركيا، التي لا تخفي إسرائيل خشيتها من استمرار صعودها قطباً إقليمياً قوياً.

وباتت التفاصيل بشأن إقامة قواعد عسكرية تركية في سورية تتكشّف شيئاً فشيئاً، جديدها أخيراً ما نقله موقع ميدل إيست آي الإخباري قبل أيّام من تصريحات “مصادر مطلعة”، أفادت بتحضيرات للشروع في هذا الأمر. ثمّ ما لبثت أن انتشرت أنباء عن وصول فعلي لقوات تركية ومهندسين وفنّيين أتراك إلى قاعدة التيفور. ويأتي هذا مع اتضاح الرؤى المتعلّقة بوجود تغيير سيحدّد مستقبل المنطقة، ويعيد رسم الخرائط السياسية، وربّما الجغرافية، في سياق واقع جديد سيفرض على المنطقة، من دون أن يكون لشعوبها دورٌ في هذا الواقع. غير أن حساسية هذا الأمر بالنسبة للاعبين الإقليميين، وخصوصاً دولة الاحتلال الإسرائيلي، يجعل تحقيق الاستقرار، الذي كان أحد الأهداف من إقامة هذه القواعد، مستبعداً مع الضربات الاستباقية التي شنّها الإسرائيليون ليل الأربعاء على المطار المقصود، والمتزامن مع توغّل إسرائيلي جديد في محافظة درعا.

وليس الكلام عن إقامة قواعد عسكرية تركية في سورية جديداً، بل ظهر مع الأيّام الأولى التي تلت إطاحة نظام بشّار الأسد، ثمّ كثر الحديث عن الموضوع مع زيارة الرئيس السوري للفترة الانتقالية، أحمد الشرع، أنقرة (4 فبراير/ شباط 2025)، وقيل إنها ستخصّص لمناقشة الوضع الأمني، وتدريب تركيا القوات السورية، وكذلك مناقشة العوامل التي تساهم في استقرار سورية وتعافيها اقتصادياً، تمهيداً لعودة أبنائها من مخيّمات اللجوء في الدول المجاورة. ويمكن لإقامة هذه القواعد أن يزيد من متانة العلاقات السورية التركية، ويدفعها باتجاهات متقدّمة مستقبلاً، ولا يُستبعَد أن تصل إلى درجة التحالف الاستراتيجي على الصعد كافّة. وهو لذلك ربّما سيكون موضع دراسة ونقاش في دوائر صنع القرار في المنطقة، علاوة على تسبّبه في زيادة اهتمام القوى الإقليمية والدولية بسورية، وبمدى تطوّر العلاقات بين دمشق وأنقرة، وضرورته لإبعاد الأخطار عن تركيا أبعد ما يمكن، إذا ما استطاعت تركيا لجم الإسرائيليين ومنعهم من الاستمرار في استباحة سورية، كما فعلوا ويفعلون طوال 41 سنة الماضية.

غير معروفٍ إلى أيّ مدى ستؤثّر هذه الضربات، وكذلك التصريحات الإسرائيلية الواضحة التي أعقبتها، في العلاقات التركية الإسرائيلية، التي تمرّ بحالة من التوتّر، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزّة، وهي العلاقات التي مرّت بمنزلقات كادت أن تؤدّي (أكثر من مرّة) إلى قطيعة بين الطرفَين. وإذا كان الإسرائيليون يجدون في هذه القواعد عاملاً يحدّ من حرّية حركتهم في الأجواء السورية، فإنهم في الوقت نفسه يبدون غير مرتاحين لظهور أنقرة لاعباً رئيساً ومقبولاً في الساحة السورية، وقادراً على منافسة القوة الإسرائيلية وتحكّمها بالمنطقة.

لكن، هل تُعدّ إقامة قواعد تركية العامل الوحيد الذي يساهم في تحقيق الاستقرار في سورية؟… مؤكّدٌ أن العامل الداخلي من أهم عوامل استقرار سورية، بغضّ النظر عن استمرار التدخّل الإسرائيلي المتواصل في شؤونها، واستمرار الضربات الجوية الإسرائيلية لقواعدها العسكرية، وحرمانها من القوة الضرورية لتحقيق الدرجة المطلوبة من الأمان، واللازمة لتشجيع المستثمرين على القدوم من الخارج للمساهمة في إعادة بناء البلاد. ويُعدّ الشروع في مسار تحقيق العدالة الانتقالية شرطاً داخلياً لتحقيق الاستقرار، خصوصاً بعدما ثبت أن تغييب هذا المسار هو الذي أسهم في ظهور الانتهاكات والمذابح بدافع الانتقام في الساحل السوري، بداية مارس الماضي. ويشكّل عدم الشروع في هذا المسار دافعاً لاستمرار حالة التوتّر الداخلية، لأن اهمال البتّ في قضية محاكمة المتّهمين بالانتهاكات خلال حكم بشّار الأسد، سيسهم في استمرار حالات الانتقام وانتشارها في نطاق واسع، وسيؤدّي إلى قتل الأبرياء، وهو ما لا يمكن توقّع التبعات التي قد يتسبّب بها.

لقد زادت الضربات الإسرائيلية للقواعد السورية من سرعة السير في الحلقة المفرغة التي دخلتها الإدارة السورية بعد إطاحة الأسد. بدايةً، أدّى عدم الشروع في مسار تحقيق العدالة الانتقالية إلى تغليب عامل الانتقام، وبالتالي حصول انتهاكات ومذابح فرملت الجهد المبذول لرفع العقوبات الدولية المفروضة على سورية. وإذا كان رفع العقوبات شرطاً من أجل البدء في تعافي البلاد الاقتصادي، فإن هذا التعافي شرط لزيادة مستوى معيشة السوريين، وبالتالي شرط لتخفيف التوتّر والاحتقان، اللذين لا يخفيا على أيّ مراقب للوضع العام في سورية، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى قلاقل تحدّ من استقرار البلاد.

وإذا كانت القواعد التركية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سورية، فإن الضربات العسكرية التي يوجّهها الإسرائيليون بهدف منع إقامتها هي عامل لمنع هذا الاستقرار. وهذا بحدّ ذاته يُعدّ دخولاً في الحلقة المفرغة من باب آخر. وإزاء هذه المعطيات، يبدو الملفّ السوري غائماً، وأيضاً دافعاً للإحباط، وربّما يتطلّب عقد مؤتمر دولي تتوافق فيه القوى الدولية والإقليمية على أجندة محدّدة تخفّف التحدّيات والتجاذبات والاستقطابات، التي سيُدفّع استمرارُها الشعبَ السوري أثماناً ليس مسؤولاً عنها.

العربي الجديد

————————–

التصعيد الإسرائيلي: هل باتت سوريا ساحة خلفية للصراع الإسرائيلي التركي؟/ أغيد أبو زايد

3 أبريل 2025

بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في الـ 8 كانون أول/ديسمبر 2024، بدأت ملامح النوايا الإسرائيلية ومخططاتها تتكشف حول سوريا، لاسيما جنوبي البلاد، إذ أخذت السياسة الإسرائيلية منحنى مختلفا عما كانت عليه إبان حكم الأسد، مستغلة حالة الضعف السياسي والعسكري وانشغال “الإدارة السورية الجديدة” بالأوضاع الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن الأوضاع الأمنية، خاصة في الساحل السوري.

وتعمل إسرائيل على استهداف قواعد عسكرية تُشكل في نظرها تهديدا أمنيا لها، ناهيك عن التوغل البرّي شبه اليومي في محافظتي درعا والقنيطرة، حيث باتت توسع عملياتها البرية، التي وصلت ليل الأربعاء – الخميس إلى منطقة نوى بريف درعا الغربي، في حين أن سلاح الجو استهدف مطارَي حماة و “تي 4″، إضافة إلى قاعدة تدمر العسكرية.

إذ شهد التصعيد الأخير تطورا لافتا في السياسة الإسرائيلية تجاه تحالفات دمشق السياسية والعسكرية، فبعد أن كانت تل أبيب تخشى الوجود الإيراني في سوريا بات الوجود العسكري التركي “تهديدا محتملاً” لها، رغم عدم وجود تحرك عسكري تركي رسمي في سوريا، لكن على ما يبدو أن تل أبيب تستبق أي اتفاق محتمل بين دمشق وأنقرة، فهي تريد رسم واقع جديد في المنطقة.

ما دور التصريحات التركية؟

انطلاقا من العلاقات التركية الإسرائيلية المتوترة، فإن تل أبيت وجدت سوريا ساحة لتصفية حساباتها مع أنقرة، بل وكسر شوكتها من دون مواجهة مباشرة، لكن ذلك سيكون على حساب استقرار سوريا والسوريين، إذ تسعى إسرائيل لكبح جماح النفوذ التركي وتمدده لملء فراغ تركته إيران وميليشياتها في الأراضي السورية.

الصحفي محمود السعدي يرى أن التصريحات التركية حول توسيع نفوذها في سوريا ساهمت في تصاعد التوتر مع إسرائيل، إذ إن هذا التوتر المتزايد بين أنقرة وتل أبيب، الناتج عن التصريحات والتحركات المتبادلة، قد يكون أحد العوامل التي دفعت إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية في سوريا، بهدف مواجهة النفوذ التركي المتنامي في المنطقة.

يتفق في ذلك الناشط ماجد عبد النور، في أن معظم محاولات التصعيد الإسرائيلي على سوريا سببه التصريحات التركية “اللا مسؤولة ومحاولاتها إظهار توسع نفوذها في سوريا”. وأوضح في تغريدة عبر منصة “إكس” أن ذلك بدأ من تصريحات تركيا حول ترسيم الحدود البحرية التي أثارت حفيظة اليونان وقبرص ومصر مروراً بتصريحاتهم حول وضع قواعد عسكرية متقدمة في العمق السوري وليس انتهاءً بالحديث عن اتفاقيات أمنية وإظهار اهتمامهم المبالغ برعاية المسجد الأموي لإثبات الرابطة الدينية على غرار ما كانت تحاول فعله إيران.

تسعى أنقرة إلى توظيف قدراتها العسكرية وملئ الفراغ الذي خلّفه انسحاب إيران وميليشياتها من سوريا، في حين أن تل أبيب تعتبر ذلك “تهديداً محتملاً”، مما يؤكد أن إسرائيل لن تسمح لتركيا أن توطد وجودها العسكري، حتى وإن تحولت سوريا إلى ساحة للصراع.

وأضاف أن سوريا ستبقى ساحة لصراع النفوذ بين تركيا وإسرائيل، لكن عبر وسائل غير مباشرة مثل الضربات الجوية الإسرائيلية والوجود العسكري التركي الداعم لفصائل معينة، من دون الوصول إلى حرب مفتوحة بين الدولتين.

وقال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إن الضربات الإسرائيلية الأخيرة كانت رسالة إلى تركيا. وأوضح أن الرسالة الإسرائيلية حملت “تحذيراً شديداً” للرئيس أحمد الشرع من مغبة “السماح لأي جهة بتغيير الوضع القائم في سوريا بما يهدد أمن إسرائيل”، مؤكداً أن “من يسمح بذلك سيدفع الثمن”.

النفوذ التركي: هل تحقق أنقرة طموحها؟

على الرغم من أن تركيا لم تقم بأي خطوة عملية على الأرض لإقامة قواعد عسكرية في سوريا، إلا أنها تطمح لمد نفوذها عبر استغلال حالة الفراغ وعدم قدرة دمشق على بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية، في ظل ضعف إمكانياتها العسكرية وعدم وجود كوادر مدربة وجاهزة، لكن ذلك مستبعد في المدى القريب والبعيد.

إذ إن سياسة دمشق في التعاطي مع أنقرة ما زالت تأخذ طابع المراوغة السياسية، فهي تسعى للاحتفاظ بعلاقات ودّية مع تركيا لتكون حليفا إقليميا، لكن في نفس الوقت لا تريد خسارة العمق العربي، وتعتبره أولوية بالنسبة لها.

إلى الآن ورغم الطموح التركي إلا أنه لم يتم توقيع أي اتفاقيات عسكرية بين دمشق وأنقرة، وهذا يعود إلى إدراك “الإدارة السورية الجديد” أن وجود نفوذ تركي وقواعد عسكرية ليست من مصلحتها.

بحسب حديث الباحث في الاقتصادي السياسي، الدكتور محمد السعدي، لـ “الحل نت” فإن القواعد التركية لا يمكن أن تطبق على الأرض السورية، بسبب الموقع الجيوسياسي السوري، إذ ستهدد هذه القواعد الأمن العربي وبالتالي فإن الدول العربية لن تسمح لدمشق بأن تتحالف مع تركيا، مشيرا إلى أن دمشق تتصرف وفق رؤية عربية وليست إقليمية.

لكن رغم علم أنقرة بذلك، إلا أنها لن توفر أي فرصة لتحقيق طموحها في الأراضي السورية، إذ من غير المرجح أن تتراجع أنقرة عن خططها لإقامة قواعد عسكرية، خاصةً مع سعيها لتعزيز نفوذها الإقليمي وتأمين مصالحها الاستراتيجية، بحسب الصحفي محمود السعدي.

تركيا تستعد لبناء قاعدة عسكرية في سوريا.. ما موقف تل أبيب؟

بالمقابل، قد يؤدي هذا التحرك إلى تصعيد التوترات في المنطقة، خاصةً مع استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية، والتي قد تكون رسالة واضحة لتركيا بشأن مخاوف إسرائيل من تزايد النفوذ التركي في سوريا.

ما سرُّ التصعيد الإسرائيلي الأخير؟

بالنسبة لتل أبيب فإنها ما تزال تعمل على تدمير القواعد العسكرية لجيش النظام السابق والتي كانت تتمركز فيها إيران، إذ إن الغارات الجوية التي استهدفت مطاري “تي 4” وحماة وقاعدة تدمر، كانت لتدمير غرف عمليات إيرانية تحت الأرض، بحسب مصدر أمني سوري.

وقال المصدر، الذي رفض الكشف عن هويته، لـ “الحل نت“، إن هناك مبانٍ ضخمة ومحصنة تقع تحت أرض القواعد التي استهدفها سلاح الجو الإسرائيلي ليل الأربعاء – الخميس، وكانت إيران تستخدمها لإدارة عملياتها العسكرية في سوريا.

لكن تل أبيت استغلت الحدث بتوجيه رسالة تحذيرية إلى أنقرة، التي عملت على جس نبض إسرائيل عبر تصريحات حول نيّتها إقامة قواعد عسكرية في وسط سوريا لأهداف متعددة.

المحلل السياسي، الدكتور عامر السبايلة، اعتبر أن التصريحات التركية تأتي من بوابة محاولة ملء الفراغ الإيراني وإظهار الوصاية على سوريا.

وأضاف أن تركيا تحاول الاستفادة من هذه الجغرافيا، إذ تحاول أن تبرز نفسها كلاعب أساسي في المعادلة السورية وأن هذا النفوذ يمكن أن يعطيها المساحة للتفاوض في الإقليم، لكن فعلياً لا يمكن التعويل عليها عسكريا في سوريا، خصوصا في مواجهة اسرائيل وسياسة الولايات المتحدة.

ورجح السبايلة أن تستمر إسرائيل بالسياسة التي تقوم بها. وأضاف: “في النهاية فإن الأزمة يمكن أن تنتقل أكثر إلى الداخل السوري على شكل إعادة رسم الخارطة السياسية السورية وأيضا تعميق أزمة تركيا السياسية في الداخل وبالتالي احتواء أي تحركات مستقبلية على نمط السنوات الماضية كما أرادت تركيا، إذ إن الوضع الداخلي أصعب من أن تقوم تركيا بأي سياسة توسعية في المنطقة.”

ماذا عن جنوبي سوريا؟

فيما يخص الجنوب السوري، تحديدا محافظتي درعا والقنيطرة، فإن إسرائيل تعمل على رسم خريطة أمنية في المناطق القريبة من حدودها وتريد أن تكون منزوعة السلاح، إذ قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أمس الأربعاء، إن هدف إسرائيل في سوريا يتمثل في نزع السلاح جنوبي البلاد، وضمان أجواء خالية من التهديدات فوق الأراضي السورية.

وادعى أن المنطقة ستشهد نشاطاً متزايداً لـ “منظمات إسلامية فلسطينية” في كل من لبنان وسوريا، وأضاف: “نحن نعمل على منع تسليح حزب الله والفصائل الفلسطينية… التحدي بدأ وسيتصاعد”.

لكن التحركات الإسرائيلية في جنوبي سوريا لا تبدو أنها ستتوقف عند حدود معينة، إذ بدأت تأخذ منحنى خطيرا يمكن أن يغير خريطة المنطقة، انطلاقا من جبل الشيخ حيث أنشأت إسرائيل قواعد لها، وصولا إلى ريف درعا الغربي ومرورا بمحافظة القنيطرة.

وتوغلت القوات الإسرائيلية ليل الأربعاء – الخميس في الأراضي السورية ووصلت إلى منطقة نوى بريف درعا الغربي، حيث استهدفت حرش سد الجبيلية بين مدينة نوى وبلدة تسيل، ما أسفر عن مقتل 9 أشخاص وجرح آخرين.

وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفخاي أدرعي، في بيان صدر اليوم الخميس، إن القوات الإسرائيلية ضمن “اللواء 474” في منطقة تسيل بريف درعا تمكنت من مصادرة وسائل قتالية وتدمير بنى تحتية أثناء عملية توغل بري وجوي. وأضاف أن العملية شهدت تبادل إطلاق نار مع مسلحين محليين، مما أسفر عن القضاء على عدد منهم دون وقوع إصابات في صفوف القوات الإسرائيلية.

هل تعيد إسرائيل صياغة ملامح جنوب سوريا.. لماذا تصمت دمشق؟

بدورها، دانت وزارة الخارجية والمغتربين السورية، التصعيد الإسرائيلي “غير المبرر”، معتبرة أنه محاولة متعمدة لزعزعة استقرار سوريا وإطالة معاناة شعبها. وأضافت: “في وقت تسعى فيه سوريا لإعادة الإعمار بعد 14 عاماً من الحرب، تأتي هذه الاعتداءات المتكررة في سياق محاولة إسرائيلية واضحة لتطبيع العنف مجدداً داخل البلاد، مما يقوض جهود التعافي ويكرس سياسة الإفلات من العقاب.”

ودعت، في بيان، المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها والالتزام بالقانون الدولي وتعهداتها بموجب اتفاقية فصل القوات لعام 1974. وحثّت الخارجية السورية الأمم المتحدة وجميع الجهات الدولية المعنية على اتخاذ إجراءات فورية لوقف هذا التصعيد ومنع المزيد من الانتهاكات.

لذلك، فإن التحركات الإسرائيلية تشير إلى أن تل أبيب تعمل على تغيير المعادلة ورسم واقع جديد في المنطقة، في ظل عدم قدرة السلطات السورية على مواجهة المخطط الإسرائيلي، الذي عبّر عنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في وقت سابق والذي يتمثل في “شرق أوسط جديد”، لكن تحقيق ذلك لا يتوقف عند سوريا، إذ إنه يشكّل تهديداً لدول عربية أخرى، وهو ما يجعل السيناريوهات مفتوحة، خصوصا في ظل التداخل التركي في المعادلة السورية.

الحل نت

———————————

الحرب أم الاستسلام؟/ يوسف بزي

الخميس 2025/04/03

تتوغل إسرائيل في غزة، في جنوب سوريا، في أرض لبنان وسمائه. الجغرافيا مستباحة من صحراء سيناء إلى صحراء الأنبار. وحيث لا تتوغل ولا تقصف هي أيضاً تسيطر وتهيمن على مصائر دول وحكومات وشعوب.. و”أقليات”!

ليست إسرائيل القوية وحسب، بل هذا الضعف الساحق الذي حطم الحدود والمجتمعات وفتت الكيانات على نحو يصعب معه الحديث عن أوطان تامة ودول مكتملة. ضعف لم تنزله إسرائيل فينا بسبب تفوقها العسكري والتكنولوجي، إنما هو أيضاً حصيلة ما اقترفناه على مدى نصف قرن من سلسلة إخفاقات أفضت إلى فشل تاريخي، يرتسم اليوم بأكبر هزيمة حضارية منذ سقوط السلطنة العثمانية.

القضية الفلسطينية وقد باتت يتيمة راهناً، انتقلت من مسار أوسلو إلى شبه “حرب أهلية” مصغرة منذ العام 2007، أفضت إلى دويلة مسلحة في غزة ودويلة عاجزة في الضفة، وفتحت المجال أمام مشروع إسرائيل لتصفيتها. كان الانقسام هو الباب العريض الذي دخلته إسرائيل للقضاء على دولة فلسطين المنشودة. غزة اليوم بين الإبادة والتهجير. الضفة اليوم بين الابتلاع والفصل العنصري والتهجير. أي أفق هذا؟

المسألة اللبنانية، راحت من إنجاز التحرير عام 2000 وإنجاز السيادة 2005، إلى احتراب أهلي، يتقلب بين البارد والفاتر والحار، نشأت عنه دويلة مذهبية مسلحة ودولة متهالكة تتناتشها عصبة أمراء الطوائف ومافيات المال والمصارف، فانتهت إلى الانهيار الشامل والقعر الصفري. ومن هذا القعر انطلقت الصواريخ الهزلية مستجلبة أشد الحروب تدميراً. وكانت الحصيلة اليوم: إما استئناف الحرب على لبنان، أو “مفاوضات” الاستسلام الشامل. وفي الأثناء، استباحة لا راد لها (وبرعاية دولية) للأرض والسماء والبشر، قصفاً واغتيالاً واحتلالاً.

المأساة السورية المبتدئة على الأقل منذ العام 2011، استقرت بعد هروب الأسد وعصابته، على جغرافيا ونفوس ممزقة، وهويات متذررة، وخراب اقتصادي وعمراني واجتماعي يوازي خراب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وبجيش مدمر، وحدود مستباحة، وإفلاس مالي، وميليشيات مسلحة تستسهل الحروب الأهلية. ساحة مفضلة لإسرائيل كي تلعب كما يحلو لها.

لن نتوسع إلى ما هو حال العراق أو اليمن، وسائر “كيانات” الزواج القسري بين الميليشيات والدولة، زواج قسري بين الصواريخ والمدارس، بين الكلاشينكوف والمستشفيات، بين صناعة المخدرات ومحاربة التصحر..

هكذا، على مدى خمسين عاماً من حروب أهلية وإقليمية وكونية، صاحبتها هستيريا جماعات وشعوب بالعودة إلى ماضٍ ديني طائفي متخيل أو مفتعل أو مشوه أو مؤسطر، ورافقتها ديكتاتوريات دموية وميليشيات “مقدسة”.. انتهى الحال إلى إدقاع أخلاقي وسياسي واقتصادي وعلمي وثقافي لا يمكن معه الاستمرار بادعاء أي انتصار، إلهي أو بشري.

طموح أهل غزة النجاة. طموح أهل لبنان عودة الكهرباء. طموح أهل سوريا تجنب الحرب الأهلية.

شعوب تقرِّر مصيرها قوافل المساعدات، رفع العقوبات، وقف القصف ليس إلا. لا أحد يسرح خياله في مسائل مستوى الدخل، نسب النمو، ضمان الشيخوخة، ميزانية البحث العلمي، التطوير العقاري، أو مسائل السياحة، نظافة المياه، الطاقة البديلة، الحكومات الإلكترونية وسائر المشاريع التي تهتم بها المجتمعات الطبيعية.

قد يبدو ليس “صواباً سياسياً” إعلان الهزيمة. فنتيجة الاستسلام وتسليم مصيرنا إلى عالم ترامب ونتنياهو وأشباههما، أقرب إلى الاندحار الشامل. مع ذلك، المكابرة أيضاً أقرب إلى الانتحار.

هذا هو المأزق اليوم. ولا نملك ترف التهرب من تبعاته.

المدن

——————————

لماذا قصف نتنياهو سوريا؟/ وائل علوان

4/4/2025

نفّذت الطائرات الحربية الإسرائيلية حملةً واسعة من القصف العنيف المدمر مساء الأربعاء 2 أبريل/ نيسان 2025، طالت المطارات في وسط سوريا ومراكز بحوث في حماة ومحيط دمشق، وتزامنت مع اجتياح بري، واشتباكات في محافظتي درعا والقنيطرة جنوب البلاد.

الغارات الكبرى والأعنف استهدفت مطار حماة العسكري ودمّرت أجزاء واسعة منه، كما دمّر القصف الإسرائيلي جزءًا كبيرًا من مطار التيفور T4 شرق حمص، وكان من الواضح التركيز على قصف المطارات في هذه الحملة الكبيرة نسبيًا، علمًا أن القصف الإسرائيلي كان مستمرًا بشكل متكرر بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.

دوافع القصف الإسرائيلي وأسبابه

لا يخلو القصف الإسرائيلي الأخير من الاستعراض الذي تحتاجه حكومة نتنياهو، وقد بلغت الحرب في غزة نهاياتها، ولعل سوريا بوضعها الراهن هي أفضل مكان لاستعراض القوة وتوجيه الرسائل الإقليمية والدولية.

غير أنّ السبب الرئيسي للقصف هو الاستمرار في تدمير البنية التحتية العسكرية بشكل كامل، لتكون سوريا دولة منزوعة السلاح، وغير قادرة على أن تشكل أي تهديد مستقبلي للأمن القومي الإسرائيلي، خاصة بعد أن فقدت تل أبيب نظام الأسد الذي حافظ على هدوء الجبهات وأمن إسرائيل لعقود.

إسرائيل تستمرّ في القصف والاجتياح البري والتدمير لإتلاف ما بقي من السلاح وإن كان قديمًا أو متهالكًا، وفي الوقت نفسه لن تسمح للدولة الجديدة بتشكيل جيش قوي يمتلك الصواريخ والطائرات ومنظومات الدفاع الجوي، وهي تعلن رسالتها في هذا القصف بأنها لن تسمح لأحد بتسليح هذا الجيش أو تقويته.

ماذا تريد إسرائيل في سوريا؟

بات واضحًا أن الجيش الإسرائيلي ماضٍ في فرض منطقة مدمرة على خطوط التماس، تسهل مراقبتها واقتحامها لتفتيشها بشكل دائم، وبالتالي منع قيام أي بنية تحتية سرية معادية على مستوى المجموعات البشرية، أو الأنفاق والتسليح.

وفي دائرة أوسع تفرض إسرائيل أن تكون منطقة جنوب العاصمة دمشق خالية تمامًا من القوة العسكرية أو السلاح، وقد تعمل إسرائيل وفق تحالفات إقليمية ودولية على أن تكون هناك نقاط مراقبة لوسطاء خارجيين، بالتأكيد لا تفضل إسرائيل أن تكون تركيا هي ذلك الوسيط، وهنا فإن روسيا هي المرشح الأكبر بحكم دورها السابق المماثل، والثقة الإسرائيلية بها في مقابل الدور الذي ترجوه روسيا بعودتها إلى الملف السوري حتى ولو كان من بوابة تل أبيب.

وفي دائرة أكبر ستعمد إسرائيل لتدمير القوة الجوية، وأي منظومات دفاع جوي أو مرافق يتم إنشاؤها لأغراض الدفاع الجوي في مسافة تصل إلى 200 كيلومتر، بعيدًا عن الحدود الإسرائيلية السورية شمال فلسطين، أي المناطق التي قصفتها إسرائيل في شرق حمص وحماة.

رسائل القصف الإسرائيلي؟

يأتي هذا القصف الإسرائيلي الواسع بعد أيام قليلة من الاتفاق الذي بدأ تنفيذه في حلب، والقاضي بخروج المجموعات المسلحة الموالية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية.

ربما يعزز اتفاق حلب الاتفاق الذي وقّعه زعيم قسد مظلوم عبدي مع الرئيس السوري أحمد الشرع، والذي بالتأكيد لا يروق لإسرائيل، ويعد نهاية لما بدأته تل أبيب منذ أكثر من عقد من الزمن في تعزيز سيناريو التقسيم والإضعاف والتفكيك للخريطة السورية.

في الوقت ذاته، فقد أجرى فريق من الخبراء الأتراك في وقت سابق زيارة لمطارات وقواعد عسكرية وسط سوريا، بعضها قصف ودمر، وهذا قد يكون واحدًا من الرسائل الرئيسية من حكومة نتنياهو إلى أنقرة، بأن المشهد الأمني والعسكري في سوريا لا يمكن أن تديره تركيا والسعودية، وإن كان بضوء أخضر أميركي دون مشاركة إسرائيل في ذلك.

ربما يكون بعيدًا ما يتم تداوله عن أن إسرائيل تمنع النفوذ التركي في سوريا، خاصة أن هذا النفوذ هو في حكم الواقع، وهو وفق المشهد الجديد للشرق الأوسط الذي توافقت فيه القوى الغربية على إخراج إيران منه، وفي نفس الوقت تفرض إسرائيل قواعدها على هذا المشهد الجديد الذي ربما لا يكتمل في الوقت الراهن، فما يزال النفوذ الإيراني في العراق، وما تزال الولايات المتحدة تهيئ الأجواء لخروج قواتها من سوريا بالتزامن مع ظهور نتائج الانتخابات العراقية نهاية العام الجاري.

موقف الحكومة السورية وفرص السلام

بقيت الحكومة السورية على موقفها المعلن منذ تسلمها السلطة بعد سقوط نظام الأسد، وهو أنها لا قِبَل لها بأي مواجهة عسكرية، وبالتالي فإنها تلجأ للأمم المتحدة وللدول المؤثرة لإيقاف اعتداءات إسرائيل، خاصة أن هذه الاعتداءات استمرّت رغم الطمأنات المعلنة والمرسلة عبر الوسطاء بأن الحكومة السورية لن يكون في أهدافها الدخول في أي مواجهة مع دول الجوار، أو أي قوى إقليمية أو دولية.

بالتأكيد، إسرائيل لا تثق بهذه الحكومة وطمأناتها، وفي نفس الوقت فإنها قد تصل إلى تفاهمات مع هذه الحكومة ما دامت أنها لا تشكل خطرًا متوقعًا على الأمن القومي الإسرائيلي.

في المستقبل المنظور يتوقع أن تعمل إسرائيل أمنيًا وعسكريًا على تهيئة المشهد الميداني ليكون مناسبًا لمصالح إسرائيل على طاولة المفاوضات في المستقبل، فهي تجتاح وتدمر بريًا وتقصف جويًا، بينما ستفرض شروطها مُستقبلًا بما يحافظ على مكتسباتها في هذه المرحلة، وهو الأمر الذي لا تمتلك الحكومة السورية إلا أن تقبل به.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

باحث مختص في الشأن السوري

الجزيرة

——————————-

 كيف نقرأ موجة التصعيد الإسرائيلي الجديدة ضد سوريا؟/ فراس فحام

2025.04.04

أطلقت إسرائيل موجة تصعيد جديدة ضد سوريا في 2 نيسان الجاري، وأسفر التصعيد عن تدمير شبه كامل للبنية التحتية لمطار حماة العسكري، كما طالت الغارات مراكز للبحوث العلمية ومواقع عسكرية أخرى في ريف دمشق.

وجاءت الهجمات بعد أسابيع من كثافة الحديث في وسائل إعلام إسرائيلية عن مخاوف من تعاظم النفوذ التركي في سوريا، إثر تسريبات عن نية أنقرة توقيع اتفاقية مع الحكومة السورية لتأسيس مراكز تدريب وقواعد عسكرية.

يبحث هذا التقرير التحليلي في السياقات والدوافع التي دفعت تل أبيب إلى خوض موجة تصعيد جديدة في سوريا، هي الثانية بعد الهجمات التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية على مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة في اليوم التالي لهروب بشار الأسد من البلاد أواخر عام 2024.

مساعي إسرائيل لفرض هيمنة إقليمية

تسعى إسرائيل منذ مواجهات 7 تشرين الأول 2023 في غزة إلى فرض هيمنة إقليمية، وركّزت على إلحاق أضرار بالغة بالنفوذ الإيراني من خلال المواجهات المباشرة وغير المباشرة. ومع تراجع التهديد الإيراني، خاصة في ظل الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب على طهران، تعمل تل أبيب على منع أي قوة إقليمية من ملء الفراغ الإيراني في المنطقة.

وتبدو إسرائيل قلقة من مؤشرات التنسيق المتزايد بين إدارة ترامب وأنقرة، إثر الاتصال الذي جمع الرئيسين ترامب وأردوغان، وما يتيحه هذا التقارب من تعاظم للدور التركي الإقليمي في العراق وسوريا والمنطقة، حيث تسعى أنقرة إلى قيادة تحالف يضم سوريا والأردن والعراق، وهو ما قد يتيح مستقبلاً لإدارة ترامب تقليص حجم قواتها في سوريا.

ومؤخراً، طلبت إسرائيل من الجيش المصري تفكيك البنية العسكرية في منطقة سيناء، في محاولة لفرض وقائع إقليمية جديدة لا تقتصر على سوريا فقط.

حاجة داخلية لنتنياهو

كشفت وسائل إعلام إسرائيلية في أواخر آذار الماضي عن طلب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من مستشاريه تكثيف العمل الإعلامي للتحذير من خطر النفوذ التركي في سوريا.

ويأتي سلوك نتنياهو بالتزامن مع تهديد زعيم المعارضة يائير لابيد بإغلاق البلاد والتمرد على الحكومة في حال لم يلتزم نتنياهو بقرارات المحكمة العليا، التي طالبت بتعليق قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار.

وجاءت إقالة بار بعد نشر نتائج تحقيقات الجهاز حول أحداث 7 أكتوبر 2023، والتي تضمنت تحميل المستوى السياسي مسؤولية الفشل، إلى جانب الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى.

وتتزايد الاعتراضات داخل إسرائيل على ما يبدو أنه محاولة من نتنياهو للسيطرة على السلطات المختلفة، بعد إقالة بار والمستشارة القضائية للحكومة غالي ميارا، إلى جانب الانتقادات التي تواجهه بسبب ما يعتبره الإسرائيليون “تعريض حياة الأسرى في غزة للخطر”.

وفي أواخر آذار، مثل نتنياهو أمام المحكمة المركزية في تل أبيب بتهم تتعلق بالفساد وتلقي رشى، ضمن فضيحة تشير إليها المعارضة بأنها مرتبطة بتلقّي مكتبه أموالاً من مصادر خارجية.

قلق إسرائيلي من تراجع تأثيرها في المشهد السوري

بالنظر إلى توقيت التصعيد، يتضح أن إسرائيل تسعى إلى لعب دور فاعل في تشكيل المشهد السوري. فقد نُفذت حملة القصف الإسرائيلية في اليوم التالي لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري في شباط، الذي أكد على وحدة الأراضي السورية واحتكار الدولة للسلاح، في تعارض واضح مع الرؤية الإسرائيلية الداعية إلى الفيدرالية وتعزيز دور الأقليات على حساب الدولة المركزية.

جاء التصعيد أيضاً بعد أيام من إعلان التشكيلة الوزارية الجديدة في سوريا، وما رافق ذلك من ارتياح داخلي وترحيب دولي، شمل تأييد وزارة الخارجية الأميركية لسيطرة الحكومة السورية على كامل الأراضي.

تكرار الاعتداءات الإسرائيلية بعد محطات سياسية سورية مهمة يشير إلى رغبة إسرائيلية في تعطيل مسار الانتقال السياسي، ومنع قيام حكومة ذات شرعية داخلية وقبول خارجي، وهو ما يبقي المجال مفتوحاً أمام تدخلاتها ومساعيها لفرض منطقة أمنية جنوبي سوريا.

من جهة أخرى، فإن التفاهمات المتقدمة بين الحكومة السورية وقسد، والتي كان آخرها اتفاق على انسحاب عناصر قسد من أحياء في محافظة حلب، وما سبقه من اعتراف قسد بالحكومة السورية على أساس الحفاظ على وحدة البلاد، يشير إلى توافقات أوسع تشمل أنقرة وواشنطن، وهو عكس ما تريده إسرائيل التي كانت تسعى لبقاء القوات الأميركية ودعم مشروع “الإدارة الذاتية”.

وبناء على ذلك، فإن تل أبيب لا ترغب أن تنفرد دول إقليمية مثل تركيا والسعودية بصياغة تفاهمات مع واشنطن لرسم مستقبل سوريا، وتستخدم في المقابل الضغط العسكري.

وبحسب ما تسرّب من معلومات، فقد وجهت تل أبيب رسائل إلى الحكومة السورية عبر قنوات غير مباشرة، تطالب فيها بتقليص دور أنقرة، إذ ترى إسرائيل في ذلك تهديداً لحرية تحرك طائراتها في الأجواء الإقليمية.

الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة باتت تشكل تحدياً كبيراً للإدارة السورية الجديدة، إذ يبدو أنها أداة لفرض مسارات داخلية ورسم حدود لعلاقات سوريا الإقليمية والدولية.

————————–

 ثلاث قوى في مواجهة مفتوحة.. هل تعيد تركيا رسم خريطة النفوذ العسكري في سوريا؟/ طارق صبح

2025.04.04 تصاعد القلق الإسرائيلي والأميركي بالتوازي مع تكثيف الضربات الجوية الإسرائيلية داخل سوريا، في وقت تتواتر فيه التسريبات حول اتفاق دفاعي مشترك بين دمشق وأنقرة، يتضمن إنشاء قواعد جوية تركية في وسط البلاد، الأمر الذي يشير إلى تحول استراتيجي محتمل قد يعيد خلط أوراق القوى الإقليمية في المشهد السوري.

تسعى أنقرة إلى ترسيخ وجود عسكري طويل الأمد في قلب سوريا، واضعة نفسها كلاعب رئيسي في صياغة مستقبل البلاد، في توجه لا يثير قلق إسرائيل فحسب، بل يزيد من مخاوف واشنطن أيضاً، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب نتيجة تضارب مصالحهما في الإقليم.

وتخشى إسرائيل أن تُقدم تركيا على نشر منظومات دفاع جوي متقدمة في الشمال السوري، ما قد يقيّد حرية الحركة الجوية الإسرائيلية التي اعتمدت عليها تل أبيب في تنفيذ ضربات متكررة ضد أهداف عسكرية داخل الأراضي السورية خلال الشهور الماضية.

لا مكان لجيش سوري

وفي الهدف الواضح، تواصل إسرائيل تكثيف ضرباتها داخل سوريا لتفكيك وتدمير ما تبقى من البنية التحتية العسكرية وتحويل البلاد إلى منطقة منزوعة السلاح، غير قادرة على تشكيل أي تهديد مستقبلي لأمنها القومي، خاصة بعد أن فقدت ضامن حدودها، الذي شغله نظام الأسد المخلوع لعقود طويلة.

ولا يستهدف القصف الإسرائيلي القدرات الحالية فقط، بل يحمل رسالة استراتيجية مفادها أن أي محاولة لبناء جيش سوري جديد يمتلك صواريخ أو منظومات دفاع جوي، لن يسمح له بالبقاء.

حتى الأسلحة القديمة والمتهالكة لم تسلم من الاستهداف، في إشارة إلى تصميم تل أبيب على منع تشكل أي قوة عسكرية في المستقبل، والمحافظة على الحرية التي تتمتع بها الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية.

وفي نطاق أوسع، تتجه إسرائيل إلى شلّ كامل للقدرات الجوية السورية، بما في ذلك تدمير منظومات الدفاع الجوي والمنشآت العسكرية ضمن دائرة يصل نصف قطرها إلى 200 كيلومتر من حدودها مع سوريا، وهي المناطق التي طالتها ضرباتها الأخيرة في شرقي حمص وحماة.

وأكد ذلك مسؤولون إسرائيليون، في كانون الثاني الماضي، مشيرين إلى أن تل أبيب ستحتاج إلى الحفاظ على محيط عملياتي يبلغ طوله 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، في حين سيحافظ الجيش الإسرائيلي على وجود داخل الأراضي السورية لضمان عدم تمكن حلفاء النظام الجديد في دمشق من إطلاق الصواريخ باتجاه مرتفعات الجولان.

ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن المسؤولين تشديدهم على ضرورة وجود مجال نفوذ استخباري يمتد 60 كيلومتراً داخل سوريا، ويكون تحت سيطرة المخابرات الإسرائيلية، لمراقبة ومنع التهديدات المحتملة من التطور.

أنقرة تتحرك نحو قلب الصحراء السورية

من جانب آخر، يسعى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى ترجمة الحضور العسكري لبلاده في سوريا إلى مكاسب سياسية ملموسة، عبر فرض واقع أمني جديد يمتد إلى عمق الجغرافيا السورية.

وتعكس المساعي التركية، التي تحظى بقبول الحكومة السورية الجديدة، رغبة أنقرة في لعب دور “الضامن الأمني” للإدارة الناشئة من خلال تقديم الدعم العسكري والتقني.

وسبق أن كشف موقع “ميدل إيست آي” أن أنقرة تدرس خيار نشر منظومة الدفاع الجوي الروسية “S-400” مؤقتاً في مطار تدمر، لتأمين الأجواء ضمن جهود إعادة الإعمار، مشيراً إلى أن القرار لا يزال قيد البحث ويتطلب موافقة موسكو قبل اعتماده نهائياً.

كما تخطط تركيا لنشر منظومة الدفاع الجوي “حصار” متوسطة المدى، محلية الصنع، بالتوازي مع محادثاتها المستمرة مع موسكو حول إمكانية نشر منظومة “S-400″، وهي خطوة من شأنها تعقيد المشهد العسكري أكثر.

وتتزامن هذه الخطوات مع مشروع تركي لإعادة تأهيل وتوسعة قاعدة T4 الجوية، إحدى أكبر القواعد العسكرية في سوريا، بهدف تحويلها إلى نقطة ارتكاز استراتيجية تحتوي على أنظمة دفاع جوي وطائرات مسيّرة هجومية واستطلاعية.

وتكتسب القاعدة أهمية استراتيجية لوقوعها على بُعد نحو 225 كيلومتراً من الحدود التركية، في موقع يمكّن أنقرة من مراقبة المجال الجوي الممتد بين تركيا وإسرائيل، وبسط نفوذها في عمق البادية السورية، ما يمنحها هامشاً أوسع للمناورة عسكرياً جواً وبراً.

تهديد لإسرائيل ومخاوف للولايات المتحدة

ورداً على ذلك، صعّدت طائرات الاحتلال الإسرائيلي هجماتها على قاعدة T4، فنفذت غارتين خلال أسبوع واحد، مستهدفة مدارج الطيران ومرافق القيادة.

ونقلت وسائل إعلام عبرية عن مصدر أمني إسرائيلي أن الغارات تهدف إلى “منع أي تهديد جوي قد يقيّد حرية الحركة الجوية في الأجواء السورية”.

وأكد المسؤول الإسرائيلي أن هذه الهجمات تهدف إلى عرقلة خطط تركيا في نقل القوات والدفاعات الجوية إلى سوريا وتشغيل المنشآت العسكرية فيها، خاصة في ظل تقارير تحدثت عن رغبة أنقرة بتحويل المطار إلى منشأة لطائرات مسيرة، وربما نشر منظومات الدفاع الجوي “S-400” بشكل مؤقت في T4 أو مدينة تدمر.

وسبق ذلك أن صرح مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، أن إنشاء قاعدة جوية تركية في مطار تدمر قد يُفاقم التوترات الإقليمية ويزيد من خطر نشوب صراع مع إسرائيل.

ويأتي هذا التصعيد في وقت تتصاعد فيه المخاوف الأميركية من تأثير منظومة “S-400” الروسية على حرية عمليات طائرات “التحالف الدولي” شرقي سوريا، حيث تنتشر قوات أميركية يبلغ تعدادها نحو 900 جندي بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” لمحاربة ما تبقى من خلايا تنظيم “داعش”.

وتحذر تقارير غربية من أن أي احتكاك غير محسوب في هذه المنطقة المعقدة قد يؤدي إلى مواجهة إقليمية واسعة، خاصة مع التوتر المزمن بين أنقرة و”قسد”، التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب “العمال الكردستاني” المدرج على قائمتها للمنظمات الإرهابية.

هل تتكرر أزمة الـ F-35؟

يشكّل احتمال نشر منظومة “S-400” في سوريا فصلاً جديداً في الخلاف الأميركي التركي حول هذه المنظومة، إذ سبق أن أدّى شراؤها في عام 2019 إلى طرد أنقرة من برنامج طائرات “F-35″، بسبب مخاوف من تسرب بيانات حساسة إلى موسكو.

وكشفت المحادثات الأخيرة بين الرئيس التركي والأميركي أن أنقرة طرحت فكرة نقل منظومة S-400 الروسية إلى خارج حدودها، في مقابل رفع العقوبات المرتبطة بها عن برنامج طائرات “F-35”.

واليوم، يعيد الحديث عن نقل “S-400” إلى مطار T4 إحياء هذا الخلاف، مع احتمال تأثيره على محادثات رفع العقوبات الأميركية عن أنقرة.

ورغم تصريحات بعض المسؤولين الأتراك عن إمكانية تخزين المنظومة خارج البلاد كحل وسط، فإن نشرها داخل الأراضي السورية قد يُفسّر كاستفزاز مباشر لواشنطن وتحدٍّ واضح لمنظومتها الدفاعية في المنطقة.

ساحة اختبار لأنظمة الدفاع والطائرات التركية

تُعد منظومة “حصار” التركية حجر الزاوية في استراتيجية أنقرة لتوطين صناعتها الدفاعية، حيث يصل مدى هذه المنظمة إلى نحو 40 كيلومتراً وتعمل بتقنيات توجيه حراري وراداري، ما يجعلها فعالة ضد الطائرات المسيّرة والمقاتلات على ارتفاعات متوسطة.

أما منظومة “S-400” الروسية فتوفر قدرات تغطية جوية متقدمة، إذ تستطيع، بحسب تقارير متخصصة، رصد أهداف على مسافة 600 كيلومتر وتحييدها حتى مدى 400 كيلومتر، ومع ذلك، أُثيرت شكوك حول فعاليتها عقب فشلها في صد هجمات أوكرانية على مواقع روسية.

كما تسعى أنقرة لتوسيع حضورها الجوي عبر نشر طائرات “بيرقدار أكنجي” و”تاي أكسونغور”، القادرة على حمل ذخائر دقيقة والتشغيل لأكثر من 36 ساعة، ما يمنحها قدرة مستدامة على مراقبة واستهداف مناطق تمتد إلى عمق الشرق السوري، بما في ذلك دير الزور.

هل تدخل المنطقة في مواجهة ثلاثية؟

تمركز تركيا في مطار T4 قد يفتح الباب أمام تصادم محتمل بين ثلاث قوى رئيسية: تركيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة،

فالقاعدة التي تتحرك أنقرة نحوها تعد موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية، إذ تمنح سيطرة على طرق التهريب والمجال الجوي، وتأتي في موقع وسطي بين قواعد “قسد” من جهة، والمناطق التي تستهدفها إسرائيل بانتظام في تدمر وحمص من جهة أخرى.

وتتزامن هذه التحركات مع محاولات واشنطن الحفاظ على توازن دقيق بين دعمها المستمر لـ”قسد”، وعلاقاتها المعقدة مع أنقرة، العضو المحوري في حلف “الناتو”، إلا أن تركيا تعتبر هذا الدعم تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ما يضع العلاقة الثلاثية على حافة اختبار جديد.

كما أن لدى الولايات المتحدة أولوياتها الخاصة في الدفاع الجوي في المنطقة، مع وجود بطاريات “باتريوت” في العراق وأنظمة “ثاد” في إسرائيل، لكن تركيز واشنطن لا يزال منصباً على احتواء إيران، وليس مواجهة تركيا.

إلا أن نشر منظومة الدفاع الروسية “S-400” في قاعدة T4 قد يتحول من ورقة ضغط إلى عبء استراتيجي، لا سيما إذا واصلت إسرائيل استهداف القاعدة، أو أثرت المنظومة سلباً على العمليات الجوية الأميركية ضمن “التحالف الدولي” ضد تنظيم “داعش”.

ومع ذلك، فإن أي تصعيد بين القوى الثلاث في سوريا قد تعتبره الولايات المتحدة تعطيلاً للمهام ضد “داعش”، خاصة إذا أثارت ضربات إسرائيل رداً تركياً، مما يجر “الناتو” إلى مواجهة غير مرغوب فيها.

—————————-

أنقرة تريد قواعد عسكرية بسوريا..لا أحد آخر يرغب بها/ مها غزال

الخميس 2025/04/03

كشفت مصادر خاصة لـ”المدن”، عن جهود دبلوماسية وسياسية تقودها كل من الولايات المتحدة، فرنسا وكردستان-العراق، بهدف التوصل إلى اتفاق شامل بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يتضمن ترتيبات أمنية وسياسية تؤدي إلى انسحاب تدريجي وكامل للقوات التركية من الأراضي السورية.

وتندرج هذه الجهود ضمن رؤية دولية جديدة لإعادة بسط سيادة الدولة السورية على كامل الجغرافيا، عبر دمج المؤسسات المحلية في الشمال والشرق ضمن هياكل الدولة المركزية، مع ضمان توازنات جديدة لا تتيح لأي طرف إقليمي تحويل سوريا إلى ساحة نفوذ مفتوحة.

ووفقاً للمصادر، فإن فرنسا تضغط بقوة من موقعها العسكري في قاعدة التنف ضمن التحالف الدولي، وتنسّق مع واشنطن لدفع أنقرة إلى القبول بالانسحاب كأمر واقع، بينما تتبنى إسرائيل هذا الاتجاه من منظور أمني خالص، إذ ترى في الوجود التركي والروسي تهديداً لحرية حركتها الجوية في سوريا، التي تعتبرها ضرورية لمواصلة عملياتها ضد إيران من تل أبيب إلى طهران.

استهداف عسكري للخطط التركية

في هذا السياق، جاءت الغارات الإسرائيلية المكثفة على مطاري “تي-4” وحماة العسكريين يوم أمس، لتشكل تجلياً ميدانياً لهذا الضغط الدولي، حيث اعتُبرت رسالة مباشرة لأنقرة ودمشق. وقد أسفرت الغارات عن دمار واسع وسقوط عدد من القتلى والجرحى، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).

وعقب الضربات، صرّح مسؤول عسكري إسرائيلي لصحيفة “جيروزاليم بوست”، بأن هذه العمليات لا تستهدف فقط مواقع سورية، بل “تشكل تحذيراً واضحاً لأنقرة بعدم تحويل الأراضي السورية إلى قواعد تركية دائمة”. وأضاف “لن نسمح بأن تتحول سوريا إلى حديقة خلفية لقوى إقليمية تعيق حريتنا في التحرك. رسالتنا وصلت إلى تركيا قبل أن تصل إلى دمشق”.

تركيا في مرمى الغارات

وبحسب تقارير إعلامية تركية وإسرائيلية، تعمل أنقرة منذ أشهر على تثبيت وجود عسكري جوي عبر تطوير مطارات عسكرية سورية، وتحويلها إلى منصات لطائراتها المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي. وكانت هذه التحركات تُقرأ دولياً على أنها مؤشر لمحاولة أنقرة إعادة إنتاج النموذج الإيراني في سوريا، لكن بوجه تركي هذه المرة، عبر قواعد دائمة تحت غطاء مكافحة الإرهاب.

كما أن الصمت السوري الرسمي حيال تلك التحركات، وعدم نفي أو تأكيد وجود تنسيق مع أنقرة، أضفى مزيداً من الغموض على المشهد، وطرح تساؤلات حول قدرة دمشق على فرض سيادتها أو استثمار التحولات الدولية الجارية.

خارطة نفوذ تتبلور

وتسعى فرنسا وواشنطن ومعها أربيل إلى فرض مشهد سياسي جديد في سوريا، يقوم على دمج “قسد” ضمن بنية الدولة، وإنهاء الوجود الأجنبي غير المشروع. وتأتي هذه الجهود وسط حراك سعودي متوازٍ يهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية وتقديم الدعم الأمني، في محاولة لخلق توازن إقليمي يحيّد تركيا دون الدخول في صدام مع إسرائيل.

إسرائيل من جهتها، تدفع في هذا الاتجاه ليس فقط لضرب النفوذ الإيراني، بل أيضاً لمنع تركيا من إغلاق الأجواء السورية أمام طيرانها الحربي، وهو ما ترى فيه تل أبيب ضرورة استراتيجية لضمان حرية الضرب من المتوسط إلى العمق الإيراني متى استدعت الحاجة.

الشرع يتحرك بحذر

على الجانب السوري، ينتهج الرئيس أحمد الشرع سياسة دقيقة تقوم على فتح قنوات متزامنة مع السعودية و”قسد”، مع تجنب الدخول في أي صدام مباشر مع إسرائيل، في محاولة للحفاظ على علاقات مستقرة من جهة، واستثمار الدعم العربي والدولي لتعزيز شرعية دمشق من جهة أخرى.

مصادر دبلوماسية تشير إلى أن الشرع يسعى لتأمين اتفاق هادئ مع “قسد” يضمن وحدة الأراضي، مع منح صيغة حكم محلي لا تتعارض مع الدولة، وهو ما تحفّزه باريس وواشنطن في الوقت الراهن.

لا اتفاق نهائي مع تركيا

رغم غياب أي إعلان رسمي، تشير المؤشرات إلى تزايد الإجماع الدولي على ضرورة إنهاء الوجود التركي في سوريا. القوى الغربية باتت ترى في استمرار هذا الوجود عبئاً على الاستقرار، بينما تواجه أنقرة رفضاً داخلياً متزايداً لأي تورط عسكري طويل الأمد، في ظل توتر العلاقة مع الأكراد داخل تركيا وتصاعد الضغوط السياسية على الرئيس أردوغان.

الوجود التركي الذي بدأ كتحرك تكتيكي، تحوّل إلى عبء استراتيجي مكلف داخلياً وخارجياً، خصوصاً في ظل انكشاف التفاهمات مع موسكو وتراجع الغطاء السياسي الدولي لأنقرة.

لكن بات من الواضح أن سوريا تتحوّل مجدداً إلى مسرح لصراع النفوذ بين الأطراف الدولية، لكن هذه المرة على الطاولة لا الميدان فقط.

الغارات الإسرائيلية لم تكن استثناءً، بل جزءاً من تحالف غير معلن يسعى إلى إنهاء حالة التعدد في مراكز القوة داخل الأراضي السورية، عبر خروج تركيا وتقليص نفوذ روسيا، ودعم إعادة هيكلة الدولة السورية وفق توازنات جديدة.

وبينما تبقى الأجواء السورية مفتوحة للطائرات، تُرسم على الأرض معادلات سياسية تُهيئ الأرضية لما بعد الوجود التركي، في لحظة مفصلية قد تحدد شكل سوريا خلال العقد المقبل.

——————————–

الضربات الإسرائيلية في سورية – آذار 2025:الأهداف، التوزع، والدلالات

3 نيسان/أبريل ,2025

بلغ إجمالي عدد الضربات الجوية الإسرائيلية المسجّلة في سورية، خلال شهر آذار/ مارس 2025، 80 ضربة استهدفت مواقع عسكرية مختلفة في خمس محافظات سورية، وتُظهر البيانات تصعيدًا لافتًا في كثافة الضربات خلال شهر آذار، إذ نُفّذت العديد من الضربات المركزة في يوم واحد، وخاصةً في حمص وريف دمشق، وتشير الضربات المركزة والمتكررة خلال اليوم نفسه إلى استراتيجية إسرائيلية، تهدف إلى تقويض القدرات العسكرية السورية ومنع إعادة تموضع القوات في مواقع استراتيجية.​

تُظهر الأرقام أن محافظة حمص كانت الهدف الأبرز، حيث استحوذت على أكثر من ثلثي الضربات (68.5%)، خاصة على مطاري T4 (التياس) وتدمر، ما يشير إلى نية واضحة لتعطيل البنية الجوية والدعم اللوجستي في العمق السوري، وفي المرتبة الثانية جاءت محافظة ريف دمشق بنسبة (13.75%)، وهو رقم مرتفع، بالنظر إلى انتشار الألوية والفرق العسكرية هناك، مثل اللواء 68 واللواء 90. أما درعا فشكّلت (11.25%) من الضربات، في حين كانت الضربات في اللاذقية وطرطوس محدودة وموجهة غالبًا نحو منشآت دفاعية ومستودعات، وفيما يلي جدول تفصيلي بتلك الضربات:

المحافظة         المدينة/ البلدة   الهدف   عدد الضربات     تاريخ الضربة

طرطوس          طرطوس          موقع دفاع جوي 2        3.03.2025

اللاذقية القرداحة          ملعب القرداحة (مستودعات عسكرية)   1        3.03.2025

درعا     إزرع     اللواء المدرع 12 1        10.03.2025

ريف دمشق      خان الشيح      اللواء 68          2        10.03.2025

ريف دمشق      كَوم     اللواء 90          1        10.03.2025

ريف دمشق      الكسوة قاعدة لواء عسكري      1        10.03.2025

درعا     إزرع     منطقة رادار للجيش      1        10.03.2025

ريف دمشق      زاكية    الفوج 137 مدفعية        1        10.03.2025

درعا     إزرع     اللواء المدرع 12 1        10.03.2025

ريف دمشق      كَوم     اللواء 90          1        10.03.2025

درعا     جباب    اللواء 89          3        10.03.2025

ريف دمشق      الكسوة قاعدة لواء عسكري      1        10.03.2025

ريف دمشق      مطار دمشق الدولي     منطقة رادار للجيش      1        10.03.2025

ريف دمشق      خان الشيح      اللواء 68          1        10.03.2025

ريف دمشق      الهيجانة قاعدة دفاع جوي          1        10.03.2025

ريف دمشق      دمر البلد          مقر الجهاد الإسلامي    1        13.03.2025

درعا     إزرع     اللواء المدرع 12 1        17.03.2025

درعا     مدينة درعا       اللواء 132        2        17.03.2025

حمص   خربة التياس     مطار T4 / التياس         16       21.03.2025

حمص   تدمر     مطار تدمر        13       21.03.2025

حمص   خربة التياس     مطار T4 / التياس         11       24.03.2025

حمص   تدمر     مطار تدمر        15       24.03.2025

اللاذقية مدينة اللاذقية   اللواء 110        2        26.03.2025

شكّلت المطارات والقواعد الجوية الهدفَ الأساسي للضربات الإسرائيلية خلال آذار/ مارس 2025، إذ بلغت 55 ضربة بنسبة (73%) من إجمالي الضربات، وهو ما يعكس رغبة واضحة في شلّ البنية التحتية الجوية، ومنع أي محاولة لإعادة بناء سلاح الجو السوري، وكان من أبرز المواقع المستهدفة مطار T4 (التياس) ومطار تدمر العسكري، حيث استُهدف كل منهما مرتين متتاليتين خلال أقل من أربعة أيام، ما يشير إلى اعتماد سياسة الضربة المزدوجة لضمان التدمير الكامل.

في المرتبة الثانية، جاءت مقار الألوية والأفواج العسكرية، بعدد 18 ضربة تمثل )24%(من الإجمالي، وتوزعت على مناطق ريف دمشق ودرعا، مستهدفة تشكيلات رئيسية مثل اللواء 68، بالقرب من بلدة خان الشيح، اللواء 90 في كوم، اللواء 132 في مدينة درعا، واللواء المدرع 12 في إزرع، مما يدلّ على أن إسرائيل تسعى لتعطيل الدفاعات الجوية، ولإعاقة إعادة بناء التشكيلات البرية المؤثرة.

 أما مواقع الدفاع الجوي ومنظومات الرادار، فقد نالت 5 ضربات (6.6%)، وشملت مواقع في طرطوس ومحيط مطار دمشق وزاكية والهيجانة، في حين لم تسجل سوى ضربة واحدة على مستودعات عسكرية في القرداحة (1.3%)، وهو ما يعكس تغيّرًا في بنك الأهداف، وتحوّل التركيز إلى البنية السيادية للجيش السوري، كذلك، وقعت ضربة وحيدة على مقرٍّ لحركة الجهاد الإسلامي في دمّر البلد بريف دمشق، صُنّفت كمحاولة اغتيال مستهدفة، وقد تكون رسالة إسرائيلية استباقية موجهة إلى تنظيمات فلسطينية ما زالت مرتبطة بإيران. ويُظهر هذا التصنيف أن معظم الضربات ركّزت على تعطيل القدرات الجوية (73%)، وبينما بقيت الوحدات البرية والدفاع الجوي أهدافًا مكملة، تراجعت الضربات على المستودعات والاغتيالات.

شهدت بلدة كويا في ريف درعا الغربي واحدة من أكثر الحوادث دموية وتصعيدًا خلال آذار/ مارس 2025، بعدما حاولت قوات إسرائيلية خاصة التوغل برًا في البلدة الحدودية، ما دفع الأهالي لمواجهتها بأسلحة فردية، في رد فعل شعبي مفاجئ، وقد تطورت المواجهات إلى قصف جوي ومدفعي إسرائيلي أجبر مئات العائلات على النزوح المؤقت، وانتهت العملية بانسحاب القوات الإسرائيلية، ورافق ذلك موجة غضب عارمة، محليًا وإقليميًا، خصوصًا بعد نفي السكان للرواية الإسرائيلية بشأن وجود خلايا (داعش) في البلدة. أما على مستوى الخسائر البشرية، فقد كانت كويا الأكثر تضررًا، حيث استشهد ما لا يقل عن 6 مدنيين، وأُصيب العشرات بجروح متفاوتة، بينهم نساء وأطفال. وسُجلت أيضًا 3 وفيات و22 إصابة أخرى، في مدينتي درعا وإزرع، في 17 آذار/ مارس، لتكون محافظة درعا هي الأعلى من حيث عدد الضحايا، مقارنة بباقي المحافظات، وفي المقابل، لم تُسجّل وفيات في ضربات حمص واللاذقية بسبب طبيعة الأهداف المعزولة، في حين قُتل شخص واحد فقط في ضربة على مقر لحركة الجهاد الإسلامي بريف دمشق.

    الاستنتاجات:

يتبيّن من التوزّع الجغرافي للضربات الإسرائيلية، خلال آذار/ مارس 2025، أن محافظة حمص شكّلت محورًا أساسيًا في الاستهداف، لا سيما مع التركيز المكثّف على مطاري T4 وتدمر، ما يعكس نية واضحة لتعطيل هذين الموقعين الحيويين وشلّ أي قدرة تشغيلية أو لوجستية فيهما. وفي ريف دمشق، تنوّعت الضربات بشكل لافت، إذ شملت مقار ألوية عسكرية رئيسية إلى جانب مواقع رادار ودفاع جوي، ما يدل على محاولة ممنهجة لاستنزاف القدرات العسكرية في العاصمة ومحيطها، خصوصًا من حيث منظومات الإنذار المبكر والبنية التنظيمية للجيش الجديد. أما في درعا، فقد حافظت الضربات على نمطها التقليدي، مع تركيز على الألوية البرية ومواقع الرادارات، في مؤشر على استمرار الشكوك الإسرائيلية تجاه استقرار الجنوب السوري. وعلى الرغم من محدودية الاستهداف في الساحل، فإن الضربات على القرداحة وطرطوس بدت ذات طابع رمزي واستباقي، وتحمل رسائل ردع لضمان بقاء الهيمنة الجوية الإسرائيلية على الشريط الساحلي، ومنع نشوء أي نشاط عسكري غير محسوب في تلك المنطقة الحساسة.

تحميل الموضوع

مركز حرمون

——————————

ما تريده إسرائيل في لبنان وسوريا؟/ ساطع نورالدين

04 نيسان 2025

ما زالت الحملة العسكرية الإسرائيلية على سوريا، تقع في خانة استعراض القوة وفرض الهيبة وتحقيق الردع، بخلاف الحرب على قطاع غزة، التي استؤنفت بشراسة استثنائية الشهر الماضي وسجلت أرقاماً قياسية في عمليات الإبادة الجماعية للفلسطينيين والتدمير الشامل لسكنهم وأرضهم، وبعكس الهجمات على لبنان الهادفة الى إقامة منطقة أمنية مجردة من السلاح تتدرج من الحدود الجنوبية نحو خط افتراضي يبلغ نهر الاولي، وربما لاحقاً نهر الدامور المتاخم لبيروت الكبرى..من دون أن يمسّ بالسلطة المركزية اللبنانية التي ليست إنتقالية أو مؤقتة، مثل السلطة القائمة في دمشق، التي لا تعرف حتى الآن لماذا تتعرض لهذا الحجم من الاعتداءات الإسرائيلية المتلاحقة.

تجاوزت الاعتداءات الإسرائيلية الحد الاستباقي أو الوقائي المزعوم، الذي يقوم على نظرية روّج لها المسؤولون الإسرائيليون منذ اليوم الأول لتحلل النظام الاسدي، وهي أن حكام دمشق الجدد أعداء بالفطرة والتكوين، وخطر وجودي كامن على دولة إسرائيل، من دون الإفصاح عما اذا كانت إسرائيل ستتولى تهديد حكمهم، الذي يحظى باعتراف عربي ودولي علني، ومشروط بالتخلي عن جدول أعمالهم الإسلامي المتشدد، والاعتراف بحقوق الأقليات السورية ودمجها في الدولة السورية المنشودة..في مهلة زمنية محددة بخمس سنوات كحد اقصى، جرى التفاهم عليها بين السلطة السورية الحالية وبين المجتمع الدولي.

وعلى الرغم من أن حكام دمشق أكدوا في أكثر من مناسبة أنهم غير معنيين بالمواجهة مع إسرائيل، التي كانت مبررة في ظل النفوذ الإيراني على دمشق، بل بالتعايش السلمي الذي يسمح لهم بإعادة بناء الدولة السورية، فإن الإسرائيليين ردوا بحملة عسكرية جوية وبرية لم يسبق لها مثيل منذ حرب تشرين العام 1973، وإقتطعوا مساحات شاسعة من الأراضي السورية وأعلنوها منطقة أمنية مغلقة تصل الى مسافة كيلومترات من العاصمة دمشق، وكثفوا غاراتهم الجوية على مختلف القواعد العسكرية السورية الخاوية، التي كان ولا يزال يفترض ان تشكل أساساً لبناء الجيش السوري الجديد.. بعدما عاشت سوريا طوال ستة عقود من الحكم الاسدي من دون جيش محترف.

في أي جدال حول تلك الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة يوماً بعد يوم، ثمة تسليمٌ بأنه ليس من أهداف إسرائيل اسقاط النظام الجديد في دمشق، المعترف به دوليا، والذي لو شاء الإسرائيليون الإطاحة به لما لجأوا الى ذلك الخيار العسكري تحديداً، بل الى خيارات عسكرية وأمنية أخرى. أما اذا كان هدفهم التأثير على قرارات هذا النظام وبرامجه، فإن ذلك الخيار العسكري هو الطريق الأقصر والأقل جدوى من وجهة نظر سياسية بحتة. وكذا الامر بالنسبة الى رغبة اسرائيل “المفترضة” في ان يكون لها دور في إعادة بناء الجيش السوري وتحديد عقيدته العسكرية ووظيفته ومواقع انتشاره.. وهي في الأصل عملية لا تقع على رأس قائمة اهتمامات حكام دمشق، التي تستبعد الامن الحدودي لمصلحة الامن الداخلي الذي يضمن استقرار المرحلة الانتقالية للسنوات الخمس المقبلة.

أما الافتراض بان إسرائيل تشن هذه الحملة العسكرية الواسعة النطاق على سوريا من أجل حماية إقل من مئتي ألف درزي على حدودها، لا يحتاج معظمهم الى تلك الحماية ولم يطلبوها، فهو تقليل من شأن الجيش الإسرائيلي واستخداماته السياسية.. التي يمكن ان تجيز مثلا الاشتباه في ان إسرائيل تتطلع الى توفير شبكة أمان لعلويي سوريا البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين علوي مهددين اليوم بأرواحهم وحقوقهم واقامتهم على الساحل السوري..مع أن هذه هي مهمة تركيا المركزية المتصلة بأمنها الداخلي، وموقعها الإقليمي، الذي لا يبرر الحديث عن تنافس او صراع إسرائيلي تركي على سوريا، طالما ان قنوات الاتصال مفتوحة بين البلدين، وهي تعمل تحت مظلة أميركية مشتركة، لا تحتاج الى التسابق على اقامة قواعد برية إسرائيلية في جنوب سوريا، أو بناء قواعد جوية تركية في وسط سوريا. التفاهم كان ولا يزال ممكنا بين البلدين، وسوريا في الأصل ليست بلداً مغرياً للنفوذ ولا حتى للاستعراضات العسكرية أو السياسية.

الثابت الوحيد الآن هو أن الجيش الإسرائيلي يعمل هذه الأيام بأقصى طاقته، يمارس ساديته المطلقة، ويرسم بسيول الدماء وتلال الدمار صورة الجيش الأكثر همجية ووحشية في تاريخ الشرق على مر العصور.

بيروت في 3 / 4 / 2025

—————————

رسائل النار” الإسرائيلية في سوريا.. أهدافها وحدودها/ فيصل علوش

4 أبريل 2025

جددت إسرائيل اعتداءاتها داخل الأراضي السورية، حيث قامت ليلة 2 نيسان/أبريل بقصف عدد من المواقع والمطارات، معظمها سبق أن تعرض لغارات إسرائيلية خلال الأعوام السابقة، ومنها مركز البحوث العلمية في مساكن برزة (محيط دمشق)، ومطار حماة العسكري، وقاعدة “T4” العسكرية وسط البلاد.

إضافةً إلى ذلك، توغلت قوات إسرائيلية  في ريف درعا الغربي، وقصفت عدة مواقع في محيط مدينة نوى وبلدة الجبيلية، مما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى من أبناء المنطقة. وتشير التقديرات الأولية إلى ارتقاء 9 شهداء وإصابة عدد كبير من المدنيين، بعضهم في حالة حرجة.

وحول أسباب التصعيد الإسرائيلي المستمر ضد سوريا، رأى مراقبون أنه بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، فقدت إسرائيل ما كانت تعتبره ضمانة أمنية شبه مطلقة بالنسبة إليها، وبات الحكم الجديد، الذي لم تتضح هويته وتوجهاته على نحو أكيد بعد، مبعث قلق وتوجس كبير في إسرائيل، على الرغم من الإشارات التطمينية التي دأب على توجيهها، ولكنها غير كافية، كما يبدو، بالنسبة للقيادة اليمينية المتشددة في تل أبيب التي أعلنت عزمها على رسم خرائط سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، استنادًا إلى دعم ومؤازرة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في وقت تتداخل فيه على نحو مركب وشديد التعقيد أسباب الصراع المحلية والإقليمية والدولية في سوريا، وبات من الواضح أيضًا أن جزءًا مهمًا من هذه الأسباب يتصل بالصراع على سوريا، وليس فيها فحسب.

رسالة إلى تركيا

لكن السبب الإسرائيلي المباشر والمعلن وراء الغارات الأخيرة كان توجيه رسالة إلى أنقرة مفادها أن إسرائيل “لن تسمح بالمساس بحرية عملياتها العسكرية في سوريا”، كما نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن مصدر أمني إسرائيلي.

وإذا كانت تل أبيب تخشى فيما مضى من وجود إيران وميليشياتها في الأراضي السورية، في ظلّ علاقة التبعية التي ربطت بين نظام بشار الأسد وطهران، فهي تخشى الآن من تنامي النفوذ التركي في البلاد، في ظلّ العلاقات السياسية والعسكرية المميزة التي قد تربط مستقبلًا بين دمشق وأنقرة.

وتكاد تل أبيب أن تعلنها صراحة “لا نريد سوريا محمية تركية”، علمًا أن الحديث يدور الآن عن إقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا، وذُكِر أن وفودًا تركية زارت سوريا لاستطلاع واقع المطارات والمراكز العسكرية واختيار الأنسب بينها ليكون مكانًا لقواعدها المزمعة، مما زاد المخاوف في إسرائيل التي اعتبرت أن ذلك يمثل “تهديدًا محتملًا لأمنها”، وسيؤثر على حرية عملياتها الجوية في سوريا والمنطقة، حسب الصحيفة الإسرائيلية ذاتها.

وإذا صحّ أن منع تركيا من تنفيذ مشروعها في سوريا هو الهدف الإسرائيلي وراء ضرباتها الأخيرة، فهذا يعني، كما يقول الكاتب والباحث السوري مالك حافظ، أن إسرائيل قد انتقلت من استراتيجية “الضربات الوقائية” إلى نهج جديد يمكن وصفه بـ”الهجمات التأسيسية”، التي تسعى عبرها إلى إعادة رسم موازين القوى في الداخل السوري، على نحو يمنع السلطات الجديدة من تمتعها بامتلاك السيادة الكاملة على أرضها، بل يُبقي سيادتها “منقوصة ومشروطة” بقوة السلاح الإسرائيلي، لا بقواعد القانون الدولي. وقد ظهر هذا جليًا في تصريحات رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، التي أكد فيها أن إسرائيل “لن تسمح لقوات النظام الجديد بالتموضع جنوب دمشق”.

ويتفق الكاتب والروائي منصور المنصور مع هذه الرؤية، إذ يرى أن تركيا باتت لاعبًا قويًا في الساحة السورية، وتمتلك نفوذًا واسعًا إلى الحد الذي جعلها تُصنَّف كراعٍ رئيسي للنظام الجديد، ومتحدث غير رسمي باسمه. وقد عززت أنقرة هذا النفوذ من خلال خطوات عملية ومواقف كثيرة، ومنها إمكانية التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك مع الحكم الجديد، وتسليح الجيش السوري المستحدث وتدريبه، ما أثار حفيظة دول إقليمية عدة، وليس إسرائيل وحدها.

وحسب موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، فقد بدأت تركيا جهودها لإنشاء قاعدة عسكرية في مطار “T4” العسكري، قرب تدمر وسط سوريا، وهي تخطط لنشر أنظمة دفاع جوي فيه، بما يساعدها على ترسيخ سيطرتها الجوية على المنطقة ودعم جهودها في مكافحة تنظيم “داعش”، الذي ما يزال لديه خلايا تعمل في البادية السورية. ونقل الموقع عن مصدر عسكري أن وجود أنظمة دفاع جوي وطائرات مُسيّرة تركية من شأنه كذلك أن يردع إسرائيل عن شنّ غارات جوية في المنطقة.

وذكر الموقع أنه منذ الإطاحة بالأسد، تتفاوض أنقرة ودمشق على اتفاقية دفاعية يمكن أن توفر غطاءً جويًا وحماية عسكرية للحكومة السورية الجديدة، التي تفتقر حاليًا إلى جيش فعّال. ولكن كيف سيكون رد فعل القيادتين السورية والتركية على الضربات (رسائل النار) الإسرائيلية في سوريا؛ هل ستتابعان تنفيذ مشروع تحالفهما الاستراتيجي، أم ستستغنيان عنه؟

الباحث مالك حافظ يستبعد أن يتم التراجع الفوري عن التفاهمات المشتركة التركية ـ السورية، بما في ذلك مسألة إنشاء قواعد عسكرية تركية، لأن هذا المشروع يخدم أجندة مزدوجة للطرفين. فمن جهة، تسعى السلطة الانتقالية السورية لردم الفراغ الأمني الذي خلّفه خروج الإيرانيين وحلّ الميليشيات المحلية والأمنية السابقة.

ومن جهة أخرى، ترى تركيا أن ترسيخ وجودها في العمق السوري هو ضمان استراتيجي طويل الأمد لمنع حصول نفوذ مستقر وواسع للقوى الكردية المدعومة أميركيًا، وتحقيق موقع تفاوضي أقوى في أي ترتيبات إقليمية لاحقة. ورجّح حافظ أن تجري عملية إعادة ضبط لإيقاع المشروع، على نحو يُبطئ التنفيذ، أو يُعيد صياغة حضور القواعد لتأخذ شكلًا تقنيًا لا يستفز الجانب الإسرائيلي.

وخلص إلى أن الضربات الإسرائيلية شكّلت تحذيرًا صريحًا بأن تل أبيب تعتبر أي تمركز عسكري تركي خارج إطار التنسيق معها ومع واشنطن يمثل تهديدًا مباشرًا لها، وهو ما يقودنا إلى أن تأمين المجال الجوي السوري من قبل تركيا يحتاج إلى موافقة عواصم عدة، وخصوصًا واشنطن. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الموقف الأميركي تجاه الخلاف الناشب بين حليفيها إسرائيل وتركيا بشأن سوريا؟ وكيف ستتصرف إدارة ترامب؛ هل ستميل لصالح أحدهما، أم ستحاول التوفيق بينهما؟

ما هو الموقف الأميركي؟

الكاتب منصور المنصور يعتقد أن الوضع في سوريا معقد ومتداخل، وخاصةً فيما يتعلق بعلاقة الولايات المتحدة مع كل من تركيا وإسرائيل والأكراد. ومن خلال فهمه لسياسة ترامب ونهجه في إدارة الملفات الدولية، يرى أنه يمكنه أن يسعى إلى عقد صفقات تحقق التفوق الإسرائيلي، مع محاولة إرضاء تركيا وعدم الإضرار بمصالح حلفائه الأكراد. ورغم صعوبة تحقيق هذا التوازن، إلا أن واشنطن تمتلك القدرة على فرض شروطها على تركيا والأكراد بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

أما الباحث حافظ فذهب إلى أن الولايات المتحدة، كعادتها في الملفات المعقدة، لا تبحث عن حسم مباشر بقدر ما تُفضل إدارة التوازن بين الحلفاء. وفي المشهد السوري تحديدًا، واشنطن تمسك بخيوط حساسة لدى الطرفين، فهي من جهة الضامن الأعلى لأمن إسرائيل، وللحليف المصلحي تركيا من جهة ثانية، داخل الناتو وفي التوازنات مع روسيا.

وانتهى إلى أن أميركا لا تنظر إلى سوريا كدولة، بل كرقعة جيوسياسية يجب ألا يسيطر عليها أحد بالكامل، ويجب أن تظل مفتوحة لمساومات طويلة الأمد. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة لن تفرّط بإسرائيل، لكنها لن تُعادي تركيا بشكل علني ومباشر، بل ستعمل على خلق مساحة “تقاطع مصالح” مؤقتة، تتعايش فيها القواعد التركية مع شروط إسرائيلية ضمنية؛ فإن السيناريو المرجح بالتالي هو أن تلعب واشنطن دور “المنسق الصامت”، من خلال إعادة توزيع الأدوار بين الطرفين داخل سوريا، دون إعلان موقف واضح.

الترا سوريا

—————————-

رسالة واضحة”.. سجال إسرائيلي تركي بسبب سوريا

الحرة – واشنطن

04 أبريل 2025

كثفت إسرائيل الغارات الجوية على سوريا، وأعلنت أن الهجمات هي “تحذير للحكام الإسلاميين” الجدد في دمشق كما اتهمت أنقرة بمحاولة “فرض وصايتها” على سوريا.

وردت تركيا بأن إسرائيل يجب أن تنسحب من سوريا وتتوقف عن “الإضرار بجهود إرساء الاستقرار” هناك، حسب بيان للخارجية التركية.

وأعادت الغارات، التي استهدفت قاعدتين جويتين وموقعا قرب العاصمة دمشق وجنوب غرب البلاد، التركيز على المخاوف الإسرائيلية من الإسلاميين الذين أطاحوا ببشار الأسد في ديسمبر إذ يرى مسؤولون إسرائيليون أنهم يشكلون تهديدا متزايدا على الحدود.

وتعمل إسرائيل، التي تتخوف أيضا من سطوة أنقرة على دمشق، على تحقيق أهدافها في سوريا منذ الإطاحة بالأسد.

واستولت على أراض في جنوب غرب البلاد وأعلنت استعدادها لحماية الأقلية الدرزية وقصفت الكثير من الأسلحة والعتاد العسكري السوري الثقيل في الأيام التي تلت سقوط الأسد.

وقال الجيش الإسرائيلي إن جنودا في جنوب غرب سوريا قتلوا خلال الليل عددا من المسلحين الذين أطلقوا النار عليهم في تلك المنطقة. وأضاف الجيش أن قواته كانت في مهمة مستهدفة في ذلك الوقت وراء المنطقة العازلة التي تنتشر فيها داخل سوريا.

وذكرت الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) أن القصف الإسرائيلي أسفر عن مقتل تسعة في المنطقة.

وقال يسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي إن الغارات الجوية التي وقعت مساء الأربعاء “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل، لن نسمح بالمساس بأمن دولة إسرائيل”.

وذكر كاتس في بيان أن القوات المسلحة الإسرائيلية ستبقى في المناطق العازلة داخل سوريا وستتحرك ضد التهديدات لأمنها، محذرا الحكومة السورية من أنها ستدفع ثمنا باهظا إذا سمحت لقوات معادية لإسرائيل بالدخول.

ومما عكس مخاوف إسرائيلية من النفوذ التركي في سوريا، اتهم وزير الخارجية جدعون ساعر أنقرة بأداء “دور سلبي” هناك وفي لبنان ومناطق أخرى.

وقال في مؤتمر صحفي في باريس “إنهم يبذلون قصارى جهدهم لفرض وصاية تركيا على سوريا. من الواضح أن هذه هي نيتهم”.

وذكرت وزارة الخارجية السورية في بيان عن الضربات الإسرائيلية “يمثل هذا التصعيد غير المبرر محاولة متعمدة لزعزعة استقرار سوريا وإطالة معاناة شعبها”. ودعت المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل “لوقف عدوانها والالتزام بالقانون الدولي”.

وقالت سانا إن غارات إسرائيلية استهدفت محيط مدينة الكسوة جنوبي العاصمة دمشق في وقت لاحق اليوم الخميس. ولم ترد أنباء بعد عن سقوط قتلى أو مصابين ولم يعلق الجيش الإسرائيلي بعد.

وشنت إسرائيل غارات جوية متكررة على سوريا خلال حكم الأسد، مستهدفة موطئ القدم الذي رسخته إيران حليفة الأسد خلال الحرب الأهلية.

الضربات التي شنتها إسرائيل في وقت متأخر من مساء أمس الأربعاء هي من أعنف الهجمات الإسرائيلية على سوريا منذ الإطاحة بالأسد.

وأعلنت وزارة الخارجية السورية أن إسرائيل شنت غارات على خمس مناطق مختلفة خلال 30 دقيقة مما أسفر عن تدمير شبه كامل لمطار حماة العسكري وإصابة عشرات المدنيين والعسكريين.

وقال الجيش الإسرائيلي إنه ضرب ما تبقى من قدرات عسكرية في القاعدتين الجويتين بمحافظتي حماة وحمص، بالإضافة إلى ما تبقى من بنية تحتية عسكرية في منطقة دمشق حيث قالت وسائل إعلام ومسؤولون سوريون إن محيط منشأة للأبحاث العلمية تعرض للقصف.

وأعلنت إسرائيل أمس الأربعاء أيضا استهدافها لقاعدة تي.4 الجوية في محافظة حمص، وهي قاعدة تعرضت لقصف إسرائيلي متكرر خلال الأسبوع الماضي.

وفي الواقعة في جنوب غرب سوريا، قال الجيش الإسرائيلي إن قواته كانت تنفذ عملية في منطقة تسيل “بمصادرة أسلحة وتدمير بنية تحتية إرهابية” عندما أطلق مسلحون النار عليها.

وقال الجيش الإسرائيلي إن المواجهة لم تسفر عن سقوط قتلى ومصابين في صفوفه وإن قواته “ردت بإطلاق النار وقضت على عدد من الإرهابيين المسلحين بضربات من البر والجو”.

وأضاف “وجود أسلحة في جنوب سوريا يشكل تهديدا لدولة إسرائيل… جيش الدفاع لن يسمح بوجود تهديد عسكري في سوريا وسيتحرك ضده”.

الحرة – واشنطن

—————————

قصف وتوغلات إسرائيلية في ريف درعا ودعوات إلى النفير العام/ ضياء الصحناوي

03 ابريل 2025

قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء الأربعاء، تل الجموع في ريف درعا الغربي، جنوبي سورية بقذائف المدفعية والدبابات، وذلك بعد توغلها قرب مدينة نوى، وسط دعوات إلى النفير العام. وذكرت مصادر “العربي الجديد” في مدينة نوى أن قصفاً مدفعياً من ثماني قذائف طاول حرش الجبيلية الذي يبعد عن المدينة مسافة 10 كيلومترات، فيما لم تُستهدَف المدينة كما يُتداوَل على بعض المنصات، مضيفة أن قوات الاحتلال غيرت اتجاهها عن الحرش متجهة باتجاه سد تسيل. وأوضحت أن الضربات المدفعية لم تُوقع أي إصابات أو خسائر بشرية أو ممتلكات.

مصادر “العربي الجديد” في المدينة أكدت تحليق الطيران الإسرائيلي المسيَّر في الأجواء. وفي ظل تصاعد التحركات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية مع الأراضي المحتلة، شهدت المناطق الريفية في محافظتي درعا والقنيطرة توغلات متكررة لقوات الاحتلال.

ووصل مساء اليوم الأربعاء رتل عسكري إسرائيلي إلى تل الأحمر الغربي في ريف القنيطرة، قادماً من هضبة الجولان المحتلة عبر طريق شقّته قوات الاحتلال بعد تمددها في المنطقة. كذلك قصفت قوات الاحتلال بقذائف الدبابات تل الجموع في ريف درعا الغربي. وتل الجموع هو التل الوحيد المرتفع في المنطقة، ويبلغ ارتفاع قمته نحو 200 متر، ويشرف على سهل منبسط من جهة الشرق يمتد حتى الشيخ مسكين في ريف المحافظة الأوسط، كذلك يشرف على معظم مناطق وادي اليرموك من الجهة الجنوبية.

ووفق شهادات سابقة لعسكريين منشقين من جيش النظام السوري، فإن التل يضم تحصينات من ثلاث طبقات: الأولى أسفل التل حصنت بسواتر ترابية، وجهزت بمساند رمي للدبابات من كل الاتجاهات، إضافة إلى ملاجئ عسكرية لحماية العناصر المتمركزين على التل، والثانية في وسط التل وتضم تحصينات ودشماً عسكرية على شكل طوق، وزوّدت بصواريخ مضادة للدروع، ومساند للرشاشات المتوسطة ومدفعية الهاون، بينما أقيمت في قمة التل طبقة ثالثة من التحصينات تطل على جميع الجهات، وتحتوي على محطات تشويش ورصد، وعلى تقنيات للتنصت واستطلاع إلكتروني.

من جهة أخرى، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي قنبلة مضيئة شوهدت في سماء قرية كويا، في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي، وأكدت مصادر “العربي الجديد” في القرية أن مصدر القنبلة كان من ثكنة عسكرية في قرية معرية.

وقال أحد السكان، محمد البكر، لـ”العربي الجديد” إن تكرار مثل هذه الحوادث بشكل شبه يومي، يثير مخاوف السكان من تصعيد عسكري محتمل، مضيفاً أن هذه التحركات جزء من الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز نقاط الوجود العسكري على طول الحدود السورية، تحت ذرائع “مواجهة التهديدات الأمنية”.

ولم يصدر أي تعليق رسمي من الحكومة السورية حول التوغلات الإسرائيلية والضربات الجوية الأخيرة، فيما يطالب ناشطون محليون بتحرك دولي لوقف “الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة”. ويعيش سكان الريف الغربي لدرعا والقنيطرة في حالة من القلق الدائم بسبب التحركات العسكرية والاستفزازات الإسرائيلية، التي تؤثر بحياتهم اليومية. كذلك إن تكرار إطلاق القنابل المضيئة يثير مخاوف من استخدامها أداةَ استطلاع تمهيداً لعمليات عسكرية أوسع. 

وفي ظل تصاعد الوجود العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، تبقى المناطق الريفية في درعا والقنيطرة على صفيح ساخن، حيث يمكن لأي اشتباك عابر أن يتحول إلى مواجهة أوسع. ومع استمرار سياسة الأمر الواقع التي تفرضها إسرائيل، يبقى المدنيون الضحية الرئيسية في معادلة يصعب إدراك مآلاتها، في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي.

العربي الجديد

———————————–

استشهاد 9 مدنيين بتوغل إسرائيلي في درعا… ودمشق تدين العدوان/ عبد الله البشير

03 ابريل 2025

“تجمّع أحرار حوران”: عدد الشهداء مرشح للارتفاع

التوغل البري صاحبه قصف جوي ويتزامن مع تصعيد إسرائيلي ضد سورية

جيش الاحتلال يقرّ بالتوغل ويعلن قتل مسلحين وتدمير بنى تحتية

استشهد تسعة مدنيين من جراء قصف إسرائيلي استهدف حرش سد الجبيلية الواقع بين مدينة نوى وبلدة تسيل غرب درعا، جنوبي سورية، فيما أعلن جيش الاحتلال توغله مجدداً في جنوب سورية مدعياً قتله عدداً من المسلحين الذين أطلقوا النار على قواته. وأفادت محافظة درعا في بيان نقلته وكالة الأنباء السورية (سانا)، بـ”استشهاد تسعة مدنيين، وإصابة آخرين في حصيلة أولية، إثر قصف الاحتلال الإسرائيلي حرش سد الجبيلية”، مشيرة إلى أن “هناك استنفاراً وغضباً شعبياً كبيراً بعد هذه المجزرة، وخصوصاً في ظل توغل قوات الاحتلال لأول مرة إلى هذا العمق”.

وقال محافظ درعا أنور طه الزعبي لـ”التلفزيون العربي”، إن قوات الاحتلال توغلت للمرة الأولى في مناطق زراعية بالمحافظة، قبل أن تنسحب من محورين. وأشار إلى أن الأهالي يرفضون أي تواصل مع الاحتلال الإسرائيلي، وسينظمون تجمعاً احتجاجياً ضد الانتهاكات الإسرائيلية، مؤكداً أن “القيادة في دمشق هي المخولة للحديث باسمنا”.

من جهته، قال “تجمع أحرار حوران” (تجمع إعلاميين وحقوقيين في جنوب سورية)، في تقرير صدر عنه فجر اليوم الخميس، إن عدد الشهداء مرشح للارتفاع مع وجود عدد كبير من المصابين في مستشفى نوى، بعضهم في حالة حرجة. وأشار التجمع في تقريره إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي توغلت ليلة الخميس في ريف درعا الغربي، واستهدفت بقذائف المدفعية، بالتزامن مع القصف الجوي، مواقع تل الجموع، ومحيط مدينة نوى، وحرش الجبيلية (حرش تسيل)، ما أوقع شهداء وجرحى من المدنيين، وسط حالة استنفار شهدتها المنطقة.

بدوره، قال جيش الاحتلال الإسرائيلي، في بيان، إن قوات من اللواء 474 نفذت الليلة الماضية عملية بمنطقة تسيل جنوبي سورية و”صادرت وسائل قتالية ودمرت بنى تحتية إرهابية”، على حد زعمه، مشيراً إلى تعرّض هذه القوات لـ”عملية إطلاق نار من جانب عدد من المسلحين، قبل استهدافهم والقضاء على عدد منهم في قصف جوي وبري”. وفيما نفى جيش الاحتلال وقوع إصابات في صفوفه، اعتبر أن “وجود وسائل قتالية في منطقة جنوب سورية يشكل تهديداً على إسرائيل”، متوعداً بعدم السماح بذلك.

كاتس: الغارات على سورية تحذير للمستقبل

وتعليقاً على القصف والتوغل الإسرائيليين في سورية، قال وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إن القوات الإسرائيلية ستبقى في المناطق العازلة داخل سورية، وستتحرك لـ”التصدي للتهديدات لأمنها”، مهدداً الحكومة السورية في بيان بـ”دفع ثمن باهظ إذا سمحت لقوات معادية لإسرائيل بالدخول” على حد تعبيره. وأضاف كاتس أن الضربات الجوية الليلة الماضية على حماة ودمشق “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل… لن نسمح بأي ضرر يلحق بأمن إسرائيل”، على حد قوله.

وجاء التصعيد الإسرائيلي، وفق التجمع، بعد توغل القوات الإسرائيلية في عدة قرى بريف درعا والقنيطرة، مشيراً إلى أن “اقترابها من مدينة نوى، كبرى مدن درعا، يشير إلى تحول جديد في طبيعة هذه العمليات”.

وقال التجمع في تقريره إن “المخاوف تتزايد بين الأهالي من احتمال توسع العمليات العسكرية، خصوصاً أن نوى تضم كثافة سكانية كبيرة. ومع استمرار القصف والتوغلات، تتفاقم الأوضاع الإنسانية، في ظل تدهور الخدمات الأساسية وانعدام الاستقرار الأمني في المنطقة”.

وأكد مراسل “العربي الجديد” انسحاب القوات الإسرائيلية المتوغلة من حرش تسيل “في ظل حالة استنفار شعبي كبيرة في مدينة نوى والمناطق المحيطة بها”، مع الإشارة إلى أن أغلب الشهداء من أبناء مدينة نوى. وتشهد المدينة مراسم تشييع للشهداء التسعة ظهر اليوم بحسب محافظ درعا، وذلك تزامناً مع دعوات شعبية إلى مشاركة واسعة، تعبيراً عن الغضب من الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة في أراضي المحافظة.

ووصل مساء أمس الأربعاء رتل عسكري إسرائيلي إلى تل الأحمر الغربي في ريف القنيطرة، قادماً من هضبة الجولان المحتلة عبر طريق شقّته قوات الاحتلال بعد تمددها في المنطقة، وفق ما أكدته مصادر ميدانية لـ”العربي الجديد”. كذلك قصفت قوات الاحتلال بقذائف الدبابات تل الجموع بريف درعا الغربي. وتل الجموع هو التل الوحيد المرتفع في المنطقة، حيث يبلغ ارتفاع قمته نحو 200 متر، ويشرف على سهل منبسط من جهة الشرق يمتد حتى الشيخ مسكين بريف المحافظة الأوسط، ويشرف أيضاً على معظم مناطق وادي اليرموك من الجهة الجنوبية.

الخارجية السورية تدين القصف الإسرائيلي

إلى ذلك، أدانت وزارة الخارجية السورية بـ”أشد العبارات” سلسلة الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سورية، داعية المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها والتزام القانون الدولي.

وقالت الخارجية في بيان نشرته عبر قناتها على تليغرام الخميس: “في انتهاك سافر للقانون الدولي ولسيادة الجمهورية العربية السورية، شنت القوات الإسرائيلية غارات جوية على خمس مناطق مختلفة في أنحاء البلاد خلال 30 دقيقة، مما أسفر عن تدمير شبه كامل لمطار حماة العسكري وإصابة عشرات المدنيين والعسكريين. ويشكل هذا التصعيد غير المبرر محاولة متعمدة لزعزعة استقرار سورية وإطالة معاناة شعبها”.

وجاء في بيان الخارجية: “في الوقت الذي تسعى فيه سورية لإعادة الإعمار بعد 14 عاماً من الحرب، تأتي هذه الاعتداءات المتكررة في سياق محاولة إسرائيلية واضحة لتطبيع العنف مجدداً داخل البلاد، ما يقوّض جهود التعافي ويكرّس سياسة الإفلات من العقاب”. ودعت الخارجية السورية المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، والتزام القانون الدولي وتعهداتها بموجب اتفاقية فصل القوات لعام 1974، وحثت الأمم المتحدة وجميع الجهات الدولية المعنية على اتخاذ إجراءات فورية لوقف هذا التصعيد ومنع المزيد من الانتهاكات.

الأردن: انتهاك صارخ لسيادة ووحدة سورية

في السياق، أدانت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنيين، اليوم الخميس، بأشدّ العبارات العدوان الإسرائيلي الأخير على مناطق متفرّقة في سورية، الذي أدى إلى ارتقاء وإصابة عدد من الأشخاص، وعدته خرقاً فاضحاً للقانون الدولي، وانتهاكاً صارخاً لسيادة سورية ووحدتها، وتصعيداً خطيراً لن يسهم إلا في مزيد من الصراع والتوتر بالمنطقة.

وأكّد الناطق الرسمي باسم الوزارة السفير سفيان القضاة في بيان، رفض بلاده المطلق، واستنكارها الشديد للاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الأراضي السورية، في خرق واضح لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974 بين إسرائيل وسورية، مُجدِّداً وقوف المملكة وتضامنها الكامل مع سورية الشقيقة وأمنها واستقرارها وسيادتها. ودعا القضاة المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وإلزام إسرائيل وقف اعتداءاتها الاستفزازية اللاشرعية على سورية، وإنهاء احتلال جزء من أراضيها، مشدّداً على ضرورة التزام إسرائيل قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة التي تفرض احترام سيادة الدول، وعدم التدخّل في شؤونها.

قطر تدعو إلى إلزام إسرائيل بوقف الاعتداءات على سورية

من جهتها، دانت دولة قطر بشدة الغارات الإسرائيلية التي استهدفت خمس مناطق في سورية، وعدتها “اعتداءً صارخاً على سيادة ووحدة سورية وانتهاكاً سافراً للقانون الدولي”. ودعت وزارة الخارجية القطرية، في بيان اليوم الخميس، “المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لإلزام إسرائيل بالامتثال للقوانين والأعراف الدولية ووقف الاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية، بما يحول دون المزيد من التصعيد والتوتر في المنطقة”، وجددت “دعم دولة قطر الكامل لسيادة سورية واستقلالها وسلامة أراضيها وتطلعات شعبها الشقيق في الأمن”.

    بيان | قطر تدين بشدة الغارات الإسرائيلية على خمس مناطق بسوريا#الخارجية_القطرية pic.twitter.com/sSokoho3s9

    — الخارجية القطرية (@MofaQatar_AR) April 3, 2025

حماس: جريمة جديدة تضاف لسجل الاحتلال الإرهابي

من جهتها، أدانت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) “بأشد العبارات العدوانَ الصهيونيَّ المتواصل على أراضي الجمهورية العربية السورية، والذي تصاعد في الساعات الأخيرة عبر قصفٍ جويّ استهدف مناطق في أرياف دمشق ودرعا وحماة وحمص، وتوغُّلِ دبابات الاحتلال في ريف درعا، وارتقاء شهداء من أبناء مدينة نوى بمحافظة درعا، من جرّاء قصف طيران الاحتلال الصهيوني حرش الجبيلية غربي المدينة، في جريمة جديدة تضاف إلى سجل الاحتلال الإرهابي الحافل بالعدوان والإجرام”.

وأشادت الحركة “بالموقف البطولي لأهالي درعا الصامدين، الذين تصدّوا بشجاعة لتوغُّل قوات الاحتلال، وأثبتوا مجددًا إرادة الشعوب الحرة في مقاومة الاحتلال ورفض الهيمنة والعدوان”، مؤكدة أن “هذا التصعيد الصهيوني يأتي في سياق سياسة العربدة والغطرسة التي تنتهجها حكومة الإرهابي (بنيامين) نتنياهو، ويمثّل امتدادًا لعدوانها الفاشي على شعبنا الفلسطيني، في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، حيث تواصل حرب الإبادة والحصار والتجويع والتهجير”. ودعت الحركة إلى “تضافر الجهود الوطنية والقومية والإسلامية، وتوحيد المواقف في مواجهة الاحتلال ومخططاته العدوانية، ومقاومته بكل السبل، حتى زواله عن أرضنا ومقدساتنا”.

مصر تدين الغارات الإسرائيلية

وأدانت مصر الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية، معتبرة أنها تشكل انتهاكاً صارخاً جديداً للقانون الدولي، وتعدياً سافراً على سيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدة أراضيها. وطالبت وزارة الخارجية المصرية، في بيان اليوم الخميس، الأطراف الدولية الفاعلة بالاضطلاع بمسؤولياتها تجاه التجاوزات الإسرائيلية المتكررة، وإلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي السورية.

حزب الله يدين العدوان الإسرائيلي على سورية واليمن ولبنان وغزة

دان حزب الله في بيان، الخميس، “العدوان الأميركي – الإسرائيلي الهمجي المتصاعد على كل من سورية واليمن ‏وغزة ولبنان”، معتبراً أنه “يشكل امتداداً للحرب المفتوحة التي يشنها محور الشر الأميركي-‏الصهيوني على شعوب المنطقة، مزعزعاً استقرار وأمن دولها ومستبيحاً سيادتها ومستنزفاً ‏لقدراتها وعوامل القوة لديها، لإخضاعها لمتطلبات هيمنته ومصالح الكيان الصهيوني لتكون ‏له اليد الطولى في المنطقة”.

وقال الحزب إنه في ظل هذا التصعيد الخطير يؤكد أن “استهداف سورية عبر الغارات المتكررة والتوغلات المستمرة في أراضيها يندرج ‏في إطار إضعاف الدولة السورية ومنعها من استعادة عافيتها، ويمثل انتهاكاً فاضحاً ‏لسيادتها وأن التصدي البطولي لأبناء سورية الشرفاء للتوغل الصهيوني، الذي أدى إلى سقوط ‏شهداء وجرحى، دليلٌ على أن خيار الشعب السوري كان وما زال خيار المواجهة ‏والتصدي للمحتل، وأن روح المقاومة متجذرة في وجدان السوريين”.

وأكد أن “استمرار العدوان الأميركي الهمجي على اليمن، وارتكاب المجازر بحق شعبه، هو ‏محاولة يائسة لثني الشعب اليمني الأبي الصامد عن استمراره في دعم غزة والمقاومة ‏في فلسطين، ودفعه إلى وقف عملياته البطولية.‏ وكما هو الحال في سورية واليمن، فإن العدوان الإسرائيلي الوحشي المتصاعد على ‏فلسطين وغزة، وحرب الإبادة المستمرة ومشاريع التهجير أمام مرأى ومسمع المجتمع ‏الدولي المتخاذل، يكشف عجز العدو عن كسر إرادة المقاومة وروح الصمود والتصدي ‏لدى الشعب الفلسطيني”.

العربي الجديد

————————–

شهداء وجرحى في عدوان إسرائيلي يحمل رسائل نارية إلى دمشق وأنقرة

2025.04.03

شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات جوية مركزة على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق ومحافظتي حماة وحمص، تزامنت مع توغل بري محدود نفذته وحدات خاصة من جيش الاحتلال داخل الأراضي السورية من جهة الجولان المحتل.

واستهدفت الغارات الإسرائيلية عدة مواقع عسكرية داخل الأراضي السورية، من بينها مطار “T4” في محافظة حمص، وقاعدة جوية عسكرية في محيط مدينة حماة، إضافة إلى منشآت وبنى تحتية عسكرية في العاصمة دمشق، بما في ذلك مركز البحوث العلمية في حي برزة، وهو الموقع الذي سبق أن تعرض لهجمات إسرائيلية متكررة في الأعوام الماضية.

وقالت وزارة الخارجية السورية إن الضربات الإسرائيلية طالت خمس مناطق مختلفة في أنحاء البلاد، واستمرت لنحو نصف ساعة، مشيرة إلى أن مطار حماة العسكري دُمر بشكل شبه كامل، كما أسفرت الغارات عن استشهاد وإصابة العشرات من العسكريين والمدنيين.

وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أن سلاح الجو نفذ العملية بهدف “الحفاظ على التفوق الجوي لإسرائيل في المنطقة”، مشيراً إلى أن الغارات “استهدفت مسارات الطيران، ومستودعات الوقود، والرادارات في المواقع التي جرى قصفها”.

توغل بري في الجنوب

في اعتداء آخر، نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي توغلاً برياً في جنوبي سوريا، حيث توغلت عشرات الآليات والمدرعات العسكرية إلى حرش سد الجبيلية الواقع بين مدينة نوى وبلدة تسيل غربي درعا.

وأفادت مصادر محلية أن أهالي مناطق نوى وتسيل والبلدات الغربية بدرعا اشتبكوا مع الرتل الإسرائيلي وأجبروه على التراجع، في حين ذكرت صحيفة “الوطن” المحلية أن 11 مواطناً استشهدوا وأصيب آخرون خلال الاشتباكات.

وزعم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، أن “قوات من اللواء 474 عملت في منطقة تسيل جنوبي درعا، حيث صادرت وسائل قتالية ودمرت بنى تحتية إرهابية”، مضيفاً أنه “خلال النشاط أطلق عدد من المسلحين النار تجاه قواتنا العاملة في المنطقة، لتقوم القوات باستهدافهم والقضاء على عدد منهم في استهداف بري وجوي”.

واعتبر المتحدث باسم جيش الاحتلال أن “وجود الأسلحة في جنوبي سوريا يشكل تهديداً على دولة إسرائيل”، مشدداً على أن “الجيش الإسرائيلي لن يسمح بوجود تهديد عسكري داخل سوريا وسيتحرك ضده”.

    الصحفي منتصر أبو نبوت ينفي من مكان الحدث رواية جيش الاحتلال الإسرائيلي ، مع رصد الطريق الذي سلكته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال توغلها فجر اليوم قرب نوى وتسيل#درعا

pic.twitter.com/hw3K6RQ1bc — Omar Alhariri (@omar_alharir)

April 3, 2025

رسائل إلى تركيا: لا قواعد جوية في تدمر

تتزامن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا مع توارد الأنباء حول إنشاء قواعد جوية تركية في وسط سوريا، خاصة أن الرئيس السوري، أحمد الشرع، ناقش مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في شباط الماضي، اتفاقية دفاع مشترك، تتضمن إنشاء قواعد جوية.

ووفق وكالة “رويترز”، تعمل أنقرة على وضع نفسها كلاعب رئيسي في سوريا الجديدة، الأمر الذي يثير قلق إسرائيل، حيث يسمح وجود قواعد تركية في سوريا لأنقرة بحماية المجال الجوي السوري في حال وقوع هجمات مستقبلية.

واعتبر مسؤولون إسرائيليون الغارات الإسرائيلية الأخيرة بمثابة “رسالة تحذير واضحة” إلى تركيا، مفادها “لا تُنشئوا قاعدة عسكرية في سوريا، ولا تتدخلوا في النشاط الإسرائيلي في المجال الجوي السوري”.

ونقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية قوله إن الغارات الأخيرة “استهدفت منع أنقرة من إقامة موطئ قدم عسكري في سوريا”، مشيراً إلى أن مطار تدمر (T4)، الواقع في وسط البلاد، يُحتمل أن يكون موقعاً لقاعدة تركية مستقبلية، ما قد يهدد العمليات الجوية الإسرائيلية.

وأكد المسؤول الإسرائيلي أن هذه الهجمات “تهدف إلى عرقلة خطط تركيا في نقل القوات والدفاعات الجوية إلى سوريا وتشغيل المنشآت العسكرية فيها، خاصة في ظل تقارير تحدثت عن رغبة أنقرة بتحويل المطار إلى منشأة لطائرات مسيرة، وربما نشر منظومات الدفاع الجوي S-400 بشكل مؤقت في T4 أو مدينة تدمر”.

وسبق ذلك أن صرح مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، أن “إنشاء قاعدة جوية تركية في مطار تدمر قد يُفاقم التوترات الإقليمية ويزيد من خطر نشوب صراع مع إسرائيل”.

وشدد المسؤول الإسرائيلي على أنه “نظراً لجهود إسرائيل المستمرة لمنع تمركز قوات معادية في سوريا، فإن أي وجود عسكري تركي كبير، وخاصة في مواقع استراتيجية مثل تدمر، قد يُنظر إليه على أنه تهديد للمصالح الأمنية الإسرائيلية”.

الغارات الإسرائيلية تُحبط مشروع قاعدة تركيا في مطار تدمر

دمرت الغارات الإسرائيلية، ليلة أمس وغارات سابقة، مطاري تدمر وحماة العسكريين بشكل كامل، بما في ذلك طائراتهما وأنظمة الرادار وأبراج المراقبة ومواقف السيارات والتخزين، وأن المدرجات أصبحت خارج الخدمة.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية، الملتقطة في 21 من آذار الماضي، أن الغارات الجوية الإسرائيلية السابقة أحدثت حفرتين كبيرتين في مدرج مطار T4، مما يجعل هبوط أي طائرة نقل ثقيلة شبه مستحيل، فيما من السابق لأوانه الحصول على تقييم للأضرار الناجمة عن هجوم أمس، لكن من المؤكد أنه سبب أضراراً إضافية.

مطار تي فور

ويقع مطار T4 على بعد نحو 225 كيلومتراً جنوبي الحدود التركية مع سوريا، مما يجعل أي إمداد بري، وخاصة للأسلحة الدقيقة كالطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، خياراً صعباً وخطيراً، وفق موقع “وور زون”.

مخاوف إسرائيلية من منظومة “S-400” التركية

على الرغم من أن إسرائيل أكدت في أكثر من مناسبة أنها غير معنية بالدخول في صراع مع تركيا في سوريا، إلا أن العلاقة بين أنقرة وتل أبيب تشهد توتراً متزايداً، على خلفية تضارب المصالح الإقليمية، خصوصاً بعد انهيار نظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد، في كانون الأول الماضي.

وتخشى إسرائيل أن تنصب تركيا منظومات دفاع جوي متقدمة في مناطق شمالي سوريا، ما قد يحد من نشاط الطائرات الإسرائيلية التي نفذت ضربات على أهداف عسكرية داخل سوريا خلال الأشهر الأخيرة.

وكان موقع “ميدل إيست أي” نقل عن مصدر مطلع قوله إن أنقرة تدرس نشر أنظمة الدفاع الجوي “S-400” بشكل مؤقت في مطار تدمر، لتأمين المجال الجوي في سوريا خلال جهود إعادة الإعمار، مشيراً إلى أن هذا القرار “لم يتخذ بعد بشكل نهائي، وسيحتاج إلى موافقة روسيا”.

وتسعى إسرائيل إلى منع أي تموضع عسكري قريب من حدودها، حيث يخطط جيش الاحتلال لإقامة “منطقة سيطرة”، بطول 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، و”مجال نفوذ استخباري”، يمتد لنحو 60 كيلومتراً.

وفي 10 من كانون الثاني الماضي، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن تل أبيب “ستحتاج إلى الحفاظ على محيط عملياتي يبلغ طوله 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية”، مضيفين أن الجيش الإسرائيلي “سيحافظ على وجود لضمان عدم تمكن حلفاء النظام الجديد في سوريا من إطلاق الصواريخ باتجاه مرتفعات الجولان”.

وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين ذكروا “ضرورة وجود مجال نفوذ يمتد 60 كيلومتراً داخل سوريا، ويكون تحت سيطرة المخابرات الإسرائيلية، لمراقبة ومنع التهديدات المحتملة من التطور”.

ومن المقرر أن يعقد وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، اجتماعاً أمنياً رفيعاً، اليوم الخميس، لبحث تحركات تركيا في شمالي سوريا، ومخاوف تل أبيب من توسع النفوذ التركي على حساب حرية حركة طيران الاحتلال الإسرائيلي في الأجواء السورية.

وقال وزير دولة الاحتلال إن إسرائيل “أرسلت رسالة واضحة إلى الرئيس السوري الجديد مفادها أن أي محاولة لتغيير الوضع القائم بهدف تهديد إسرائيل ستقابل برد مكلف”.

ومساء أمس الأربعاء، زار قائد القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم”، الجنرال مايكل كوريلا، إسرائيل والتقى رئيس أركان جيش الاحتلال في جلسة مشتركة تناولت التحديات الأمنية في سوريا والمنطقة.

—————————–

رسائل ومشاورات أمنية إسرائيلية بشأن تركيا عقب القصف على سورية/ نايف زيداني

03 ابريل 2025

تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي لتعزيز تفوقها الجوي في المنطقة، وإيصال رسائل إلى تركيا، ما يفسر بعض دوافعها إلى قصف عدة مواقع في سورية الليلة الماضية، من قبيل مطار حماة العسكري وقاعدة الـ”تي فور” في حمص، ومستودعات وقود ومواقع رادارات، ما ينذر باستمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع مختلفة في الفترة المقبلة أيضاً، عدا عن محاولات التوغّل أكثر داخل الأراضي السورية وقصفها بزعم وجود مسلّحين، على غرار ما حدث في محافظة درعا، كما توعّد جيش الاحتلال بعدم السماح بوجود “وسائل قتالية في منطقة جنوب سورية.. تشكّل تهديداً على إسرائيل”.

منذ إطاحة السوريين نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة العازلة في سورية، وسيطرت أيضاً على جبل الشيخ كاملاً. بالإضافة إلى ذلك، تتواتر هجمات سلاح الجو الإسرائيلي في جميع أنحاء سورية، خاصة بعد إعلان وزير الأمن يسرائيل كاتس ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مطالبتهما بنزع سلاح المنطقة الواقعة جنوب دمشق بالكامل.

وسبق أن أصدر المستوى السياسي تعليمات للجيش بمنع أي تمركز عسكري للقوات السورية التابعة لسورية الجديدة، على عمق حوالي 65 كيلومتراً من الحدود. وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلن نتنياهو أن إسرائيل “لن تسمح لقوات النظام الجديد في سورية بدخول المنطقة الواقعة جنوب دمشق”.

في السياق، ذكرت صحيفة معاريف عبر موقعها الإلكتروني، اليوم الخميس، أن القوات الجوية الإسرائيلية، تحرّكت في الأيام الأخيرة “لإحباط محاولة فورية من قبل الجيش التركي للحصول على موطئ قدم داخل سورية بقوات كبيرة من أسراب سلاح الجو التركي. وفي ضربة خاطفة، بقيادة قائد سلاح الجو الإسرائيلي اللواء تومر بار، قامت القوة بقصف مطارين في الأيام الأخيرة، كان يستخدمهما الجيش السوري في عهد نظام بشار الأسد. وهما مطار تدمر ومطار التيفور”.

ودمّر سلاح الجو كلا المطارين، فيما نقلت الصحيفة عن مصدر عسكري إسرائيلي لم تسمّه، قوله إنه “لم يبق فيهما أي بناء قائم. استهدفنا الطائرات، وأنظمة الرادار، وأبراج المراقبة، ومواقف السيارات وجميع مدارج الطائرات وجميع المباني والمستودعات. ببساطة لقد دمّرنا المطارين”.

وجاء هذا الاستهداف، وفقاً للصحيفة العبرية نفسها، بعد إدراك إسرائيل، أنه إلى جانب محاولات الأتراك تسليح الجيش السوري وإعادة تأهيله، فإن لديهم خططاً إمبريالية، وفق المزاعم الإسرائيلية، لتجديد السيطرة على سورية وتحويلها إلى دولة تحت وصاية تركية مع وجود عسكري دائم.

من ناحية أخرى، حددت إسرائيل، كما قال وزير الأمن كاتس أمس الاربعاء، خلال جولة على الجبهة الشمالية، قاعدتين ستلتزم بهما إسرائيل في سورية، أولاهما نزع السلاح من جنوب سورية، وثانيهما الحفاظ على حرية طيران القوات الجوية في الأجواء السورية. وقال كاتس إن إسرائيل نقلت في الأيام الأخيرة رسائل شديدة إلى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، مفادها أنه “إذا سمح لأي كيان بتغيير الوضع في سورية من أجل تهديد إسرائيل فسوف يكون عليه تحمّل الثمن”، كما أوضحت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أمس أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لن تسمح بإعادة تأهيل وبناء المطارين اللذين دمرهما سلاح الجو.

ووجّه كاتس، اليوم الخميس، مجدداً رسالة إلى الرئيس السوري، مفادها “إذا سمحت لقوات معادية لإسرائيل بالدخول إلى سورية وتهديد المصالح الأمنية الإسرائيلية، ستدفع ثمناً باهظاً”. وأضاف، وفق ما نقلت عنه وسائل إعلام عبرية: “نشاط سلاح الجو الإسرائيلي بالأمس، ضد المطارات في التيفور، وحماة، ومنطقة دمشق في سورية، هو رسالة واضحة وتحذير للمستقبل، بأننا لن نسمح بالإضرار بأمن دولة إسرائيل”.

ومن المتوقع أن تعقد إسرائيل اليوم مشاورات أمنية واسعة النطاق، حول سياسة إسرائيل تجاه تركيا، بمشاركة كاتس، ورئيس هيئة الأركان إيال زامير، وشعبة الاستخبارات العسكرية، وقيادة المنطقة الشمالية في الجيش، وضباط رفيعي المستوى. وتؤكد إسرائيل أنها لا تسعى إلى مواجهة مباشرة بين جيشها والجيش التركي في سورية، لكنها لا تخفي شعورها بالقلق إزاء التدخل التركي المتزايد في سورية، واعتبار تركيا تحدياً لها، كما لا ترغب في وجود قواعد عسكرية تركية على مقربة منها.

———————————–

تركيا توجه رسالة نارية لإسرائيل بعد غاراتها على سوريا

تحذير لإسرائيل من تقويض الاستقرار في سوريا ومطالبة للمجتمع الدولي بالتحرك

أكدت وزارة الخارجية التركية في بيان أنه “يجب على إسرائيل التخلي عن سياساتها التوسعية، والكف عن عرقلة جهود إرساء الاستقرار في سوريا”.

وقالت وزارة الخارجية التركية إنه يجب “على إسرائيل أن تتخلى عن سياساتها التوسعية وتنسحب من الأراضي التي احتلتها وتتوقف عن تقويض جهود إرساء الاستقرار في سوريا، ومن المهم أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في منع عدوان إسرائيل المتهور بشكل متزايد”.

وأوضحت وزارة الخارجية التركية: “على الرغم من عدم وجود أي استفزاز أو هجوم من سوريا على الأرض، فإن الهجمات الجوية والبرية المتزامنة التي شنتها إسرائيل على العديد من النقاط الليلة الماضية 2 أبريل ليس لها تفسير آخر سوى نهج السياسة الخارجية الإسرائيلية الذي يغذي الصراع”.

وأكدت الوزارة أن “التصريحات الاستفزازية التي يطلقها الوزراء الإسرائيليون تجاه البلاد تعكس الحالة النفسية التي يعيشونها وكذلك السياسات العدوانية والتوسعية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الأصولية والعنصرية”.

كما أضافت: “يجب أن نتساءل لماذا تنزعج إسرائيل من التطورات في سوريا ولبنان، التي تحمل وعدا كبيرا بالسلام والاستقرار والازدهار في منطقتنا والتي يدعمها العالم أجمع”.

هذا وأعرب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن عن إدانته “للتصعيد العسكري الإسرائيلي المتكرر والمتزايد في سوريا” بما في ذلك الضربات الجوية التي أودت بحياة مدنيين.

—————————-

تركيا: إسرائيل أكبر تهديد للأمن في المنطقة وتزعزع استقرار سوريا

3 أبريل 2025 م

أكدت تركيا، الخميس، أن على إسرائيل الانسحاب من سوريا والكفّ عن عرقلة جهود إرساء الاستقرار هناك، وذلك بعد أن صعّدت إسرائيل غاراتها الجوية على سوريا، واتهمت تركيا بمحاولة وضع سوريا تحت وصايتها.

وقالت وزارة الخارجية في أنقرة: «أصبحت إسرائيل أكبر تهديد للأمن في المنطقة»، كما أصبحت «مزعزعة للاستقرار الاستراتيجي، وتسبب الفوضى وتغذي الإرهاب».

وأضافت: «لذلك، ومن أجل إرساء الأمن في جميع أنحاء المنطقة، على إسرائيل أولاً التخلي عن سياساتها التوسعية، والانسحاب من الأراضي التي تحتلها، والكفّ عن تقويض جهود إرساء الاستقرار في سوريا»، وفق ما نقلته وكالة «رويترز» للأنباء.

وكثّفت إسرائيل الغارات الجوية على سوريا الليلة الماضية، وأعلنت أن الهجمات هي تحذير لـ«الحكام الجدد» في دمشق، كما اتهمت أنقرة بمحاولة فرض وصايتها على سوريا.

وقال يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، إن الغارات الجوية التي وقعت مساء الأربعاء «رسالة واضحة وتحذير للمستقبل، لن نسمح بالمساس بأمن دولة إسرائيل».

وذكر كاتس، في بيان، أن القوات المسلحة الإسرائيلية ستبقى في المناطق العازلة داخل سوريا، وستتحرك ضد التهديدات لأمنها، محذراً الحكومة السورية من أنها ستدفع ثمناً باهظاً إذا سمحت لقوات معادية لإسرائيل بالدخول.

ومما عكس مخاوف إسرائيلية من النفوذ التركي في سوريا، اتهم وزير الخارجية جدعون ساعر أنقرة بلعب «دور سلبي» هناك وفي لبنان ومناطق أخرى.

وقال في مؤتمر صحافي في باريس: «إنهم يبذلون قصارى جهدهم لفرض وصاية تركيا على سوريا. من الواضح أن هذه هي نيتهم».

——————————

=======================

الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 04 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

تشكيل الحكومة السورية الجديدة

————————

التحدّيات أمام الحكومة الانتقالية في سورية/ عمار ديوب

03 ابريل 2025

تشكّلت الحكومة الانتقالية في سورية أخيراً (الخطوة الأكثر أهميةً في المرحلة الانتقالية)، وتأتي بديلاً من حكومة مؤقّتة شُكّلت عقب رحيل النظام السابق. هذه الخطوة تأسيسية للنهوض بالدولة في المرحلة الانتقالية، وستشكّل ممارساتها مقياساً للسياسات الهادفة إلى النهوض بالدولة التي أعلنها الوزراء (والرئيس أحمد الشرع) في أثناء إلقاء الكلمات. لقد شكّكت قطاعات واسعة من السوريين طوال الأشهر الأربعة السابقة بوجود الدولة، وأن هيئة تحرير الشام، وقد سيطرت على سورية، تُمكّن لنفسها سلطةً مطلقةً وتتحكّم بالدولة، ولا سيّما أنها وضعت أغلبية كوادرها في قيادة الجيش والقضاء والعدل والطاقة والخارجية والداخلية، وهي الوزارات التي أتت من نصيب الإدارة، أي من نصيب هيئة تحرير الشام، التي وضعت كوادرها في الأشهر السابقة في كل مؤسّسات الدولة وأجهزتها. والآن، هناك قراءة تقول إن الوزراء الجدد من غير المذكورين سيكونون مكبّلي الأيدي بتلك الكوادر. وبالتالي، سيُواجَهون بمختلف التحدّيات المتعلّقة بترهّل مؤسّسات الدولة، ومنذ 2011، وكيفية مواجهة تعليمات وفِكَر وآراء وسلوكيات هذه الكوادر.

يشكّل وزراء الإدارة الكتلة الصلبة في وضع سياسات الوزارة العامّة مع الرئيس. ومن ناحية أخرى، يشكّل النهوض بالدولة والاشتراطات الدولية عاملاً ضاغطاً لتقييد الكتلة الصلبة في فرض سياساتها، وليس من الصواب الثرثرة هنا في أن الإدارة ستكرّر ما كانت تفعله في إدلب، لكنّ خبرات الإدارة ووزرائها محدودة للغاية، ووزير العدل آتٍ من خلفية سلفية وليس من خلفية قانونية، وهذه مشكلة كبرى ستواجه قضاة وزارة العدل. وأيضاً، هناك فشل وزير الدفاع، وتبيّن ذلك في عدم قدرته على ضبط بعض الفصائل التابعة لوزارته، وقد ارتكبت مجازر وانتهاكات طائفية في النصف الأول من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ولم تتوقّف الانتهاكات قبل التاريخ السابق ولا بعده. ويتخوّف السوريون من القرار 53، الذي (عدا عن عدم اختصاص وزارة الخارجية) يقضي بتشكيل “الأمانة العامّة للشؤون السياسية”، والذي نصّ على الاستيلاء على أصول حزب البعث والجبهة الوطنية التقدّمية. وهناك من يؤكّد أنّ السلطة، عبر هذا القرار، في طريقها إلى تأسيس حزب جديد، حزب السلطة، والخشية من أن يكون بديلاً من “البعث” وأيديولوجيته وسياساته ورؤاه، ما يؤسّس ديكتاتوريةً جديدة.

جاءت الحكومة الانتقالية واسعةً، والسياسات التي أعلنها الوزراء من خارج مجموعة الإدارة، وحتى من هذه المجموعة، تؤكّد وعياً عميقاً للمشكلات التي تواجه سورية، التي لم تفصّلها كلماتهم القصيرة، ويُنتظر تطبيقها، فتشمل إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة مراجعة التعيينات العشوائية التي فرضتها الإدارة في الأشهر السابقة، وكانت فوضويةً وفاشلةً، كما كانت سياسات الحكومة المؤقتة كلّها، فجمّدت أعمال الدولة وحتى القطاع الخاص، وساءت أوضاع الشعب أكثر فأكثر. كما يجب التراجع عن أغلبية القرارات التي اعتُمدت، ولا سيّما طرد آلاف العمّال من وظائفهم، وطيّ قرارات التسريح التعسفي.

تقف أمام الحكومة الانتقالية مسألة تعزيز الأمن، وهي المدخل نحو تحقيق سياساتها، وكذلك نحو رفع العقوبات الدولية، وإنشاء علاقات طبيعية مع دول العالم كافّة. إذ يبدأ تعزيز الأمن من المباشرة في تطبيق العدالة الانتقالية، وقد أشار وزير العدل مظهر الويس إلى ذلك، وكان الأفضل ألّا يوجد هذا الرجل في هذا المنصب، لما ذُكر أعلاه. وليس تشكيل لجنتين، للتحقيق وللسلم الأهلي بعد مجازر الساحل، وعلى أهميتهما، ليس المدخل نحو تحقيق العدالة، بل ينبغي البدء بالتحقيق في المجازر منذ 2011. ولكن حسناً، هناك ضرورة الآن للبدء، وسينعكس تأثير ذلك ليس في استقرار الأمن، بل في أوجه النهوض بالدولة، وسيسمح بدوران عجلة الاقتصاد والانفتاح المجتمعي، والكفّ عن تحميل الأقلّية العلوية مجازر الأقلّية الأسدية، وستزول غشاواتٌ كثيرة لدى السوريين، علويين وسُنّة، وسيدفع الأمر نحو تعزيز مبادئ المواطنة، والحقوق والواجبات المتساوية، وتجفيف مناخات التطييف والعقلية الثأرية والانتقامية. وبالتالي، ليست وزارة العدل فقط معنيةً بأن تسارع إلى تطبيق العدالة الانتقالية، بل على الوزراء جميعهم وعي خطورة كلّ تأخير في هذه المهمة، وبأن ذلك سيعرقل تنفيذ سياساتهم، وسيبدون بأعين الشعب لا تطابق أقوالهم أفعالهم.

أيضاً، من التحدّيات المذكورة أعلاه، أن كتلةً وازنةً من السوريين يرون أن السلطة تتّجه لفرض هيمنتها على الدولة، وأن سورية انتقلت من حكم حزب البعث إلى حكم استبدادي جديد، فهل يشكّل القرار “53”، المدخل نحو ذلك؟… نأمل طيّه، والثقة بالشعب السوري، الداعم، رغم النقد كلّه للإدارة، ولخطواتها منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024)، فهناك رغبة شعبية بألّا تفشل الإدارة وحكومتها الجديدة في النهوض بالدولة، وإعطاء السوريين حقوقهم، بعيداً من عقلية الاستئثار والتفرّد والتأسيس لديكتاتورية جديدة.

تراجع التأييد الشعبي للإدارة بعد أحداث الساحل، وبعد الإعلان الدستوري المؤقّت، الذي مَرْكَز السلطات بيد الرئيس أحمد الشرع، وهناك رفض كردي واسع للحكومة الانتقالية، ويقول كثيرون إن السلطة ستفشل لا محالة في النهوض بالدولة، طالما هي لا تُشرك الشعب في المرحلة الانتقالية. انتقد صاحب هذه السطور بعض أوجه الفوضى والسياسات الخاطئة منذ رحيل النظام في مقالات كثيرة سابقة منشورة (في “العربي الجديد”)، ولكنّ الوزارة الجديدة هذه منوّعة، وفيها وزراء أعلنوا سياسات مهمّة للفترة المقبلة. وبالتالي، هذه خطوة مهمّة نحو مغادرة الإدارة احتكارها وتفرّدها واستئثارها، وإن كان القرار 53 مؤشّراً سالباً.

سورية، في أسوأ أحوالها، أمام فرصة كبيرة من خلال حكومتها الانتقالية هذه، ويأمل السوريون بأن يأتي المجلس التشريعي واسعاً وممثّلاً لمختلف المدن السورية، وعلى أساس الكفاءة والنزاهة والمرجعية الوطنية، ولا يكون رفض المحاصصة الطائفية والقومية (وهو اتجاه سليم) بتمكين الطائفة السُّنية. السوريون المتخوّفون، ولألفٍ سببٍ وسبب، من سياسات الإدارة، ولا يأخذون الوعود على محمل الجدّ، هم أنفسهم من ينتظرون الوقائع الملموسة لأعمال الوزارة، وإن أيّ أعمالٍ إيجابية ستترافق بعودة الدعم والتأييد والثقة في الإدارة، فهل تتجه الأخيرة نحو التأسيس لدولة حديثة وفصل السلطات والتبشير بالنظام الديمقراطي، وإعطاء استقلالية كبيرة في أعمال الوزارة الجديدة على أسس وطنية ومواطنية، ومن دون أيّ وصائية وتحكّمٍ من الكتلة الصلبة في الوزارة؟

العربي الجديد

—————————

سوريا: رسائل دمج الوزارات.. فعالية أكثر أم خصخصة ونيو-ليبرالية؟/ منصور حسين

الجمعة 2025/04/04

مع إقرار تشكيلة الحكومة الانتقالية الأولى في العهد الجديد لسوريا، والجدل الذي رافقها، لما حملته من تغييرات لافتة شملت تعديلات في بنيتها وهيكلتها الجديدة، من خلال دمج وزارات حيوية، لم تلقَ الخطوة ترحيب الكثيرين الذين عبروا عن مخاوفهم من تبعاتها على أداء مؤسسات الدولة وتداخل صلاحياتها.

وقبل عيد الفطر، أدت الحكومة الانتقالية اليمين الدستورية في قصر الشعب، وضمت 23 وزيراً، لقيادة المرحلة الانتقالية المتوقع أن تستمر لمدة 5 سنوات، بدلاً من 28 وزيراً في آخر حكومة لعهد نظام الأسد المخلوع.

ووفق الإعلان الدستوري الذي ألغى منصب رئيس الوزراء، فإن الحكومة الانتقالية التي تضم خليطاً اثنياً وعرقياً، تقاد مباشرة من  قبل الرئيس المؤقت أحمد الشرع، على أن يكون هناك أميناً عاماً عليها.

وزارات جديدة

وشهدت الحكومة الجديدة تغييرات بنيوية على مستوى الوزارات، من خلال إحداث حقائب جديدة، مثل وزارة الطوارئ والكوارث التي يقودها مدير منظمة الخوذ البيضاء سابقاً رائد الصالح، إضافة إلى وزارة الشباب والرياضة، كما تم حذف وزراء الدولة، وهم الوزراء أو المستشارين دون حقيبة، وهي مناصب سياسية دون مهام تنفيذية.

وفي المقابل، تمت إعادة هيكلة العديد من الوزارات تحت مظلة واحدة، كما هو الحال مع وزارة الطاقة الجديدة، التي يفترض أن تجمع وزارات النفط والثروة المعدنية، ووزارة الكهرباء، ووزارة الموارد المائية.

لكن أبرز الوزارات التي جرى دمجها، تتمثل بوزارة الصناعة التي عادت وانضوت تحت مظلة وزارة الاقتصاد، ووزارات أخرى لم تدرج ضمن القائمة الوزارية، مثل “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية”، ويعتقد أن توكل مهامها جميعاً لوزارة الاقتصاد والصناعة الجديدة.

دمج اقتصادي يحمل وجهين

ورغم الحذر الواضح في تقييم خطوات الدمج “الجريئة” التي وصفتها السلطات السورية بالضرورة لرفع كفاءة عمل المؤسسات ومستوى الخدمات، وانتظار فاعلية هذه التدابير، إلا أنها لم تخلُ من الانتقاد والتخوف على مسار الوزارات واستقلاليتها، وأثرها على أوضاع السوريين أنفسهم لما يترتب عليها من موجة تسريح جديدة قد تطال مئات الموظفين، وتداخل الأولويات التي تضر بحوامل نهضتها.

ويرى مدير منصة اقتصادي يونس الكريم، أن خطوة دمج الوزارات تحمل وجهين، أحدهما إيجابي قوامه سهولة رسم سياسات اقتصادية متكاملة، وتوفير الجهد والوقت والأموال، وأخر سلبي يعيق عملية النهوض بعمل الوزارة من خلال تبدل أولويات الوزير وفريقه لإنجاح عملية الدمج، إضافة إلى خسارة التنوع في وجهات النظر الاقتصادية، واستقلالية وزارات هامة مثل الصناعة والنفط، وما يحمله من أثر سلبي عليها.

ويقول الكريم لـ”المدن”: “هناك مؤشرات واضحة على أن الدولة تولي أهمية كبيرة للصناعة وتعتمد عليها في عملية تطوير الاقتصاد المحلي خلال المرحلة المقبلة، إضافة إلى زيادة كفاءة وزارة الاقتصاد من خلال جعلها أكثر مرونة وقدرة على اتخاذ القرارات والربط مع الحقائب المرتبطة، فضلاً عن توفير هذه الخطوة للموارد المالية، في ظل وضع الدولة التي تعيش على حافة الانهيار الاقتصادي”.

لكن هذه الميزات تحمل جملة من السلبيات، أخطرها بحسب الكريم، تتمثل بـ”تجريدها من مهام التواصل والتنسيق مع المستثمرين، وسلطتها على المناطق الحرة لحساب هيئة الاستثمار المستقلة التي يديرها حازم الشرع، شقيق الرئيس أحمد الشرع، ما يضعف دور الوزارة”.

نحو دولة ليبرالية

ويضيف الكريم أن “عملية الدمج تعكس التوجه الحكومي نحو النظام النيو-رأسمالي، من خلال الذهاب للخصخصة الغير معلنة، والتخلي عن الموظفين، لتخفيف الأعباء المالية المفروضة عليها، وتبعث برسائل سلبية للسوريين أن دولتهم لم تعد الراعي لمصالحهم على مستوى الخدمات المدعومة، وهو ما بدا جلياً في عملية إحداث وزارة الطاقة”.

ويشير إلى أن “مسلمات تقليص الوزارات، تسريح أعداد كبيرة من الموظفين، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة في البلاد، فضلاً عن الهدر المالي المصاحب لإجراءات الدمج والتسريح، في مرحلة السكان هم بأشد الحاجة للدعم وتوفير فرص العمل، في ظل غياب القطاع الخاص الذي يفترض أن ينوب عن الدولة”.

ويتفهم كثير من السوريين قرار السلطات السورية الجديدة، في ظل الوضع الاقتصادي والتحديات الكبيرة التي تواجهها، إلا أنهم يؤكدون وجود أخطاء تعكس تسرع واضح في الإعلان عن شكل الحكومة، أبرزها محاولات تحجيم وزارات بأدوار مختلفة داخل حقيبة واحدة، مثل الطاقة التي تضم الموارد المائية والنفط، الأمر الذي قد يجبر الرئيس الشرع على مراجعة بنية حكومته، وإعادة فصل الحقائب، لكن بعد أن يدفع كثير من الموظفين ثمن هذه الخطوة.

الدفع مقابل الخدمة

ويتفق الباحث الاقتصادي رضوان الدبس مع الكريم، إذ يعتبر أن التشكيلة الحكومية الحالية ترسم توجهات الجديدة المبنية على مبدأ الاقتصاد الحر، والاستفادة من تحسن العملة المحلية وإلغاء الأتاوات السابقة على السلع، الأمر الذي يخفف من تبعات التضخم المرافق لهذه الخطوة.

ويقول لـ”المدن”: “منذ سقوط نظام الأسد، تبنت الدولة الجديدة شعار الخصخصة وإلغاء الدعم، وقد ظهرت بوادرها من خلال إغلاق صالات البيع التابعة للمؤسسة السورية للتجارة التي تم إلغائها أيضاً، إضافة إلى رفع الدعم عن مختلف أنواع السلع من الخبز والمحروقات والمواد التموينية والغذائية، ما يعني تحمل المواطن الأعباء، وبالتالي ارتفاع معدل إنفاقه بنحو 50 في المئة مقارنة بالوضع الحالي”.

وفي المقابل، يتوقع الدبس، أن تشهد الخدمات الحكومية عامة تحسناً تدريجياً على المدى المنظور، بفضل تراكم الخبرات وتحسن عمل المؤسسات وإلغاء بعض القيود والعقوبات، فضلاً عن توافر مختلف أنواع السلع، لكن بحسب تسعيراتها العالمية، ما يجعل من توازن كفة المواطن الاقتصادية التحدي الأكبر أمام الحكومة الحالية.

ويبلغ الحد الأدنى من حاجة الأسرة المتوسطة في سوريا نحو 5 ملايين ليرة لتغطية احتياجاتها الأساسية، وبالتالي فإن هذا الرقم مرشح للزيادة لنحو ثمانية ملايين ليرة مستقبلاً، مقابل متوسط دخل لا يتجاوز الـ500 ألف ليرة.

المدن

————————–

سوريا الجديدة: وقفُ انحرافٍ خطر

النظام السوري الجديد في سباق مع الزمن. يجب على الحكومة المؤقتة أن توازن بعناية بين التحديات الكثيرة التي تواجهها. وينبغي على الجهات المانحة أن تقدم لها المساعدة التي تحتاجها، خشية فشل هذا المشروع الواعد لبناء الدولة.

ما الجديد؟ تواجه الحكومة السورية المؤقتة مرحلة انتقالية صعبة في بلد دمَّره القمع، والحرب الأهلية والعقوبات. لقد أطلقت عملية سياسية تهدف إلى تمثيل رؤى شرائح واسعة من السكان كجزء من عملية إعادة بناء جذرية للدولة.

ما أهمية ذلك؟ تعيش سوريا في وقت مستقطع؛ فالحكومة المؤقتة لا تملك المال، وقوات الأمن منتشرة على مساحات أوسع من قدرتها على السيطرة، والفقر يتعمق والتمرد يتفاعل في المناطق الهامشية. القوى الخارجية تتدخل، والعقوبات الغربية تحرم القادة مما يحتاجونه لإعادة الإعمار، بينما يعملون على منع التقسيم أو العودة إلى الحرب الأهلية.

ما الذي ينبغي فعله؟ ينبغي على الحكومة المؤقتة أن تسعى إلى فرض الأمن، وإجراء إصلاحات اقتصادية، وإصلاح الحوكمة في الوقت نفسه، مع إدراك الترابط الوثيق بين هذه الإجراءات واعتماد بعضها على بعض. إن تحقيق الأمن للمجتمعات الهشة – ولا سيما مجتمعات العلويين، الذين شكلوا القاعدة السياسية للنظام السابق – أمر جوهري لوقف تصاعد العنف. ينبغي على الجهات المانحة تخفيف حدة العقوبات وتقديم أشكال أخرى من الدعم لمنح العملية الانتقالية فرصة النجاح.

I. لمحة عامة

النظام السوري الجديد في سباق مع الزمن. حلَّ الابتهاج بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد على يد هيئة تحرير الشام وغيرها من مجموعات المتمردين الإسلامية السنية. لكن تسود في البلاد الآن حالة متنامية من انعدام اليقين بشأن الرؤية السياسية للرئيس أحمد الشرع والاعتقاد السائد بنزعته لاحتكار السلطة. لقد سعى إلى تهدئة الأعصاب المتوترة بمحاولة فرض الأمن، وإطلاق عملية انتقالية تهدف ظاهرياً إلى تشكيل حكومة أكثر تمثيلاً. لكنه يواجه تحديات مهولة تتمثل في الدمار الذي خلفته الحرب، ونقص حاد في توفر المال لدفع رواتب الموظفين الحكوميين، ووزارات منهكة، ومؤسسات أمنية غير موحَّدة، وانقسامات طائفية تتفاعل تحت السطح، ومظالم تراكمت على مدى سنوات من الحرب الأهلية، وعقوبات غربية تمنع وصول مساعدات خارجية كبيرة، وتدخُّل إسرائيلي مدمر. مع هذا الانحراف الخطر في مسار سوريا، ينبغي على الجهات الفاعلة الخارجية أن تمنح القيادة الجديدة الدعم الذي تحتاجه للشروع في إعادة بناء البلاد، لأن البديل يمكن أن يكون انهيار الدولة، الذي ستترتب عليه كلفة هائلة بالنسبة للسوريين وللاستقرار الإقليمي.

إن إسقاطهم لنظام مكروه دون قدر كبير من إراقة الدماء خلال الهجوم الأخير، أكسب قادة سوريا الجدد درجة كبيرة من الامتنان في أوساط كثير من السوريين وفي العديد من العواصم الأجنبية، وأكسبهم أيضاً افتراض حسن النية ووقتاً ثميناً لوضع البلاد على مسار جديد. رغم أن كثيراً من السوريين ينظرون إليهم بتشكك، بالنظر إلى أصولهم الجهادية وطموحاتهم غير المعروفة، فإن معظمهم شجعتهم تصريحات الشرع العلنية، التي تتسم بالابتعاد عن الخليط الذي كان يستعمله الأسد من التهديدات والشعارات المبتذلة – وهي العلامات المميزة لحكم قمعي دموي. شعر السوريون بالارتياح من عدم انتشار العنف على نطاق واسع لبعض الوقت بعد سقوط الأسد. لكن، في مطلع آذار/مارس، أظهرت صدامات دموية في اللاذقية، وطرطوس وحماة – جاءت مصحوبة في بعض الأماكن بمجازر بحق المدنيين – أن هناك الكثير مما يبرر الخوف من تجدد العنف، الذي يمكن أن يتخذ بُعداً طائفياً واضحاً، وأن يولِّد الفوضى، وموجات جديدة من النزوح، بل حتى انقسام سوريا إلى كانتونات تحت نفوذ قوى أجنبية.

لا بد للشرع، من جهته، أن يسير بحذر على الخط الفاصل بين الأيديولوجيين الإسلاميين، وبعضهم ينظر شزراً إلى خطابه البراغماتي وتفاعلاته الدبلوماسية مع العالم الأوسع. بالنسبة لإعادة الإعمار، يجب أن تحصل سوريا على المال الذي قد لا تقدمه الجهات المانحة أو تجعله مشروطاً بالحوكمة الرشيدة ودرجة من المشاركة السياسية التعددية. في هذه الأثناء، يجب على الشرع أن يوازن بين التصرف بسرعة لتلبية الاحتياجات الملحَّة للسكان – الغذاء، والكهرباء والأساسيات الأخرى – والتحرك بإيقاع أكثر تأنياً لتطوير عملية سياسية مع أوسع مشاركة ممكنة. كما يجب أن يحافظ على الأمن، وأن يضمن في الوقت نفسه مساءلة أولئك الذين يهاجمون المدنيين، سواء كان المهاجمون من المتمردين أو من المتحالفين مع الدولة. اتضح خطر ارتكاب الميليشيات العاملة تحت لواء قوات الأمن التابعة للدولة فظاعات في سياق محاربتها لعناصر النظام السابق على نحو صارخ في مطلع آذار/مارس. يجب على الشرع أن يتعامل أيضاً مع تدخل اللاعبين الخارجيين، ولا سيما توغل الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا.

يمكن للتعثر على أي من هذه الجبهات أن يُدخل القيادة الجديدة في حلقة مفرغة من محاربة متمردين جدد رداً على انعدام الأمن، وظهور ثغرات في الخدمات الأساسية، والإقصاء السياسي وتصاعد الانتهاكات بحق المدنيين، يتبعها تراجع أي احتمال للدعم الخارجي الكبير لإعادة إعمار البلاد. وقد يؤدي المزيد من إفقار السكان إلى ظهور مظالم جديدة تكون عوامل مسببة لتمرد جديد، يمكن أن يُحدث بدوره ثغرات يدخل منها لاعبون خارجيون ساعون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب الحكومة المؤقتة. في ذلك السيناريو، سيكون من الصعب تخيُّل استمرار وجود دولة سورية مستقرة، أو أي دولة سورية على الإطلاق. ويمكن أن تكون النتيجة تقسيماً طويل الأمد وعودة إلى الحرب الأهلية.

تأمل دمشق بالحصول على رفع جزئي للعقوبات من العواصم الغربية، وأيضاً الحصول على دعم مالي منها ومن دول الخليج العربية؛ إذ تمثل هذه المصادر الرئيسية للمساعدة الفورية والمصدر الأكثر قوة للاستثمار في المستقبل. لكن الحكومات الغربية المتشككة في هيئة تحرير الشام قد تضع شروطاً على تخفيف حدة العقوبات غير مرتبطة بغايتها الأصلية. إذا فرضت الجهات المانحة شروطاً لا يستطيع القادة الجدد تلبيتها، يمكن أن يؤدي ذلك إلى دفع سوريا إلى حالة أعمق من البؤس الاقتصادي بدلاً من تخفيف حدته.

من المؤكد أن الطريق إلى المستقبل سيكون وعراً، لكن من المؤكد أنه سيكون أفضل إذا أظهر قادة البلاد أكبر درجة ممكنة من الشفافية في الحوكمة وإتاحة المجال لإحداث تحسينات في كل شيء، من تعزيز المشاركة الأوسع، إلى ضبط سلوك العناصر غير المنضبطة في قوات الأمن الجديدة. إضافة إلى الاجتماعات التي عقدت أصلاً مع جهات مانحة رئيسية، ينبغي أن يفعلوا كل ما في وسعهم لمنح الحكومات الغربية والخليجية ما يبرر دعمها، خشية أن يفشلوا بسرعة بسبب عدم توفر الموارد. وينبغي على الجهات المانحة أن توضح الشروط المطلوبة لدعمها، الذي ينبغي أن يشمل إعادة بناء البنية التحتية الأساسية، إضافة إلى استثناءات أخرى من العقوبات، إن لم يكن رفعها كلياً. كما ينبغي على الجهات المانحة أن تستعمل القنوات الدبلوماسية لمنع الجهات الفاعلة الخارجية من استغلال هشاشة سوريا لأغراضها الخاصة. إذا امتنع المانحون عن تقديم المساعدات، أو إذا أخَّروها دون مبرر، فإن هذا المشروع النادر لكن الواعد لإعادة بناء الدولة في الشرق الأوسط المضطرب يمكن أن يسقط ويتحول إلى فشل آخر، مع تكاليف هائلة بالنسبة للأمن البشري والإقليمي.

دمشق/بروكسل، 28 آذار/مارس 2025

———————————–

وريث أرض الشام/ سليمان جودة

 3 أبريل 2025 م

أعتقد دائماً في صدق العبارة التي أطلقها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فقال: «أظهروا لنا أحسن ما عندكم، والله أعلم بالسرائر». ولو شاء أحد أن يختار عنواناً للحكومة السورية الجديدة التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع قبل عيد الفطر بيومين، فلن يجد أفضل من هذه العبارة، لأنها بالنسبة إلى الحكومة بمثابة الشيء الذي يقال عنه إنه يوافق واقع الحال.

وعندما قال الرئيس الشرع إنه «سعى قدر المستطاع لاختيار الأكفأ»، وإنه «فضّل المشاركة على المحاصصة في الاختيار»، فإنني أجده صادقاً فيما قال، وبالذات فيما يخص تفضيل المشاركة على المحاصصة في تشكيل الحكومة. ولا أعرف ما إذا كان اعتراض الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي البلاد على تشكيلة الحكومة، سوف يعطل الاتفاق الذي وقَّعته «قوات سوريا الديمقراطية» مع الشرع، أم أن هذا شيء وذاك شيء آخر؟

إنك إذا تطلعت إلى العراق فلن تحتاج إلى جهد كبير لترى عواقب المحاصصة، وإذا تطلعت إلى لبنان فلن تحتاج إلى جهد كبير أيضاً لترى عواقب المحاصصة نفسها، وبالتالي فإن محاولة الإفلات من هذه العواقب في تشكيلة الحكومة السورية الجديدة أمر يجب أن يُحسب للإدارة في دمشق، كما يجب أن نظل نحسب ذلك في ميزان هذه الحكومة الآن على الأقل، ثم إلى أن نرى أثر التجربة في حياة الناس هناك.

كَمْ يتمنى المرء لو أن رئيس الوزراء في بغداد يجري اختياره على أساس عراقيّته وحدها، وليس على أي أساس آخر يتصل بانتمائه إلى طائفة بعينها. وكَمْ يتمنى المرء لو أن هذا هو الحاصل في منصب رئيس البرلمان، وكذلك في موقع رئيس الدولة. كَمْ هو ثقيل على الأُذن أن تسمع كلمة سُني، أو شيعي، أو كردي، وأنت تستعرض الأسماء التي تشغل هذه المواقع الثلاثة. فعراقيّة المواطن في بلاد الرافدين أشمل وأجمل، وهي تساوي بين الكل إذا تعلق الأمر بما على كل مواطن من واجبات أو بما له من حقوق، ولا شك في أن المواطنة بصفتها مبدأ تبقى مظلة كافية لأن تمتد فوق الجميع، فتكون كأنها السقف الذي يحمي ويُظلّل ويحتوي.

وكَمْ يتمنى المرء في لبنان ما يتمناه في العراق، ولكن المحاصصة المقيتة كانت ولا تزال تُفسد على الأشقاء في البلدين حياتهم، وكانت ولا تزال تُفرِّق ولا تجمع. فالمشاركة هي الصيغة الأفضل، لأنها لا تتطلع في بيانات البطاقة الشخصية لكل مواطن إلا إلى جنسيته، وما عداها لا يهم ولا يجب أن يهم.

من علامات المشاركة التي قصدها الشرع وهو يتحدث عن حكومته الجديدة، أن فيها وزيراً كردياً للتعليم، وأن فيها وزيرة مسيحية للشؤون الاجتماعية، وأن فيها وزيراً علوياً للنقل، وأن فيها وزيراً درزياً للزراعة.

هذه صيغة أفضل بالتأكيد، لأن المعنى أن الأكراد والمسيحيين والعلويين والدروز موجودون في الحكومة، وأن أساس الوجود في الحالات الأربع هو المشاركة لا المحاصصة. ولكن الشيء المؤسف أن الإدارة الذاتية الكردية اعترضت، وأنها وصلت في اعتراضها إلى حد قولها إنها ليست معنية بتنفيذ قرارات هذه الحكومة.

هذا شيء مؤسف لأن دمشق تتكلم عن المشاركة، بينما الإدارة الذاتية الكردية تتكلم عن المحاصصة، التي لم تظهر في أي بلد إلا أفسدت الحياة فيه، لأن الانتماء في الحالة الثانية إنما هو إلى الطائفة، لا إلى الوطن بكل ما يعنيه من رحابة، ومن امتداد، ومن اتساع.

ومما قاله الشرع وهو يتعرض للانتقادات التي طالت حكومته، إن إرضاء الكل ليس ممكناً، وإنه حاول الإرضاء ما استطاع. وهذا صحيح إذا تطلعنا إلى ما يقوله بمنظار عبارة الخليفة الراشد الثاني، ولكن لأن الشرع يجلس في عاصمة الأمويين، فإن «شعرة معاوية» الشهيرة يجب ألا تفارق يديه.

«شعرة معاوية» لا بد أن تكون حاضرة أمام الشرع في قصر الشعب طول الوقت. فالذين يتربصون بسوريا كثيرون، والذين خسروا نفوذهم فيها لا يسلِّمون بالخسارة، والذين استثمروا فيها على مدى سنين يصعب عليهم أن يكون استثمارهم بغير عائد، والسوريون الذين فقدوا كل شيء أيام نظام الأسد يريدون الآن كل شيء أيضاً.

كل سوري – كردي مدعوٌّ إلى أن يترفق بسوريا لأنها وطنه الأم، وكذلك كل مسيحي وعلوي ودرزي، لأن حضن الأم أوسع من حاضنة الطائفة، ولأن الروح المعنوية في «شعرة معاوية» هي التي لا بد أن تكون بوصلة لدى الطرفين. فإذا شدها الشرع اليوم فليس أمام الطرف الثاني إلا أن يُرخيها، وإذا أرخاها الطرف الثاني فإن دمشق سوف يكون عليها أن تشدها، ولا يوجد خيار آخر إلا أن تنقطع الشعرة، لا قدَّر الله.

الشرق الأوسط

—————————–

 ألمانيا: الحكومة السورية الجديدة أكثر تمثيلاً وتعكس كفاءة في التعيينات

2025.04.03

رحّبت الحكومة الألمانية بتشكيل الحكومة السورية الجديدة، مشيرة إلى أن التعيينات الأخيرة تعكس تطوراً في نهج التشكيل مقارنة بالحكومة السابقة.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية كاثرين ديشاور، في تصريح رسمي، إن هناك انطباعاً بأن التعيينات في الحكومة الجديدة تمّت على أساس الكفاءة والخبرة.

وأكدت أن التشكيلة الجديدة تُعد “أكثر تمثيلاً” من من الحكومة السابقة.

الإعلان عن الحكومة السورية الجديدة

ومساء السبت، جرى في قصر الشعب بالعاصمة دمشق الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة لتحل محل حكومة تصريف الأعمال.

وتضم الحكومة الجديدة 23 وزيراً، بينهم سيدة، و5 وزراء من الحكومة الانتقالية التي تشكلت في 10 من كانون الأول 2024 لتسيير أمور البلاد عقب الإطاحة بنظام الأسد.

ترحيب عربي ودولي واسع بالحكومة السورية الجديدة

وقوبل إعلان تشكيل الحكومة السورية الجديدة بترحيب واسع على المستويين العربي والدولي، حيث أعربت عدة دول ومنظمات عن دعمها للتشكيلة الجديدة، مؤكدة أهمية الاستجابة لتطلعات الشعب السوري وتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد.

من جانبها، أعربت وزارة الخارجية والمغتربين في سوريا عن شكرها وتقديرها العميق للدول والمنظمات التي أبدت دعمها، مؤكدة أن هذا الموقف يعكس حرص المجتمع الدولي على دعم جهود سوريا في بناء مستقبلها واستعادة الاستقرار.

———————————

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى