محمد الحاج علي: لا يمكن بناء جيش من دون تحديد العدو

يعرب العيسى
29 ابريل 2025
يجب أن نكون مع السلطة القائمة كي لا نذهب إلى الفوضى
ليس لدينا لا الوقت ولا الإمكانية لأي قرار خاطئ
في عملية حسّاسة مثل بناء المؤسّسة العسكرية ستكون تكلفة الخطأ والتصحيح عالية جداً
ربما يكون اللواء محمد الحاج علي من النادرين في تاريخ الجيش السوري الذين تعاملوا مع الشؤون العسكرية باعتبارها علماً، تعلّم نظرياته وعلّمها، وحتى العام 2012 (تاريخ انشقاقه وانضمامه إلى الشعب السوري)، كان يشغل إدارة الأكاديمية العسكرية التي تمنح شهادات عليا في العلوم العسكرية. لذلك، يتعلق هذا الحوار معه برؤيته لبناء المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وقراءته لمستقبل سورية وما يواجهها من تحدّيات.
لنبدأ من المشهد السوري العام، أين أنت الآن؟ وكيف ترى المشهد؟ وما هو موقفك منه؟
من حيث المبدأ، أقول بوضوح: يجب أن نكون مع السلطة القائمة كي لا نذهب إلى الفوضى. وفق كل المعطيات وكل تفاصيل المشهد السوري، ليس لدينا بديل عنها، وأي تضحية بهذه السلطة ستفتح علينا أبواباً نحن في غنىً عنها.
لدينا ملاحظات كثيرة على أدائها، هذا صحيح، ويجب أن نقولها من منطلق خوفنا على البلد، وخوفنا عليهم، وليس عداءً لهم. هناك خلل في الإدارة التنفيذية والميدانية في قطاعاتٍ كثيرة. طروحات القيادة السياسية جيدة، وتشير إلى اتجاه وطني، لكن هناك إشكالات كبيرة في التنفيذ، أولها فقدان الخبرة في إدارة المؤسسات. ينتظر المواطن السوري الكثير، ويحتاج لكل شيء، وما زال العمل الحكومي يسير ببطء. فلم تُفعَّل مؤسّسات الدولة بالشكل الكافي، وحتى تتحقق مطالب الناس، يجب إقلاع المؤسّسات بالطاقة القصوى، من القضاء والاقتصاد إلى التعليم والصحة والجيش.
سيلتمس السوريون لهم العذر فترة معينة، لكن هذه الفترة يجب ألا تطول. وعلى الأقل، يجب وضع حد زمني لكل عملية، وإعلانه بوضوح وشفافية. والنقطة الثانية أن الحكومة التي جرى تشكيلها جيدة، وفيها كفاءات تليق بطموح السوريين، ولكن هذا لا يكفي، إذ يجب العمل فوراً على تشكيل المؤسّسات التي تتبع للوزارات بالطريقة نفسها، واختيار الأكفاء وأصحاب الخبرة في كل وزارة لإدارة المؤسسات والإدارات.
ولكن رأياً يقول إن أصحاب الخبرة في بعض أو كثير من مفاصل الدولة عملوا مع النظام السابق.
المجرمون الحقيقيون في سورية بضع مئات، وربما بضعة آلاف، هؤلاء من يجب استبعادهم ومحاسبتهم، أما من تبقوا فأبناء البلد، وسورية تحتاجهم، في كل القطاعات والمفاصل في الدولة والمؤسسات. وأتمنّى أن يكون عفو عام واضح وصريح يستثني المجرمين الذين تورّطوا بالدم السوري، وبغير ذلك، لن تهدأ نفوس الناس، ولن نستطيع أن نبني بلدنا من جديد.
تقول إن مصلحتنا الوطنية أن نحصّن هذه الإدارة ونكون معها، وفي الوقت نفسه، تقول إننا يجب أن نقول ملاحظاتنا وننقدها، ألا ترى تناقضاً بين الأمرين؟
النقد وتوجيه الملاحظات هما، أولاً، تحصين لهذه الإدارة وليس إضعافاً لها. دفع السوريون أثماناً كبيرة جداً حتى يأخذوا حرّيتهم، وحقهم الآن أن يستخدموا كل الوسائل السلمية ليضغطوا على القيادة الحالية للإسراع في تنفيذ متطلّبات الشعب، والبدء ببناء المؤسّسات. عبر استدعاء الأكثر كفاءة في كل قطاع.
أنت من الأكثر كفاءة في المؤسسة العسكرية، هل جرى استدعاؤك؟
تجاوز عمري السبعين، ولم أعد مناسباً للعمل العسكري.
إذا أعفيناك من اختبار العشرين عدّة على الثابت، أو سباق الضاحية، ألا يمكننا الاستفادة من خبرتك استشارياً؟
إذا استشارني أحد فلن أقصّر، وسأقدّم كل ما استطيع.
هل استشارك أحد؟
لا. لم يتصل بي أحد.
لا أريد ان أخمّن، لماذا تعتقد أنهم لم يتصلوا بك؟
إذا أردتُ أن أكون صريحاً إلى الحد الأقصى، عليّ التذكير بأن الجيش في سورية، منذ الاستقلال، كان مؤسّسة حسّاسة جداً، وسورية كان اسمُها أم الانقلابات. وأولى مهام الإدارة حالياً ضبط الأمن في البلد. وهذه تستدعي الحاجة للثقة المطلقة بالقائمين على الجيش، وأنا أعرف عن هذه الإدارة أنهم لا يثقون تماماً بكل الضبّاط المنشقّين. ولنعترف أيضاً بأن كثيرين من الضباط المنشقّين اتخذوا هذا القرار لأسباب وطنية، ولكن بعضاً منهم انشقّ لظروف الخدمة، او لأسباب أخرى، كما أنهم ليسوا جميعاً على الدرجة نفسها من الكفاءة.
تنظيم مؤسسة بحجم القوات المسلحة مسألة غاية في التعقيد وغاية في الصعوبة، خصوصاً أن هذه العملية تحتاج القطْع مع الماضي وبناء شيء جديد. وهذا يحتاج إلى بنّاء حرفي، ومناخ سياسي واقتصادي واجتماعي وقانوني. ومسؤولية السلطة السياسية توفيره.
هل لديك اقتراح لكيفية بناء القوات المسلحة؟
لا يمكن التفكير ببناء القوات المسلحة قبل تحديد أولوياتٍ كثيرة، وهي أولويات تحدّدها القيادة السياسية للبلد. وأول هذه الأولويات، من هو العدو؟ من هم الأعداء المباشرون؟ ومن هم الأعداء المستقبليون؟ من هم الأعداء المفترضون؟ ليس بإمكاننا بناء جيش من دون معرفة العدو، فعلى هذا الجواب يتحدّد الهيكل والتسليح والعقيدة وأماكن الانتشار والعدد والعدّة. كما يجب ان أعرف حجم الموارد المتاحة بشرياً واقتصادياً، فسورية الآن بلدٌ باقتصاد ضعيف، وليس بإمكان الدولة تخصيص موارد كبيرة للجيش.
هل تعتقد أن القائمين على بناء الجيش يأخذون بالاعتبار هذه الأسئلة الحسّاسة؟
هذا السؤال يوجه لهم، وأنا لم أتواصل مع أحد منهم، ولا أعرف ماذا يفعلون، أتمنّى أنهم في الطريق الصحيح، ولكني لستُ متأكداً من ذلك. ما أنا متأكّدٌ منه أنه ليس لدينا لا الوقت ولا الإمكانية لأي قرار خاطئ.
ما تقييمك استراتيجياً لما تفعله إسرائيل من خرق اتفاقية الهدنة 1974، والاعتداء على القرى الأمامية في القنيطرة ودرعا؟ وما علينا أن نفعل بصفتنا سوريين؟
نمرّ، نحن السوريون، اليوم، في لحظة ضعف وطني، والخيارات لدينا قليلة والإمكانات محدودة، والعدو الإسرائيلي استغلّ لحظة الضعف، فهذه طبيعته. ولا يمكن وفق أي اعتبار ترك الجيش الإسرائيلي ليفعل ما يريد في أراضينا، ولا يمكن أن نعطيه أراضينا، لا حرباً ولا سلماً، ولكن المواجهة المباشرة ستكون مكلفة جداً، وليست لدينا الإمكانية الآن، ولا حتى في المدى المنظور، على خوض حربٍ مباشرةٍ مع إسرائيل. حتى لو كنّا من أنصار إنهاء هذا الصراع، والوصول إلى اتفاق سلام، فيجب أن يكون مبنيّاً على حفظ الحقوق والأرض. وبيدنا الآن أن ننظّم الناس الموجودة في القرى، ليكونوا بمثابة جيش شعبي يواجه قوات الاحتلال في مناطقهم وقراهم. وبيدنا اللجوء للأدوات السياسية، هناك دول عربية وإقليمية تناصرنا، وتدعم حقنا بأراضينا، ويمكن أن تمارس ضغوطاً سياسية،ووساطات دولية لإخراج إسرائيل من أراضينا، وربما الوصول إلى حل سياسي مستدام لهذا الصراع.
احتلّت إسرائيل قسماً كبيراً من جبل الشيخ، ودخلت إلى عمق 14 كيلومتر في المنطقة العازلة، وخرقت اتفاق الهدنة، وبدأت ببناء “الدشم”، ما يوحي بتخطيطها للاستقرار. هذا صحيح، ولكن الصحيح، أيضاً، أنه من الناحية العسكرية ليست لدينا أي إمكانات لا حالياً ولا في المستقبل القريب لمواجهتها، ولا يجوز أن نسمح لأصحاب الرؤوس الحامية أن يجرّونا إلى دفع أثمان كبيرة بشرياً ومادياً.
بصفتك شخصاً أمضى 40 عاماً في الجيش السوري، ماذا شعرت وانت ترى البدلة العسكرية مرمية على أطراف الطرقات في ليلة هروب بشّار الأسد، والطيران الإسرائيلي يدمر ما تبقى من مقدّرات سورية العسكرية؟
تدمير إسرائيل قدراتنا العسكرية حدثٌ مؤلم لأي سوري لديه حسّ وطني. خصوصاً أننا لا نمتلك القدرة لمنع هذا التدمير. وهذا الحدث كان منغصّاً لفرحتين في ذلك اليوم. فرحة سقوط النظام وفرحة أن ذلك حدث من دون دم. وبالحد الأدنى من الخسائر في المدنيين.
أما موضوع البدلة العسكرية، فلم يؤثر بي كثيراً، لأني رأيتها مرميةً منذ عام 1981. رأيتها مرميّةً بسبب الفساد والمحسوبيات. منذ كنت ملازماً أول ورأيت الضباط الفاسدين و”الزعران” يأتون إلى دورات الركن بموكب من عدة سيارات وعشرات عناصر المرافقة، والضبّاط الوطنيين والمثقفين بوسائل النقل الجماعي، منذ رأيت التدريب الوهمي، والمشاريع الملفّقة، وابتزاز العساكر، وغياب الانضباط، والفساد الوقح والفاجر، سرقة طعام العساكر، ومخصّصات صيانة العتاد، ومحروقات المدرعات. منذ ذلك الوقت، كان واضحاً أن هذا الجيش ذاهبٌ إلى لحظة حتمية سترمى فيه بدلته ورتبه على أطراف الطريق. لذلك لم أحزن، لأنها كانت نتيجة طبيعية لعملية تدمير ممنهجة لهذا الجيش ومقدّراته. ثم انتهى هذا الجيش تماماً حين بدأ يقتل شعبه في الأيام الأولى لثورة العام 2011.
ذكرتَ أنه كان هناك ضباط وطنيون وشرفاء، هل بقي منهم أحد حتى ليلة 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024؟
ربما بقي منهم كثيرون، لكن هؤلاء لا يمكن العثور عليهم، لأنهم لا يسلّمون أي مناصب، ولأنهم سيضيعون بوصفهم أشخاصاً ضمن نموذج فاسد بكامله، فمهما كانت درجة كفاءتك ووطنيتك ومعرفتك العلمية، لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا كنتَ ضمن منظومة مخرّبة وفاسدة، فالجيش كان سلسلة متوالية من الفساد، فالضابط النزيه سيتعرّض لضغوطٍ من الرتبة الأعلى منه، تضطرّه ليمارس الأسلوب نفسه مع الرتبة الأدنى. وهذه كانت طريقة لتحصيل الإتاوات حتى أعلى مستوى.
أذكر حديثاً لك قبل سنوات في ورشة بحثية، تحدّثت يومها عن هيكلية الجيش السوري القائم، وقلتَ إنها ممتازة، والمشكلة في العقيدة وفي القائمين عليه، وفي تفشّي الفساد فيه، هل ما زلت على رايك؟ وهل ترى أنه يمكن الاستفادة من تلك الهيكلية في بناء الجيش الجديد؟
بُنيت هيكلية الجيش السوري بعد الاستقلال مباشرة، وعلى أسس صحيحة علمياً ووطنياً، لكن المشكلة لم تكن يوماً في التنظيم، المشكلة كانت دائماً في الأداء. هناك إدارات وهيئات وفروع تتبع للقيادة العامة، وهناك تشكيلات، ومؤسّسات، ولكل منها وظيفة. ومهمّة قيادة الجيش التنسيق بينها. بالنسبة للهيكلية السابقة والاستفادة منها، هذا طبيعي، وضروري، فالجيش سيحتاج إدارة استطلاع، وإدارة مدفعية، وإدارة دفاع جوي، وفرع تنظيم ومالية وهيئة إمداد، وخصوصاً هيئة إمداد وتموين، لأن الجيوش تزحف على بطونها، هذه مسائل بديهيّة. ولكن بغض النظر عن عدد الإدارات ومهامّها، السؤال الأساسي: من يشغل هذه الإدارات؟ ما هي مؤهلاته؟ هل يستطيع أن يستثمر طاقات البشر والأسلحة بالشكل الصحيح؟
لنفرض مثلاً أنني كلفت بقيادة تشكيل عسكري فيه 2000 – 3000 مقاتل، أول ما أفعله هو التخطيط لكيفية تدريبهم، وأفضل الطرق لاستثمار طاقاتهم، وتحضيرهم بدنياً وعقائدياً لخوض المعركة التي جُهزوا ليخوضوها، أدرّبهم على كيفية صون أرواحهم أولاً، وتنفيذ مهمتهم على الوجه الأمثل، وأن أزوّدهم بكل المهارات التي يحتاجونها لتنفيذ ذلك، وفق العقيدة الوطنية التي أقسموا عليها… إذاً، كان تنظيمنا جيداً من حيث الشكل، لكن من حيث الالتزام والعمل الصحيح، من المؤتمنين على هذه المؤسسة، فالنتائج تخبرنا بالجواب.
ما الذي يمكن فعله لتسريع إعادة بناء الجيش على أسس وطنية؟
ما أسمعه أن القائمين على بناء الجيش يبذلون كل جهدهم، ويعملون 16 ساعة في اليوم، لكني لا أعرف ما يفعلون بالضبط، وفي أي طريق يسيرون، ولستُ متأكداً أنهم في الاتجاه الصحيح. لكننا الآن ليس لدينا خيار التجريب والخطأ، الاجتهاد مطلوب، والمهمّة صعبة، ولذلك لا مجال للاجتهاد الخاطئ، ففي عملية حسّاسة مثل بناء المؤسّسة العسكرية، ستكون تكلفة الخطأ والتصحيح عالية جداً. ويجب أن يكون البناء سليماً منذ الخطوة الأولى. فلا مجال لنعيد البناء مرّة ومرّتين وثلاثة. هذا خطٌّ أحمر على المستوى الوطني. لأن الزمن ليس لصالحنا، والواقع الاقتصادي صعب، والإمكانات غير متوفّرة، وهدرها في غير مكانها، سواء الموارد أو الوقت، كارثة وطنية ستجري آثارها علينا جميعاً. وهذه القدرات المحدودة أمانة في أعناق القائمين على الأمر، وهي ملك للشعب، ولا يجوز اللعب بها.
بعد قرابة خمسة أشهر على سقوط النظام، ومما تراه من مؤشّرات، هل ترى أن سورية تسير في الطريق الصحيح؟
المقياس الوحيد لأداء أي سلطة رضا الناس. وبصراحة، أرى ارتياحاً كبيراً لدى معظم الناس، وشعوراً عامّاً بزوال عبء ثقيل عن صدورهم، وشخصياً لم أشاهد أو أتعرّض لأي موقف مزعج، ولكن هذا لا يكفي للحكم والتقييم. فنحن نرى من الدولة شرطي المرور، وعسكري الحاجز، وخدمات المؤسّسات، وما نراه مبشّر، ولكنّه يحتاج للتنظيم، والإسراع بمعالجة الفوضى، سواء من حيث عدم الالتزام بالقانون، أو من حيث إعادة تفعيل المؤسّسات القانونية والخدمية. أما من الداخل، فنحن لا نعرف ما يجري في خفايا السلطة، وبالتالي، لا نستطيع أن نحكم على المستقبل بشكل صحيح.
العربي الجديد