العدالة الانتقاليةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

العدالة الانتقالية تحديث 01 ايار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

——————————-

من العدالة الانتقالية للغفران الصعب: بول ريكور في سورية/ نبيل سليمان

1 مايو 2025

ما إن أشرقت في سورية شمس الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 حتى بدأت إطلالات قائد قوات ردع العدوان أبو محمد الجولاني الذي سيستعيد اسمه الأصلي أحمد الشرع. وفي تلك الإطلالات المبكرة، قبل أن يصير رئيس الجمهورية بأسابيع، أعلن مرة بعد مرة أنْ لا ثأر ولا انتقام، و أنْ لا قصاص طائفيًا. وقد قال في لقاء تلفزيوني مع قناة العربية: “أما إذا ذهبنا لنبحث عن حق كل ما حصل خلال أربعة عشر عامًا، فهذا سيكرس حالة الانتقام والانتقام المضاد”. وقال الرئيس قبل أن يصبح رئيسًا: “نحن غلّبنا حالة الرحمة”. وقال: “في المعارك الكبرى يتم التنازل عن الانتقام إلا في حالات معينة”. ومن هذه الحالات على سبيل المثال من ألقوا البراميل وارتكبوا المجازر. ولا أنسى هذه القولة الفيصل: “بناء سورية أعظم حق يقدم للمتضررين”.

من بعد، وعلى الرغم من وقوع انتهاكات ذات طابع طائفي في الساحل وفي حمص أيضًا كان الاتجاه الغالب هو ما ترسمه الأقوال السابقة للشرع. وفي الآن نفسه كان حديث العدالة الانتقالية يأتي متلجلجًا، حتى في مؤتمر الحوار الوطني، وصولًا إلى الإعلان الدستوري، حيث كتبت في هذا المقام في (3-3-2025) عن المادة الخاصة بالعدالة الانتقالية: “ماذا لو تساءل المرء عن إغناء هذه المادة بآلية اختيارية للتسامح والمصالحة، كما كان في جنوب أفريقيا مثلًا؟”.

أسرع الصقور الذين تكاثروا خلال الشهور الأربعة الماضية، وبخاصة بعد الجرائم الطائفية الوحشية التي ارتكبت في الساحل السوري، إلى تسعير الخطاب الطائفي وخطاب الانتقام والثأر والقصاص، على النقيض من كل ما افتتح به أحمد الشرع العهد الجديد.

وأسرع سياسي هنا وروائي هناك وإعلامي هنا ومثقفة هناك إلى اللعثمة والتأتأة في إدانة الجرائم والمجازر، بينما ترجّع صوت معاذ الخطيب: “لن تستقر سورية حتى يعيش الإنسان آمنًا، ويكون دم البريء حرامًا مهما كان دينه وطائفته وانتماؤه، وحتى يكون هناك عدل لا ثأر، وقانون لا همجية، ودولة لا غابة”. وتحدث برهان غليون عن تعويض الضحايا من مذاهب مختلفة، وعن واجب الاعتذار للضحايا. كما شدّد في حوار مع جريدة النهار اللبنانية في 24-3-2025 على أن “تطبيق العدالة الانتقالية واجب على السلطة السياسية كائنة من تكون. فلا ينبغي أن نتجاهل أن الناس بشر، وأن روح الانتقام والثأر للملايين من ضحايا النظام القديم الذي امتهن الجريمة في تعامله مع الشعب السوري لإجباره على الاستسلام، موجودة وحية عند جمهور كبير من الناس. وعندما تغيب العدالة القانونية وتحتقن الأجواء، لا يبقى بديل لتفريغها سوى قانون الثأر البدائي، أي خرق القانون”.

العدالة الانتقالية

في الحد القانوني للعدالة الانتقالية أنها باقة من الإجراءات القضائية والسياسية في آن معًا، غايتها تحقيق المصالحة الوطنية، وسُبُلها: التحقيق في جرائم النظام السابق، وتحديد من كان مسؤولًا عن انتهاك حقوق الإنسان، ومعاقبتهم، وكذلك تعويض الضحايا، والعمل من أجل المصالحات الجماعية والفردية. وهكذا يتفرع حديث العدالة الانتقالية إلى شُعَبٍ عديدة، منها تشكيل هيئات مجتمعية، ليست قضائية، لكنها تقوم أيضًا بالتحقيق، وتصدر توصيات. ومن ذلك الحديث أيضا جبر الضرر والتعويض المالي، والتعويض المعنوي بالاعتذار الرسمي وبتخليد ذكرى الضحايا. وثمة من يرسل الترسيمة التالية للعدالة الانتقالية:

المصالحة – المحاسبة – المصالحة.

في الحالة السورية يبدو أنه لا تزال المحاسبة تغلب على حديث العدالة الانتقالية، بينما تغيب المصالحة عن هذا الحديث. وإذا كان ما تمّ من العزل السياسي ومن التطهير يمتّ بنسبٍ ما إلى العدالة الانتقالية، وإذا كان تقصّي الحقائق في مجازر الساحل، وكذلك العمل من أجل السلم الأهلي، يتصل بالعدالة الانتقالية، فنحن لمّا نطرق بابها بعد، بل إننا لا زلنا بعيدين عن الباب. ألا يرجّح ذلك تمديد عمل لجنة تقصي الحقائق ثلاثة أشهر بعد شهرها الأول، ونسيانها ما وعدت به عند تشکیلها من تقديم إحاطة أسبوعية؟ وإذا كان تقصّي الحقائق فيما ذهب ضحيته مئات من عناصر الأمن العام وألفين أو أكثر من المدنيين، في الساحل، يقتضي أربعة أشهر، إذ لم تُمدد من جديد، فكم ستستغرق العدالة الانتقالية في مئات آلاف الضحايا – بل أكثر – خلال أربع عشرة سنة؟!

يختم بول ريكور كتابه “الذاكرة، التاريخ، النسيان ” تحت عنوان “الغفران الصعب” وفي خاتمته يفلسف الغفران بما يتجاوز النسيان

ربما علينا أن نتذكر ما كان في تونس عام 2011 بعد سقوط نظام زین العابدين بن علي، حيث قامت “هيئة الحقيقة والكرامة”، وعملت لجانها الفرعية ستة أشهر قبل تقديم مسودة مشروع “قانون العدالة الانتقالية”، حيث غدت مؤسسات المجتمع المدني ورشات عمل للتعريف بالعدالة الانتقالية، وتنظيفها من شبهة الانتقام. كما قادت وزارة حقوق الإنسان حوارًا وطنيًا وحملة إعلامية للتعريف بالعدالة الانتقالية. فأين سورية من أقل القليل من ذلك؟

ثمة من يتحدث عن العدالة الانتقامية -عبد الحسين شعبان من العراق- ويعرّفها بعدالة المنتصر، والمتمثلة بالقصاص من أركان النظام المخلوع خارج نطاق القانون، وكذلك بالعقاب السياسي الجماعي. وقريبة من ذلك هي العدالة الانتقائية المتمثلة بالعقاب لدواع دينية أو طائفية أو مصلحية، كأن يشتري مجرم سلامته بالمال والمعلومات، مثلًا.

يتواتر حضور أنموذج رواندا في الحديث السوري عن العدالة الانتقالية، حيث بلغ عدد المتهمين 120000. ويحضرني من ذلك ما سمّى القتلة به ضحاياهم: “الصراصير”. هل تذكرون حديث المخلوع بشار الأسد عن “الجراثيم” وتطهير الجسم، أي الإبادة؟ لماذا لا نسمّي: بشار الرواندي؟ كما يتواتر حضور أنموذج جنوب أفريقيا، ومنه نتذكر لجان العدالة الانتقالية: لجنة الانتهاكات- لجنة جبر الضرر- لجنة العفو.

وتتعدد النماذج، لنؤوب إلى سورية، حيث “تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة الأمل الوحيدة، إذ لا يطلب من الضحايا أن ينسوا، ولا من الجناة أن يختفوا، بل أن يعترفوا” كما كتب زيدون الزعبي في ملحق سورية الجديدة (8-4-2025). ومما كتب نقرأ أن العدالة الانتقالية “ليست مجرد قانون يُسَنّ، أو محكمة تُقام ، بل هي نداء إنساني عميق لاستعادة التوازن بين الذاكرة والنسيان، بين العقاب والمغفرة، بين الانتقام والمصالحة”.

مع آخرين، أذهب إلى أن ما جرى من حرق وإتلاف الملفات والسجون وفروع الأمن ومقرات الشرطة، أضرّ بالعدالة الانتقالية. كما أذهب إلى أن بيان مؤتمر الحوار الوطني جاء فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية أوضح وأشمل وأدقّ مما جاء في المادة 49 من الإعلان الدستوري، حيث قرن البيان بين المحاسبة واستعادة الحقوق… و”ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين جميع مكونات الشعب السوري، ونبذ كافة أشكال العنف والتحريض والانتقام بما يعزز الاستقرار المجتمعي والسلم الأهلي”.

بول ريكور في سورية: الغفران الصعب

يصف جورج زيناتي كتاب أستاذه بول ريكور “الذاكرة، التاريخ، النسيان” بأنه آخر كتاب فلسفي هام صدر في القرن العشرين. وأحسب أن استدعاء هذا الكتاب الضخم الذي ترجمه زيناتي (700 صفحة) لما هو عليه حديث العدالة الانتقالية في سورية، أمر بالغ الضرورة والإفادة.

يميز بول ريكور بين الذاكرة المعاقة جرّاء صدمة، والذاكرة المتلاعب بها، وهي الذاكرة التي يضللها الكذب وقلب الحقائق. أما النوع الأخير من الذاكرة فهي الذاكرة الإلزامية التي تهيمن على مشاعرنا وأفكارنا. وهذه الذواكر الثلاث ليست معزولة عن بعضها. وقد تتداخل، فالذاكرة بحسب ريكور ليست خزانة ولا تخزينًا.

يتحدث بول ريكور عن سياسة الذاكرة العادلة التي تقوم على الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات المختلفة، ومن غير هذا الاعتراف المتبادل لا تقوم المصالحة ولا التعايش السلمي. وهنا يأتي ما يسميه ريكور بالذاكرة السردية التي ليست سجلًّا لما كان وانقضى، بل هي تشكيلنا للماضي، وبالذاكرة السردية تتعدد سرديات الماضي.

بتشغيل ما أرسل بول ريكور عن الذاكرة السردية في أحوالنا السورية والعربية، يتبين كم هي مهمة كتابة الرواية عن سورية منذ عام 2011، أو عن الحرب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975 -أو عن الحالات المماثلة عربيًا- وفي تاريخ سورية ولبنان. أي كم هي الروايات مهمة لتاريخية العدالة الانتقالية، ولمستقبل بلد مثل سورية ما بعد 8-12-2024. وحسبي هنا أن أشير إلى خطورة الروايات التي تنفخ في الطائفية أو الانتقام على السلم الأهلي وعلى المستقبل.

من العوامل التي تؤدي إلى تهشيش (من هشاشة) الذاكرة، يعدّد ريكور “الزمن”، والانتقائية، والصراع على الذاكرة المتمثل بمحاولة كل طرف فرض روايته عن الماضي.

ومن الأسئلة الهامة التي يطلقها هنا ريكور ما يتعلق بدقة التذكر، وبوجوبه. ويختم كتابه “الذاكرة، التاريخ، النسيان” تحت عنوان “الغفران الصعب”. وفي خاتمته يفلسف الغفران بما يتجاوز النسيان، ويتجاوز التسامح. فالغفران هو إعادة تفسير لما كان، وليس نسيانًا له. ويميز ريكور هنا بين الغفران العابر، أي التسامح السطحي (بوس اللحى، بالعامية)، وبين الغفران المتبادل الذي يتطلب الحوار بين الضحية والجاني من أجل إعادة بناء الثقة بينهما، وهو ما يبدو في حالتنا مستحيلًا، أو يلتبس بنجاة الجاني من العقاب. لكن الغفران ليس كذلك، ولهذا هو الغفران الصعب.

من المعلوم أن الأمم المتحدة أعلنت سنة 1995 سنة التسامح. ومن مفارقات (التقادير) أن اليوم العالمي للتسامح يصادف واحدًا من أسوأ الأيام السورية، أقصد يوم إعلان الأسدية/ الحركة التصحيحية في 16-11-1970، وهو اليوم الذي يصادف أيضًا يوم ميلاد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. واستطرادًا أشير إلى أنه ثمة من رأى أن حافظ الأسد اختار عامدًا الإعلان عن حركته التصحيحية يوم ميلاد أنطون سعادة لأسباب عائلية ذات صلة بالحزب العتيد: الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لا تعرف الأسدية التسامح، ولا العدالة الانتقالية، ولا الغفران الصعب. وأختم بقول الكاتب حسام أبو حامد في “العربي الجديد” (25-3-2025) بأن “عدالة انتقالية تؤطر المظلوميات الطائفية حقوقيًا، تمنح فرصًا حقيقية للحيلولة دون بقائها هويات سياسية تهدد السلم الأهلي، والاستقرار الإقليمي. أما تأجيلها فإمعان في تبنّيها”. وكان أبو حامد قد كتب في المقام نفسه في 18-3-2025 أنه “كان المأمول إرساء آليات عدالة انتقالية تركّز في المساءلة الفردية لا الجماعية، فتمنع شيطنة شرائح اجتماعية بكاملها”، وقد كشفت مجازر الساحل “الثمن الباهظ للتباطؤ في السير نحو العدالة الانتقالية”.

ضفة ثالثة

تحميل كتاب الذاكرة، التاريخ، النسيان

——————————-

الجمهورية بعد الأسد: أطياف السلطة وظلال الطائفة/ مها غزال

الخميس 2025/05/01

في مشاهد متكرّرة تتنقّل بين جرمانا وصحنايا ومناطق أخرى من تخوم العاصمة السورية إلى محافظاتها البعيدة، لا نواجه مجرد اضطرابات أمنية معزولة، بل نلامس مجدداً ذلك الفشل البنيوي العميق في تشكُّل الدولة السورية كإطار جامع، لا كمجرد سلطة فوقية تفرض نفسها بقوة السلاح والولاء.

فحين تبدأ التوترات بالتكثف حول خطوط طائفية، وتتكرّر المواجهات بين فصائل تُوصف بـ”المنفلتة” وأجهزة أمنية يُفترض بها أن تكون مؤسسية، يصبح من المشروع أن نتساءل: هل نحن أمام دولة تنهار، أم سلطة لم تتشكّل أصلًا على قاعدة المواطنة؟

ما يجري ليس جديداً في جوهره، بل هو استمرار لصدام بين منظومة حكم لم تتمكن من الخروج من دائرة التعاطي مع المجتمع السوري بوصفه خليطاً من “مكوّنات”، لا بوصفه شعباً موحّد الإرادة والتطلعات. وفشلت السلطة في عزل أبناء الساحل عن فلول نظام الأسد، عبر الحوار والإنصات لتاريخ من التوجس المتبادل والحساسية الطائفية. وتعاملت مع الحالة الساحلية بذات الأدوات الأمنية القديمة، وافتقرت إلى مقاربة سياسية ناضجة تعترف بالذاكرة الجمعية للسوريين، وبالارتباك الذي خلّفه سقوط النظام في بيئة ربطها به وجودياً. وتكشّف فشل السلطة في بناء قنوات تواصل حقيقية، تتجاوز منطق الإقصاء والثأر إلى أفق وطني مشترك.

واليوم، في عمق هذا الانفلات الأمني، يتكرّر المشهد على نحو أكثر بؤساً. مجموعات مسلّحة تتنازع النفوذ، وسلطة مركزية تدّعي الدمج والتوحيد، لكنها تعجز عن إنتاج منظومة دفاع حقيقية أو هرمية أمنية متماسكة.

في ظل هذه المعادلة المعطوبة، تُطرح المشاركة الوطنية بوصفها توزيعاً طائفياً للمناصب لا جدلاً سياسياً حول مستقبل البلاد. يُعيَّن الوزير لكونه سنياً أو مسيحياً أو علوياً أو كردياً، لا لأنه يعبّر عن تيار سياسي أو رؤية اقتصادية أو منظومة قانونية. تُستدعى الطوائف إلى المسرح للزينة، ولمنح شرعية زائفة لحكم لم يغادر بعد منطق الغلبة. غير أن المشاركة، كما تفهمها التجارب الديمقراطية الحديثة، لا تتحقق من خلال المشاركة الشكلية، بل عبر التعدد الفكري والبرامجي، والتوازن بين السلطات، والقدرة على التفاوض الدستوري حول معنى الدولة نفسها. وما لم تُنقل سوريا من حالة “التمثيل الطائفي” إلى “التداول السياسي”، فستبقى بنية السلطة فيها قابلة للانفجار من داخلها.

ويُفهم في هذا السياق التغير في الموقف التاريخي للدروز السوريين بوصفه تعبيراً عن وعي وطني مبكر. فالطائفة التي رفض أبناؤها، بأغلبية واسعة، الالتحاق بجيش الاسد الذي كان يُوجَّه لقتل السوريين، لم تكن في حالة انعزال بل في حالة رفض، لا انكفاء. وهذا الرفض لم يكن انتقاصاً من الوطن بل دفاعاً عنه، ورفضاً لتحويله إلى ساحة تصفية حسابات. وعليه، فإن الخطاب الأخير للشيخ حكمت الهجري، والذي لمح فيه إلى إمكانية التعاطي مع إسرائيل، بدا خروجاً عن هذا الإرث، ومجافاة لذاكرة تاريخية ارتبط فيها الدروز بالمشروع الوطني لا بالمحاور.

وإذا كان الداخل السوري متآكلاً من فراغ السياسة، فإن الإقليم لا ينتظر. فالصراع المتصاعد بين تركيا وإسرائيل — المُغذّى بتقاطعات معقدة داخل الأرض السورية — يعيد إنتاج البلاد كساحة لا ككيان.

من هنا، فإن أي تصور لمستقبل الدولة السورية دون حوار حقيقي وعدالة انتقالية شاملة هو وهم مؤجّل. لا يمكن عبور هذا الجسر المتداعي نحو وطن موحّد دون الاعتراف بالضحايا، ومحاسبة الجناة، وإعادة صياغة العقد الوطني على أسس جديدة. العدالة الانتقالية ليست مكرمة أخلاقية، بل أداة سياسية لتفكيك الأحقاد، وكسر دوائر الثأر، وبناء مجتمع سياسي يحتكم إلى القانون لا إلى السلاح. هي وحدها قادرة على تجنيب البلاد انزلاقاً جديداً إلى حرب أهلية طائفية تُلبس شعارات الأمن لبوس الطائفة، وشعارات المقاومة لبوس التصفيات.

قد تكون التجربة الإسبانية في مرحلة ما بعد فرانكو الأقرب إلى ما تحتاجه سوريا اليوم. دولة خرجت من ظل الديكتاتور لا عبر الانتقام، بل عبر “نسيان متفق عليه” أُسِّس على الاعتراف، والإصلاح، والعزل السياسي لمنظومة القمع، لا عبر محو الذاكرة. هذا النموذج، رغم محدودياته، أتاح للهوية الوطنية أن تتشكّل مجدداً بوصفها اختياراً مشتركاً، لا فرضاً فوقياً. وربما كانت تلك لحظة الحقيقة: أن تبني وطناً لا يعني أن تنتصر، بل أن تتنازل عن وهم النصر لصالح عقد جديد يتسع للكل.

ما تعيشه سوريا اليوم ليس شتاتاً اجتماعياً فحسب، بل ضياع لفكرة الدولة نفسها. وطن بلا مشروع، وسلطة بلا شرعية جامعة، ومجتمع ممزّق بين ذاكرته وأشباح مستقبله. ووسط هذا الخراب، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: من يحكم؟ ولماذا؟ ولأي غاية؟ وإلى متى يمكن للرماد أن يتكئ على ذاته قبل أن ينهار بالكامل؟

المدن

———————————–

 من وجع الذاكرة إلى أمل العدالة: العدالة الانتقالية كمخرج لسوريا الجديدة/ كمال صوان

الاعتراف بالمعاناة – من خلال تقارير رسمية أو شهادات عامة – يخفف من الإحساس بالعزلة والخذلان، ويخلق نوعاً من المصالحة مع الذات

1 مايو، 2025

مع زوال غمامة النظام عن وطننا سوريا، وبدء تشكل ملامح إدارة مدنية جديدة فيها، تبرز أمام السوريين أسئلة مصيرية تتجاوز تفاصيل الحكم والإدارة اليومية. سؤال العدالة، تحديدًا، يعود إلى الواجهة بقوة، لا بوصفه مطلباً قانونياً فحسب، بل كشرط أساسي للتعافي المجتمعي والنفسي بعد سنوات طويلة من الانتهاكات والدمار.

في هذه اللحظة الانتقالية، تتبدى أهمية العدالة الانتقالية كمسار متكامل لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة، وتحقيق التوازن بين كشف الحقيقة والمحاسبة، من جهة، وبناء مستقبل مشترك، من جهة أخرى. العدالة هنا لا تُختزل في المحاكم فقط، بل تشمل الاعتراف بالضحايا، جبر الضرر، ضمان عدم التكرار، وإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية.

سوريا اليوم ليست فقط أمام تحدي إعادة الإعمار المادي، بل أمام معركة استعادة المعنى، والثقة، والانتماء. العدالة الانتقالية يمكن أن تكون الجسر نحو ذلك، إذا ما تم النظر إليها كعملية طويلة المدى تبدأ من القاعدة الشعبية، وتُبنى على إرادة حقيقية في مواجهة الماضي، لا دفنه.

وفي ظل بروز مبادرات محلية في المناطق المحررة، ونقاشات دولية بشأن مستقبل الحل السياسي، تصبح هذه المرحلة فرصة ذهبية — وإن كانت محفوفة بالتحديات — لصياغة رؤية سورية للعدالة، تستجيب للخصوصية السورية، دون أن تتجاهل دروس التجارب العالمية. العدالة الانتقالية ليست فقط أداة للمحاسبة، بل وسيلة لمعالجة الذاكرة الجماعية والبدء بمصالحة حقيقية.

ما هي العدالة الانتقالية؟

العدالة الانتقالية تشير إلى مجموعة من السياسات والآليات التي تُستخدم بعد فترات النزاع أو الحكم القمعي، بهدف:

    محاسبة الجناة.

    كشف الحقيقة بشأن ما جرى.

    جبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا.

    إصلاح المؤسسات التي شاركت أو سهّلت الانتهاكات.

هي ليست عدالة انتقامية، بل وسيلة لتحقيق توازن بين المساءلة والمصالحة، تضمن أن لا تتكرر المأساة من جديد.

سوريا بعد التحرير: واقع معقد وفرص كامنة

في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يظهر واقع مزدوج: من جهة هناك ضعف مؤسساتي وانعدام الثقة بالقضاء، ومن جهة أخرى هناك مجتمع مدني ناشئ وأصوات تطالب بالعدالة. هذه المساحات، رغم هشاشتها، يمكن أن تكون نقطة انطلاق لمشاريع محلية للعدالة الانتقالية تبدأ من الناس ولأجلهم.

الأثر النفسي للعدالة على أسر الضحايا والمغيبين

واحدة من أعمق آثار العدالة الانتقالية تتجلى في الجانب النفسي والاجتماعي، خاصة على أسر المفقودين والمغيبين قسريًا.

هذه العائلات لا تعيش فقط حزن الفقد، بل تعاني أيضاً من حالة تعذيب نفسي مستمر نتيجة الغموض، والحرمان من معرفة مصير أحبائهم، أو حتى الحصول على اعتراف رسمي بوفاتهم أو مكان دفنهم.

حين تبدأ الحقيقة بالظهور، حتى لو لم يتحقق القصاص بعد، يشعر الكثير من الأهالي بأن كرامتهم قد استعادت بعضاً من معناها، وأن تضحياتهم لم تُمحَ. كما أن الاعتراف بالمعاناة – من خلال تقارير رسمية أو شهادات عامة – يخفف من الإحساس بالعزلة والخذلان، ويخلق نوعاً من المصالحة مع الذات، وهي الخطوة الأولى نحو التعافي الجماعي.

نحو مستقبل أكثر عدلاً

تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يحتاج إلى نهج متعدد المستويات:

    محلياً: عبر مبادرات المجتمع المدني، والمجالس القضائية المستقلة.

    وطنياً: من خلال توافق سياسي يشمل كل السوريين.

    دولياً: بدعم من آليات التحقيق الدولية وتوثيق الجرائم.

في المستقبل، يجب أن تركز العملية على إعادة بناء المؤسسات بما يضمن عدم تكرار ما حدث، وعلى بناء ثقافة حقوقية تحترم الإنسان كقيمة عليا.

بالطبع! إليك الفقرة ملخصة على شكل نقاط بسيطة وواضحة:

دور المجتمع المحلي في مسار العدالة الانتقالية :

قدم ناشطون حقوقيون محليون وعالميون مجموعة مقترحات لإشراك المجتمع المحلي في مسار العدالة الانتقالية

ومنها :

    المشاركة الفعّالة: المجتمع المحلي لا يتلقى العدالة فقط بل يشارك في صناعتها وتوجيه مسارها.

    التجربة والتوثيق: لدى الأهالي والناشطين المحليين خبرة في توثيق الجرائم والمساهمة في الكشف عن مصير المعتقلين.

    المبادرات المحلية: بدأت تظهر بعض المبادرات مثل جبر الضرر الرمزي وجلسات المصالحة، رغم محدوديتها.

    القرب من الضحايا: المجتمع المحلي هو الأقرب إلى الضحايا والأقدر على تحديد احتياجاتهم لتحقيق الإنصاف.

    الاستدامة والضمان: العدالة التي تنبع من المجتمع المحلي تضمن استدامتها وتحقق توافقاً أوسع في المستقبل.

دروس من العالم:

    جنوب إفريقيا: استخدمت شهادات الضحايا في “لجنة الحقيقة والمصالحة” لبناء رواية وطنية جامعة.

    كولومبيا: دمجت روايات الضحايا في العملية السياسية مما ساعد في التئام الجراح الوطنية.

    رواندا: رغم قسوة التجربة، لعبت المحاكم المجتمعية دوراً مهماً في التهوين النفسي وتخفيف الأعباء العاطفية من خلال مواجهة الجناة علنًا.

خاتمة:

العدالة الانتقالية في سوريا ليست حلماً بعيد المنال، بل ضرورة من ضرورات التعافي وبناء السلام.

أسر الشهداء والمغيبين لا تبحث فقط عن الانتقام، بل عن الاعتراف، والكرامة، وضمان ألا يعيش آخرون ما عاشوه.

لهذا، فإن أي حل سياسي لا يأخذ العدالة بجدية، هو مجرد تأجيل لنزاع قادم.

مراجع :

1.المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ)

https://www.ictj.org

➤ تقارير تحليلية وتوثيقية لعدالة ما بعد النزاع في سوريا وغيرها من الدول.

2.الأمم المتحدة – العدالة الانتقالية (Rule of Law)

https://www.un.org/ruleoflaw/thematic-areas/transitional-justice

➤ صفحة شاملة لتعريف وتطبيق العدالة الانتقالية في الأطر الأممية.

3.مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR): العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان

https://www.ohchr.org/en/transitional-justice

➤ مقدمة مفصلة عن العدالة الانتقالية ودورها في ضمان عدم التكرار.

4.مذكرة الأمين العام للأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية كأداة استراتيجية

https://www.ohchr.org/en/documents/tools-and-resources/guidance-note-secretary-general-transitional-justice-strategic-tool

➤ وثيقة موجهة لصناع القرار حول استخدام العدالة الانتقالية في عمليات السلام.

    قصة أممية – العدالة الانتقالية: مواجهة الماضي وبناء المستقبل (2025)

https://www.ohchr.org/en/stories/2025/03/transitional-justice-confronting-past-building-future

    ➤ مقالة حديثة تشرح أهمية معالجة الماضي في بناء مجتمع سليم.

    العدالة الانتقالية وحفظ السلام بعد الصراع (OHCHR)

https://www.ohchr.org/en/topic/transitional-justice-and-post-conflict-peacekeeping

    ➤ تحليل لكيفية دمج العدالة في جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام.

معجب بهذه:

العربي القديم

————————————-

============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى