أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سقط النظام، والثورة لم تنتصر!/ ياسين الحاج صالح

الصراع السوري لم ينتهِ

    30-04-2025

        هل انتصرت الثورة السورية بسقوط النظام الأسدي؟ وهل إننا حيال ثورة ناجحة، وإن بعدَ مسارٍ متعرج طويل؟ السؤالُ مهمٌ معرفياً، لأنه يدعو إلى إحاطة مُفصّلة بما جرى خلال نحو 14 عاماً في سورية بين بداية الثورة وسقوط النظام من أجل إجابة مفيدة عليه، ثم هو مهمٌ عملياً لأنه تترتب على الإجابة عليه سياسةُ المعنيين بالشؤون العامة حيال الأوضاع الراهنة وتطوراتها المحتملة في سورية ما بعد الأسدية. الإحاطة المُفصّلة ليست واردة في أي وقت قريب، والأرجح أن يُكتَبَ تاريخُ هذه السنوات الأربعة عشر مراراً وتكراراً في العقود القادمة. لكن النقاش السياسي ممكن ومرغوب من أجل توضيح الأفكار لأنفسنا وغيرنا، والتوجه في زمن مفصلي لا يشبه شيئاً مما خَبِرَته ذاكرةُ أجيالنا الحالية. ثم أن السؤال يعني كاتبَ هذه السطور على مستوى شخصي لأنه سبق له غير مرة (هنا وهنا مثلاً) أن كتبَ أن الثورة السورية فشلت، وأن على الديمقراطيين السوريين بناء تحليلاتهم وتوجهاتهم على هذا الأساس. ولقد بدا أن سقوط النظام والابتهاج به، بعد طول اكتئاب، يقول إني كنتُ مخطئاً، على ما رأى بعض الشركاء بالفعل. وهو ما لم يَبدُ لي مقنعاً، وإن لم أملك الحجة من قبل، ولا الطاقة، للمجادلة فيه. هذه محاولةٌ أولى في هذا الاتجاه.

        هناك منتصرون!

        ربما ما كان يمكن للنظام الأسدي أن يسقط بغير الطريقة التي سقط بها، أعني على يد ائتلاف قوى إسلامية سنّية قويةِ الرابطِ الإيديولوجي، مُتمرِّسة بالسلاح طوال سنوات، وبالاستفادة من وضع إقليمي ودولي مؤات. لكن هناك سياقاً متعرجاً جداً لسنوات ما بعد الثورة، يُناقض أي افتراض لاستمرارية متجانسة ولو بالحد الأدنى بين آذار (مارس) 2011 وكانون الأول (ديسمبر) 2024. فبعد صراع سوري- سوري سلمي، ثم سلمي ومسلح حتى منتصف 2012، أخذ الصراع السوري يتحول إلى صراع سني شيعي مع بُعد إقليمي صاعد، إيراني وخليجي أساساً، وهو ما يغطي الفترة حتى الصفقة الكيماوية بين الأميركيين والروس في أيلول (سبتمبر) 2013، موعدِ بدء التدويل عن بُعد، قبل أن يصير تدويلاً عن قُرب وعبر تَدخُّلات مباشرة لطرفي الصفقة تباعاً: الأميركيون في أيلول 2014، والروس في أيلول 2015، قبل أن تعقبهما تركيا في آب (أغسطس) 2016. خرجَ الأمر من يدي الثائرين السوري بتصاعُد، وتَحوَّلت الثورة إلى طبقة مدفونة تحت ركام هائل من صراعات غير ثورية، طائفية وإقليمية، ثم «حرب ضد الإرهاب»، أعادت عملياً تعويم الحكم الأسدي.

        سنوات ما بعد عام 2016 هي سنوات بؤس وتَعفُّن، ليست سنوات ثورةٍ بحال. إنها سنوات هزيمة الثورة واستتباب الأمر للطائفيين ضمنها، وتمام تفسُّخ ما بقي من الجيش الحر، وتبعية الجسم السياسي الممثل للثورة لتركيا، ثم ظهور «كيان سُنّي» في إدلب في إطار من انقسام وطني مُتعدِّد الأوجه. ولم تكن القوى المسيطرة في هذا الكيان وليدةً حصريةً لعمليات التجذّر (راديكاليزيشن) والعسكرة والتطييف الداخلية، الناشئة في سياق من معاناة بيئات سُنّية من عنف تمييزي شهد العديد من المجازر، وعانى وحده من هجمات الكيماوي والبراميل، بل هي كذلك نتاجُ توسّع سابق للثورة السورية إلى أشكال برّية ومُعولَمة من العدمية الإسلامية، كانت تُثبّت أقدامها في العراق طوال سنوات. الفريق المنتصر اليوم لم يكن جزءاً من الثورة في بداياتها، ولا من المجتمع والبلد. والرئيس الانتقالي كان مُجاهِداً مُتعدِّد الأسماء في العراق، وتجربته المُكوِّنة طوال معظم عشرينات عمره هي هذا الجهاد ضد الأميركيين والحكمِ الجديد، الشيعي، في العراق. وخلال سنوات كان هذا الشاب، الذي لم يكن أحدٌ يعرفُ من يكونو على رأس تشكيل سلفي جهادي اسمه جبهة النصرة، عدائي التكوين والفعل للثورة ورمزياتها وأُفقها الوطني. الجبهة وزعيمها الذي استقرَّ على اسم أبو محمد الجولاني هي أوثقُ صلة بتلك العدمية البرّية، المتمردة على مجتمعاتنا وعلى العالم، وعلى النظام فقط من حيث هو جزءٌ من هذا العالم، منها بديناميكات الصراع السوري الذي بدأ كانتفاضة شعبية في سياق «الربيع العربي». إنها أقلية نخبوية، تآمرية، ذات مَنزَعٍ انشقاقي، يمتنع أن تقوم حول أفكارها ونموذجها أكثريةٌ اجتماعيةٌ أو سياسية. وتكوينها الأصلي يضعها في قطيعة كلية مع فكرة الوطنية، وبالطبع الديمقراطية، ومع تاريخ سورية، بل ومع فكرة المجتمع السوري، ومع أوجه الاجتماع السياسي الحديث كلها. هي عدميةٌ لذلك بالذات، وليس لمجّرد أنها ترفض النظام السياسي رفضا جذرياً.

        ما صارَ هيئةَ تحريرِ الشام تراجعَ مع الوقت عن العدمية القصوى التي بقي داعش مُخلِصاً لها، وصارَ بالتدريج يتكلّم باسم الثورة السورية، ولا يرفضُ عَلَمها، لكنه ظلَّ يَصدُرُ عمّا يمكن تسميته التفوقية (السوبراماسي) السُنّية. غير هؤلاء، شارك في العملية التي أسقطت النظام، «ردع العدوان»، قِوى جانحة، فاسدة، دون أي قضية عامة، وفي سجلِّها جرائم كثيرة، أساساً ضد الكُرد في عفرين، ولكن كذلك ضد عموم سكان منطقة الشمال السوري الذين وقعوا تحت سيطرتها (بالوكالة عن تركيا).

        فهل يكون سقوط النظام مع ذلك انتصاراً للثورة، خروجاً لها من تحت الركام، مثل خروجِ من خرجوا من سجن صيدنايا وأَفرُع المخابرات الأسدية؟ أثارَ السقوط بهجةً سورية واسعة ومُستحَقَّة، زادَ منها أن هذا الإنجاز المهم لم يترافق بما كان يُخشَى منه من انتقام ومجازر وتدمير. تغذَّت البهجة كذلك من الأمل بأن نهاية النظام تعني نهاية الحرب، وربما نهاية العقوبات الغربية وبداية التعافي الاقتصادي. ومع ذلك فإن غير قليل من المُبتهِجين بالذات لا يشعرون أنهم انتصروا. لا يبدو إسقاط النظام انتصاراً لثورة 2011، بل هو أقربُ إلى انتصار للكيان السُنّي. كان شعبُ هذا الكيان قد تعرَّضَ طوال سنوات ما بعد الثورة للمجازر والتهجير والإفقار، فتطورت لديه مظلومية بالغة القوة ونوازعُ انتقام حادة، وهذه ميول غير صالحة في طور ما بعد سقوط النظام، بل هي منابعُ تمييز وتَطرُّف ولا عقلانية. ولقد رأينا تَفجُّرها الإبادي في الساحل في آذار ضد علويين مُسالمين، بعد تمرد محدود لبعض فلول النظام المسلحين.

        الناس أحرارٌ في أن يقولوا إنه ما كان للصراع أن يستمر طوال هذه السنوات، ويتمخض في النهاية عن إسقاط النظام، لولا رُسوّه على العمق السُنّي. قد يكون هذا صحيحاً، لكنه لا ينفي تَغيُّراً عميقاً لطبيعة الصراع في اتجاه طائفي استبعادي، نراه يتجسد اليوم في وقائع سياسية ومؤسسية.

        … لكن ليس الثورة!

        نسوقُ هذه المعطيات من أجل أن نمهد بصورة أفضل للتفاعل مع السؤال فوق: هل انتصرت ثورة 2011 بسقوط النظام في أواخر 2024؟ هناك سلفاً إجابتان جاهزتان على سؤال العنوان/ واحدة تقرر أنْ نعم، بالطبع انتصرت الثورة، وليس هناك سؤال يُطرَح في هذا الشأن. يغلب أن تصدر هذه الإجابة من شعب الكيان السُنّي، أو ممن فكروا في الثورة كانقلاب سُنّي لا كثورة وطنية تحررية. والثانية تنفي انتصار الثورة وتقول أشياء تشبه أنه جرى استيلاء إسلامي مسلح على السلطة، وأننا حيال حكم إرهابي بشهادة الأمم المتحدة والقوى الدولية النافذة، وأن سورية وقعت في قبضة إسلاميين متطرفين، وقد تقول أو لا تقول إن الصحيح هو العمل على إسقاط النظام اليوم، لكن مُقدماتها لا تقود إلى غير ذلك. ربما لا يكون أصحاب هذا التوجه حَزانى لسقوط النظام الأسدي (بعضهم كذلك)، لكنهم ليسوا مبتهجين أيضاً. ستجري هنا مناقشة هاتين الإجابتين، ومحاولة تطوير مقاربة أقل استقطاباً وأكثر تعقيداً لما حدث في سورية بسقوط الحكم الأسدي.

        بادئ ذي بدء، ومِن جديد، سقوط الحكم الأسدي حدث عظيم بحق دون أن يكون ذلك مجرد حكم ذاتي يعبر عن تفضيلات صاحبه. لقد كنا حيال نظام جمع بين التعفّن والدموية حتى لحظة انحلاله وموته، على ما يشهد سجن صيدنايا ومقراته الأمنية. وهو نظامٌ حكمَ طويلاً جداً، وأولغَ في دماء محكوميه وملكياتهم، وأرسى بُنى طائفية تمييزية، عَزَّزها بامتيازات لقوى أجنبية في جغرافيا البلد ومجتمعه وموارده مقابل الحماية. يمكن القول بلغة قديمة بعض الشيء إنه نظام غير وطني أو نظام خيانة وطنية واجبُ الإسقاط، لا يغير من ذلك شيئاً ما قد يعقبه لأن سورية كانت بحاجة حيوية إلى طَيّ تلك الصفحة الميتة والمميتة من تاريخها، هذا إن كان لها أن تُراهن على البقاء مجرد مراهنة. لا مجال للمبالغة في عظمة الحدث. إنه تغير جيولوجي، لم يترك شيئاً في المجتمع وفي الأنفس وفي الأفكار مثلما كان. تغيرت خارطة الخصوم والشركاء لكل واحد منا وبِحِدّة، وتتشكل استقطابات جديدة، ويجد الناس أنفسهم مقذوفين هنا أو هناك قبل أن تُتاح لهم فرص لتَبيُّن ما يجري، فكأننا حيال هزات ارتدادية لزلزال كبير. ليس الغرض إنكار فاعلية (إيجنسي) السوريين المتنوعين بتشبيه الأمر بحدث جيولوجي، الغرضُ تمثيل ضخامة وعنف ما جرى من جهة، والقول من جهة أخرى إن الإيجنسي متأثرٌ بهذه الضخامة والتقلّب العنيف، وأنهما انعكسا عليه تَقلّباً وعنفاً.

        وأزمة جامعة. ليس بين السوريين، والمشتغلين في الشؤون العامة بخاصة، من هم ليسوا في أزمة اليوم، بمن فيهم الفرق المنتصر، بفعل تغيّر هائل وغير متوقع لعالمهم المألوف. هذه الأزمة وضع بيني خصب، يستحق التوقف عنده والنظر فيه بعمق. وهو على كل حال يستوقفنا، ولا يكاد يترك للواحد منا وقتاً لشواغل أخرى. لدينا اليوم حالة سيولة، أو حالة هيولى ضعيفة التشكل، وتَشكُّلها في هذه الصورة أو تلك رهنٌ بنا، جزئياً على الأقل. هذا هو معنى الوضع البيني، إنه حالُ الأشياء والأنفس والأفكار في أوضاع التحول أو الانتقال التاريخي، حالٌ من الفوضى، حيث يتلاشى العالم القديم كل يوم، ولا يتشكل العالم الجديد بسهولة. وهو في الواقع حالُ تحليلاتنا كذلك، تحليلات بينية أو انتقالية، تجريبية بقدر كبير، تبحث عن لغة ملائمة فتتعثر في ذلك، وتتكلم على أوضاع غير متشكلة فتُجازف بأن تكون قليلة التشكل هي ذاتها.   

        على أن ضخامة الحدث شيء والقول إن الثورة انتصرت شيء آخر. إسقاط النظام هدف مباشر للثورة السورية، كشرط لأشياء أخرى وليس كغاية في حد ذاتها. الغاية هي سورية جديدة حرة، تضمن المساواة بين السوريين وتصون كرامتهم، دون تمييز طائفي ودون تعذيب، وعلى أساس من المواطنة وحُكم القانون. بهذا المعنى لا، لم تنتصر الثورة، ولا يلوح بعد أشهر من إسقاط النظام الأسدي أننا سائرون في اتجاه يتوافق مع تَطلُّعاتها المُحرِّكة.

        ثورة 2011 فشلت. انهارت في وقت ما منتصف 2012، أو في ربيع 2013، أو في التقدير الأكثر تساهلاً بنهاية 2016 بإعادة احتلال النظام وحُماته لحلب الشرقية. وما حدث بسقوط النظام هو شيء آخر، عظيم بالفعل، لكنه ليس انتصارَ ثورة 2011. هناك هوة يتعذر تجسيرها بين الأمرين. ما استمر بين 2011 والشهر الأخير من 2024 هو الصراع السوري، صراعُ قوى متعددة، بعضها سوري وأكثرها وأقواها ليس كذلك، في سورية. هل انتهى هذا الصراع بسقوط النظام؟ هذا ما كان يؤمل، بخاصة بالنظر إلى أن إسقاط النظام كان حدثاً سورياً بقدر كبير. لكن لا يبدو أن الصراع انتهى، على ما شهدت مذابحُ العلويين، وعلى ما تشهدُ عمليات انتقام واضطرابات أمنية، وعلى ما تشهدُ به مساعٍ محمومة للقبض الخاص على السلطة العمومية من قبل الفريق المسيطر.

        عدمية أخرى

        وفقاً لما تَقدَّم، يجد كاتب هذه السطور نفسه أقرب إلى أصحاب الإجابة الثانية، السلبية، على سؤال هل انتصرت الثورة، وإن كان لا يكاد يشاركهم شيئاً غير ذلك. وبخاصة ما يتضمنه أو يصرح به الكلام على إرهابيين ومتطرفين من وجوب إسقاط الحكم الجديد الآن، أياً تَكُن السُبُل. هنا استخدام غير إشكالي لمُدركَات مثل إرهاب وتطرف، انقطعت صلته بالأساس الفكري الحقوقي الأخلاقي لهما، وصار استخداماً رمزياً شعاراتياً للدلالة على قوى محددة، وفي سياقات متطرفة هي ذاتها، بل عدمية. الإرهاب بالدلالة المفهومية وغير الرمزية هو استهدافُ المدنيين لتحقيق غايات سياسية، وهو ما يضع القوى الأكثر تداولاً لهذا المُدرَك، أميركا وإسرائيل، والحكم الأسدي البائد، في موقع كبار الإرهابيين. وهو فوق ذلك شعارٌ سهلُ التسخير في السياسات الطائفية، بحُكْم قَصْرِهِ الضمني على الإسلاميين السُنّيين المسلحين دون غيرهم. ومثل ذلك بخصوص التطرف الذي لا يُحيل إلى رفض الحلول السياسية والتفاوض والتسويات والتنازلات المتبادلة بين أطراف متعددة (يُفترَض أن هذا هو تعريف التطرف) بل إلى تكوينات سياسية عقدية محددة، إسلامية، وفي وقت سابق وطنية فلسطينية. القصد أن هذه ليست لغة ثورية أو حتى مناسبة لأغراض تفكير نقدي أو سياسة ديمقراطية؛ إنها لغة بائتة، نخبوية وسلطوية، وغير مُبرّأة من التمييز والعنصرية، ولا تحمل كموناً تحررياً في أي مكان. يشيع فوق ذلك أن تكون جزءاً من خَطابة هوجاء، عنيفة لفظياً ونفسياً، وعدائية حيال بيئات اجتماعية بكاملها، وليس مجرد تيارات إيديولوجية أو حركات سياسية.  

        والحال أنه لا يبدو أن أصحاب هذه الخَطابة يدعون إلى ثورة أو يعملون من أجل ثورة، أو يستأنفون نضالاً ديمقراطياً في سياق مُغاير. بقدر ما يمكن استخلاص سياسة من هذه المَنازع المنفعلة، فإنها تجمع بين التعويل على فاعلية تفجيرية للانقسامات الأهلية الموروثة وبين الأمل بقدرٍ من الدعم الدولي من أجل إسقاط الحكم الحالي. هناك شيء عدمي، يشبه في واقع الأمر العدمية الإسلامية في بواكير ظهورها في السياق السوري، عام 2012: نفيٌ منفعلٌ للواقع الحالي أياً تَكُن العواقب، مع عداء للمجتمع يشبه بدوره عداء السلفيين الجهاديين لبشريةِ مجتمعاتنا المعاصرة، وليس لأنظمة حُكمها فقط. والسياسة التي تقوم على هذا العداء المزدوج متطرفة الأُسس هي ذاتها، بمعنى أنها رافضة للسياسة والتسويات، يتعذر أن تتكون حولها، هي الأخرى، أكثرية سياسية أو اجتماعية من أي نوع.

        ضد التطرّف، مع السياسة

        تحتاج سورية إلى مرحلة انتقال هادئة بقدر الإمكان، دون عنف ودون استفزازات وفرض إرادة على الغير، مرحلة التقاط أنفاس وتحسّن خدمات ورفع للعقوبات، وعودة أعداد أكبر من المهجرين، والتقدم في الكشف عن مصير المُغيَّبين، فضلاً عن معالجات سياسية للمناطق السورية ذات الأوضاع الخاصة، تُقدِّم فيها دمشق تنازلات لمصلحة أشكال من الحكم الذاتي أو «الإدارة الذاتية» بما يصون وحدة البلد، ويحدّ من التدخلات الخارجية. أي تنازلات لمصلحة قطاعات أهلية وإثنية من السوريين، الدروز والكُرد، والعلويين، هي أَولَى من سياسة قوة لا بد أن تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات لقوى إقليمية ودولية من أجل استعارة القوة منها. التهدئة هي السياسة الصحيحة اليوم، داخلياً ودولياً، وهي البيئة الأصلح للمجتمع السوري كي يهدأ ويعتدل، وللعاملين في الشأن العام كي يُنظّموا قواهم ويُحسِنوا التوجه. سياسة القوة التي كانت مُدمِّرة في الحقبة الأسدية لن تكون مُعمِّرة اليوم.

        ربما يقال لماذا نهدر الوقت، ولا نمارس منذ الآن سياسة القطيعة ضد الحاكمين الجدد مثلما ضد الحكم الأسدي؟ ليس فقط لأن اعتبارات المُلاءَمة والتبيُّن تدعو إلى التروي، ولكن لأنه لا يبدو أن ثمة حوامل اجتماعية لمثل هذه السياسة، ولا حتى الانقسامات الأهلية التي يجري التعويل عليها. لا الكُرد في الجزيرة، ولا الدروز في السويداء، ولا حتى العلويون رغم المجازر، يسعون اليوم وراء ثورة أو انقضاض مسلح على دمشق. ما يسعى إليه الجميع هو نظام أكثر تعددية وأوفى تمثيلاً للسوريين وأقل مركزية، مما هو عادلٌ وتحرري فعلاً، وهم يفعلون ذلك إلى اليوم بوسائل سياسية.

        هل يمكن لذلك أن يتغير؟ أن يتكون ائتلاف قوى ثوري من جماعات غير عربية سُنّية، وبعض المنحدرين من هذه البيئة الأخيرة من غير المحافظين؟ وحده جنوح الحكم الحالي نحو التطرّف (أي مجدداً رفض المعالجات والحلول السياسية) هو ما قد يدفع الأمور في هذا الاتجاه بعد حين. وبلغة رياضية يمكن القول إن تطرُّفَ الحاكمين مضروباً بوقت دوام مَسالكهم المتطرفة هو ما قد يدفع لتشكل ائتلاف ثوري جديد. على أن تُفهَمَ عبارة الائتلاف الثوري كقوة مضادة للتطرف، تنجح في بناء قضية عامة تُتيح كسب معركة الهيمنة، وتنزع سياستُها نحو الاعتدال والاستيعاب، خلافاً للدعوات الاستبعادية الهائجة التي يتعثر بها المرء هذه الأيام.  

        والواقع أننا نجد مَنازِعَ تَطرُّفية من نوعين في تركيبة الحكم الحالية: مَنازع متطرفين سلفيين أو جهاديين أو كليهما، وهي التي تنال الاهتمام الإعلامي وتُثير المخاوف الاجتماعية، لكنها ليست الأخطر؛ ثم هناك مَنازِعُ تطرفية مركزية، أخذت شكل الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة، ويبدو أنه يُحرِّكها نازعُ تركيز السلطة في أيدي فريق ضيّق في القمة. هذه المَنازِعُ المركزية أقل درامية من تطرفية سلفيين وجهاديين هنا وهناك، لكنها أخطرُ على مدى أبعد. بدلاً من حل مشكلة جرى خلق مشكلة: ما يعمل الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة على ضمانه من استقرار مؤسسي لا يسمح به الانقسام الاجتماعي الجغرافي في البلد، وكان يُفترَض أن يتم العمل على معالجة المشكلات الاجتماعية الجغرافية قبل العمل على استقرار المؤسسات لا بعده. بالصورة التي عولج بها الأمر، وضعَ أحمد الشرع وفريقه العربة أمام الحصان، وجهزوا لسورية ثياباً ضيقة لا تُغري أحداً بارتدائها، بل إن الصحيح هو رفضُ ارتدائها. ولا يعرف أحد كيف ستعالج هذه المشكلة. من جهة لا يُتصَوَّرُ قبولٌ درزي أو كُردي بالثوب المؤسسي الحالي، ومن جهة أخرى لا يبدو الحلُّ بالإكراه ممكناً (وهو بالطبع غير مرغوب). الحل الأنسب اليوم هو إعادة هيكلة تفاوضية جدّية للدولة الراهنة، وبخاصة الإعلان الدستوري والحكومة وعمليات تشكيل الجيش، على نحو يسمح بتجاوز الانقسام الحالي، ويقطع مع المركزية الخانقة التي واكبت تاريخ سورية، ويستجيب بمرونة للواقع التعدّدي الفعلي للمجتمع السوري. أي لا بد من خطوتين أو ثلاثة إلى الوراء، إلى ما قبل آذار الماضي، من أجل خطوات أثبتَ إلى الأمام. الأنسبُ بعد ذلك ودوماً هو معالجاتٌ سياسية للمشكلات الوطنية، وتشكيل المؤسسات العامة كنتاج لهذه الحلول السياسية وليس العكس. السياسة تعني التفاوض، وتعني التسوية والمساومات، وتعني التنازلات المتبادلة والحلول الوسط، ثم تعني إقامة المؤسسات التي تَرعى التوافقات الناشئة. 

        أما إذا انسدَّ بابُ السياسة فإن ما ينفتح هو باب الثورة، وإنْ بعدَ حين. ولا ينبغي لأحد أن يتوهم بأن هذه القاعدة التي تصلح على غيره لا تصلح عليه.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى