نقد ومقالات

احتفاء بنبيل سليمان في عيده الثمانين: تجدّد متواصل/ عبد الرحيم العلام

5 مايو 2025

يعد الروائي والناقد الأدبي السوري نبيل سليمان حالة إبداعية ونقدية عربية، ورمزًا من رموز الثقافة والفكر والإبداع في سورية والعالم العربي، هو الذي عُرف، منذ أزيد من نصف قرن، بحضوره الإنساني والإبداعي والنقدي والفكري، وبكتاباته الروائية المتراكمة؛ إذ صدر له، في هذه المجالات جميعها، عدد من الكتب، بين أعمال إبداعية ونقدية وفكرية وثقافية، حيث يفوق عدد أعماله السردية اليوم عشرين رواية، شكّلت مجالًا خصبًا ومغريًا لنقاد الرواية وللباحثين والجامعيين، فأنجزوا بصددها دراساتهم وأبحاثهم، وتُرجم عديد من أعماله الروائية إلى لغات أجنبية مختلفة، واختيرت “مدارات الشرق” ضمن أفضل مئة رواية عربية، ما يجعل منه مسارًا روائيًا طافحًا بالإبداع والتخييل والتجديد، والتنويع في الموضوعات والأخيلة والثيمات، وفي الأشكال والأساليب والتقنيات.

وهنا، لا بد من الإشارة بدءًا إلى ما تتميز به الكتابات الروائية لنبيل سليمان، على مدى هذا المسار الإبداعي الطويل والحافل، من خصائص فنية، بشكل جعل متنه الروائي في تجدّد متواصل، من نص لآخر، متجنبًا بذلك تكرار نفسه وتقنياته، كما هي الحال في نصوص كثيرة من الرواية العربية. ويكفي، على سبيل المثال، أن أذكر من بين تلك الخصائص المميزة لكتابات نبيل سليمان الروائية اهتمامه في بناء رواياته بتوظيف الفنون، في تنوع مكوناتها وتواتر توظيفها، من رواية لأخرى، من موسيقى وتشكيل وغناء ورقص وسينما، فالرواية في نظره لا ترتوي ولا تتطور إلا بحضور الفنون فيها، تلك التي وظفها سليمان في نصوصه الروائية بشكل مدهش ومثير، كما في رواياته: “التيجان”، و”الشقائق” من “مدارات الشرق”، و”في غيابها”، و”تاريخ العيون المطفأة”، و”تحولات الإنسان الذهبي”، وغيرها…

وبما أن نبيل سليمان قد تملكته غواية التنويع في أشكال الكتابة الروائية، فقد جرب الكتابة روائيًا عن المدينة والقرية في سورية، وفي غيرها من الأقطار العربية، بمثل ما أبدع داخل بعض المغايرات الروائية، من قبيل “رواية السجن”، في روايته المبكرة “السجين” (1972)، وله رواية أخرى عن “السجينات” السياسيات السوريات، كذلك كتب عن الهزيمة والحرب، كما في روايته “ثلج الصيف”، عن هزيمة 1967، وفي روايتيه “المسلة” (1980)، بما يؤطرها من تخييل ذاتي، و”هزائم مبكرة” (1985)، عن حرب 1973، ولم يفت كاتبنا في سردياته السورية أن يأخذنا إلى الأجواء التي طبعت المرحلة الراهنة في بلده، إثر ما أصابها من زلزال، وما شهدته من حرب قذرة، منذ سنة 2011.

موازاة مع هذا التنويع في أشكال الرواية ومغايراتها، يبدو أن نبيل سليمان، وهو الخبير بحجم ما حققته الرواية العربية عمومًا، منذ النشأة إلى اليوم، لم يمنعه إدراكه ذاك لأحوالها، من أن يزعم بأن ثمة مناطق أخرى تنتظر مزيدًا من الحفر فيها واستلهامها روائيًا، من قبيل ما يذكره من ندرة استيحاء الرواية العربية لـ”المقدس الديني”، و”التراث الديني الشعبي”، ولثيمتي “الدكتاتور” و”العِلم”، وغيرها، ما يشي بأن التفكير في الرواية العربية كما يتبلور عند نبيل سليمان، هو تفكير شامل ومنفتح وممتد، يتجاوز ماضي الرواية العربية وراهنها إلى التفكير في مستقبلها وفي تطورها وعالميتها، وهو ما يبرر كون رواياته بدورها تبدو معانقة للمستقبل، بما تضمره من قيم إنسانية فيها…

ناهيك عما تتميز به روايات نبيل سليمان من خاصيات، من زاوية انفتاحها على تجارب الرواية العالمية وتفاعلها مع بعض نصوصها، لكن ليس بقصد استنساخ بعضها، وإنما بغاية تحقيق نوع من التميز والاختلاف الروائي معها، لأجل تجاوزها فنيًا وفكريًا، على حد تعبيره، وهو اجتهاد فني وتخييلي قد لا يتأتى لأي كان من روائيينا، وهو ما نلمسه، على سبيل المثال، في روايته المختلفة “تحولات الإنسان الذهبي”، عدا توظيفه، في روايات أخرى، لمجموعة من الثيمات المهيمنة، بشكل فني مبهر، من قبيل ثيمة “العمى”، في روايته الممتعة “تاريخ العيون المطفأة”، حيث “لم تكن ثيمة العمى هنا فقط للتعبير عن واقع عربي، بل للمغامرة في آفاق سردية جديدة عربيًا وعالميًا”، حسب تعبير كاتبنا في حوار كنت قد أجريته معه، في إطار ما يتغياه من اختلاف وتجديد، متوخيًا جعل كتابته تعانق أحلام الإبداع، على حد تعبيره، وهو ما جعل هذه الرواية الأكثر قربًا من نبيل سليمان، ناهيك عما حققته من انتشار واسع وترحيب نقدي لافت بها منذ صدورها.

يعرف نبيل سليمان، فضلًا عن مشروعه الروائي المتنوع، بكتاباته النقدية العديدة والمضيئة، تجاوزت اليوم الثلاثين كتابًا، بما شكلته من مرجعية وحجية نقدية، ناهيك عن كتب أخرى حول قضايا فكرية وثقافية راهنة ومتجددة. فقد برز سليمان، منذ بداية انشغاله بالكتابة والتأليف، في بداية سبعينيات القرن الماضي، اسمًا لامعًا في المشهد الإبداعي الأدبي العربي، وقلمًا مؤثرًا في المجالين النقدي والفكري، وكلّنا يتذكر كتابيه المضيئين، الأول “الأدب والأيديولوجيا في سورية” (1974) بالاشتراك مع المفكر العربي الراحل بوعلي ياسين، والثاني “معارك ثقافية في سورية: 1975 ــ 1977” (1979)، بالاشتراك مع محمد كامل الخطيب، وبوعلي ياسين، مع ما حققه الكتابان معًا، منذ صدورهما، من تلقيات وترحيب وانتشار واسع في المشهد الثقافي والجامعي العربي، ومن جدل ورود فعل موازية، تعرض نبيل سليمان لبعضها في كتابه “سيرة القارئ” (1996)، متحدثًا عما شهده الوسط الأدبي والثقافي عامة، في أعقاب صدور كتاب “الأدب والأيديولوجيا في سورية”، من معركة حامية، وما تلاها من جولات استهدفته تصريحًا، كما استهدفته هو ومحمد كامل الخطيب تضمينًا (ص34)…

إلى جانب ذلك، يُعرف نبيل سليمان بكونه من أبرز النقاد العرب تتبعًا، نقدًا وتأليفًا، لما تصدره دور النشر العربية والعالمية من إنتاج أدبي، وتكشف لنا مدونته النقدية مدى ثراء مشروعه النقدي واتساعه، ليشمل الرواية، والقصة، والشعر، والمسرحية، والنقد، ونقد النقد، والسرد، والسيرة في سورية، وفي غيرها من الأقطار العربية، وإن كان لحضور الرواية في أعماله النقدية النصيب الأوفر والمهيمن، وخصوصًا ما يتعلق منها بتلك الكتب التي تناول فيها، من زوايا نقدية وتحليلية جديدة، نصوصًا روائية عربية، لأجيال متباينة، عمرًا وتجربة، من الروائيين العرب، كما في كتابه “وعي الذات والعالم” (1985)، على سبيل المثال. وغالبًا ما تكون تلك النصوص الروائية التي اشتغل عليها نبيل غير مطروقة نقديًا، بمثل ما خصصه هو لها من طرح نقدي وحفريات، واستنطاق لقضاياها وثيماتها وأشكالها، واستخلاص لمعانيها ودلالاتها، بكل تمكن ودراية وجدية. وتتسع المدونة الروائية العربية، في كتابه الأخير “قلق السرد” (2024)، بما يحويه من قراءات نقدية مختلفة، شملت مئة وست وأربعين رواية عربية.

هكذا، إذًا، أضحت الكتب النقدية لنبيل سليمان مراجع متداولة في العالم العربي، بين دارسي الرواية ومحترفي النقد الأدبي، على حد سواء، اعتبارًا لما تتميز به كتاباته النقدية من حجيّة وجرأة وعمق ودقة في التحليل والتآويل والاستنتاجات، عدا ما تثيره مساهماته ومشاركاته العديدة في الملتقيات والندوات العربية، وغيرها، هنا وهناك، من اهتمام وترحيب بها وبصاحبها، وذلك بشكل يجعل مساهماته وتدخلاته ومحاضراته وحواراته وآرائه، ضرورة وقيمة مضافة لهذا الملتقى، أو ذاك المحفل، بما يتوفر عليه نبيل سليمان من منطلقات وآراء ورؤى ومواقف ثاقبة، تُمكنه من إضاءة جوانب معتمة في إبداعنا السردي وتفكيرنا النقدي. ومن بين ما يُحسب له، في هذا الباب، كونه قارئًا نهمًا وموسوعيًا، هو الذي خصص حياته للقراءة والكتابة والتأليف، فقرر مغادرة الوظيفة، وترك “دار الحوار للنشر” التي أسّسها، وكان يشرف عليها، لتتولاها ابنته الدكتورة إيناس، متفرغًا بدل ذلك للقراءة والكتابة.

فلكي يُموضع نبيل سليمان، على سبيل المثال، تجربة روائية لأحد الروائيين، في إطار التجربة الروائية العربية ككل، نجد أن أحكامه لا تأتي من منطلق قراءات تجزيئية، أو اختزالية، لهذه التجربة أو تلك، بل يتم ذلك عنده من منطلق قراءة كلية وإدراك تام وعميق للمتن الروائي، في إصدار هذا الحكم أو ذاك، فنجده، مثلًا، عند تناوله لتجربة عبد الرحمن منيف الروائية ينكبّ على استخلاص أحكامه، انطلاقًا من عكوفه على قراءة الأجزاء الخمسة لـ”مدن الملح”، أي ما يقارب ثلاثة أرباع المليون كلمة، فقط ليصل إلى القول بأنها تجربة تشكّل مفصلًا خاصًا في تجديد السرد بالمشهد الروائي العربي منذ فجره، موضحًا بذلك المجالات والوحدات الفنية التي تحقق من خلالها التجديد في المتن الروائي لمنيف.

والجميل في رحلة سليمان الممتعة والمفيدة مع القراءة والكتابة، كونها ظلت في تجدد دائم، بعيدًا عن أي ادّعاء وغرور؛ إذ نشعر بكاتبنا دائمًا في حالة تعلّم وتأمل ورغبة في ركوب مغامرة الكتابة والقراءة والبحث، رغم تسلط الرقابة والمنع. وتلك سيرة للقراءة والكتابة حرص على تشييدها، على مدى أزيد من خمسة عقود، بما حققته من حضور وتراكمات، وهي تواصل امتداداتها في الأجيال المتعاقبة من المبدعين والنقاد العرب، ما يجعلها سيرة عظيمة، تستحق حتمًا أن يُحتفى بها ويُقتدى بمنجزها، باعتبارها أضحت، بالنسبة لنا ولممارسي الكتابة والنقد، مرجعًا أساسيًا ودرسًا بليغًا، على الأقل في مشهدنا الأدبي العربي.

ويكفي أن نتوقف عند جانب مميز لهذا المسار الطويل والمتوهج، من الكتابة والقراءة، كما بقي نبيل سليمان وفيًا له، ومطورًا لملامحه النقدية الكبرى، بحسب التطور التاريخي والمنهجي للخطاب النقدي الأدبي العربي، من خلال تأملنا فقط لعناوين مجموعة من كتبه النقدية، على مدى خمسة عقود من التفكير والتراكم النقدي، منذ كتابه الأول، بالاشتراك مع صديقه الراحل بوعلي ياسين، بعنوان “الأدب والأيديولوجيا في سورية” (1974)، مرورًا بنماذج من كتبه النقدية العديدة، من قبيل: كتابه “الرواية العربية والمجتمع المدني” (2010)، وفيه يتتبع خطى الرواية العربية منذ إشاراتها الأولى، مرورًا بالتغيرات التي طرأت في العالم، منشغلًا بتاريخ الرواية العربية، وبما اعترى المجتمع المدني، في العقود الثلاثة الماضية، من معوقات، كالدكتاتورية والإرهاب، فكتابه “الكتابة والاستجابة” (2019)، بما يعكسه من تباين وتعدد في الأجيال والأجناس والأقطار والتجارب التي اهتم بها نبيل في كتابه، وصولًا إلى كتاب “التباب ونقضه” (2020)، وغيرها من الكتب النقدية الرصينة. وهو، بذلك، إنما يؤسس لمشروع كتابي كبير ومتنوع وشامل، في مكوناته الأدبية وطروحاته النقدية…

وفي إطار هذا المستوى النقدي نفسه، لا بد، هنا، من التنويه بالدور الكبير والمضيء الذي ما فتئ ناقدنا سليمان يقوم به، في سبيل مقاربة الظاهرة الإبداعية، في أبعادها الروائية على وجه الخصوص، وعلى صعيد المشهد الروائي العربي إجمالًا، في ارتكازها على تجارب فردية، وعلى تجارب عربية متنوعة، مساهمًا بكتاباته المتنوعة، وهو الخبير بأسرار الكتابة الروائية ونقدها، في تطوير خطابنا النقدي الأدبي وتجديده، من قبيل تناوله لمسألة الإبداع والنقد، والسرد والنقد، ونقد النقد، وسيرة القارئ، والتخييل الروائي، والعالم والذات، والكتابة والاستجابة، وحوارية الواقع والرواية، والرواية والمجتمع المدني، والرواية والحرب، والروحي والمعرفي والتعبير الجمالي، والرواية والسيرة المجتمعية، والرواية وعصر الصورة، والرواية والقمع السياسي، وروايات الزلزال السوري.

هذا، إلى جانب استحضاره لمساهمات الروائية العربية، كما في كتابه “المساهمة الروائية للكاتبة العربية” (2013)، إثر تزايد حضورها، فيما يشبه الفورة، ناهيك عن تعرضه في كتابات أخرى لبعض الظواهر ذات الصلة بالحياة الثقافية في سورية، وغيرها من الموضوعات والقضايا والأسئلة في علاقتها بالحياة الإبداعية والنقدية والثقافية والفكرية والسياسية والتربوية، بما فيها كتابته عن التاريخ الثقافي للاستبداد. ويكفي أن نذكر من بين تلك الكتب: “أقواس في الحياة الثقافية” (2005)، وفيه يقدم “عرضًا نقديًا للحياة الثقافية العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين”…

وفي خضم هذا الاحتفاء الكبير بالإبداع والنقد والثقافة في عالمنا العربي، لم يفت سليمان أن يحتفي بمجموعة من رموز الإبداع والثقافة العربية الراحلين، في تنوع انتماءاتهم الجغرافية والزمنية، في كتاب ممتع، عنونه بـ”كتاب الاحتفاء” (2005)، في كونه احتفاء يقوم على “الصداقة والاختلاف وعلى الحوار والوفاء”…

وما كان لهذا المسار الإبداعي والنقدي، بما حققه من حضور مؤثر وتلقيات وترحيب واسعين، ألا يوازيه تكريم كاتبنا نفسه والاحتفاء به وبمشروعه الإبداعي والنقدي، ليتم الاحتفاء به على مدى جغرافي واسع، يمتد من سورية إلى الهند، مرورًا بعدد من المحطات الجغرافية والاحتفائية الأخرى، ما جعله يحصل على مجموعة من الجوائز الرفيعة والمستحقة، هنا وهناك، يكفي أن نذكر من بينها “جائزة سلطان العويس الثقافية”، في دورتها 2020 ــ 2021.

بعد هذه الجولة السريعة والمركزة، في عوالم نبيل سليمان الإبداعية والنقدية والثقافية، أعود قليلًا إلى الوراء، في محاولة للقبض على رأس خيط المحبة الأول، بغاية استعادة السياق الزمني الذي أطر تعرفي على هذا الصديق العزيز، خارج تعرفي عليه عبر كتاباته المختلفة. فما أتذكره هو أن اللقاء الأول به كان في المغرب، وتحديدًا في العاصمة الرباط، ولا شك في أنه كان بمناسبة لقاء، أو ندوة، شارك فيها، وسرعان ما توطدت العلاقة في ما بيننا، وامتدت جغرافياتها هنا وهناك. ومن بين ما أتذكره عن لقاءاتي الأولى بنبيل سليمان بالرباط، مرافقتي له لزيارة السيدة سلمى سلمان، زوجة المفكر العربي السوري الراحل بوعلي ياسين، الصديق التاريخي لنبيل؛ إذ لهما جولات نضالية ومغامرات وارتحالات في الأمكنة، وتحديدًا إلى مدينة بيروت في ربيع 1979.

لقد جمعتني لقاءات عديدة بالصديق نبيل سليمان، هنا في المغرب، وفي غيره من البلاد العربية، كان آخرها اللقاء الذي جمعنا في الدوحة بقطر، فقد كنا معًا ضيفين على “التلفزيون العربي” القطري، كل في فقرته التلفزيونية التي دعي إليها. فحين علمت بأن نبيل سيتواجد في الدوحة، حرصت على لقائي به هناك، فلن تمل من ملاقاة نبيل، لتستمتع بدروسه الجميلة، في الحياة والهدوء والتواضع والتفاؤل، رغم تبدل الأحوال في بلده، وتستأنس بأحاديثه الممتعة والمفيدة، وبدعاباته وسخرياته ونكته المتجددة، فلقاءاته تمنحك دائمًا شيئًا مبهرًا ومدهشًا…

كما كانت لقاءاتي به بالقاهرة، كثيرة ومتنوعة، فقد جمعتنا ملتقيات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، فيما شكلت مدينة أصيلة المغربية وموسمها الثقافي الدولي، بدورها، محطة عبور أخرى في سلسلة لقاءاتي بالصديق نبيل. وكان لقائي الأخير به في أصيلة، موشومًا بذلك الحادث الرهيب، فقد حصل ونحن في إحدى ندوات الموسم، أن توصل نبيل سليمان بخبر التهجم على بيته الريفي وإتلاف مكتبته، التي كان نبيل قد نقلها إلى بيته بقرية البودي، هناك حيث اختار أن يعيش خلوته وعزلته منذ عام 1987، لكن أيدي العبث شاءت أن تعكر عليه خلوته، وأن تتلف محتويات مكتبته/ معشوقته، إثر الاعتداءات التي تعرض لها بيته الريفي الذي سيظل مزهرًا ومنتجًا وحالمًا، رغم كيد الكائدين…

ساد لدى الجميع لحظتها شعور بالقلق والخيبة، ونحن بمركز الندوات، فقام نبيل مغادرًا القاعة، عائدًا إلى بلده سورية، حتى يتسنى له تفقد بيته ومكتبته، فأعلنا جميعًا لحظتها تضامننا مع نبيل، وشجبنا لذلك الاعتداء الجبان على ممتلكاته. وأتذكر أنني قد تواصلت لحظتها مع إخوتي في الهيئة التنفيذية لاتحاد كتاب المغرب، فصغنا بيانًا باسم الاتحاد، تضامنًا مع الكاتب نبيل سليمان، صديق المغرب الثقافي، حول ما تعرض له بيته الريفي، من اعتداء وتخريب، عدا ما كان قد تعرض له هو نفسه من تهديد وترويع واعتداء جسدي…

وفي سياق آخر، حصل أن جمعتني بالصديق نبيل سليمان “جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” التي تمنحها “مؤسسة منتدى أصيلة”، فقد كنا معًا عضوين في لجنة تحكيم الجائزة لذلك العام 2010، وكانت من نصيب الروائي السوري الكبير حنا مينة، وإن لم يتمكن من حضور حفل تسليم الجائزة، لإكراهات صحية قيدت مينة عن الحركة والسفر، هو الذي حرص على تجسيد حضوره رغم الغياب، حيث أرسل شريط فيديو، ما جعله حاضرًا في الموسم، صوتًا وصورة، في تلك الأمسية الاحتفائية الجميلة، كما خلدتها إحدى دورات موسم أصيلة.

قد لا يسعفني، هنا، لا المقام ولا الذاكرة ولا العبارة، لكي أستعيد كل المحطات المضيئة في حياة الصديق العزيز نبيل سليمان، الإنسانية والإبداعية والنقدية والفكرية والثقافية، ولا غيرها من اللحظات الجميلة التي جمعتنا، بما تخللها من طرائف ومفاجآت وأحاديث جانبية وسهرات موازية، أستعيدها من حين لآخر، في محاولة للقبض على زمن يبدو هاربًا باستمرار…

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى