هل توجد مسألة درزية في سورية؟/ فايز نايف القنطار

06 مايو 2025
كثر الحديث أخيراً عن الدروز وعن السويداء وموقفها من السلطة الجديدة، ويتصاعد خطاب كراهية يوحي بالتحضيرلشيء ما، يستخدم الدروز شمّاعة فيه. ويجري القفز فوق تاريخ طويل من التضحيات من أجل الوطن السوري وبناء الهوية السورية. مما يطرح سؤال: هل توجد مسألة درزية في سورية؟
دروز حوران شديدو الاعتزاز بديرتهم (منطقتهم) لأنهم تنشقوا فيها نسائم الحرية، وزاد في اعتزازهم بها عجز السلطات والقبائل المختلفة عن دكّ هذا الحصن الذي ظل وحده بين المناطق حراً، وملجأ لكل مظلوم أو طريد. يعشقون الحرية ويتمسكون بها، فلم تستطع الدولة العثمانية، على اختلاف ولاتها، ولا حملة إبراهيم باشا، ولا الدولة الفرنسية خنقها واستئصال جذوة الحرية من صدورهم.
اضطر الدروز لخوض معارك دموية غير متكافئة، للدفاع عن وطنهم والمحافظة على حريتهم. برز اسم اللجاة (Trachonitis) في بلاد الشام وكان الحدث الأكبر هو ثورة الدروز ضد إبراهيم باشا، الذي طلب تجنيد 300 درزي فقط.
ولكي نتمكن من الإجابة على السؤال الأساسي، لا بد من التعرف على أهم المحطات التاريخية التي عرفها الدروز منذ وصولهم إلى جبل حوران، منذ منتصف القرن السابع عشر، ومعرفة الأحداث التي أثرت بعمق في ثقافتهم وفي حياتهم الاجتماعية.
ردّ إبراهيم باشا على أعقابه
في عام 1831 أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم على رأس جيش جرّار إلى بلاد الشام، بهدف تقليص النفوذ العثماني على المنطقة، وتوسيع نفوذه في عموم المنطقة، وكان الجيش المصري مزوداً بالأسلحة الحديثة، ومنظماً وفق أسس عصرية، ونجح إبراهيم باشا في تحقيق انتصارات عسكرية في المدن الرئيسية مثل عكّا التي أخذها بعد حصار طويل، ودمشق وحلب اللتين أحدث فيهما تغييرات تنظيمية وإدارية كبيرة، قبل أن يواجه صخرة كأداء في جبل العرب. حيث تعرضت جيوش إبراهيم باشا لهزائم متتالية عند محاولاته المتتالية لاقتحام جبل جوران، هزائم لأقوى جيش في الشرق من جيش محلي صغير، والغريب أن جيش إبراهيم باشا الذي نتحدث عنه هو الجيش الذي اجتاح الجزيرة العربية وبلاد الشام ودفع بالعثمانيين خارج بلاد الشام. أدت هزائم هذا الجيش أمام عدد غير متكافئ عدداً وعدة، إلى حالة من الذعر في الأوساط العليا للنظام. وأحدث هذا الانتصار الدرزي ضجة غير مسبوقة في المشرق، اقتربت بطولات هؤلاء الثوار من الأساطير، تروي بطولاتهم ودفاعهم عن حريتهم، مما ترك تأثيرا معنويا استثنائيا، ساهم في رفع معنويات الدروز وجعل أعدائهم في وضع مستحيل، يهربون ويولون الأدبار قبل أن تبدأ المعركة فعلا.
بعد هذه الانتصارات، أسس الدروز لمجدهم الحربي الأسطوري ورفضوا طلبات الدولة من مجتمعهم، وترسخ وجودهم في الوطن الجديد، في جبل حوران. لا تزال تعرض حتى اليوم، بفخر واعتزاز، الأدوات الفضية الخاصة بتحضير القهوة التي اغتنمها عز الدين الحلبي من خيمة إبراهيم باشا في معارك اللجاة.
بددت حرب الجبل أحلام إبراهيم باشا وأنهكته وأجبرته على مغادرة المنطقة، وترك الساحة للأتراك العثمانيين لاستعادة المواقع المفقودة. ولكن يبدو أن العثمانيين لم يدركوا أسباب هزيمة السلف إبراهيم باشا، فبعد اثني عشر عاما من الهدوء، قرروا احتلال جبل الدروز من جديد، والقضاء على استقلاله الذاتي. يشكل هذا الاحتلال القضية المعنوية الأولى للسلطنة العثمانية، لاستعادة سلطتها وهيبتها.
نشأ لآل الحمدان كيان حقيقي راسخ، وتزعموا الجبل (فعلياً) من 1711 حتى 1860 تقريباً، وقادوا القوم في معارك مهولة، خاصة ضد حملات إبراهيم باشا، بين عامي 1837- 1838 التي فشلت في دخول الجبل وتحقيق شروطها في التجنيد وغيره، وكان تعداد سكان الجبل نحو5 آلاف، منهم 1500 من المسيحيين ومن البدو. بعد ازدياد مظالم آل الحمدان وتجاوزاتهم، قام الدروز بطردهم ومبايعة أل الأطرش.
ثورة العامية والطرشان (1889-1891)
ما إن استقرت الزعامة لإبراهيم الأطرش، حتى استولى على كل أملاك وامتيازات آل الحمدان، ومارس أقسى ما كان يمارسه شيوخ الحمدان، بعد أن وزع أقرباءه شيوخاً على 25 قرية في المقرن القبلي، وكان للشيخ وحده ربع الأرض في القرية.
شعر الناس بخيبة الأمل والخذلان مجددا وبدأ التململ في عدة قرى، وكان الحدث الذي فجر ثورة الغضب، أن فلاحاً في عرمان تجرأ وحصد في أرضه ليسد جوع أسرته، قبل أن يأذن الشيخ، فكان ممنوعا على الفلاحين حصاد حقولهم قبل إنهاء حصاد حقول الشيخ، وعندما وصل جمل الفلاح محملاً بالقمح إلى بيادر القرية، أرسل الشيخ نجم الأطرش رجاله فحرقوا الجمل بما حمل.
انطلقت ثورة العامية (العوام) وطردت شيوخ أل الأطرش، الذين استعانوا بالجيش التركي للعودة إلى مشيختهم، ووقعت المعركة في الشقراوية، في مدخل مدينة السويداء، عام 1891، معركة غير متكافئة، حيث لم تتعدّ قوات الثوار الـ1000 فارس، خسروا 400 قتيل، وتم تدمير السويداء، واستطاع العثمانيون دخول الجبل لأول مرة، بعد أن كان عصياً عليهم وعلى إبراهيم باشا خلال قرنين، وهكذا تم التفريط باستقلال الجبل وحرية أبنائه، إذ سرعان ما فرض العثمانيون التجنيد الإجباري، وعززوا وجودهم العسكري في الجبل، بعد أن تمتع بالاستقلال الذاتي منذ بداية الاحتلال العثماني.
عرفت هذه الأحداث بـ انتفاضة العامية، أو “ثورة العامية على الطرشان”، وتعتبر لدى أبناء الجبل حركة ضد الظلم، استطاعت التبلور رغم تحالف مشايخ العائلات المالكة مع آل الأطرش. هي ثورة الفلاحين في 1889ـ 1891 ضد الإفظاع وهي الأولى، والوحيدة من نوعها في بلاد الشام خارج جبل لبنان، جاءت اقتفاء لتراث ثورة كسروان في 1858. هزت هذه الثورة جبل الدروز وتركت أثرا عميقا في المجتمع، بالرغم من هزيمتها على يد الجيش التركي، إلا أنها أدت إلى إعادة توزيع الأرض، بحيث يكون نصيب الشيوخ نصف ربع أرض البلدة، بدلا من الربع، ومنعوا من ترحيل الفلاحين.
سرعان ما اكتشف الجميع عودة العثمانيين إلى أساليب القمع والقهر ضد الجميع، الشيوخ والفلاحين، مما حمل الدروز على التواصل مع الأمير فيصل لمواجهة الاضطهاد العثماني والتمييز ضد العرب.
عندما وصل فرسان جبل الدروز في ذلك الزمن إلى مقر الأمير فيصل في العقبة، استبشر خيرا وتفاءل بالنصر ودخول دمشق، حيث تابعت قوات الثورة العربية الكبرى وفي مقدمتهم فرسان بني معروف بالزحف شمالا حتى سقطت بصرى الشام بأيديهم وتابعوا المسير إلى الشيخ مسكين وإلى الكسوة، وأصبحوا على مشارف تلول المانع، وهنا حصلت اشرس المعارك مع القوات الألمانية والعثمانيين، وغادر القائد الألماني الجنرال فولكن أرض المعركة، وتم أسر اللواء رضا الركابي من قبل فرسان قرية الغارية، وفي اليوم الثاني اندفعت هذه الجموع إلى دمشق عن طريق البوابة، وكانت أهازيجهم الجبلية المعروفية تشق عنان السماء، في خضم الأجواء الترحيبية من قبل السكان، لم يتوقفوا إلا عند القصر البلدي أو دار الحكومة وصعدت مجموعة من الثوار، على راسهم صالح طربية وعلي الأطرش، ونزعت العلم العثماني ووضعت مكانه الراية العربية، إيذانا بانتهاء السيطرة العثمانية التي استمرت 400 سنة، وذلك في أيلول عام 1918. ضجت ساحة المرجة بالنخوات والأهازيج والأغاني الجبلية: (عرش المظالم انهدم) (وسعوا المرجة).
وفي 1916 في ذروة الحرب العالمية الأولى، أبرمت إنكلترا وفرنسا اتفاقاً سرياً عرف باسم اتفاق (سايكس – بيكو)، ينص على اقتسام العالم العربي واستعماره بعد تحريره من الأتراك العثمانيين. ينص الاتفاق المذكور على وضع فلسطين والأردن والعراق في عهدة الإدارة الإنكليزية في حين أن سورية ً ولبنان، تحت الوصاية الفرنسية. عندها ظهرت النوايا الحقيقية للغرب نحو العرب والعروبة. وكذلك خيبة أمل الوطنيين العرب وفي طليعتهم الدروز، الذين قاتلوا ضد الاستعمار التركي العثماني، والآن عليهم العودة للقتال ضد المستعمرين الجدد. وقد شهدت سورية ثورة عارمة زعزعت مكانتها وهيبتها كقوة عظمى، وكان من أشهر المقاتلين وأعظمهم سلطان باشا الأطرش، الذي اختاره السوريون قائداً لثورتهم، وقد خاص أقوى المعارك وأشرسها، وكبّد الفرنسيين خسائر كبيرة بدأت بأولى معارك الثورة السورية في 23 يوليو 1925 في الكفر، ثم تبعتها معركة المزرعة والمسيفرة ومعارك حوران التي عرفت باسم معارك الإقليم الأولى، ثم تعاون مع ثوار ريف دمشق في معارك الغوطة، ومع ثوار القلمون وحمص وحماة في معارك الشمال، وكذلك معارك اللوى والمقرن الشرقي، ومعارك اللجاة في المسمية والخالدية وداما. كانت فرنسا تعي قوة المقاومة الدرزية ومناعتها، وأدركت أن السيطرة على سورية، تستوجب أولاً إخضاع الجبل.
سلسلة المعارك الطويلة التي خاضها الموحدون في مواجهة قوى كبرى، والانتصار عليها، صنعت مجدهم وخلدت بطولاتهم وأدت إلى بلورة ما يسمى بأرستقراطية “الفروسية الدرزية”، وجعلت منها أقلية مرهوبة الجانب فرضت هيبتها واحترامها على الصديق وعلى العدو. وكان التعبير عن ذلك في العصر الحديث، مساهمة الموحدين الدروز في التحرر وبناء الوطنية السورية الحديثة، عبر المشاركة الأساسية في الثورة العربية الكبرى التي تمخضت عن طرد العثمانيين، وفي الثورة السورية الكبرى التي أدت إلى طرد الفرنسيين. ثم في إصرارهم على الوحدة السورية، والتأسيس للوطنية السورية، هذا هو الإرث الذي أسسه الدروز منذ قدومهم إلى الجبل.
هذا السياق التاريخي وهذه التجربة المشحونة بالمواجهات، من أجل المحافظة على الاستقلالية وحماية الخصوصية، في وسط لا يقبل الاختلاف، لقد عاش أبناء جبل العرب منذ تأسيسه حالة من الاستقلال الذاتي، وشكل ملجأ لكل الباحثين عن الحرية والهاربين من قمع السلطات، استمر هذا الوضع حتى عام 1936، حيث بدأ أبناء الجبل رحلة الاندماج التام في الكيان السوري ورفض الدولة الدرزية التي أسسها الانتداب الفرنسي.
بدأت هذه الرحلة في الاندماج في الوطن السوري عبر مشاركة الجبل الفاعلة في الثورة العربية الكبرى التي أدت إلى طرد السلطنة العثمانية من المنطقة. المشاركة في هذه الثورة أدى إلى خروج أبناء الجبل من القوقعة المذهبية إلى الفضاء الوطني العروبي وساهموا بقوة في بناء الوطنية السورية بعد انخراطهم في الثورة السورية الكبرى التي أفضت إلى فتح الطريق نحو استقلال سورية ولبنان، عبر التضحيات الكبيرة التي دفعها “الدروز” (65% من شهداء الثورة). أدركت سلطة الاحتلال عدم قدرتها على دفع أثمان المواجهة المسلحة ففتحت الأبواب للعمل السياسي وتنظيم انتخابات وتشكيل حكومات تتمتع ببعض الاستقلالية تحت سلطة الانتداب، وكذلك مشاركتهم في كل المشاريع السياسية الوطنية كفاعلين ومؤسسين.
تاريخياً لا يوجد في سورية مشكلة درزية، فالدروز مندمجون مع بيئتهم المحيطة وبحاضنتهم العربية الإسلامية ومتصالحون مع جميع السوريين، يتميز مجتمعهم المحلي بخصائص تساعدهم على كسب العقول والقلوب لكل من يقترب منهم ويطلب مساعدتهم أو يقيم بينهم، فالانفتاح وقبول الآخر المختلف الذي ميز تاريخهم منذ تأسيس دولة المواطنة والمساواة فلي القرن السابع عشر، (في زمن فخر الدين المعني الثاني)، عندما تمتع الجميع بالمساواة وحرية المعتقد ومكن الكثير من المسيحيين السوريين من الهجرة الى لبنان هربا من التمييز العثماني. وعرف لبنان ازدهارا وتقدما نتيجة هذا النظام العلماني المنفتح.
يتعرض الدروز أحيانا لحملات طائفية لأسباب سياسية. بعد الاستقلال، قام الشيشكلي بحملة عسكرية لتأديب الدروز لأنهم رفضوا نظامه الدكتاتوري، لم يتأخر السوريون في إسقاط الشيشكلي، ورفض سلوكه في استخدام القوة ضد محافظة السويداء.
كما يتعرض الدروز لاتهامات ظالمة كررها نظام الأسد البائد باتهام الدروز بالتواطؤ مع إسرائيل، لتبرير هزائمه أمامها وحرف الأنظار عن تخاذل جيشه في حماية الحدود، جاحدين تضحيات الدروز من أجل فلسطين منذ المشاركة في جيش الإنقاذ إلى جميع الحروب، حيث كانت نسبة شهداء السويداء 11% من شهداء سورية، في حين أن نسبة عدد سكانها لا تتجاوز 3%. هذه الاتهامات يتم تكرارها ونبنيها من قبل فصائل التطرف، لأنها تدغدغ مشاعرهم وأحقادهم الطائفية، وتساعدهم على تجييش مشاعر السذج من الجمهور.
في حال قبلنا باستخدام مصطلح مشكلة، عند الحديث عن المسألة الدرزية في سورية، فإن مشكلة الدروز في مجتمعهم، كما كل مكونات المجتمع السوري، تجد حلّها الطبعي في ظل نظام دولة المواطنة والمساواة، دولة الحريات، وقبول الآخر المختلف، أي في ظل دستور وطني جامع تعددي تشاركي. فهم ثقافياً ينتمون إلى أصول عربية ولهجتهم أقرب اللهجات إلى اللغة العربية الفصحى، وعاداتهم وتقاليدهم تضرب جذورها في عمق الثقافة العربية في بلاد الشام، لا توجد لديهم مطالب خاصة في هذا المجال.
في السنوات الأخيرة، حاولت بعض التيارات الكردية إقامة جسور التحالف مع بعض أبناء السويداء، على أمل التأثير بهم في مطالب الحكم الذاتي أو الفيدرالي، لكن هذه التحالفات لم تثمر، نظرا للتباين الجوهري في الغايات والأهداف وفي الظروف الخاصة لكلا المجتمعين، فالدروز ليس لديهم مطالب ثقافية لغوية كالأخوة الكرد، ولا يوجد من حولهم ملايين الأكراد كفضاء قومي، ولا يمتلكون موارد مادية تمكنهم من التفكير في ذلك.
خلاصة القول: لا توجد مسألة درزية في سورية، فمطالب الدروز يمكن تحقيقها في أطار دولة المواطنة في ظل نظام ديمقراطي يضمن الحريات والمساواة ويقوم على الاختيار الحر مستندا إلى مبدأ الدين لله والوطن للجميع.
العربي الجديد