واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 06 أيار 2025

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————
مؤتمر وحدة الصف الكردي في القامشلي: إعادة تموضع أم محاولة فرض أمر واقع؟
2 أيار/مايو ,2025
في ظلّ إعادة انتشار القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي في الجزيرة السورية، والتقدّم المحدود في موقف الولايات المتحدة تجاه الإدارة السورية الانتقالية، وفي ظل مراقبة تركيا لما يجري في الجزيرة السورية، انعقد مؤتمر بعنوان “وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفاي كردستان”، في مدينة القامشلي، يوم 26 أبريل/ نيسان 2025. وقد زاد هذا المؤتمر ومخرجاته المشهد تعقيدًا، إذ وضع الأكراد السوريين أمام تحدٍ كبير، يتمثل في تحييد قضيتهم عن النزاعات الكردية الإقليمية الأخرى، في ظل توازنات إقليمية ودولية دقيقة ومعقدة. ويأتي هذا المؤتمر بعد سلسلة محاولات سابقة لرعاية اتفاقات بين القوى الكردية، برعاية من الرئيس مسعود البرزاني، إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
شارك في المؤتمر أكثر من 400 شخصية، من بينهم قادة في المجلس الوطني الكردي، وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية، إضافة إلى ممثلين عن أحزاب كردية أخرى وشخصيات مستقلة، وممثلين عن حزب العمال الكردستاني (PKK)، وممثلين عن أحزاب كردية من إقليم كردستان العراق، ومراقبين من أحزاب كردية تركية، مثل حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، إلى جانب المبعوث الأميركي سكوت بولز، وقادة عسكريين من قوات التحالف الدولي.
استمرّت التحضيرات للمؤتمر قرابة خمسة أشهر، وتركّزت أجندته على صياغة رؤية كردية موحدة، تحدد معالم مشاركة الأكراد في مستقبل سورية. وقد تبنّى المشاركون وثيقة سياسية مشتركة، تدعو إلى بناء دولة ديمقراطية لامركزية في سورية، تضمن في دستورها حقوق “الشعب الكردي”. ونصّت الوثيقة الختامية على ذلك، على الرغم من أن الحكومة السورية أكّدت مرارًا التزامها بحفظ وصون حقوق الأكراد، كما سائر مكونات الشعب السوري، ضمن إطار الدولة الواحدة.
وكان الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد قوات (قسد) مظلوم عبدي وقّعا، في 10 آذار/ مارس 2025، اتفاقًا ينصّ على اعتبار “الأكراد” مكوّنًا أصيلًا في الدولة السورية، وضمان كامل حقوقه الدستورية، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية للإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة السورية. وبالرغم من الاتفاق، أبدت (قسد) انتقادات للإعلان الدستوري، معتبرة أنه منح الرئيس الانتقالي سلطات واسعة لا تتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية، كما أبدت اعتراضها على الحكومة الجديدة إذ رأت أنها لا تعبّر عن التنوع السوري، على الرغم من مشاركة وزيرين كرديين فيها، وما تزال (قسد) ترفض دمج قواتها ضمن وزارة الدفاع السورية، وتماطل في تسليم المناطق التي تحت سيطرتها للحكومة الانتقالية، وهذا ما يجري في منطقة سد تشرين على سبيل المثال.
مخرجات المؤتمر:
وثيقة سياسية تأسيسية:
أعلن المؤتمر وثيقة سياسية، تضمّنت مجموعة من المبادئ العامة التي تُلاقي توافقًا واسعًا بين السوريين، خصوصًا ما يتعلق بقضايا مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعامة، وحماية حقوق الطفل، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية، واعتماد هوية وطنية جامعة تراعي مختلف المكونات القومية والدينية، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية. إلا الوثيقة تضمّنت بعض القضايا الخلافية التي لا تحظى بإجماع وطني سوري، ومن أبرزها:
“نظام الحكم البرلماني بغرفتين”، حيث نصّت الوثيقة على اعتماد نظام برلماني ثنائي الغرف، وهو طرحٌ لا يلقى توافقًا عامًا بين السوريين، ولا سيما بعد معاينة التجارب السلبية للنظام البرلماني في لبنان والعراق، فضلًا عن أن غياب أحزاب سياسية فاعلة حاليًا في سورية يزيد من صعوبة نجاح هذا النموذج، وهذا ما يجعل الخيار الأقرب للنقاش هو النظام شبه الرئاسي أو الرئاسي، وهي قضايا سيحددها الدستور الدائم.
“تغيير علم الدولة واسمها ولغاتها الرسمية والأعياد الرسمية”، وهي قضايا سيادية حساسة، يجري التوافق عليها عادة في مراحل دستورية نهائية عبر استفتاء شعبي، وليس عبر مبادرات جزئية.
تشكيل جمعية تأسيسية “برعاية دولية”، فالدعوة إلى جمعية تأسيسية برعاية دولية قد تواجه رفضًا واسعًا، إذ يرى كثيرون أن مثل هذا الطرح يمسّ السيادة الوطنية، ويخضع القرار السوري للضغوط الخارجية.
إيقاف عمليات التغيير الديموغرافي وإلغاء نتائجه، وهو مطلب يحظى بتأييد عام من حيث المبدأ، لكنه قد يثير جدلًا حول التفسيرات المختلفة لماهية “التغيير الديموغرافي”.
“الاعتراف بالديانة الإيزيدية ديانة رسمية”، مع أن الوثيقة تؤكّد حيادية الدولة تجاه الأديان، فضلًا عن أنّ عدد أتباع الديانة الإيزيدية لا يتجاوز بضع مئات في سورية.
جعل المناطق الكردية “وحدة سياسية إدارية متكاملة ضمن سورية اتحادية”، ويثير هذا الطرح إشكاليات حقيقية، خاصة مع غياب تعريف دقيق لماهية “المناطق الكردية”، وكيفية تكوين وحدة سياسية متماسكة رغم التباعد الجغرافي بين هذه المناطق، ولم تذكر الوثيقة كلمة فدرالية، ولكن روح الوثيقة فيدرالي.
“ضمان تمثيل الكُرد في مؤسسات الدولة”، فعلى الرغم من تأكيد الوثيقة على المساواة بين المواطنين، فإن تخصيص نسب أو مقاعد لمكوّن بعينه يتناقض مع مبدأ المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون، ويؤسس نظام محاصصة، وسيدفع مجموعات أخرى للمطالبة بالمثل، مما يعني شرذمة سورية.
الإشارة إلى قضية “الحزام العربي”، حيث ذكرت الوثيقة “الحزام العربي”، وهو تعبيرٌ يثير حساسيات لكونه يرتبط بسياسات سابقة في محافظة الحسكة، ولا سيما إسكان المغمورين من سد الفرات في أراضٍ زراعية تابعة في معظمها للدولة، وهو موضوع قديم يتم تضخيمه دائمًا، وقد زالت آثاره الفعلية، وقد يُثير إعادة فتح هذا الملف حساسيات اجتماعية ومناطقية.
المطالبة بتطوير البنية التحتية للمناطق الكردية، علمًا أن معظم مناطق سورية كانت مهمّشة، مثل دير الزور والرقة وريف حلب والسويداء وغيرها.
تشكيل وفد تفاوضي موحد
اتفق المؤتمرون على تشكيل وفد كردي موحد، يتولى مهمة التفاوض مع الحكومة السورية الانتقالية، ودعا البيان الختامي إلى اعتماد الرؤية السياسية المشتركة، كأساس لأي حوار وطني مستقبلي بين القوى الكردية من جهة، والإدارة الانتقالية في دمشق من جهة أخرى، مع تأكيد أهمية التنسيق مع مختلف الأطراف الفاعلة لترجمة مضامين هذه الرؤية إلى خطوات عملية.
موقف السوريين والقوى الكردية الأخرى من مؤتمر القامشلي:
تفاوتت ردود الفعل داخل المجتمع الكردي السوري، إزاء مخرجات مؤتمر القامشلي، فقد اعترضت عدة قوى وشخصيات كردية على نتائج المؤتمر، معتبرة أنه لا يمثّل جميع الأكراد السوريين، وأن هناك عددًا من المناطق الكردية لم تكن ممثلة في المؤتمر، ومن أبرز هذه المواقف:
“بيان الكتل السياسية والعشائرية والمدنية الكردية” الذي أعلن صراحة رفضه لوثيقة المؤتمر.
“رابطة الكرد المستقلين السوريين” التي أكدت أن المؤتمر ومخرجاته “لا يعنيها”.
في المقابل، رحّبت بعض القوى الكردية بالمؤتمر، معتبرة إياه بداية لمرحلة جديدة نحو تحقيق “الحقوق القومية” للأكراد ضمن إطار الدولة السورية.
أما من جهة المكونات الأخرى، فقد عبّرت قطاعات واسعة، من السكان العرب والسريان، عن تخوفهم من أن تؤدي مخرجات المؤتمر إلى تهميشهم سياسيًا، وأصدر تجمع أبناء الجزيرة (تاج) بيانًا، رفض فيه وثيقة المؤتمر، وانتقد استمرار انتهاكات قوات (قسد) في المنطقة.
موقف الحكومة السورية الانتقالية:
في اليوم التالي لانعقاد المؤتمر، أصدرت الرئاسة السورية بيانًا رسميًا عبّرت فيه عن رفضها القاطع لأي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل، والتشديد على أن وحدة سورية، أرضًا وشعبًا، خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن تحركات وتصريحات (قسد) تتعارض مع مضمون الاتفاق الموقع بين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ومظلوم عبدي في 10 آذار/ مارس الماضي، والذي اعتُبر “خطوة إيجابية نحو التهدئة والانفتاح على حلّ وطني شامل، وأن الدعوات إلى الفدرالية وتكريس واقع انفصالي تهدد وحدة البلاد، وأن هناك قلقًا بالغًا من ممارسات تشير إلى توجهات خطيرة نحو تغيير ديموغرافي في بعض المناطق، بما يهدد النسيج الاجتماعي السوري.
وحذرت الرئاسة السورية من تعطيل مؤسسات الدولة في مناطق سيطرة (قسد)، ومن تقييد وصول المواطنين إلى خدماتها، واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة، وأكدت أن حقوق الأكراد مصونة في إطار الدولة السورية الواحدة، على قاعدة المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون، من دون الحاجة لأي تدخلات خارجية أو وصاية أجنبية، وبالرغم من تشدد خطابها، تركت الحكومة الانتقالية باب المناورة مفتوحًا، عبر التأكيد على استعدادها لاحقًا للبحث في تسويات شكلية تحت سقف وحدة سورية، حيث إن الحكومة تريد التفرغ أكثر لبعض الملفات الأكثر حساسية في هذه الفترة، قبل التفرغ لملف (قسد).
المواقف الإقليمية والدولية
عبر مشاركة مبعوثها الخاص، أرسلت واشنطن رسالة دعم سياسي للأكراد السوريين، لكنها حرصت على عدم الذهاب بعيدًا، لإنها تراعي في الوقت ذاته علاقتها مع أنقرة، كحليف في الناتو، ما يجعل سياستها تجاه الأكراد السوريين مرتبكة ومحكومة بالحسابات التكتيكية، وهذا التباين يُنتج وضعًا هشًا بالنسبة لـ (قسد)، التي لا تستطيع الاعتماد استراتيجيًا على واشنطن في الوقت الحالي، ولا بناء شراكة مؤسساتية مستدامة، مما يُضعف موقفها التفاوضي مع دمشق.
وبالنسبة إلى تركيا، فرغم عدم إصدارها موقفًا رسميًا، فقد أبدت، عبر تسريبات إعلامية، معارضة شديدة للمؤتمر، خاصة بسبب مشاركة شخصيات مرتبطة بـ حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
بينما قدّم إقليم كردستان العراق دعمًا سياسيًا وإعلاميًا قويًا للمؤتمر، انطلاقًا من اعتبارات قومية ومصلحية ترتبط بتعزيز دور الإقليم ضمن المعادلة الإقليمية والدولية، ودعم الإقليم للمؤتمر يعكس رغبته في تعزيز النفوذ الكردي السوري ضمن معادلة كردستانية أوسع، لكن هذا الدعم يصطدم بحساسيات تركيا من تقارب أي مكون كردي سوري مع حزب العمال الكردستاني، والعلاقات الجيدة بين أربيل وأنقرة قد تجعل الإقليم وسيطًا محتملًا، في حال حصول توافق دولي على تسوية ما، لكنه في المقابل لا يستطيع تبني (قسد) بالكامل من دون إغضاب تركيا.
السيناريوهات المستقبلية المحتملة
سيناريو التسوية السياسية
يُعدّ هذا السيناريو الأكثر توازنًا، من حيث المكاسب الممكنة لكافة الأطراف، إذ إن نجاح الوفد الكردي الموحد في التفاوض مع الإدارة السورية الانتقالية، بدعم إقليمي ودولي، ولا سيما إذا جرى انسحاب أميركي من المنطقة، قد يؤدي إلى إقرار صيغة لامركزية تضمن وحدة سورية، وتكفل حقوق كل المكونات والمناطق السورية.
ويمثل توحيد الصف الكردي، في حال تحققه، عاملَ قوّة تفاوضي، ولا سيما مع طرح رؤية سياسية معتدلة ومتوازنة تُعزز القبول المحلي والدولي. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يبدو الأكثر عقلانية، فإن تحقيقه يصطدم بعدة عوائق منها:
غياب الثقة المتبادلة بين (قسد) ودمشق.
تباين كبير في التصورات حول شكل النظام السياسي.
وجود فيتو إقليمي، خاصة من تركيا، لأي مشروع يمنح الأكراد شرعية مؤسسية في الشمال السوري.
وهو سيناريو قابل للتحقق على المدى المتوسط، لكنّه يتطلب تنازلات من الطرفين، وضمانات دولية واضحة.
سيناريو التصعيد والانفجار:
في حال فشل الحوار واستمرار الخطاب المتشدد من قبل (قسد)، وثبات موقف دمشق الرافض لأي صيغة فدرالية خارج إطار التوافق الوطني، مع رفض أميركي للانسحاب، وتشدد تركي؛ فقد يؤدي ذلك إلى انسداد سياسي كامل، قد يُفضي لاحقًا إلى تصعيد عسكري، وهناك عوامل تعزز هذا السيناريو:
تحفيز إقليمي (خصوصًا تركي) لدفع دمشق نحو المواجهة المباشرة أو غير المباشرة.
المخاوف من أن يكون المؤتمر الأخير مدخلًا لفرض أمر واقع سياسي على الأرض.
التناقض بين الخطاب المعتدل لبعض القيادات الكردية، وبين مشاركة شخصيات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK)، ما يُضعف المصداقية الدولية.
هذا السيناريو أقلّ ترجيحًا من سيناريو الجمود، إلا أنه يبقى واردًا، ولا سيما إذا استمر تصاعد التوتر دون مسار تفاوضي جدي، ويرتبط بتطورات المشهد الإقليمي والدولي، وخاصة موقف أميركا.
سيناريو الجمود السياسي (السيناريو الأرجح حاليًا)
في المدى القريب، يُرجّح أن تستمر (قسد) بحكم الأمر الواقع في المناطق التي تخضع لسيطرتها، في ظل غياب تسوية نهائية، وبقاء الوضع السياسي هشًا وخاضعًا لمساومات متقطعة بين الأطراف المحلية والدولية، خاصة مع عدم وضوح الموقف الأميركي من الإدارة الجديدة، والقرار بشأن الانسحاب من منطقة الجزيرة السورية، ما يعني استمرار (قسد) بدون اعتراف رسمي، وتقييد الدولة السورية في مؤسساتها وسيادتها ضمن تلك المناطق، وانشغال الأطراف الدولية بمصالحها، دون الدفع الحقيقي نحو تسوية.
هذا الوضع غير مستدام على المدى البعيد، ويُمهّد إما لتسوية واقعية، أو لتصعيد مفاجئ في حال تبدّل المعادلات الدولية، خصوصًا في حال انحسار الدعم الأميركي أو تغير الموقف الأميركي من (قسد)، واحتماليته مرتفعة جدًا في المدى القصير.
خاتمة
جاء مؤتمر وحدة القوى الكردية في القامشلي محاولة بارزة لإعادة ترتيب البيت الكردي السوري وتوحيد الموقف السياسي، وهو بلا شك محطة مفصلية في مسار القضية الكردية، غير أن مدى نجاحه سيعتمد على قدرة القادة الأكراد على صياغة خطاب وطني جامع يطمئن بقية المكونات السورية والإقليمية، وعلى مدى تجاوب الحكومة السورية الانتقالية مع المطالب المطروحة، إضافة إلى حجم الدعم الدولي وإرادته في دفع عجلة الحل.
وقد أثارت الوثيقة السياسية الصادرة عن المؤتمر نقاشًا واسعًا، حيث إنها عكست تصعيدًا في سقف المطالب، واستخدام المؤتمر كورقة ضغط على دمشق لانتزاع مكاسب سياسية. وأثار ذلك مخاوف من محاولات (قسد) لاستثمار الاتفاقات السابقة، لفرض نفسها كممثل وحيد للأكراد، والدفع نحو تسويات مشروطة تكرّس الانفصال بدل الشراكة الوطنية.
ومع أن الاتفاق، بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، ينصّ على دمج المؤسسات الكردية ضمن مؤسسات الدولة السورية، فإن (قسد) لا تراهن على قدراتها الذاتية، بل على الدعم السياسي الأميركي والدولي لمنع أي مواجهة مع دمشق، مع مساعٍ واضحة لتثبيت وجودها كطرف لا يمكن تجاوزه في العملية السياسية، وتشير المعطيات الميدانية إلى أنّ هذا الرهان محفوف بالمخاطر، في ظلّ تغير المزاج الدولي لصالح الدولة السورية، وتصاعد السخط الشعبي داخل مناطق الإدارة الذاتية، نتيجة ممارسات (قسد) وانفرادها بالقرار.
وتُظهر التجارب المقارنة أنّ الحلول الأحادية تُقلّل من فرص تحقيق استقرار طويل الأمد، ومن ثم، فإن مستقبل القضية الكردية في سورية يكون من خلال انخراط فعّال في عملية وطنية شاملة، تقوم على شراكة متوازنة، واعتراف متبادل، ضمن دولة ديمقراطية موحدة، تحترم التعدد القومي والثقافي، وتضمن المساواة الكاملة بين جميع أبنائها.
ويقف مسار الأزمة في الجزيرة السورية عند مفترق حسّاس، بين فرص تسوية وطنية، ومخاطر التصعيد، أو الجمود، وتُظهر السيناريوهات أن التسوية السياسية، القائمة على صيغة لا مركزية ضمن إطار الدولة السورية الموحدة، تمثّل الخيار الأمثل، لكنها مشروطة بتنازلات متبادلة وبوجود مرونة تفاوضية من جميع الأطراف. وفي المقابل، يبقى احتمال التصعيد واردًا، إذا فشل الحوار السياسي، واستمرّ التناقض بين خطاب (قسد) السياسي وارتباطاتها الإقليمية، فيما يبدو الجمود السياسي السيناريو الأرجح مؤقتًا، لكنه هش وقابل للانفجار مع تغير المعطيات الإقليمية والدولية.
إن بناء شراكة وطنية حقيقية يبقى السبيل الوحيد لضمان استقرار دائم، وإنّ إخراج الجزيرة السورية من دائرة النزاعات المفتوحة، نحو صيغة سياسية شاملة، قد يُسهِم في تعزيز شرعية مؤسسات الدولة وتحقيق التوازن المجتمعي.
تحميل الموضوع
مركز حرمون
————————————
تجاذبات اللامركزية وضرورة الوصول إلى صيغة وطنية شاملة لها في سوريا/ د. عبد المنعم حلبي
2025.05.04
تُطِلُّ اللامركزية من جديد على المشهد السوري المُعقد، في ظل إصرار بعض الأطراف طرح الصيغة السياسية منها، الفيدرالية أو ما يقاربها، عبر مطالب قومية ومذهبية لا تخلو من الاستقواء بالخارج. ولكن اللامركزية بشكلها الإداري والمالي، بما فيه الموسَّع، كانت مطلباً مهماً لمؤسسات المعارضة السورية وأغلب مثقفيها ومسؤوليها قبل سقوط النظام، فلماذا لا يتم طرح اللامركزية ضمن إطار وطني شامل لإنجاز صيغة منها تتناسب مع الواقع السوري، ومتطلبات حماية وحدة البلاد، وتمنح المشاركة العادلة لجميع السوريين في إدارة شؤونهم وثرواتهم وصناعة مستقبلهم؟!
وهكذا وأمام المساعي والجهود والاتفاقات المنجزة وعراقيل تطبيقاتها على الأرض، بخصوص دمج المؤسسات المدنية والقوات العسكرية التي بقيت خارج سلطة دمشق خلال اثتني عشرة سنة مضت، تثور مشكلة تطبيق اللامركزية بمستوياتها المتعددة، بدءاً من المستوى الطبيعي من الحكم المحلي، إلى نوع من اللامركزية الإدارية، أو الموسعة مالياً، وصولاً إلى طرح اللامركزية السياسية بمعنى الفيدرالية، والذي تبناه بشكل أو بآخر ما سمي بمؤتمر وحدة الصف الكردي الذي عُقد في القامشلي في 26 نيسان الماضي. ومع استمرار المطالب المشابهة في كل من الساحل والسويداء بعد أحداث العنف التي عصفت في كل منهما، تثور مخاوف العديد من الأطراف الأخرى في صفوف الأغلبية من فرض مركزية دمشق مجدداً على سوريا، بالصورة التي كانت موجودة في ظل نظام الأسد.
لقد بقيت طروحات الفيدرالية تشكل بالنسبة لغالبية السوريين ناقوس خطر، كما بقيت دعوات اللامركزية الموسعة إدارياً ومالياً تثير مخاوف تبدو حقيقية بالنسبة لتطبيقها على مناطق معينة، في ظل السيطرة العسكرية لقسد لمناطق سورية واسعة. ومن الواضح هنا أن السنوات السبع الماضية على تجربة الإدارة الذاتية في المناطق ذات أغلبية كردية، والمناطق ذات الأغلبية العربية التي استولت عليها قسد في الحرب على تنظيم الدولة، تعتبر الركيزة الأساسية التي يتم الاستناد إليها في تلك النقاشات والطروحات والمخاوف على حد سواء، ليأتي المؤتمر الكردي المشار إليه، ليجسد أول ظهور سياسي واضح لتلك المطالب، ويثير في الوقت نفسه ذروة مخاوف تبدو حقيقية هذه المرة على مستقبل النظام السياسي الدستوري ووحدة الدولة السورية.
أحداث الساحل في الأسبوع الأول من آذار كانت قد أدت إلى مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من قبل شخصيات ومؤسسات علوية في الخارج، والتي اعتبرت أن ما جرى شكَّل حالة لا يمكن تمريرها بدون العمل على وضع إطار إداري خاص بالمنطقة التي يوجد فيها العلويون بكثافة في الساحل السوري، امتداداً إلى ريف حمص وأجزاء من الريف الحموي أيضاً.
وإذا ما أضفنا إلى المشهد محافظة السويداء، فإننا نستذكر هنا أن الحراك الذي انطلق قبل عام كامل من سقوط النظام، كانت مطالبه تتضمن شكلاً موسعاً جداً من أشكال اللامركزية. وقد استمر ممثل ذلك الحراك وهو شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بتلك المطالب بصورة أكثر إلحاحاً بعد سقوط النظام، في ظل توتر مستمر في علاقته مع السلطات السورية الجديدة في دمشق، والتي زاد من حساسيتها التحركات الإسرائيلية العسكرية في الجولان، وتهديدات نتنياهو بالتدخل في الجنوب السوري، وصولاً للاشتباك العسكري والأمني الأخير، المترافق مع الضربات الجوية الإسرائيلية على قصر الشعب والعديد من الأهداف العسكرية.
ومع بقاء أغلب المعارضين السوريين للنظام ضد أي طرح حول الفيدرالية، إلا أننا كنا نجد قلة قليلة منهم فقط متمسكين بالمركزية الدمشقية، فكلنا نعرف قبل سقوط النظام، بأن نقاشات وطروحات وأبحاثاً متعددة الأطراف كانت قد تمت بالفعل خلال السنوات الماضية، عبر مثقفين وباحثين وسياسيين معارضين ومؤسسات بحثية تابعة للمعارضة، حول اللامركزية الإدارية، بل والمالية الموسّعة، والتي يمكن أن يتم منحها لجميع المحافظات والمدن والبلدات على مستوى الجغرافيا السورية في إطار أي حل سياسي، بمعنى نقل صلاحيات تنفيذية وإدارية من الوزارات دون استقلال تشريعي، بما فيها صلاحيات الجباية وتخصيص نسب من الضرائب المحلية لصالحها، تُصرف على واقعها الخدمي والمعيشي، وفق ميزانيات شفافة وخاضعة للرقابة الحكومية والمؤسسات المختصة، وتجري فيها انتخابات محلية تمثيلية تضمن دوراً سياسياً لكفاءاتها في خدمة الأهالي، بعيداً عن الحسابات المعقدة للسلطة والتي تكون مبنية –في الغالب- على الولاء. وعلى الرغم من اختفاء كل تلك المطالب المعارضة بعد سقوط النظام، إلا أن كثيراً من السوريين المنتمين للأغلبية، يُبدون خشيةً من استعادة دمشق لواقع المركزية الشديدة التي فرضها نظام الأسد على الجغرافيا السورية، في مختلف مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الوظيفية. والتي تخللها إهمال تاريخي لمختلف المدن والمحافظات الكبرى، وعلى رأسها حلب، المدينة الصناعية والتجارية الأولى في البلاد، سواء إهمالها على مستوى البنية التحتية والخدمات، أو على مستوى التمثيل السياسي. فإذا ما وضعنا حجم الدمار وهو الأوسع الذي تعرضت له حلب خلال سنوات الحرب، وهي المدينة والمحافظة التي تمثل أكبر تجمع بشري للأغلبية، وحجم اللاجئين المرشحين للعودة إليها من تركيا ومختلف المناطق، فإننا يمكن أن نقدر ماذا يمكن أن يعنيه أي إهمال لحلب خلال المستقبل المنظور. أيضاً هناك دير الزور، المدينة والمحافظة التي تطفو على جوف ضخم من النفط والغاز، وهي بنفس الوقت المدينة التي تعاني من واقع التدمير المهول الذي تعرضت له خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولا نعرف إذا كانت ستأخذ في إعادة إعمارها حصة من موارد النفط والغاز متناسبة مع التدمير الذي تعرضت له بسبب وجود هذه الموارد والصراع عليها.
وفي الواقع، إن الوقت لن يطول حتى تجد الحكومة الانتقالية والسلطة في دمشق نفسها أمام تدفق اللاجئين السوريين القادمين من الخارج إلى مدنهم وقراهم، والذي يُتوقع أن يكون كبيراً، بما سيحمل معه من استحقاقات ضخمة متعلقة بالواقع الخدمي وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، المرتبطة بترميم المنازل والبنية التحتية من الطرق والمدارس والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا يُعقل هنا، أن تكون الدورة الإدارية والمالية لمواجهة الواقع القادم منوطة بآليات اتخاذ قرار وعمل مركزية، مشهود لها بالروتين البطيء والبيروقراطية المطوَّلة. لذلك فمن البديهي هنا أن تعمل السلطة السورية الانتقالية على أخذ زمام المبادرة في ملف اللامركزية الإدارية والمالية، وبشكل يمكنها من طرح رؤيتها بخصوص الحكم المحلي، والأطر التنظيمية التي يمكن أن تعمل من خلالها لتوسيع نطاقه بما يلبي احتياجات السكان، ويفضي إلى فرصٍ متكافئة في إشراك جميع السوريين في بناء مستقبلهم وإدارة شؤونهم وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وجهود التنمية في ظل ضمانات دستورية وقانونية ومؤسساتية، وبيان مراحل وآليات التطبيق بصورة شاملة على الجغرافيا السورية كاملة، ضمن حقوق المواطنة، وانطلاقاً من التقسيمات الإدارية والتنظيمية الموجودة فعلاً، في إطار أربع عشرة محافظة أو تعديلها بما لا يؤثر على التنوع المجتمعي، وفي إطار منظورَي: المرحلة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري وصولاً إلى الحالة الدستورية الدائمة، ودون أي اعتبار آخر محدود بالخصوصيات العرقية والمذهبية التي تستقوي بالخارج، أو أي تهديد أو تلاعب بوحدة البلاد وسيادتها، وبما يضمن إمساكاً مُحكماً للدولة المركزية بالملفات السيادية المرتبطة بقضايا الدفاع والتعليم والأمن والعلاقات الخارجية بصورة أساسية.
تلفزيون سوريا
——————————–
تحدّيات أمنية وسياسية أمام الشرع/ فاطمة ياسين
04 مايو 2025
تلتفّ حول سورية ظلال سوداء بعد خمسة أشهر من سقوط نظام الأسد، ونتابع اليوم مشهداً شديد الغموض، فما يحدُث يثير عواصف من الريبة والشك. كانت تركة الأسد ثقيلة بشكل هائل وتستلزم ورشات وتفاهمات لتباشر في حلحلة التعقيد الناجم عما خلفه بعد عقود طويلة، وعلى وجه الخصوص، خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة من سنوات حكمه.
ما زال عدم الوضوح يحيط بوضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، وبعد توقيع اتفاق الشرع – مظلوم عبدي قبل شهر، ارتفع مستوى التفاؤل وغمرت البشرى الشوارع السورية على ضفتي الفرات، وتعزّزت تلك البشرى بعد الخطوات التي أنجزت في أحياء حلب. لكن الأمور فجأة تعقّدت، وصدر بيانٌ عن مجموعات كردية تتراجع فيه عن الاتفاق السابق، وترفع سقف مطالباتها بما يخالف الإعلان الدستوري الذي صدر قبل اتفاق الشرع – عبدي، وهذا ما عرقل الاتفاق عند خطوة سد تشرين، وجعل حالة من اللايقين تطفو مرّة أخرى على السطح، ووضعت السياسي في قصر الشعب في مأزق يستلزم إيجاد حلول جديدة.
على الجانب الآخر من سورية، وفي ضواحي العاصمة دمشق، تتحرّك مجموعات مسلحة تحاول إثارة الوضع، وهي ليست المرّة الأولى، وتضع الدولة السورية الوليدة أمام اختبار هام للغاية، وقياساً لمدى قدرتها على مواجهة وضع أمني غير مستقر، وأصبحت الدولة مطالبة بإعادة الهدوء إلى الشوارع وتنظيف المنطقة من السلاح وفرض الأمن، وإيقاف المجموعات التي تحمله وتستعمله لإثارة الفوضى. استغلّت المجموعات ما تعتقد أنه خاصرة رخوة للدولة، فتحرّكت في أطراف دمشق، لكن قوى الأمن استطاعت أن تسيطر على الشارع، وتعتقل من كان يحمل السلاح ضدّها، مثيراً فتنة وفوضى. وقد يمكننا حساب نقطة لصالح الدولة لسرعة تعاملها في حسم المسألة. ولكن لتكمل صورة الوضع الأمني المستقر، عليها بناء مظلّة أمنية واسعة الطيف تلفّ العاصمة وما حولها وتمتدّ إلى الجنوب، إلى حيث انتقلت الإضرابات في محافظة السويداء، بحيث تقطع الحكومة الطريقَ أمام إسرائيل التي تحاول النفاذ من فراغ أمني تحاول أن تُحدثه بعض المجموعات، تمهيداً لتداخل إسرائيلي. وقد حاولت إسرائيل بالفعل أن تتدخّل، فأرسلت مسيّراتٍ ضربت على مقربة من الحوادث المشتعلة، وفي دمشق وصلت إلى محيط قصر الرئيس نفسه، وهو تحدٍّ أمني آخر ذو مفاعيل خطيرة، يضع نفسه أمام الحكومة الجديدة.
ما زالت حكومة الشرع تتعاطى سياسياً مع مشكلة “قسد” في الشمال السوري، وتعطي أفضلية للمحادثات مهما طالت للوصول إلى حل من دون توريط يضع السوري أمام السوري في مواجهات عسكرية، فقد استُوعِبَت دروس الأربع عشرة سنة الماضية التي استنفدت من السوريين الكثير مادّياً ونفسياً. ومن المفيد التفكير مليّاً قبل القيام بخطوة إلى الأمام، بوجود كل هذا الشحن والتداخل الخارجي والتهديدات الكبيرة الماثلة على الأرض، وقد بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يظهر ويختفي، وهو مستعد مرّة أخرى ليشغل أي فراغ يمكن أن يحدُث، والفراغات لا تأتي إلا بعد المعارك الكبيرة والسجالات العسكرية، وما زال الوقت متاحاً أمام السياسة لتأخذ دورها كاملاً، ولا بأس بمزيدٍ من الوقت لتجنّب المواجهات بالسلاح.
الاتفاق على ضم مزيدٍ من أبناء السويداء لجهاز الأمن العام خطوة جيدة، فمكوّنات سورية كلها ضرورية مهما كانت نسبتها داخل المجتمع، ومشاركتها بجدّية حاسمة. ومن أولويات الإنجاز السياسي الصحيح، ومن المهم التفريق بين مكوّن سوري أصيل (وكامل) ومجموعة عسكرية متمرّدة أو خارجة عن القانون. ولا بد من الاعتراف بالثقافة الخاصة للجميع من دون انتقاص أو تضييق، فلا يشعر مكوّنٌ بغضاضة أو بغُبن يجرّه إلى التمرّد أو طلب المساعدة من الخارج، وقد توجد جهات خارجية تنتظر “بشوق” أن توجّه إليها دعوة بالتدخل، وهناك تجربة مع وجود إيران ومليشياتها التي أذاقت السوريين الأمرّين، ولا يريدون بغالبيتهم تكرارها مع أي تدخّل خارجي جديد.
العربي الجديد
——————————-
شمال سوريا: تعيين أبوحاتم شقرا يهدّد اتفاق عبدي والشرع
الإثنين 2025/05/05
في خطوة عسكرية غير معلنة رسمياً، كلّفت وزارة الدفاع السورية العميد أحمد إحسان فياض الهايس، المعروف بلقبه “أبو حاتم شقرا”، بقيادة الفرقة (86)، المكلّفة بالعمل في قطاعات تشمل محافظات دير الزور، الرقة، والحسكة. وأفادت مصادر مطّلعة لموقع “العربي الجديد”، بأن القرار اتُّخذ اليوم الإثنين، في وقت تشهد فيه المنطقة الشرقية تصعيداً ميدانياً وارتباكاً سياسياً متنامياً.
وعبّر مصدر كردي مقرّب من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في تصريح خاص لـ”المدن”، عن مخاوفه من أن يؤدي تعيين شقرا في موقع عسكري رسمي إلى تقويض الاتفاق الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، في آذار/مارس الماضي، والذي نصّ على دمج المؤسسات الإدارية والعسكرية للإدارة الذاتية ضمن هيكل الدولة السورية. إذ ترى أطراف كردية أن خطوة كهذه قد تمثّل تراجعاً عن وعود الشراكة وتفريغاً للاتفاق من مضمونه، في ظل غياب إجراءات المحاسبة والعدالة الانتقالية.
وقال المصدر إنه بينما تسعى الدولة إلى بسط سيادتها عبر إعادة هيكلة الأجهزة العسكرية والأمنية، فإن الاستمرار في إسناد المواقع القيادية إلى شخصيات يُتّهمون بارتكاب جرائم حرب، مثل شقرا، يهدّد بتفجير التفاهمات مع “قسد”، وتعميق فجوة الثقة مع المكوّن الكردي، الأمر الذي قد يعيد شرق سوريا إلى مفترق طرق حادّ بين التهدئة والتفكك.
من هو أبو حاتم شقرا؟
يُعد شقرا من أبرز القادة العسكريين المنحدرين من المنطقة الشرقية، إذ وُلد في بلدة الشقرا بريف دير الزور الغربي، عام 1987، ويحمل شهادة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية نالها من جامعة ماردين التركية عام 2023. وقد لمع اسمه بعد أن أسّس فصيل “أحرار الشرقية” في يناير/كانون الثاني 2016، وقاده لاحقًا للاندماج ضمن “حركة التحرير والبناء” التي تضم فصائل أخرى مثل “جيش الشرقية”، و”الفرقة 20″، و”صقور الشام – قطاع الشمال”، وهي مجتمعة تُشكّل أحد أذرع “الجيش الوطني السوري” المعارض والمدعوم من تركيا.
وتسلّم شقرا قيادة “حركة التحرير والبناء” خلفاً للعقيد حسين الحمادي، في كانون الثاني/يناير 2024، قبل أن يتم تكليفه بمنصب رسمي داخل الجيش الوطني، رغم إدراجه على قائمة العقوبات الأميركية منذ تموز/يوليو 2021. وقد اتهمته وزارة الخزانة الأميركية حينها بالإشراف على سجنٍ يتبع لـ”أحرار الشرقية” في ريف حلب، شهد، بحسب تقارير حقوقية، عمليات إعدام ميدانية وتعذيب لمعتقلين منذ عام 2018، إلى جانب ضلوعه المباشر في ممارسات وصفتها واشنطن بأنها “انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان”.
ومن أبرز تلك الاتهامات، مسؤوليته عن اغتيال السياسية الكردية والأمينة العامة لحزب “سوريا المستقبل” هفرين خلف، التي قُتلت مع مرافقيها في عملية إعدام ميداني على الطريق الدولي “إم-4” قرب رأس العين، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، أثناء عملية “نبع السلام” التركية.
واعتبرت الخارجية الأميركية تلك الجريمة “خرقاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني”، كما اتهمت “أحرار الشرقية” بالتورط في عمليات اختطاف وتعذيب وابتزاز، ونهب ممتلكات مدنيين، ودمج عناصر سابقين في تنظيم “داعش” ضمن صفوفها.
وعلى الرغم من ذلك، دافعت قيادة “حركة التحرير والبناء” عن شقرا، معتبرة أن إدراجه في قوائم العقوبات كان بدوافع سياسية، ويأتي استجابةً لضغوط من أحزاب كردية “انفصالية”، ولا يستند إلى تقارير موثّقة صادرة عن لجان تحقيق مستقلة.
وكان ظهور العميد شقرا في “مؤتمر النصر السوري”، قد أثار موجة انتقادات واسعة في الأوساط الحقوقية والمدنية، خصوصاً في شمال وشرق سوريا، حيث اعتبرت منظمات نسوية وحقوقية أن ظهوره في دمشق وتسلّمه منصباً رسمياً داخل المؤسسة العسكرية يُمثّل “تبييضاً لصفحات سوداء من الجرائم المرتكبة بحق المدنيين”، لا سيما جريمة اغتيال هفرين خلف.
علاقة خاصة مع أنقرة
يُعد شقرا من أبرز القادة المرتبطين بالمؤسسة التركية، إذ حضر اجتماعاً مع الرئيس رجب طيب أردوغان عام 2018، إلى جانب قادة “الجيش الحر”، في أعقاب عملية “غصن الزيتون”. وتُعتبر فصيلته من الأذرع القتالية الأكثر قرباً من أنقرة، مما يثير تساؤلات حول إعادة مشاركة الشخصيات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، واحتمالات وجود تفاهمات غير معلنة بين دمشق وأنقرة في ملف شرق سوريا، خاصة مع صعود خطاب “التسويات الواقعية” تحت مظلة إقليمية.
دير الزور تشتعل
ويتزامن تعيين شقرا مع تصاعد ميداني في دير الزور، حيث أعلنت “قسد” عن إحباط هجوم نفذه تنظيم “داعش” على مقر لواء ذيبان، وقتل خمسة من عناصرها في عمليات أخرى. كما اعتقلت قيادياً في التنظيم يُدعى “أبو زكريا”، كان ينشط في مجال الابتزاز الاقتصادي.
في غضون ذلك، نفّذ التحالف الدولي مناورات عسكرية واسعة قرب حقل العمر، بالتزامن مع انسحاب تكتيكي للقوات الأميركية من ثلاث قواعد في شمال شرق سوريا. وفي الوقت ذاته، فصلت إدارة الأمن العام 32 عنصراً ثبت انتماؤهم السابق لميليشيات إيرانية، وأحالتهم إلى التحقيق، وسط استياء شعبي من محاولات اختراق الأجهزة الأمنية.
————————-
“قسد” تستأنف اللقاءات مع الحكومة السورية في حقل كونيكو/ سلام حسن و محمد كركص
06 مايو 2025
استأنف وفد الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لقاءاتهما في حقل كونيكو النفطي، الذي كانت قد أخلته قوات التحالف الدولي أخيراً، وذلك في إطار متابعة تنفيذ بنود الاتفاق الموقع بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد “قسد” مظلوم عبدي.
ونقلت وكالة “نورث برس”، المقرّبة من “قسد”، عن مصدر عسكري لم يُكشف عن اسمه، أنّ وفداً من الحكومة السورية زار حقل كونيكو في ريف دير الزور الشرقي شرقي سورية، حيث التقى وفداً من “قوات سوريا الديمقراطية”، لبحث آليات تطبيق الاتفاق الموقع بين الطرفين. وأشار المصدر إلى أن “دولة إقليمية وأخرى دولية” تبذلان جهوداً لاستكمال الحوار، وتفعيل الاتفاق بين دمشق والقامشلي، بعد فترة من التوتر.
وذكر المصدر أنّ الاجتماع الأخير شدد على ضرورة تطبيق اتفاق “سد تشرين”، وتحويل السد إلى منشأة مدنية محيدة بالكامل عن الصراع العسكري. وكان السد قد شهد، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، اشتباكات متكررة بين “قسد” من جهة، وفصائل “الجيش الوطني” من جهة أخرى. ونفى المصدر ما تم تداوله من أنباء حول تسليم قاعدتي العمر وكونيكو إلى الحكومة السورية، موضحاً أن الاجتماع ركّز في مجمله على مناقشة بنود الاتفاق بين الشرع وعبدي.
وتُعتبر قاعدتا العمر وكونيكو أبرز قواعد التحالف الدولي في سورية، وهما من أهم وأكبر حقول النفط والغاز في البلاد. في سياق أمني متصل، أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية”، اليوم الثلاثاء، في بيان رسمي نشرته عبر موقعها الإلكتروني، أنها أحبطت، لليوم الثاني على التوالي، هجمات شنّتها خلايا تابعة لتنظيم داعش على نقاط عسكرية تابعة لها في ريف دير الزور الشرقي.
وأوضح البيان أنّ قوات “قسد” تمكّنت، مساء أمس الاثنين، من صدّ هجومين متزامنين شنهما عناصر التنظيم على بلدتي ذيبان والشحيل. ووفقاً للتفاصيل، فقد استهدفت خلية تابعة لـ”داعش” نقطة عسكرية تابعة للواء ذيبان باستخدام قذائف “آر بي جي”، في حين هاجمت خلية أخرى نقطة في بلدة الشحيل باستخدام أسلحة “بي كي سي” وبنادق كلاشنيكوف.
وأشار البيان إلى أن قوات “قسد” تصدّت للهجومين واشتبكت مع المهاجمين، ما اضطرهم للفرار دون وقوع إصابات في صفوفها، في حين سقط عدد من الجرحى في صفوف التنظيم، دون توفر معلومات دقيقة عن عددهم. وأكدت “قسد” في ختام بيانها، استمرارها في ملاحقة خلايا “داعش” النشطة، و”ضرب أوكارهم ومخابئهم، بهدف إنهاء تهديد التنظيم للمنطقة”.
إطلاق نار داخل مستشفى في دمشق
في سياق آخر، تداولت وسائل إعلام محلية، فجر اليوم الثلاثاء، أنباء عن اقتحام مسلحين لمستشفى المواساة الجامعي في العاصمة السورية دمشق، وإطلاقهم النار داخل حرم المستشفى، وسط حديث عن مقتل طبيب، في حادثة أثارت جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن إدارة مستشفى المواساة سارعت إلى نفي هذه المعلومات، مؤكدة عبر بيان رسمي نُشر على صفحتها في “فيسبوك”، أنه “لا صحة لما تداولته بعض الصفحات حول مقتل طبيب في المستشفى، والخبر منفي بشكل قاطع”.
وأوضح البيان أن ما جرى هو وصول حالة إسعاف لامرأة مصابة بطلق ناري، نتيجة مشاجرة عائلية، حيث “توفيت فوراً قبل أي إجراء طبي”. وبيّنت الإدارة أن ذوي السيدة أطلقوا النار بشكل عشوائي عند سماعهم نبأ وفاتها، وتم توقيفهم من قبل عناصر الأمن العام على الفور.
وتأتي هذه التطورات في وقت لا تزال تعيش فيه العاصمة دمشق على وقع جدل واسع أثاره الهجوم المسلح الذي استهدف ملهى “الكروان” الليلي، فجر أمس الاثنين، والذي أسفر عن مقتل شابة وإصابة آخرين، على يد مجهولين، فيما رجح محامٍ في دمشق أن الحادثة قد تكون وراءها دوافع جنائية.
ويُذكر أن هذا الحادث سبقته بيوم واحد واقعة مشابهة، حيث تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر هجوم مجموعة مسلحة على ملهى ليلي آخر يُدعى “ليالي الشام”، واعتداءهم على الموجودين فيه بالضرب. وفي أول تعليق رسمي على هذه الأحداث، قال محافظ دمشق ماهر مروان: “تؤكد محافظة دمشق على ضرورة الالتزام بالقوانين والأنظمة المعمول بها في البلاد، وعدم مخالفتها. ونستنكر الحادث المؤلم الذي وقع في (الكروان) الليلي والذي أسفر عن مقتل فتاة. نؤكد أننا لن نتوانى عن محاسبة العابثين بأمن المدينة مع اتخاذ الإجراءات اللازمة، ونسعى جاهدين للحفاظ على الأمن والسلامة العامة للمواطنين وضبط المخالفات غير القانونية”.
دوي انفجارات في مدينة حلب
وفي سياق منفصل، سُمع، صباح اليوم الثلاثاء، دوي انفجارات في مدينة حلب شمالي سورية، حيث أُفيد في البداية بأنها ناجمة عن قذائف من مخلفات الحرب قرب الأكاديمية العسكرية غربي المدينة، إلا أن المعلومات الأحدث بيّنت أن السبب هو انفجار دبابة نتيجة خلل فني قرب مستودع قذائف في كلية المدفعية بمنطقة الراموسة.
——————————————
كيف سيتعامل الشرع مع نتائج مؤتمر الأكراد؟/ عمر كوش
29/4/2025
ما تزال تحديات وملفات عديدة تواجه السلطة الجديدة في سوريا، وذلك على الرغم من سقوط نظام الأسد البائد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث عقدت في 26 من أبريل/ نيسان الجاري، غالبية القوى السياسيّة الكردية مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي” في مدينة القامشلي السورية.
ثم ظهر منشور نسب إلى رامي مخلوف، أبرز رموز الفساد في عهد النظام الاستبدادي، متحدثًا عن “مجزرة الساحل”، ومبشرًا بولادة “فتى الساحل”، و”إعادة تنظيم قوات النخبة” التي ادعى أنها تضم نحو 150 ألف عنصر، إلى جانب تشكيل لجان شعبية قوامها مليون شخص. وذهب إلى حدّ مطالبة المجتمع الدولي، وروسيا بوضع إقليم الساحل تحت رعايتهما المباشرة.
لم يتأخّر الناشطون من الساحل السوري في الرد على مخلوف والتبرؤ منه، كونه “لا يمثل العلويين، بل يمثل الفاسدين الذين استغلوا الطائفة، وسرقوا قوت السوريين”، وأكدوا أن الطائفة العلوية “تتبرأ من هذا الخطاب الطائفي الانقسامي”، ولن تنجر وراء الأكاذيب والمؤامرات الاستخباراتية.
ما يثير السخرية المرّة هو حديث مخلوف عن “نصرة المظلومين”، كونه يشكل إهانة لذاكرة السوريين الذين ذاقوا ويلات نظام الاستبداد الأسدي، وكان شريكًا أساسيًا فيه.
ولعل الخطير في الأمر هو أن الجهات المعادية للتغيير السوري تصعد من خطاب الانقسام الطائفي، والتفتيت المناطقي في مرحلة دقيقة تمر بها سوريا الجديدة، وتحاول التعافي من تبعات نظام الأسد، فيما توجه تلك القوى سهامها نحو ما تبقى من النسيج الوطني السوري، محاولة إعادة إشعال بؤر التوتر الطائفي والمناطقي.
غير أن ما يستحق التوقف عنده هو مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي”، الذي خرج بمطالب وتوصيات أثارت جدلًا واسعًا بين عموم السوريين، واستدعى ردًا سريعًا من الرئاسة السورية، رفضت فيه أي محاولات فرض واقع تقسيمي، أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفدرالية أو “الإدارة الذاتية”، دون توافق وطني شامل، معتبرة أن وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خطّ أحمر، وأي تجاوز يعدّ خروجًا عن الصف الوطني، ومساسًا بهُوية سوريا الجامعة.
بداية، لا يعدُّ مؤتمر القامشلي هو الأوّل من نوعه بين القوى الكردية السورية، التي يشكّل كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي قطبَيها الأساسيّين، فقد سبق أن عقدت مؤتمرات واجتماعات بين الطرفين في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، وبرعاية الزعيم الكردي العراقي مسعود البارزاني، ونتجت عنها اتفاق “هولير 1″ الذي وقّعه في 11 يونيو/ حزيران 2012، كل من المجلس الوطني الكردي، و”مجلس شعب غربي كردستان” اللذين شكلهما حزب الاتحاد الديمقراطي، وحركة المجتمع الديمقراطي. وكانت غايته بلورة مشروع سياسي وقيادة الصف الكردي، والتواصل مع قوى المعارضة السورية للوصول إلى سوريا ديمقراطية وفدرالية.
ونتج عن الاتفاق تشكيل لجان أمنية وخدمية وسياسية، لكنه بقي حبرًا على ورق. ثم حاول مسعود البارزاني استيعاب الخلافات الحاصلة بين الطرفين، وتمكن من عقد لقاءات واجتماعات بينهما، أفضت إلى اتفاقية أخرى بينهما تحت مسمى اتفاقية “هولير 2” في ديسمبر/ كانون الأول 2013، ونصّت على شراكة الطرفين في إدارة المناطق السورية الكردية عسكريًا وسياسيًا.
بيدَ أنّ “مجلس شعب غربي كردستان” تنصّل بعد أشهر قليلة من الاتفاق، لتنتهي الهيئة الكردية العليا فعليًا مع انضمام “المجلس الوطني الكردي” إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، فيما أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي” عن “إدارة ذاتية” للمناطق الكردية، مؤلفة من ثلاثة كانتونات، هي: عفرين، وكوباني، (عين العرب) والجزيرة. ثم جرى توقيع اتفاقية في دهوك العراقية في 22 أكتوبر/تشرين الأوّل 2014، لكنها لم تنفّذ على الأرض.
تولت كل من الولايات المتحدة، وفرنسا رعاية الحوار بين القوى الكردية في سوريا بعد فشل جهود مسعود البارزاني، ونجحتا هذه المرّة في عقد اجتماع القامشلي، الذي حضره ممثلون عن حزب العمال الكردستاني التركي، وتمّ رفع علمه في المؤتمر وبمستوى أعلى من مستوى الأعلام الأخرى بما فيها العلم الوطني السوري.
لا شك أن عقد مؤتمر للقوى والأحزاب السياسية الكردية السورية مرحّب به إن كانت غايته إنهاء ما خلّفته السنوات من توترات في الشارعين الكردي والعربي، والخروج بورقة عمل واحدة من أجل الانخراط في الجسد السوري الجديد، وإعادة بناء الدولة السورية، وفق مبادئ المواطنة المتساوية، ودولة الحق والقانون، وضمان حقوق كافة المكوّنات السورية وتمثيلها سياسيًا.
كما أنه لا خلاف على إقرار المشاركين في المؤتمر، وثيقة تأسيسية تعبّر عن إرادة جماعية، وتقدّم مقاربة واقعية لحلّ عادل وشامل للقضية الكردية في إطار سوريا موحّدة، “بهويتها متعددة القوميات والأديان والثقافات، ويضمن دستورها الحقوق القومية للشعب الكردي، ويلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، ويصون حرية المرأة وحقوقها ويمكنها من المشاركة الفاعلة في المؤسسات كافة”.
ولا خلاف أيضًا على أن يطالب المشاركون في المؤتمر الكردي بأن يكون نموذج الحكم في سوريا لا مركزيًا، بوصفه بديلًا عن الأطروحات الاتحادية أو الكونفدرالية التي تنادي بها أحزاب كردية، ما يعني جنوح قوى المؤتمر إلى النهج الواقعي الذي باتت تتعامل به بعض القوى الكردية مع الحالة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد البائد.
لكن المستغرب هو تفسير بعض الأحزاب السياسية الكردية بأن اللامركزية المقصودة هي لا مركزية سياسية وإدارية، ما يعني إعادة الأمور مجددًا إلى المطالب الفدرالية والحكم الذاتي، خاصة أن وثيقة المؤتمر تدعو إلى “توحيد جميع المناطق الكردية ضمن وحدة سياسية إدارية متكاملة، في إطار سوريا اتحادية”، في وقت تحرص فيه الإدارة السورية الانتقالية على التعامل برؤية سياسية جامعة مع التحديات التي تواجه وحدة البلاد.
لذلك فضّلت الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، وجرى توقيع اتّفاق بين الرئيس أحمد الشرع، ومظلوم عبدي في العاشر من مارس/ آذار الماضي، أقرّ بأن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية”، وذلك في خطوة سياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، تعكس تركيز الإدارة السورية على استعادة وحدة البلاد، وانفتاحها على منح الأكراد لا مركزية إدارية في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية، وصون حقوقهم الثقافية والقانونية، مع حرصها على دمج قوات “قسد” في الجيش السوري الجديد.
وبالتالي تقتضي الوطنية السورية بألا تذهب الأحزاب الكردية التي اجتمعت في القامشلي إلى المطالبة بـ”تشكيل جمعية تأسيسية برعاية دولية تضم ممثلي كافة المكونات السورية لصياغة دستور بمبادئ ديمقراطية، وتشكيل حكومة من كافة ألوان الطيف السوري ومكوناته بصلاحيات تنفيذية كاملة”، لأنها تحيل إلى عهود الوصاية الدولية المرفوضة من طرف غالبية السوريين، بمن فيهم غالبية السوريين الأكراد.
أخيرًا، تعكس مخرجات مؤتمر وحدة الموقف الكردي بعض الاستقواء، وانعدام الثقة بالحكومة المركزية، لذلك رفعت الأحزاب الكردية سقف مطالبها كي تساومها، ويكون لها حصة في السلطة، لكن المرفوض سوريًا هو ما يشكل تهديدًا يمسّ وحدة البلاد وسيادتها. والسؤال المطروح: هو كيف ستتعامل الحكومة السورية مع مخرجات هذا المؤتمر؟
لن تخرج الإجابة عن أن الحكومة السورية ليس أمامها سوى بذل مزيد من الجهود، وانتهاج لغة الحوار للتعامل مع التحديات التي طرحتها أحزاب المؤتمر، وكذلك لمواجهة التحديات الأخرى التي تواجهها في منطقة الساحل السوري والجنوب أيضًا، لأن بناء سوريا الجديدة يتطلب صدرًا واسعًا، وعقلًا سياسيًا جامعًا يؤمن بضرورة إشراك الجميع، وبمرجعية المواطنة والقانون فوق الاعتبارات الطائفية والفئوية والمناطقية، لأن الدولة ليست امتيازًا حصريًا لأي طائفة أو حزب أو هيئة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وباحث سوري
الجزيرة
——————————–
التسوية الكردية- التركية… ومعالم الشرق الأوسط الجديد/ جو معكرون
تولاي أوغلاري لـ«الشرق الأوسط» : «لا يمكن لأنقرة مصالحة الكرد لديها واستعدائهم في سوريا»
4 مايو 2025 م
أدت أحداث محورية خلال الأشهر الماضية إلى رسم ديناميات جديدة وغير مسبوقة في القضية الكردية بمنظورها الواسع.
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي غيّر حسابات «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي خرجت من عزلتها عن أكراد الإقليم.
إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان مبادرة تسليم سلاح مقاتليه أدى إلى فتح أكراد تركيا قنوات تواصل مع أكراد العراق وسوريا.
في قلب هذه التحوّلات، تأتي الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب والمساواة والديمقراطية (DEM) تولاي حاتم أوغلاري، التركية اليسارية العلوية التي تحمل في هوياتها المركّبة نبض وغنى المشرق العربي وامتداداته.
بشخصيتها الكاريزمية والبسيطة، لا ترفض أوغلاري أي طلب دردشة أو التقاط صورة من مؤيديها الأكراد. التقيتُ بها في ديار بكر، أو آمد كما يسميها الأكراد، بعد وصولها من أنقرة. حرصت على الفور على إخباري، بلغة عربية فصيحة، أنها تتحدر من إسكندرون، التي كانت بين عامي 1921 و1937 جزءاً من لواء إسكندرون المستقل داخل سوريا، والخاضع للسيطرة الفرنسية قبل أن تضمه تركيا لأراضيها في استفتاء «إشكالي» بعد إبعاد سكانه.
وعائلة تولاي من العلويين العرب الذين بقوا، وبرزت الآن كواحدة من السياسيين الأتراك الذين استطاعوا التوسط بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني في لحظة قد تكون تاريخية.
في 27 فبراير (شباط) الماضي، أصدر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، المسجون مدى الحياة في سجن جزيرة إمرالي ببحر مرمرة، دعوة لتسليم سلاح الحزب وحلّه، وهي دعوةٌ نقلها ممثلو حزب الشعوب والمساواة والديمقراطية الذين التقوه في السجن. وكانت القوات الخاصة التركية اعتقلت أوجلان في كينيا في فبراير عام 1999، وتمركز بعد ذلك مقاتلو حزب العمال الكردستاني بشكل أساسي في المناطق الجبلية شمال العراق.
وجاءت دعوة أوجلان عقب بيانٍ صدر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن دولت بهجلي، وهو زعيم حزب قومي متطرف وحليف رئيسي للحزب الحاكم في البرلمان التركي، والذي عرض فيه صفقةً لإطلاق سراح أوجلان مقابل إنهاء حزب العمال الكردستاني تمرّده. توضح أوغلاري لـ«الشرق الأوسط» أنه «مع وجود إعلان عن نية حزب العمال الكردستاني عقد مؤتمر لنزع السلاح، فمن أجل توفير الأساس لذلك، يجب أن تتوقف العمليات العسكرية والقصف الجوي، ويجب إنشاء البنية التحتية التقنية والمادية التي ستمكّن السيد أوجلان من التواصل المباشر مع حزب العمال الكردستاني».
اضطراب في إسطنبول
خلال احتفالها بعيد النوروز في دياربكر في مارس (آذار) الماضي، اضطرت أوغلاري إلى قطع زيارتها لبضع ساعات للذهاب إلى إسطنبول بعدما ألقت السلطات التركية القبض على رئيس بلديتها أكرم إمام أوغلو بتهم الفساد ومساعدة حزب العمال الكردستاني بينما كان يستعد للإعلان عن حملته الرئاسية للتنافس ضد الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان. كان فريق عمل أوغلاري قلقاً بشأن كيفية التعامل مع هذه المسألة المعقدة.
من ناحية أخرى، فإن آخر شيء يريده حزبها هو استفزاز إردوغان لأنهم يتوسطون بين حكومته وحزب العمال الكردستاني، ومن المحتمل أن يتم اعتقالهم، والأهم من ذلك أنه قد يمنعهم من التواصل مع أوجلان في سجنه لتسهيل هذه الصفقة. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للحزب أن يحتمل أن يُنظر إليه على أنه يتنصل من مبادئه الديمقراطية عبر التزام الصمت حيال مسألة كهذه.
وعندما وصلت أوغلاري إلى إسطنبول، كان القرار هو السير على خط رفيع عبر التأكيد في خطاب على دعم كل من السلام والديمقراطية، مع إدانة اعتقال رئيس بلدية مدينة تركية رئيسية متعاطف مع القضايا الكردية، بما يضمن للحزب الحفاظ على خط الاتصال مفتوحاً مع الحكومة التركية.
وتعتقد أوغلاري اليوم أن قرارها التوقف في إسطنبول للاعتراض على اعتقال إمام أوغلو كان صائباً وتقول: «كنا قد حذرنا مراراً في الرأي العام من أن السياسات القمعية ستمتد يوماً ما إلى كل بقعة في تركيا… إذا لم تتحرر آمد (ديار بكر) وفان وماردين، فلن تتحرر إسطنبول وأنقرة وإزمير أيضاً». كانت الحكومة التركية قامت في مراحل سابقة بخطوات مشابهة في المناطق الكردية عبر تعيين «قيّمون إداريون» بدلاً من رؤساء البلديات المنتخبين، لكن ترى أوغلاري أن «سياسة تعيين الأوصياء وتجميد الديمقراطية بدأت اليوم تُطبَّق حتى في إسطنبول تحت ذرائع مختلفة».
نوروز هادىء في دياربكر
للمرة الأولى، كانت دياربكر أكثر هدوءاً من إسطنبول في يوم نوروز، لكن الاحتفال كان مختلفاً هذا العام. بعد بضع ساعات من رقصة غوفيند، وهي رقصة كردية تقليدية، قاطعتها خطب تعبوية، سمعت الحشود الكبيرة صوت أوجلان علناً لأول مرة منذ 12 عاماً. بمجرد بث المقاطع القصيرة القديمة لأوجلان، أصبحت الشرطة التركية في حالة تأهب مع معدات مكافحة الشغب جاهزة لمواجهة أي احتجاجات في «ساحة نوروز» في آمد، بينما كان المحتفلون يرقصون ويهتفون. سألت العشرات من المسؤولين والناشطين المحليين الأكراد عن رأيهم في محادثات السلام وما إذا كانوا يثقون في أن إردوغان سيتابعها، كانت الإجابة بالإجماع: «لقد سئمنا العنف»، ويبدو أنهم متفائلون لكنهم غير متأكدين من كيفية انتهاء هذه العملية.
وكانت عُقدت جولتا محادثات للسلام سابقاً في 2009-2011 و2013-2015، وفشلت كلتاهما في تحقيق اختراق. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، بدأ السجناء الأكراد إضراباً عن الطعام وكان أحد مطالبهم بدء عملية سلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. كان المسؤولون الأتراك يتفاوضون مباشرة مع أوجلان في سجنه بالإضافة إلى وساطة حزب الشعوب الديمقراطي. في 21 مارس 2013، وبعد أشهر من المفاوضات مع الحكومة التركية، تُليت رسالة أوجلان بمناسبة عيد النوروز في آمد باللغتين التركية والكردية، والتي دعت إلى إنهاء الكفاح المسلح. كان مسؤولو حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية» يأملون هذه المرة أن تتمكن السلطات التركية من السماح لهم بالوصول إلى أوجلان عشية يوم النوروز والحصول منه على رسالة لقراءتها في آمد عند الاحتفال بالعيد، إلا أن الاضطرابات في إسطنبول قد تكون أجهضت هذه الخطة لكن لم تُعرقل الوساطة القائمة، إذ التقى الفريق المفاوض مع أوجلان، للمرة الرابعة منذ إعلان مبادرته إنهاء النزاع، في 21 أبريل (نيسان) الماضي.
في مايو (أيار) 2013، بعدما انسحب مقاتلو حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى جبال شمال العراق، انهارت المحادثات وعاد العنف، ثم أُلقي القبض على قادة حزب الشعوب الديمقراطي وحُكم عليهم بالسجن وأُجبر حزبهم على الإغلاق. تم تشكيل حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية» في أكتوبر 2023 كاندماج بين «الشعوب الديمقراطي» وحزب «اليسار الأخضر» بإيعاز من أوجلان لتشكيل جبهة موحدة للقوى التقدمية. عرض أوجلان حالياً هو إنهاء النزاع وحل حزب العمال الكردستاني مقابل ضمانات قانونية وسياسية تقدمها الحكومة التركية، بما في ذلك وقف الملاحقات القضائية والأمنية ضد الأكراد.
مبادرة أوجلان
تشمل مبادرة أوجلان وقف التصعيد، واقتراح وقف نار آحادي، واستعادة حقوقه في السجن للتواصل مع الخارج، وهو ما لم يتح له منذ عام 2021، وتشكيل لجنة تركية-كردية مستقلة لمراقبة السلام. حتى الآن، لم ترد الحكومة التركية بشكل رسمي على مبادرة أوجلان، بل أطلقت حملة عسكرية حدودية استهدفت فيها مواقع لحزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية شمال العراق حيث جرت أكثر من 120 مواجهة بين الطرفين منذ فبراير/ شباط الماضي، تاريخ إعلان مبادرة أوجلان. كذلك ألقت الطائرات التركية منشورات باللغتين التركية والكردية فوق محافظة دهوك، تدعو أعضاء حزب العمال الكردستاني إلى «الاستجابة لنداء أوجلان» و«الاستسلام مقابل التساهل مع من يلقي سلاحه» بخلاف العرض الفعلي.
حزب العمال الكردستاني قال في بيان في 28 أبريل الماضي إن أوجلان سيقود مؤتمر الحزب القادم من دون تحديد الوقت في رسالة ضمنية إلى الحكومة التركية بأنه لن ينعقد مؤتمر الحزب لتسليم السلاح قبل إطلاق سراح أوجلان.
لا يُظهر إردوغان أي مؤشرات على التراجع حتى الآن؛ فهو يتوقع حضور أوجلان إلى البرلمان التركي ليُعلن إلقاء السلاح بلا شروط مسبقة. ومع ذلك، يطالب الجانب الكردي بما يسمّيه ضمانات قانونية وديمقراطية على اعتبار أن الأكراد يشكّلون نحو 20 في المائة من سكان تركيا. وصرح مسؤول محلي كردي لـ«الشرق الأوسط» بأن الدعوة إلى «سياسة ديمقراطية» هي «مسؤولية تقع على عاتق الحكومة التركية».
إذن حتى الآن، لا يوجد اتفاق مكتوب من الطرفين سوى إعلان أوجلان الأحادي في 27 فبراير الماضي وتقول أوغلاري في هذا السياق: «إذا اعتمد الطرفان خطاباً ونهجاً لا يُفرّغ خطوات بعضهما البعض من المضمون، فإن خريطة الطريق الشاملة الكفيلة بإنهاء الصراع جذرياً ستدخل حيّز التنفيذ في إطار هذا المسار».
لكن وحده إردوغان يفرض إيقاع هذا المسار وتوقيته، وهو بطبيعة الحال الطرف الأقوى في هذه المعادلة. وبالمناسبة، هو لا يستخدم هذه المرة خطاباً ديمقراطياً للترويج لمحادثات السلام مع الأكراد كما فعل في المحادثات السابقة، بل على العكس هو في ذروة استخدام السلطة بأدواتها القمعية. في يناير (كانون الثاني) الماضي، اعتقلت السلطات التركية السياسي اليميني المتطرف أوميت أوزداغ، وفي 19 مارس الماضي، رئيس بلدية إسطنبول، ويُنظر إليهما على أنهما يُشتتان الانتباه عن محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي يسعى فيه إردوغان إلى الفوز بولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية لعام 2028.
انعكاسات إقليمية
ما قد يحدث بين إردوغان وأوجلان قد يكون له تأثير على الشرق الأوسط، وبدأت تظهر ملامح هذه التأثيرات. فقد أرسل كل من زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني ممثلين لحضور احتفالات نوروز في آمد والتقيا بمسؤولي حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية»، الذي أرسل أيضاً في فبراير الماضي ممثلين إلى إقليم كردستان العراق لمناقشة مبادرة السلام والتقى بمسؤولين من كل من حزب بارزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني.
خطاب ممثل بارزاني في دياربكر كان متقدماً حيث دعا إلى إطلاق سراح أوجلان، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ التأزم في العلاقة بين الطرفين منذ الانقلاب الذي قاده رئيس الأركان العامة الجنرال التركي كنعان إيفرين مع مجموعة من الضباط في يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1980 وما تبعه من فرار حزب العمال الكردستاني إلى سوريا والعراق.
كل هذا يأتي ضمن حراك انطلق بداية العام الحالي. في شهر يناير الماضي، زار قائد «قسد» مظلوم عبدي أربيل واجتمع مع مسعود البارزاني الذي نصحه بالحوار مع الرئيس السوري أحمد الشرع وتطمين تركيا على حدودها. منذ هذا اللقاء تطور موقف الطرفين بحيث انفتح البارزاني على حزب العمال الكردستاني، ومظلوم عبدي على الشرع.
ولكن، في 19 أبريل الماضي، انعقد الاجتماع الرفيع المستوى الخامس للآلية الأمنية في إنطاليا بين الجابين التركي والعراقي وأجمع مرة أخرى على تصنيف حزب العمال الكردستاني «منظمة إرهابية»، فيما تحاول حكومة إقليم كردستان في العراق التوازن بين رفض استخدام مقاتلي حزب العمال الكردستاني أراضيها في عمليات عسكرية ضد تركيا وبين اعتراضها على التوغل التركي وانتهاك السيادة العراقية. فمعلوم أنه لدى الجيش التركي أكثر من 38 نقطة عسكرية شمال العراق، فيما الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يحكم السليمانية، ترك الخطوط مفتوحة مع الأكراد في المنطقة.
وكان مسعود بارزاني أجرى في سبتمبر 2017 استفتاءً سعياً لاستقلال إقليم كردستان، مما دفع قوات الأمن العراقية وقوات الحشد الشعبي بدعم إيراني إلى دخول مدينة كركوك التي يسيطر عليها الأكراد، وجاء الاستفتاء ليسرّع قرار مسعود بارزاني بالتنحي عن منصب رئيس إقليم كردستان. ويرتبط بارزاني بعلاقات مع إردوغان لأسباب سياسية واقتصادية، لكن إعلانه عن محادثات السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني شجع بارزاني على اتخاذ خطوة الانفتاح على حزب العمال الكردستاني.
أربيل أقرب من أنقرة
القامشلي وأربيل أقرب جغرافيا إلى آمد من أنقرة وإسطنبول، وهناك ترابط عضوي للمناطق الكردية في تركيا مع امتدادها التاريخي عبر الحدود السورية، لكن هناك عوائق جيوسياسية قد تتلاشى تدريجياً. هناك رهان على أن يتحوّل مع الوقت الموقف الرسمي التركي من القيادات الكردية في سوريا إلى نموذج كردستان العراق حيث كانت تعتبر أنقرة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني «تنظيمات إرهابية» قبل أن تعترف بهما الدولة التركية كجزء من حكومة إقليم كردستان وتستقبل ممثليهم رسمياً في أنقرة. بطبيعة الحال لم ترسل «قسد» أي ممثل لها إلى احتفال «النوروز» في آمد لأن علاقتها متوترة مع أنقرة ولا يُسمح لها زيارة تركيا. لكن بدأت تظهر مؤشرات إيجابية لانعكاسات محادثات السلام التركية مع زيارة وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب إلى الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في مدينة الرقة، وهذه الزيارة لا يمكنها أن تحصل من دون سماح السلطات التركية بعبور الحدود.
هدف زيارة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب كان حضور «كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي» في روجافا في مدينة قامشلي بتاريخ 26 أبريل الماضي الذي شارك فيه أيضاً ممثل إقليم كردستان العراق الذي ألقى كلمة مسعود البرزاني، وبالتالي اجتمعت الأطراف الثلاثة في مكان واحد لأول مرة. هذا يأتي بعد الاتفاق الذي وقعه أحمد الشرع مع مظلوم عبدي في 10 مارس الماضي، ويهدف «الكونفرانس» إلى توحيد موقف أكراد سوريا لإيجاد أرضية في محاولة لفك ارتباط «قسد» مع حزب العمال الكردستاني وتشكيل وفد موحّد للحوار مع الشرع، لكن ليس واضحاً إذا ما سينجح البرزاني في فك ارتباط «قسد» بالكامل مع حزب العمال الكردستاني، وقد لا يكون هذا الأمر ضرورياً إذا تم التوصل إلى اتفاق بين إردوغان وأوجلان.
تقول أوغلاري: «من غير المنطقي، بل ويشكّل عائقاً أمام السلام، أن تُبدي حكومة في تركيا نية في المصالحة مع الكرد داخل حدودها، بينما تُصر في الوقت نفسه على اعتبار الكرد السوريين أعداء». معتبرة إنه خلال حكم نظام بشار الأسد «لم تتوفر أرضية للاتفاق… أو لم يُسمح بتوفيرها» وأن «الجهات التي تسيطر على الأرض حالياً تضعف إمكانية الوصول إلى سلام دائم في سوريا». وترى أوغلاري أن السلطة الجديدة «مطالبة بضمان حياة مشتركة تقوم على المساواة في الحقوق، ليس فقط مع الكرد، بل أيضاً مع العلويين والدروز. وحتى الآن، لم يقدّم النظام القائم في دمشق نموذجاً جيداً في هذا الصدد، ولا يُتوقع أن يكون قادراً على تأمين وحدة سوريا بشكل فعلي».
ويتباين ذلك مع المقاربة التركية للقضية الكردية؛ إذ تفضل أنقرة التوصل إلى اتفاقات سلام بـ«التجزئة» مع الأطراف الكردية لديها وفي العراق وسوريا بما يضمن نشوء شريط حدودي يمتد من أربيل إلى قامشلي، قائم على تقديم خدمات سياسية واقتصادية للمنطقة ومن ضمنها إسرائيل.
أوغلاري، التي تُعرّف نفسها بأنها نسوية وعلوية، تشير في سياق حديثها إلى أن «حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت حركة الحرية الكردية تعتمد مقاربة تُعطي الأولوية للاعتراف الدستوري بحقوق الأكراد» لكن «مسألة تحرر الكرد وديمقراطية تركيا ككل تُطرحان كقضية واحدة مترابطة، ولا يتم فصلهما عن بعضهما بعضاً». كما تعتقد أن إردوغان يستخدم الاعتقالات في إسطنبول «لإعادة تشكيل المشهد السياسي» في تركيا «إلا أن اعتقال رؤساء بلديات من جبهة معارضة مختلفة، خارج الإطار الكردي، للمرة الأولى، يمكن اعتباره انعكاساً للإصرار على عدم حلّ القضية الكردية». لكن على الرغم من التحديات، تتمسك أوغلاري بجهود دفع الحوار بين الحكومة التركية وأوجلان «بهدف تحقيق تحوّل ديمقراطي في تركيا» وأنه «في ظل هذه الظروف الاستثنائية واستمرار القمع، علينا أن نستغل كل فرصة ممكنة من أجل إحلال سلام دائم… لا نريد لهذا المسار، القادر على تحقيق حالة من الاستقرار والانفتاح، أن يتعثر مرة أخرى».
الشرق الأوسط
—————————-
هل يقدم حزب العمال الكردستاني حقًا على حلّ نفسه؟/ نديم شنر
4/5/2025
منذ تأسيسها عام 1978، ارتكبت منظمة “بي كا كا” مجازر راح ضحيتها نحو 16 ألفًا من الموظّفين الرسميين في تركيا، من بينهم جنود ورجال شرطة ودرك وأطباء ومعلمون، إضافةً إلى عدد لا يُحصى من المدنيين من نساء وأطفال، وتكبّدت تركيا جرّاء هذه الحرب تكلفة اقتصادية تقدّر بنحو تريليونَي دولار. فهل وصلت المنظمة إلى نهاية الطريق؟
لطالما تلقت “بي كا كا” دعمًا ماديًا وبشريًا وتسليحيًا من قوى متعددة، من بينها روسيا، وإيران وعدد من دول حلف شمال الأطلسي التي تنتمي إليها تركيا، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والسويد، والولايات المتحدة الأميركية. وقد أُبيد نحو 60 ألفًا من عناصرها حتى الآن، فهل يعقل أن تعلن هذه المنظمة عن حلّ نفسها؟
هذا هو السؤال الذي يُطرح بإلحاح في تركيا وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.
وفي الأسبوع الماضي، ورغم أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لم يُدلِ بإجابة قاطعة عن هذا السؤال خلال مشاركته في مؤتمر صحفي مشترك في العاصمة القطرية الدوحة مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فإنّه أعاد تأكيد تطلعاته وعزمه الثابت أمام أعين العالم بأسره، قائلًا بلهجة واضحة فيما يتعلق بالقضية السورية: “أولًا، نحن لا نقبل بأي مبادرة تستهدف وحدة الأراضي السورية.
وبناءً عليه، فإننا نرفض أي تحرك من شأنه أن يتيح استمرارية وجود التنظيمات الإرهابية في سوريا. ولا يمكن قبول تغيير الأسماء أو الهياكل أو الإدارة؛ بهدف تمويه وجود منظمة “بي كا كا ” الإرهابية وإطالة عمرها”.
وأضاف: “نتوقع تفعيل الاتفاق الموقّع بين “واي بي جي” (وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لـ”بي كا كا”) والإدارة المحلية في سوريا خلال الأشهر الماضية.
ونتوقع أيضًا من “بي كا كا” أن تردّ سريعًا وبشكل إيجابي على الدعوة الموجهة إليها، وأن تتخلى عن سلاحها، وتتوقف عن كونها عقبة أمام عودة الحياة إلى طبيعتها في منطقتنا. فكما أُخرج تنظيم الدولة من المنظومة، فإنّ “بي كا كا” أيضًا ستُستأصل. فإما أن ترحل طوعًا وبسلام، وإما أن ترحل بطريقة أخرى، لكنها سترحل لا محالة”.
واختتم قائلًا: “سيكون لذلك تداعيات في سوريا، وإيران، والعراق. وإذا ما واصلت جهةٌ ما، ارتضت أن تكون أداة في يد قوى خارجية، الوقوف في طريقنا كمحارب بالوكالة، فإنّنا بحول الله نمتلك الوسائل والقدرات اللازمة لمواجهتها”.
كلمات الوزير فيدان هذه تعكس استياءه من التأخّر في تنفيذ دعوة عبدالله أوجلان، زعيم منظمة “بي كا كا” الإرهابية والمعتقل منذ عام 1999 في سجن إيمرالي، التي أطلقها في 27 فبراير/ شباط 2024، ودعا فيها إلى حلّ التنظيم. وقد مرّ على تلك الدعوة شهران كاملان دون اتخاذ خطوات فعلية.
جذور الانفصال تمتد إلى 51 عامًا
ترجع جذور التنظيم الإرهابي الانفصالي الذي أسّسه عبدالله أوجلان إلى 51 عامًا مضت. ففي عام 1973، تشكّل في العاصمة أنقرة ما عُرف حينها بـ”مجموعة الأبوكيين” (نسبة إلى لقب أوجلان: أبو)، وبحلول عام 1976 بدأ هذا التيار في الانتشار شرقًا وجنوب شرق الأناضول تحت اسم “ثوار كردستان”. وبحلول عام 1977، انتقلت هذه الجماعة إلى تنفيذ عمليات مسلحة في المناطق الريفية، لتبدأ لاحقًا، اعتبارًا من عام 1978، نشاطها داخل المدن.
وفي اجتماع سري عقده أوجلان مع 18 عضوًا في منطقة ليجه التابعة لمحافظة ديار بكر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، أُعلن رسميًا تأسيس ما يُعرف اليوم بـ”حزب العمال الكردستاني – PKK” كتنظيم غير شرعي.
في بداياته، استهدف “بي كا كا” الجماعات السياسية الكردية التي رآها خصمًا له في مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، فنفّذ ضدها اغتيالات وهجمات دامية. وفي المؤتمر التأسيسي الأول للتنظيم، تقرر تسريع عمليات التنظيم الداخلي، وإعداد البرنامج السياسي والبيان التأسيسي.
لكن اعتقال أحد المشاركين في الاجتماع، ويدعى شاهين دونميز، في مايو/ أيار 1979، واعترافه بالتفاصيل الداخلية للتنظيم، تسبب بحالة من الذعر داخله. وبالتوازي مع استمرار الهجمات على الجماعات الكردية الأخرى، بدأت سلسلة من التصفيات الداخلية بذريعة “العمالة” و”الخيانة”.
وفي خضم هذه الفوضى، بقي أوجلان القائد الأوحد للتنظيم، واستفاد من دعم استخبارات النظام السوري لعبور الحدود في يونيو/ حزيران 1979، حيث أصدر تعليماته بإعلان تأسيس التنظيم عبر “عملية ضخمة تلفت الأنظار”.
من الانفصالية إلى الاستسلام
في ظل حماية الاستخبارات السورية، استقرّ أوجلان في بلدة عين العرب (كوباني حاليًا)، والتي باتت اليوم مركزًا لما يُعرف بـ”بي كا كا/بي واي دي”، ثم انتقل إلى دمشق. وفي 29 يوليو/ تموز 1979، نفّذ أنصاره هجومًا مسلحًا على النائب البرلماني عن حزب العدالة وزعيم عشيرة البوجاق، محمد جلال بوجاق، ما أدى إلى إصابته، ومقتل صهره وطفل في التاسعة من عمره.
وترك الإرهابيون في موقع الهجوم البيان التأسيسي لـ”بي كا كا”، الذي أعلن فيه هدفه بوضوح: “تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة”.
لاحقًا، بدأ أوجلان يعدّل من طرحه السياسي، فانتقل من شعار “كردستان المستقلة والموحّدة” إلى شعارات مثل “الفدرالية” و”الحكم الذاتي الإقليمي”.
وخلال قرابة نصف قرن من العمل المسلح، لم تحقق المنظمة الإرهابية أيًّا من أهدافها المعلنة، باستثناء زراعة بذور القومية العرقية في أذهان فئة محدودة. ويُعزى ذلك إلى النضال المتواصل وغير المنقطع الذي خاضته ضد الدولة التركية بكل مؤسساتها.
لقد بدأ أوجلان مسيرته عام 1979 بشعار: “تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة”، ثم ختمها في 27 فبراير/ شباط 2025 بهذه الكلمات، التي تعكس بوضوح اعترافًا بفشل المشروع: “الانزلاق نحو قومية مفرطة، وما تبعها من أطروحات كالدولة القومية المستقلة، والفدرالية، والحكم الذاتي الإداري، والحلول الثقافوية، لم تعد تُلبّي متطلبات علم الاجتماع التاريخي للمجتمع”.
أي أن أوجلان نفسه أقرّ، بعد 45 عامًا من التمرّد المسلح، بأن لا الدولة الكردية المستقلة، ولا الفدرالية، ولا الحكم الذاتي، تشكّل حلولًا واقعية.
بيان أوجلان
حمل البيان الذي أصدره عبدالله أوجلان بتاريخ 27 فبراير/ شباط 2025 عنوان: “دعوة إلى السلام والمجتمع الديمقراطي”، وقد ورد فيه:
“لقد نشأت منظمة بي كا كا في القرن العشرين، الذي يُعدّ أكثر القرون عنفًا في التاريخ، والذي شهد حربين عالميتين، وتجارب الاشتراكية الواقعية، وأجواء الحرب الباردة التي عمّت العالم، ووسط إنكارٍ تامٍ للواقع الكردي، وقمعٍ للحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير.
وقد تأثرت المنظمة من حيث النظرية والبرنامج والإستراتيجية والتكتيك، بتجربة الاشتراكية الواقعية آنذاك تأثرًا بالغًا.
ومع انهيار الاشتراكية الواقعية في تسعينيات القرن الماضي لأسباب داخلية، ومع انحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم الذي أُحرز في مجال حرية التعبير، دخلت منظمة بي كا كا في مرحلة من الفراغ المعنوي والتكرار المفرط، مما جعل نهايتها، كغيرها من التنظيمات المشابهة، أمرًا ضروريًا.
لقد ظلت العلاقة الكردية التركية على مدى أكثر من ألف عام قائمة على تحالف طوعي، كانت فيه الغاية المشتركة هي الحفاظ على الكيان في مواجهة القوى المهيمنة. لكن الحداثة الرأسمالية، على مدى القرنين الماضيين، سعت إلى تفكيك هذا التحالف، ووجدت من يخدمها في إطار الصراع الطبقي والاجتماعي. وقد تسارعت هذه الوتيرة بفعل التفسيرات الأحادية للجمهورية.
واليوم، ومع ازدياد هشاشة هذه العلاقة التاريخية، فإن إعادة تنظيمها على أساس روح الأخوّة، دون إغفال البعد الإيماني، بات ضرورة ملحّة. فحاجة المجتمع إلى الديمقراطية أمر لا مفر منه.
إن صعود منظمة بي كا كا كأكبر حركة تمرد وعنف في تاريخ الجمهورية، جاء نتيجة انسداد قنوات السياسة الديمقراطية. وإن الحلول القائمة على الدولة القومية المنفصلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي الإداري، أو الأطروحات الثقافوية، الناتجة عن الانجراف القومي المفرط، لم تعد تقدم جوابًا مقنعًا لعلم الاجتماع التاريخي للمجتمع.
إن احترام الهويات، وضمان حرية التعبير والتنظيم الديمقراطي، وحق كل فئة في أن تكون لها بنيتها السوسيو-اقتصادية والسياسية، لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي وساحة سياسية حقيقية”.
ويتابع أوجلان: “إن قرن الجمهورية الثاني لن يكون مستقرًا ومستدامًا إلا إذا تُوّج بالديمقراطية. ولا سبيل لتحقيق الأنظمة المنشودة إلا من خلال الديمقراطية، فالاتفاق الديمقراطي هو الأساس. كما يجب تطوير لغة تناسب الواقع لمرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي.
وفي هذا السياق، ومع دعوة السيد دولت بهتشلي، والموقف الذي أبداه السيد رئيس الجمهورية، والمواقف الإيجابية التي أبدتها بعض الأحزاب السياسية تجاه هذه الدعوة المعروفة، فإنني أوجه دعوة لوقف إطلاق النار وأتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة.
وكما تفعل أي جماعة أو حزب عصري لم يُجبر على إنهاء وجوده قسرًا، فإنني أطلب منكم عقد مؤتمركم واتخاذ قرار: يجب أن تضع جميع المجموعات السلاح، وأن يتم حلّ منظمة بي كا كا. أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تؤمن بالعيش المشترك وتصغي إلى ندائي”.
انهيار النموذج الفكري
كان البيان المكتوب بخط يد أوجلان والمكوّن من ثلاث صفحات ونصف، بمثابة لحظة انهيار النموذج الفكري ليس فقط لتنظيم “بي كا كا/ك ج ك”، بل أيضًا لذراعه السورية “بي واي دي”، وامتداده الأوروبي، وجناحه السياسي داخل تركيا، حزب “ديم”.
فبهذه الدعوة، أعلن مؤسس التنظيم بنفسه انتهاء “الإستراتيجية الأساسية” المزعومة، وأقرّ بأن منظمة بي كا كا أصبحت “فاقدة للمعنى”، لأنها فقدت الهدف الذي أُسست من أجله.
فبعدما حُلّت قضية الهوية في تركيا، ولم تعد هناك أهداف من قبيل الدولة المستقلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي، لم يعد للمنظمة ما تبرّر به استمرارها. وقد لخّص أوجلان ذلك بقوله:
“مع انهيار الاشتراكية الواقعية في التسعينيات لأسباب داخلية، وانحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم في حرية التعبير، فقدت بي كا كا معناها ودخلت مرحلة من التكرار، ومن ثم بات حلها ضرورة كما هو الحال مع التنظيمات المشابهة” .
وأخيرًا، ختم أوجلان دعوته الحاسمة بقوله:
“أتحمّل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة. وأدعو كل المجموعات التابعة لبي كا كا لعقد مؤتمر واتخاذ قرار نهائي: على الجميع ترك السلاح، ويجب أن تُحلّ منظمة بي كا كا”.
قرارات لم تلتزم بها “بي كا كا”
حين تحدّث أوجلان عن “جميع المجموعات”، فقد كان يقصد كامل هيكل “بي كا كا/ ك ج ك”، سواء في تركيا، أو في سوريا، أو إيران، أو العراق، أو في الشتات الأوروبي. ومع ذلك، وبناءً على تجارب سابقة، كان يدرك أن دعوته لن تلقى الاستجابة المرجوّة، ولهذا أنهى بيانه المكتوب بخط يده بجملة ذات دلالة:
“أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تصغي إلى ندائي”.
المراقبون المقربون من ملف “بي كا كا”، والذين يدركون تمامًا أنّ هذه المنظمة لم تعد تسعى بأي شكل لـ”حقوق الأكراد”، وإنما تحوّلت إلى أداة خاضعة تمامًا للولايات المتحدة، وذراع يُستخدم لصالح إسرائيل الصهيونية المنغمسة في جرائم الإبادة، يرون أنّ التنظيم لن يُقدم بسهولة على حلّ نفسه أو على تسليم سلاحه، ولن يلتزم بوقف إطلاق النار.
ذلك أن “بي كا كا” سبق لها أن أعلنت عن قرارات “وقف إطلاق نار/تسليم سلاح/ حل التنظيم” ست مرات، وذلك في الأعوام: 1993، 1995، 1998، 2006، 2009، و2013، لكنها في كل مرة ما لبثت أن نكثت عهودها، واستأنفت عملياتها الإرهابية.
وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وهو اليوم الذي افتُتحت فيه الدورة الجديدة للبرلمان التركي، توجّه رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي إلى مقاعد نواب حزب “ديم”، الذراع السياسية لـ”بي كا كا”، وصافحهم في خطوة رمزية؛ فُسّرت بأنها البداية لمبادرة سياسية جديدة. وإن قُدّر لهذه المبادرة أن تكتمل، فستكون هذه المرة السابعة التي يُتخذ فيها قرار بحل التنظيم.
لكن، وعلى الرغم من الآمال المعقودة على بناء “تركيا خالية من الإرهاب”، فإنّ التجارب المريرة السابقة تستدعي الحذر. ولهذا يتردد كثيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية مصطلح “تفاؤل حذر”.
مؤشرات غير مبشّرة
غير أنّ الأخبار الواردة من خلف الكواليس لا تدعو حتى لهذا القدر من التفاؤل؛ بل على العكس، فإن ما يُنقل عن اللجنة التنفيذية لـ”بي كا كا” يفيد بأنها تطرح شروطًا لقبول حلّ نفسها.
ومن أكثر الشروط غرابة أنها تطلب أن يترأس عبدالله أوجلان بنفسه مؤتمر التنظيم، رغم أنه لم يُبدِ هذا الطلب أصلًا، وهو يقضي حكمًا بالسجن المؤبد!
وفي بيان نُشر خلال عطلة نهاية الأسبوع، قالت اللجنة: “لا نريد أن نكون الطرف الذي يخرق العملية”، لكنها بذلك ألمحت ضمنيًا إلى احتمال عودتها إلى العمل الإرهابي مجددًا.
يريدون أن يُشعلوا فتيل القتال، ولكن دون أن تُنسب إليهم المسؤولية، تمامًا كما اعتادوا، عبر سياسة كسب الوقت والمماطلة. أما تغيير الأسماء والقيادات، فهو من التكتيكات المتكررة لديهم، وإظهار العداء للعنف ما هو إلا نفاق سياسي يتقنونه جيدًا.
كما يُتوقّع أن يُقدِم التنظيم على تنفيذ عمليات استفزازية في الداخل التركي، أو في الأراضي السورية، والعراقية، مع الحرص على أن تُنسب هذه العمليات زيفًا إلى الأتراك، بغرض إثارة الفتنة.
وقد تكون بعض هذه الهجمات موجّهة ضد الأكراد أنفسهم، أو ضد أهداف أميركية سبق أن أعلنت نيتها الانسحاب من المنطقة، وهو ما قد يدخل في إطار التصعيد الاستفزازي.
السلاح: مصدر القوة الوحيد
تاريخ منظمة “بي كا كا”، الممتد لنصف قرن، يجعل جميع السيناريوهات ممكنة، غير أن أضعفها احتمالًا هو تخليها عن العنف والسلاح، وهما مصدر قوتها الوحيد.
لقد استمرت “بي كا كا” طوال خمسين عامًا لسببين رئيسيين:
الدعم الخارجي الذي تلقّته من دول مثل إسرائيل، إيران، الولايات المتحدة، ودول أوروبية وروسيا.
الامتداد السياسي داخل تركيا، ممثلًا بحزب “ديم”.
ما دام هذا الدعم الدولي مستمرًا، وما دام جناحها السياسي في تركيا لم يُقطع نهائيًا، فلن يكون بمقدور أمثالنا أن نكون متفائلين. لا نملك إلا “التحفظ”، لا التفاؤل.
أملي الوحيد هو أن يتمكّن حزب “ديم”، الذراع السياسية لـ”بي كا كا”، من النأي بنفسه بصدق عن التنظيم الإرهابي. غير أن المواقف الصادرة عنه حتى الآن تشير إلى غموض كبير، وعدم وضوح الرؤية.
بكلمات أخرى، لا يوجد تغيير فعلي في الظروف التي أوجدت “بي كا كا”. والدولة التركية على دراية تامة بذلك.
وقد عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن هذا الإدراك بقوله: “إذا لم تُنفَّذ الوعود، وإذا تحوّلت العملية إلى مراوغة وتسويف، أو محاولات لخداعنا بتغيير الأسماء دون تغيير الجوهر، فسيُرفع القلم عنا. وسنواصل عملياتنا الجارية بلا هوادة، حتى لا يبقى حجرٌ فوق حجر، ولا رأسٌ فوق كتف، حتى القضاء على آخر إرهابي”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وصحفي تركي
الجزيرة
————————-
=========================