تاريختحقيقاتسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

“مجزرة الشعيطات” تخرج من قبور دير الزور…  قرابة الألف قتيل من عشيرة واحدة/ سهاد الدالي

الجمعة 16 مايو 2025

خلال الأعوام الـ13 الماضية، غرقت سوريا في الدم والعنف الممنهج، وتخطت انتهاكات حقوق الإنسان أنواع الإجرام كلها، لتصل إلى المجازر الجماعية وجرائم الحرب.

ثقافة العنف التي غرسها نظام الأسد وحزب البعث في البلاد، لا تزال تُنتج أشكالاً وموجات لا تنتهي من العنف والإجرام على غالبية الأراضي السورية، وكانت آخرها مجازر الساحل في محافظتَي اللاذقية وطرطوس في آذار/ مارس الماضي، التي راح ضحيتها المئات من الأطراف المتصارعة.

ضمن هذا السياق العنفي الجماعي المفتوح، نفتح الملف على إحدى أكبر المجازر التي ارتكبها تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، بحق عشيرة الشعيطات في محافظة دير الزور، خلال شهر آب/ أغسطس من العام 2014، وهي لأهميتها، محور بحث ودراسة توثيقية أجراها “متحف سجون داعش”، ونشرها على موقعه الإلكتروني أخيراً، ضمن سلسلة أبحاث ودراسات وتحقيقات عن مجازر التنظيم وسجونه في المنطقة.

على الرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على “مجزرة الشعيطات”، وما بُذل من جهود حقوقية وإعلامية في تغطيتها، إلا أنّ “العديد من جوانبها لا يزال مُلتبساً، خصوصاً على مستوى التوثيق والسردية”، بحسب ما يشرح مدير متحف سجون داعش، عامر مطر.

يرى مطر، أنّ المجزرة “لم تحظَ بالدرجة الكافية من الدراسة والتوثيق المنهجي، سواء على مستوى شرارة الحدث ذاته وملابساته وسياقه السابق واللاحق، أو على مستوى رسم خطّ زمنيّ واضح للمجزرة مدعوم بالوثائق الكافية والتواريخ والشهادات. أضف إلى ذلك مستوى البيانات والأرقام المتعلقة بالضحايا، والتي لا تزال إشكاليةً في ظلّ تعدّدها وتفاوتها بين جهة وأخرى”.

ويضيف: “لم يسبق التعمّق في دراسة تبعات الحدث، وما طرأ من أنماط ومراحل مختلفة للعنف، تمثلت في أدوات عقابية شملت التهجير القسري، واستمرار الاعتقالات، والقتل بتهم متعددة، بالإضافة إلى جولات المفاوضات المكوكية التي خاضها وجهاء الشعيطات للسماح بعودة المهجّرين وفق شروط معيّنة، شابهت حالة طوارئ عاشتها المنطقة لسنوات”.

ملامح فعل إبادي

في تاريخ سوريا الحديث، تعلق في ذاكرة السوريين مجازر كثيرة، سواء تلك التي ارتكبها النظام المخلوع أو الجماعات الإسلامية المتطرفة، فلماذا تُعدّ مجزرة الشعيطات من أبرز أحداث العنف الجماعي في البلاد؟

يرى مطر، أنّ حجم المجزرة من حيث الأعداد الموثّقة للضحايا المدنيين، والتي بلغت 814 قتيلاً خلال خط زمني لا يتجاوز الأسابيع القليلة، يجعلها، من ناحية الأعداد، ثاني أكبر مجزرة في سوريا بعد هجوم الكيماوي الذي نفّذه نظام الأسد في غوطة دمشق الشرقية صيف العام 2013، والأكبر على يد “تنظيم الدولة” خلال فترة صعوده في سوريا.

ويشير مطر، إلى طبيعة وأنماط العنف الأدائي للتنظيم في تنفيذ هذه المجزرة (خلّفت ما يقارب 1،563 يتيماً وأكثر من 385 أرملةً و250 مفقوداً)، والتي عكست فلسفة “إدارة التوحّش” التي اعتمدها خلال تمدده وفرض نفسه كسلطة في مناطق من سوريا والعراق.

ويتحدث مطر عن “خصوصية الحامل الديني-الأيديولوجي الذي شكّل مبرراً وغطاء لقتل المئات من المدنيين، وخطاباً تعبوياً لتجييش العناصر التي ارتكبت الجريمة، والتي تجلّت فيها ملامح فعل إبادي، توافرت فيه النيّة الكاملة، ثم أُصدر الأمر ونُفِّذ بحقّ مجموعة عشائرية معيّنة خلال خط زمني محدد، قبل أن يتوقف نسبياً بأمر من الجهة المنفذة”.

ضبط السردية

يأتي البحث في مجزرة الشعيطات، بحسب مطر، “كمحاولة لإعادة توثيق وتشكيل الحدث وضبط سرديته من جهة، وتوفير أساس معرفي للبناء عليه في مسارات مختلفة من جهة أخرى، خصوصاً المسارات الحقوقية التي لا تزال معلّقةً ومفتوحةً، وذلك بسبب وجود أعداد كبيرة من المفقودين، وتواصل اكتشاف المقابر الجماعية، ناهيك عن تورّط عدد كبير من الأشخاص في هذا الحدث الذي يُشكّل جزءاً من مسار عدالة طويل”. وهذا يسهم في تأمين أرضية معرفية قد يُبنى عليها في استكمال دراسة وفهم سلوك “تنظيم الدولة” في سوريا، والتفاعلات المحلية الاجتماعية-العسكرية إبّان سيطرته.

تركّز الدراسة على إعادة ضبط وتشكيل سردية الحدث، عبر تتبّع الخطّ الزمني للمجزرة وأحداثها التفصيلية، بما فيها عمليات القتل الجماعي، والاعتقالات العشوائية، والتهجير، وسرقة ممتلكات السكان ومنازلهم وتفجير بعضها، مروراً بالمفاوضات التي خاضها وجهاء المنطقة في محاولة لإيقاف المجزرة وعودة المهجّرين، وصولاً إلى مرحلة ما بعد العودة وما تخللها من إجراءات عقابية استمرت معها جرائم القتل، وإن اختلفت وتيرتها، وعثور السكان على المقابر الجماعية. وفي السياق، تقدّم هذه الدراسة مسحاً أوّلياً للمقابر الجماعية التي اكتشفها السكان بين نهاية العام 2014، وحتى تاريخ اكتشاف أحدث موقع في العام 2020. وتنتقل أخيراً إلى تحليل الأرقام والبيانات الخاصة بالمجزرة، وذلك وفقاً لما هو متوافر لدى “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات”، التي أجرت في العام 2020، مسحاً لأعداد ضحايا العشيرة الذين سقطوا على يد “داعش”، يُعدّ الأوسع إلى اليوم.

عشرات المقابلات ومئات الوثائق

يقول الباحث الأساس في الدراسة، ساشا العلو: “اعتمدت الدراسة على مصادر بيانات متنوّعة، ثانوية وأوّلية، على رأسها المقابلات الميدانية مع ذوي الضحايا والمفقودين (27 مقابلةً)، ومع المعتقلين (26 مقابلةً)، والمقاتلين السابقين (27 مقابلةً)، ومع ستة من وجهاء العشيرة، ومع عشرة ناشطين وإعلاميين من أبناء العشيرة ممن شهدوا المعارك وساهموا في تغطيتها وحضروا حدث المجزرة، بالإضافة إلى كونهم من ذوي الضحايا. أُجريت هذه المقابلات على مدار سنوات مع عيّنات عدة، تنتمي إلى شرائح مختلفة ذات صلة بالحدث. المقابلات جميعها سُجّلت في بلدات عشيرة الشعيطات، وراعت قدر الإمكان التوزّع المتوازن للعيّنة وفقاً للمناطق الجغرافية (أبو حمام، الكشكية، غرانيج).

استندت الدراسة إلى ما لا يقلّ عن 150 وثيقةً متوافرةً حول المجزرة، تمثلت في مراسلات التنظيم وتعميماته وقراراته، أو في نصوص الاتفاقات التي فرضها في المنطقة، بالإضافة إلى الصور والتسجيلات المصوّرة حول المجزرة، والتي أمكن الحصول عليها من مصادر مختلفة، سواء التي بثّها عناصر “داعش” في تلك الفترة، أو التي التقطها المدنيون والناشطون، بالإضافة إلى بعض الوثائق المسرّبة، أو التي وُجدت في مقارّ التنظيم إثر هزيمته العسكرية وخروجه من المنطقة.

تعاون “متحف سجون داعش” مع “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات”، كمصدر للأرقام والبيانات المتعلقة بالضحايا، فأمكن الاطلاع على الأعداد الموثقة لدى الرابطة من تاريخ 1 كانون الثاني/ يناير 2014، وحتى تاريخ سقوط موثّق لآخر ضحية في 15 آب/ أغسطس 2021، وقد بلغ العدد 814 ضحيةً. وقد ضُبطت البيانات المتوافرة إحصائياً، ثم حُللت على مستويات عدة، كما تم التعاون مع الرابطة على مسح مواقع المقابر الجماعية المكتشفة حتى العام 2020.

نشأة “تنظيم الدولة” وصعوده في دير الزور

كي يفهم القارئ السياق السياسي والتاريخي والعسكري للمجزرة وللمنطقة، تخصص الدراسة فصلاً كاملاً حول نشأة “تنظيم الدولة” وصعوده في دير الزور، منذ 2012، وكيف تقدّم وسيطر، وحيثيات صراعاته مع الفصائل العسكرية والعشائر للسيطرة على حقول النفط والثروات، بالإضافة إلى المفاوضات بين داعش وجبهة النصرة والفصائل الأخرى، والاتفاقات والتحالفات ضد التنظيم، وطبيعة المواجهات العسكرية… وتُفرد الدراسة فصلاً عن شرارة المعركة وخطط داعش القمعية التدميرية للمجتمع في دير الزور، بدءاً من فرض إطلاق اللحى وتقصير البناطيل ومنع التدخين، والتشديد الأمني على المقاتلين السابقين في الفصائل مثل “الجيش الحر” و”جبهة النصرة”، بالإضافة إلى الإعدامات الميدانية وعمليات القتل الفورية وغيرها من الجرائم في وضح النهار، وعلى مسمع الصغار والكبار.

تقف الدراسة على تفاصيل طريق المجزرة يوماً بيوم، بدءاً من 31 تموز/ يوليو وحتى 11 آب/ أغسطس 2014. ثم تصل إلى ملامح الإبادة الجماعية، ثم إلى العودة للمدنيين الهاربين من نار العنف والذبح والإعدام والعفو المشروط.

وماذا بعد العودة؟ حرق بيوت، ونهب أخرى وما فيها من أغراض ثمينة، من الشبابيك إلى الأبواب وأواني المطبخ، وحتى المقابر الجماعية!

لم تكن الخسائر المادية سوى تمهيد لما هو أقسى، إذ لم تمضِ أيام على عودة أهل مدينة غرانيج (شرقي دير الزور)، حتى بدأ السكان يعثرون على الجثث في الأحياء، تلك التي لم يبذلوا جهداً كبيراً في اكتشافها، إذ كان بعضها مرمياً على حافات السواقي، أو مدفوناً عشوائيّاً وليس على عمق كبير، وقد غُطّيت بقشرة تراب فحسب في الطرقات الفرعية أو في محيط بعض المنازل، وكانت غالبيتها تعود لمدنيين ممن اعتُقلوا في فترة المجزرة.

ويسرد ساشا: “أخذت تتصاعد تلك الحالة وتزداد معها أعداد الجثث المكتشفة، حتى بات خبر العثور على جثة في أحد الأماكن خبراً متوقعاً بالنسبة للسكان، يستدعي التوجه إلى الموقع ومحاولة التعرّف على هويتها، علّها تكون لأحد أقرباء الأهالي، ثم دفنها بطريقة لائقة، دون أي قدرة على استكمال مراسم الحزن وإقامة مجالس العزاء، خصوصاً وسط الإجراءات الأمنية التي فرضها داعش، ما بعد العودة”.

لم يكتفِ التنظيم بالشروط السابقة، وإنما حدد فور عودة السكان مجموعةً أخرى من الشروط، فرضت ما يُشبه حالة طوارئ امتدت لشهرين من تاريخ عودة كل بلدة، بعد أن أعلن عنها التنظيم بشكل رسمي عبر منشورات وملصقات في الشوارع، وشملت:

– منع التجمعات، أي لا عزاء ولا فرح.

– فرض حظر تجوال من الساعة الثامنة مساءً وحتى الخامسة فجراً.

– منع حيازة السلاح لأي سبب.

– الاعتراف بأنّ من قاتل التنظيم مرتدّ.

– التهديد بالقتل لكل من ثبتت خيانته أو يحرّض على قتال التنظيم.

وما سبق كله تفيد به الدراسة.

توثيق منهجي للأرقام والبيانات حول الضحايا

تنفرد الدراسة بقوائم دقيقة للضحايا، وطريقة قتلهم الفظيعة، وموقع القتل الجغرافي تحديداً (في أي حيّ أو سجن أو شارع)، وتاريخ القتل، بالإضافة إلى جدول يُمثّل مسحاً لأبرز المواقع التي وُجدت فيها الجثامين والمقابر الجماعية.

هذا الجدول لا يُعدّ مسحاً نهائياً لتلك المواقع، بقدر ما يُمثّل توثيقاً لأبرزها.

توزّعت بيانات الجدول على ستّ خانات توضح: اسم الموقع وجغرافيته، تاريخ اكتشافه، عدد الضحايا الذين وُجدوا فيه، طرائق القتل المعتمدة، التاريخ المقدّر لارتكاب الجريمة، نوع التوثيق الخاص بالموقع (صور، مقاطع مصوّرة، شهادات)، بالإضافة إلى ملاحظات حول التعرّف على الجثامين التي وُجدت في الموقع، ونقلها إلى أماكن أخرى.

يقول ساشا العلو، إنّ “التوثيق المنهجي للأرقام والبيانات الدقيقة حول الضحايا والمفقودين، مثّل إحدى أكثر المسائل إشكاليةً في إطار السردية الخاصة بمجزرة الشعيطات، لأسباب عدة تتعلق أولاً بالظرف الموضوعي للمجزرة، والذي قُتل خلاله أو لُوحق أو هُجّر أغلب الإعلاميين والناشطين في المنطقة، بالإضافة إلى كون “تنظيم الدولة” قد غيّبها وعتّم عليها، وهو ما أدى إلى اعتماد المراصد والمنظمات الحقوقية (محلية ودولية)، على التقديرات التقريبية لأعداد الضحايا والمفقودين، والتي بُنيت بطبيعة الحال على إفادات شهود العيان، والصور، والمقاطع المصورة، والمصادر المحلية، فصدّرت خلال الأسابيع الأولى من المجزرة أرقاماً حول الضحايا تتراوح ما بين 700 و900 صحية، ثم بلغت تلك الأرقام حدود الـ1،200 ضحية في بعض وكالات الأنباء ووسائل الإعلام”.

ويلفت إلى أنه، على الرغم من اكتشاف العديد من المقابر الجماعية، “لا تزال هناك حتى اليوم مواقع غير مكتشفة”.

وفي هذا الإطار، طلب، كما جاء في التوصيات، توجيه جهود المنظمات الدولية للتحقيق في شأن سائر المقابر الجماعية غير المكتشفة، وتوسيع البحث وجمع الأدلة حول ما اكتُشف منها، بالإضافة إلى دفع السلطات القائمة إلى تقديم كل التسهيلات للمنظمات المستقلّة والمؤهلة، لتمكينها من الدخول إلى المنطقة وأخذ العيّنات ومتابعة العمل عليها بشكل جديّ، خصوصاً مع أخذ موافقات مسبقة من بعض ذوي الضحايا وإهمالها.

وريثما يتم ذلك، لا بدّ من تأمين الحماية لبعض المواقع ومنع التلاعب بالأدلة عن قصد أو غير قصد، وكذلك يجب نشر الوعي بين الأهالي بأهمية حماية تلك المواقع، بحسب توصية الدراسة.

250 مفقوداً حتى اليوم

أما ملف المفقودين، فيُمثّل كما يؤكد ساشا، “أحد أبرز الملفات المفتوحة في إطار مجزرة الشعيطات، خصوصاً مع عدم وجود مسح منهجي دقيق لأعدادهم، والاستناد إلى تقديرات تتحدث عن 250 مفقوداً إلى اليوم”.

ويقول عامر مطر: “لا بدّ من دعم جهود حقيقية تُبذل في سبيل قضية المفقودين وإحصائهم، خصوصاً مع تشكيل الجمعية العامة للأمم المتحدة ‘المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية’، التي يمكن حثّها على الاضطلاع بمسؤولياتها في إطلاق تحقيق جدّي حول الكشف عن مصير مفقودي الشعيطات وتحديد مواقع وجودهم، وتقديم كل أنواع الدعم المتاح لذويهم، والتواصل في هذا الإطار مع روابط الضحايا على الأرض، بعيداً عن مكاتب المفقودين التي فتحتها سلطات الأمر الواقع، والتي لا تملك البيانات ولا إمكانية الوصول الكافي إلى ذوي الضحايا والمفقودين”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى