السوريون ينعمون بمزيد من الحرية بعد الأسد، لكن هل يمكن أن يخسروها قريباً؟/ لينا سنجاب

سوريا
14.05.2025
بعد مرور أربعة أشهر من سقوط الأسد، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. فرغم التقدم الكبير في نيل بعض الحريات الاجتماعية، تتزايد المخاوف بشأن شكل الديمقراطية القادمة، وكذلك حول دور الإسلام في النظام الجديد، فإلى متى يمكن أن تدوم هذه الحريات الاجتماعية؟ وهل يمكن، كما يخشى البعض، أن تكون هذه المكتسبات مؤقتة؟
في صباح يوم 8 ديسمبر 2024، كنت أنتظر بقلق عند الحدود اللبنانية، على أمل الدخول إلى سوريا فور فتح المعبر، دون أن أعرف ما الذي ينتظرني.
كان بشار الأسد، الرئيس الذي حكم البلاد لمدة 24 عاماً، قد رحل. تقدّم مقاتلو المعارضة نحو دمشق، وسيطروا على مدن رئيسية من بينها حلب. لم أصدق ما رأيته: سوريا أصبحت حرّة.
مثل كثير من السوريين، لم أعرف البلاد إلا تحت حكم الأسد ووالده حافظ، الذي حكم من عام 1971 حتى عام 2000. كانت الحياة تحت حكم عائلة الأسد تعني أكثر من 50 عاماً من الاختفاءات القسرية والاعتقالات – والحرب الأهلية التي بدأت عام 2011 أودت بحياة مئات الآلاف من السوريين.
كنت قد اعتُقلت في بداية الانتفاضة ذلك العام، وعدة مرات بعدها؛ وشاهدت رجالاً يُصطفّون لتلقّي الضرب، وسمعت صرخات التعذيب. وحتى بعد مغادرتي للبلاد عام 2013، علمت أن قوات الأمن اقتحمت شقتي في دمشق وخرّبتها.
كنت أظن أنني فقدت وطني إلى الأبد، ثم فجأة، سقط النظام الديكتاتوري في غضون أكثر من أسبوع بقليل. وعندما عبرت الحدود إلى البلاد دون خوف من الاعتقال، وشاهدت مقاتلي المعارضة يطلقون النار في الهواء احتفالاً، بينما الناس يحتفلون في الشوارع، شعرت برغبة في الضحك والبكاء في آنٍ واحد.
لأسابيع، أصبحت ساحة الأمويين بدمشق مركزًا للاحتفالات، كان الشباب وكبار السن يتحدثون بحرية عن السياسة، وكان النقاش حول مستقبل سوريا يدور علنًا في كل مكان، بين باعة الشوارع وسائقي التاكسي والأولاد الذين ينظفون الأحذية. كل هذا كان لا يمكن تصوره في عهد الأسد، إذ لم يكن بإمكان السوريين الاحتجاج بحرية خوفًا من الانتقام.
لكن بعد مرور أربعة أشهر فقط، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. فرغم التقدم الكبير في نيل بعض الحريات الاجتماعية، تتزايد المخاوف بشأن شكل الديمقراطية القادمة، وكذلك حول دور الإسلام في النظام الجديد.
فإلى متى يمكن أن تدوم هذه الحريات الاجتماعية؟ وهل يمكن، كما يخشى البعض، أن تكون هذه المكتسبات مؤقتة؟
عودة من المنفى للكثيرين
في مقهى الروضة بوسط دمشق، مقابل مبنى البرلمان، يجتمع مثقفون حول طاولات طويلة ليدخنوا الشيشة ويتحدثوا عن الثقافة. في عهد الأسد، كان يتم اعتقال النشطاء السياسيين من هناك، وكان هناك اعتقاد بأن بعض النادلين يعملون كمخبرين للنظام.
اليوم، المشهد مختلف تمامًا. تُنظم في المقهى جلسات حوارية وتُعزف الموسيقى. كما عاد العديد من الشخصيات البارزة التي كانت قد فرت من البلاد، وكان يُستقبل بعضهم بفرقة موسيقية تعزف أغانٍ تراثية على إيقاع الطبل الكبير.
الصحفي السوري محمد غنام، أحد العائدين، يقول إنه قضى شهورًا في سجون النظام، ثم انتقل إلى فرنسا، وشعوره بالفرح عند العودة لا يوصف.
يقول: “أعتقد أن على كل من يستطيع العودة أن يعود لبناء البلد”،مضيفاً “الفرصة متاحة الآن لفعل ما تشاء مقارنة بما كان قبل 8 ديسمبر 2024”.
ويضيف متأملاً الماضي: “حتى الخطباء في المساجد كانوا يحتاجون لموافقة على ما سيقولونه. أما الآن فالأمر حر تمامًا. في خطبة الجمعة، تحدث الإمام عن أن حريتك الشخصية لا ينبغي أن تتعدى على حرية الآخرين”.
عاد كذلك عدي الزعبي إلى سوريا بعد 14 عامًا. كان عدي قد غادر للدراسة لكنه لم يتمكن من العودة من قبل بسبب آرائه المعارضة للنظام.
قال لي: “كانت كتبي ممنوعة هنا. الآن لا توجد رقابة، يمكنك قراءة ما تشاء. وفوجئت بأن كثيرًا من الناس يريدون القراءة والمعرفة”.
“هذا تغيير كبير” يقول علي الأتاسي، صانع أفلام وثائقية سوري وابن الرئيس السوري السابق نور الدين الأتاسي الذي كان قد أُطيح به في انقلاب قاده حافظ الأسد.
“لقد غيّر قواعد اللعبة، وفتح آفاقًا واسعة للبلاد.”
حماية المشهد الثقافي
كانت سوريا تفخر دومًا بمشهدها الثقافي والفني الحيوي. جهدت عائلة الأسد لتقديم صورة ثقافية غنية للعالم، لكن رغم ذلك قُتل بعض الفنانين والكتّاب بسبب آرائهم السياسية.
في السابق، كان حمل كتب معينة سببًا كافيًا للاعتقال. أما اليوم، فتُعرض كل أنواع الكتب في مكتبات العاصمة – حتى الكتب السياسية. وتُعرض أفلام كانت محظورة سابقًا في نوادي السينما.
ولأسابيع بعد سقوط الأسد، لم تعين الحكومة المؤقتة وزيرًا للثقافة، لكن الموسيقيين والفنانين نظموا أنفسهم لحماية المشهد الفني.
ومع ذلك، ظهرت مخاوف جديدة: فبينما كانت النقاشات السياسية تُقمع في عهد الأسد، يخشى البعض من أن يؤدي تدخل رجال الدين إلى قمع بعض أشكال الفن باعتبارها “معادية للدين”.
لكن لا يوجد دليل واضح على ذلك. فقد شوهد الدكتور ماهر الشرع، شقيق الرئيس المؤقت، في دار الأوبرا برفقة عائلته؛ حيث عزف موسيقيون سوريون مقطوعات لفيفالدي، وبدت العائلة وكأنها أي عائلة عصرية تقضي عطلة نهاية الأسبوع في نشاط ثقافي.
وبعد سقوط الأسد، أُقيمت فعالية ثقافية في “بيت فارحي”، وهو منزل تاريخي في قلب الحي اليهودي بدمشق، تضمّنت حوارات حول السينما والموسيقى والمسرح وعروضًا فنية. وعزفت أوركسترا نسائية بالكامل أغانٍ تمجد الثورات والشهداء، مما أبكى بعض الحضور.
تقول نورا مراد، مصممة رقصات: “من الرائع أن تتاح لنا الفرصة لنتحدث سويًا حول كيفية حماية ودعم المشهد الفني في سوريا”.
ويُبدي علي الأتاسي تفاؤلاً مماثلاً: “أعتقد أن السوريين لن يسمحوا لهذا النظام الجديد بالتدخل في حياتهم الخاصة، أو بفرض قواعد على كيفية تصرفهم في الأماكن العامة”.
تركيز السلطة
حين تم تعيين الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي قاد الهجوم الذي أطاح بالأسد، من قبل مجلس عسكري في 29 يناير، ألقى خطابًا أكد فيه أن الأولوية هي “سدّ الفراغ السياسي بطريقة شرعية وقانونية”.
لكن بعد مرور أشهر، بدأت تظهر مخاوف بشأن إمكانية بناء ديمقراطية دائمة، فلا يوجد نظام لمحاسبة المسؤولين، بمن فيهم الرئيس، إلى أن يتم اعتماد دستور دائم وإجراء انتخابات.
يقول الأتاسي: “في الأشهر الماضية، لم يكن النظام مستعدًا لتقاسم السلطة أو السماح لقوى سياسية واجتماعية أخرى بأخذ مكانها في المجتمع”.
ويتابع: “من دون فتح الساحة السياسية لقوى أخرى، لا أعتقد أن الشـرع سيتمكن من إعادة سوريا إلى المجتمع الدولي”.
في فبراير، اجتمع المئات في قصر الشعب بدمشق في حوار وطني استمر يومين حول مستقبل سوريا. لكن بعض النقاد رأوا أن الاجتماع تم على عجل، ولم يكن كافيًا لتغطية كل القضايا الجوهرية.
يقول عبد الحي السيد، وهو خبير قانوني سوري: “أجزاء كبيرة من المجتمع السوري شعرت بالإقصاء أو عدم التمثيل”. ويضيف: “[الاجتماع] بدا وكأنه محاولة لمحاكاة قبول واسع”. ومع ذلك، يعترف: “يعكس هذا نوعًا من الاستعداد لدى السلطات الجديدة لتوسيع نطاق التشاور”.
وقد أكد الشرع، الذي كان قائدًا لهيئة تحرير الشام (HTS)، التزامه بإجراء “انتخابات حرّة ونزيهة”. كما عيّن لجنة لصياغة إعلان دستوري يحدد مستقبل سوريا خلال فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، إلا أن هذا الإعلان لم يُكرّس مبدأ فصل السلطات.
يقول الأتاسي: “عليه أن يثبت جديته في إشراك كل الفئات السياسية”.
وقد تم بالفعل تعيين امرأة مسيحية كوزيرة للشؤون الاجتماعية، كما أصبح رئيس الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) وزيرًا للطوارئ والكوارث.
لكن أثار تعيين شقيق الشرع رئيسًا للشؤون الرئاسية تساؤلات.
ويضيف عبد الحي السيد: “أعضاء بارزون سابقون في هيئة تحرير الشام يشغلون الآن مناصب سيادية حساسة”.
كما يشير الأتاسي إلى أن “أشخاصًا مؤهلين في القانون الدولي لم يُطلب منهم المشاركة في الحكومة، وتم تجاهلهم”.
وزير العدل يحمل شهادة في الشريعة الإسلامية، وليس خبيرًا في القانون المدني السوري، المستمد من القانونين الفرنسي والعثماني. وقد طرحت تساؤلات حول احتمال تطبيق قوانين مستوحاة من الشريعة بدلًا من القوانين المدنية.
يقول السيد: “لم تحاول السلطات الجديدة حتى الآن استبدال القوانين الحالية بتشريعات مستوحاة من الشريعة”.
لكنه يضيف: “مع ذلك، لا بد من مراقبة هذا الأمر عن كثب. أكثر ما يقلق هو ما إذا كانت استقلالية القضاء ستُستعاد وتحظى بالحماية”.
حرية النساء والدين
في عهد الأسد، كانت للنساء حقوق متساوية نسبيًا، وكنّ ممثلات في البرلمان منذ خمسينيات القرن الماضي، كما كنّ حاضرات في جميع مستويات المجتمع.
لا توجد قوانين جديدة تشير إلى تغيّر في ذلك، لكن هناك بعض الإشارات المثيرة للقلق، فقد تم تعيين امرأة واحدة فقط في الحكومة المؤقتة.
وأعربت ناشطات في حقوق المرأة عن قلقهن، بحسب بحث مشترك بين جامعتَي كوليدج لندن وماكغيل، من احتمال تطبيق تفسيرات صارمة للشريعة الإسلامية، قد تقيد حركة النساء ولباسهن ومشاركتهن في الحياة العامة.
يقول السيد: “من المهم مراقبة ما إذا كانت القاضيات – اللواتي يشكلن حوالي 35 إلى 40% من الجهاز القضائي – سيتعرضن للتهميش أو الإقصاء”.
ويضيف: “حتى الآن، لم نرَ مؤشرات على ذلك، لكن الحذر لا يزال ضروريًا”.
أما الحريات الدينية، فلم تصدر قوانين جديدة تقيد الحياة الاجتماعية، لكن بعض السوريين يقولون إن هناك محاولات لفرض القيم الإسلامية.
فقد بدأ فصل مداخل وزارة العدل بين الرجال والنساء، كما وُزعت منشورات على الحافلات وفي مسجد الأموي تطالب النساء بارتداء النقاب الكامل.
وفي الأحياء المسيحية بدمشق، جابت سيارات الشوارع بمكبرات صوت يدعو من خلالها دعاة إلى الإسلام. كما صدر أمر بإغلاق الحانات والمطاعم في حي باب توما المسيحي، ولم يُلغَ إلا بعد احتجاج شعبي.
يقول بعض المراقبين إنهم قلقون. فدمشق معروفة بتسامحها، لكن هناك مخاوف في بعض الأوساط من أن السلطات الجديدة ذات خلفية سلفية.
يقول السيد: “هناك دعوات متزايدة للعودة إلى القيم الدينية… وهذا يمثل تحديًا كبيرًا لمن لا يزال يؤمن بالديمقراطية، وسيادة القانون، والمواطنة المتساوية.”
لكن حسام جزماتي، وهو أكاديمي سوري متخصص في الحركات الإسلامية، يرى أن الشرع “يعارض الحركات السياسية الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء، ولا يريد إقامة دولة إسلامية ولا يعتقد أن ذلك ممكن.” ويضيف: “هم لا يريدون ذلك، ولا يستطيعون.”
حتى إن أرادت الحكومة فرض ممارسات متشددة، فهل تستطيع؟ يرى علاء الدين السيّق، إمام في دمشق، أن ذلك مستحيل، ويقول: “مجتمعنا لن يقبل بذلك.”
“لقد عشنا في وئام بين الطوائف حتى في أحلك الظروف. والقرآن يقولها بوضوح: لا إكراه في الدين.”
رؤى متضاربة للمستقبل
اليوم، تزداد التوترات: أعمال عنف في المدن الساحلية أدت إلى مقتل أكثر من 1400 شخص، كثير منهم من الطائفة العلوية (طائفة الأسد)، واعتُبرت تلك الهجمات انتقامًا من قوى الأمن السورية.
أما في شمال شرق البلاد، ورغم إعلان قوات سوريا الديمقراطية (قسد) النصر على داعش عام 2019، فإن مخيمات تحتجز نحو 56,000 شخص، كثير منهم من عائلات مشتبه بانتمائهم للتنظيم، لا تزال قائمة بعد أكثر من خمس سنوات على هزيمته.
السؤال الأهم الآن هو كيف يرى السوريون مستقبلهم؟
تظهر بعض التوترات، بحسب الباحث حسام جزماتي، بين قيادة الشرع وهيئة تحرير الشام.
ويقول إن دائرة الشرع تسعى لبناء دولة “محافظة ليبرالية اقتصاديًا”، لكن لا يمكنهم منع بعض المعيّنين من قبله من محاولة أسلمة الحياة العامة.
ويعبّر “مركز الأزمات الدولية” عن مخاوف مماثلة، معتبراً أن سوريا “تعيش في وقت مستقطع”.
ويضيف المركز، “الحكومة المؤقتة على وشك الإفلاس، قوى الأمن منهكة، الفقر يتفاقم، والتمرد يتشكل على الأطراف. هناك تدخل خارجي. العقوبات الغربية تحرم القادة مما يحتاجونه لإعادة الإعمار، مع منع الانقسام أو العودة للحرب الأهلية”.
بالنسبة للأتاسي، فالحل واضح، فهو يعتقد أن الشرع بحاجة إلى فتح الساحة السياسية. “لا توجد انتخابات في سوريا اليوم، بل توجد فقط ترشيحات … وهذا أمر خطير جداً.”
ثم يضيف: “قد تكون هناك ديكتاتورية جديدة قيد التشكل لكنني لا أعتقد أن الشعب السوري مستعد، بعد خمسة عقود، لقبول ديكتاتورية جديدة.”
أما عن إمكانية قيام ديمقراطية دائمة؟ “علينا أن ننتظر لنرى”، يقول. “لكنني لست متفائلاً على الإطلاق.”
ومع ذلك، هناك مسألة أوسع أيضاً. وهي: هل يمكن أن يكون هناك فقدان للإيمان بفكرة الديمقراطية نفسها في ظل التاريخ الحديث للبلاد؟
عبدالفتاح السيد يعتقد ذلك. “رغم أن دساتير عهد الأسد أعلنت رسمياً عن الحريات السياسية… إلا أن تجربتنا مع الحداثة السياسية جاءت على شكل قذائف تسقط على رؤوسنا، بينما كانت أجسادنا عارية في معسكرات الاعتقال”، يقول لي.
“شرائح واسعة من الشعب السوري فقدت الثقة بوعود الحداثة السياسية.”
ومن بين العديد من التحديات التي تواجه القيادة الجديدة، ربما يكون من الحكمة أن تبدأ بمعالجة هذه النقطة أولاً، وهي تشق طريقاً جديداً لمستقبل سوريا.
نشر هذا المقال على موقع بي بي سي بالانجليزية
درج