في كواليس مجازر الساحل السوري: مرويات دينية وغيبيات وإشاعات/ صهيب عنجريني

13/5/2025
أعدّدت هذا التحقيق استنادًا إلى ثلاثة عشر مصدرًا من سكان اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس وأريافها، بينهم ناجيات من المجازر، فضلًا عن سبعة مصادر في حلب وحماه وإدلب عايشت دعوات “النفير العام”. كما اطّلعتُ على 52 شهادة عبر مجموعات محلية عملت على توثيق الانتهاكات في الساحل السوري.
نُشر التحقيق أساسًا باللغة الإنكليزية
على موقع “نيولاينز” على هذا الرابط
https://newlinesmag.com/reportage/investigating-the-alawite-massacres
لم يكن رامي (اسم مستعار) قد حسم أمره بالانضمام إلى “لواء درع الساحل”، حين فوجئ بعد منتصف ليلة 5 – 6 آذار/مارس الماضي برسالة صوتيّة مقتضبة عبر تطبيق واتساب: “جيب أغراضك وتعال فورًا”.
ينتمي الشاب الذي بلغ قبل شهرين الخامسة والعشرين من عمره إلى إحدى قرى ريف مدينة جبلة في الساحل السوري. يشرح أن المقصود بكلمة “أغراضك” في الرسالة التي تلقاها هو سلاحه الفردي الذي كان يحتفظ به منذ سنوات طويلة “للدفاع عن النفس”، وفق ما يقوله.
قبل أسبوعين من تلك الليلة، عاد رامي من سهرة طويلة في منزل أحد أبناء عمّه ضمّت أكثر من عشرة شبان، وكانت الغاية منها استقطاب مقاتلين إلى “درع الساحل” الذي شكّله مقداد فتيحة، وهو مقاتل سابق في القوات الموالية لبشار الأسد، يتمتع بسمعة سيئة وتلاحقه اتهامات بالإتجار بالمخدرات وعديد من الجرائم والانتهاكات.
قرّر عدد من أقارب رامي ومعارفه من سكان قريته وقرى مجاورة أخرى الانضمام بدوافع مختلفة، لا تتلاقى بالضرورة مع دوافع فتيحة والعناصر الأساسية في لوائه الذين ينطبق عليهم بالفعل وصف “فلول الأسد”. أما رامي نفسه فقد حمل سلاحه في تلك الليلة وانطلق إلى أطراف البلدة لينضم إلى أقاربه، لكنه في اللحظة الأخيرة شعر بخوف شديد، ففرّ هارباً بعيداً عن البلدة التي داهمها بعد يومين مسلّحون موالون للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، واقتحموا البيوت ليقتلوا كلّ ذكرٍ وقع بين أيديهم على مرأى من النساء، وكان من بينهم عجوزٌ ستيني هو والد رامي الذي انتهى المطاف به في مطار حميميم وهو قاعدة عسكرية روسيّة، شأنه شأن الآلاف من أبناء القرى المجاورة، وكان موجوداً هناك حتى ساعة حديثي معه في الثاني والعشرين من آذار.
***
خلال العمل على هذا التحقيق تحدثت بشكل مباشر مع ثلاثة عشر مصدرًا من سكان اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس وأريافها، ومن بينهم ناجيات من المجازر كنّ شاهدات على إعدام ذكور عائلاتهن، فضلًا عن سبعة مصادر في حلب وحماه وإدلب عايشت دعوات “النفير العام” على الأرض. كما اطّلعتُ على 52 شهادة بشكل غير مباشر عبر مجموعات محلية عملت على جمع وتوثيق الانتهاكات في الساحل السوري بسريّة، مع ارتفاع المحاذير الأمنية، وتعاونت معي صحفيّة من سكان الساحل في توثيق وقائع وجمع شهادات، وطلبت عدم الإشارة إلى اسمها لمحاذير أمنية.
تركز اهتمامي على محاولات فهم ما جرى قبل تفجر الأوضاع، وصولًا إلى وقوع مجازر على أساس طائفي راح ضحيتها بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” نحو 1700 شخص، بينما وصل العدد إلى 2246 ضحية بحسب تقرير موثّق أرسله المعارض السوري هيثم منّاع إلى مجلس الأمن الدولي في 24 آذار/مارس الماضي. وتورد مصادر أخرى أعدادًا أكبر مع تعذّر الوصول إلى حصيلة موثوقة بسبب حالة من التعتيم فرضتها السطات الحاليّة، وفي ظل دفن العديد من الضحايا في مقابر جماعية، بينما فرّ الآلاف من قراهم التي تعرضت إلى أعمال تخريب وأُحرقت ونُهبت مئات البيوت والمحال.
يُفضي تحليل جميع الشهادات التي استمعتُ إليها واطّلعت عليها إلى سيناريو يمكن تلخيصه بأن مجموعات ترتبط بـ”لواء درع الساحل” نفذت صباح السادس من آذار/مارس تحركات عسكرية أدّت إلى سيطرتها على مقر اللواء 107 في “عين الشرقيّة” بريف جبلة. لكنّ الوقائع شهدت تضخيمًا كبيرًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتروج إشاعات عن “سيطرة الفلول على مناطق واسعة”، وهو ما شجّع على ما يبدو مجموعات صغيرة غير منظمة على شن هجمات استهدفت بعض الحواجز العسكرية المتفرقة في الأرياف، إضافة إلى “قيادة القوى البحرية” في مدينة اللاذقية. ومع سقوط قتلى في صفوف عناصر “الأمن العام”، وتنفيذ انسحابات عشوائية من بعض النقاط والمواقع، سادت حالة ارتباك كبيرة، سرعان ما تردّد صداها في دمشق ومحافظات أخرى عديدة وأُعلن “النفير العام”.
بدأ حشد القوات في معظم المدن الخاضعة لسيطرة سلطات أحمد الشرع على أساس طائفي بحت، وسرت سريعًا أنباء مفادها “العلويون غدروا بنا ويجب الانتقام منهم”. يسكن مصطفى (22 عامًا) قريبًا من أحد مساجد مدينة حماه، في مساء 6 آذار/مارس لاحظ تدفق عدد من الشبان إلى داخل المسجد مع أنباء بوجود دعوة لـ”النفير العام”، فسارع إلى دخول المسجد لفهم ما يحصل.
يقول الشاب: “كان عنصرٌ ملثّم من الأمن العام يقف أمام الميكروفون المخصص للإمام عند المحراب، ويخاطب الحشود قائلًا: حي على الجهاد، الشباب محاصرون، يجب أن تكونوا عونًا لنا يا أهل السنّة، اليوم يومكم”. وفق مصطفى، تردد صراخ الشبان المتجمعين في المسجد وهم يطلقون التكبيرات بحماسة، وانطلق بعضهم خارج المسجد استعدادًا لتلبية النداء. كذلك انتشرت مقاطع مصوّرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي من حماه وإدلب توثق انطلاق نداءات من المساجد داعية إلى الجهاد، وفي مقاطع أخرى ظهرت حشود في الساحات العامة في بعض المدن تُوثق هتافات طائفية داعية إلى “دوس العلويين”.
لم يأخذ الانتقام نمطًا مُحدّدًا، فتباين حجم العنف بين منطقة وأخرى تبعًا لسلوك المجموعات التي نفّذته، لكن الرابط المشترك كان استهداف جميع القرى والأحياء التي يقطنها علويون، خصوصًا في جبلة وبانياس وأريافهما. شهدت بعض هذه المناطق أعمالًا انتقاميّة تُطابق مواصفات الإبادة الجماعيّة، في عدد منها قُتل الذكور فقط بغض النظر عن أعمارهم، وفي أخرى قُتلت عائلات بأكملها ذكورًا وإناثًا وأطفالًا.
***
قُتل والد جنا مصطفى في مجزرة حي القصور في مدينة بانياس، يوم الجمعة 7 آذار/مارس. عاشت أسرة جنا، وهي مهندسةٌ شابّة، تجربة مروعة. انتُزع رب الأسرة من داخل بيته وقُتل داخل المبنى الذي يسكنه برصاصتين إحداهما في رأسه. وحين اكتشف أفراد الأسرة جثمانه، كان عليهم حمله والصعود به إلى الشقة، حيث ظلّ الجثمان رفقة أفراد الأسرة يومين، ثم اضطروا إلى ترك الجثة وحيدة في المنزل والبحث عن طريق للنجاة بأنفسهم، قبل أن يستطيعوا العودة بعد أيام لدفنه في مقبرة جماعية.
تسترجع جنا ما عاشته بأدق التفاصيل. تروي أن يوم الخميس 6 آذار/مارس كان “يومًا طبيعيًّا ومستقرًّا في بانياس، فقط كنا نسمع بعض أصوات القذائف من جبلة (تبعد نحو 22 كيلومترًا عن بانياس). بحلول الليل صارت تُسمع أصوات إطلاق رصاص في بانياس، وأُعلن عن حظر للتجول، وبرغم ذلك لم تشعر عائلة جنا بالخوف.
“كانت هناك حالة من الإحساس العالي بالأمان والاطمئنان” تقول. في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة 7 آذار/مارس، خرج والد جنا إلى الشرفة ليستطلع الأحوال. كان هناك عناصر من الأمن العام في الحي، فطلبوا منه بلباقة واحترام الدخول إلى الشقة حرصًا على سلامته. بعد بضع ساعات لاحظ السكان حركة مختلفة في الحي، وشوهد مسلّحون يفتحون مستودعًا لبيع الدراجات النارية في الحي، ويأخذون تلك الدراجات.
في الساعة الثالثة عصرًا، وصل مسلحون إلى المبنى الذي تسكنه عائلة جنا، وراحوا يصرخون مطالبين السكان بفتح أبواب الشقق من أجل التفتيش. تؤكد جنا قائلة: “لم نكن خائفين من عملية التفتيش بحد ذاتها، ليس في بيتنا أسلحة، ولا علاقة لنا بأي نشاط عسكري سابق أو حالي. والدي مهندس متقاعد، وأخي طالبٌ في الثانويّة (عمره أقل من 18 عامًا). توقعنا أن نتعرض لإهانات لفظية أو ضرب أثناء التفتيش، لكن لم نتوقع ما هو أكثر”.
وصل عنصران مسلّحان إلى شقة جنا التي تقع في الطابق الرابع من المبنى، فتح والدُها الباب فسأله أحدهما فورًا عن طائفته. أجاب الأب بصراحة: “علوي”، فطلب منه إبراز هويّته الشخصية (ID)، نظر العنصر إلى البطاقة ثم قال: “واسمك علي كمان؟ تعال”.
خرج الأب من الشقة، بقي عنصرٌ برفقته ودخل الآخر إلى الشقة طالبًا من أفراد الأسرة أن يقفوا ووجوههم نحو الحائط. سأل عن عمل شقيق جنا، وحين علم أنه لا يزال طالبًا في المدرسة تركه، وطلب من الجميع هواتفهم الخلوية، ثم أجرى جولة سريعة في المنزل، وأطلق رصاصتين على الجدران، ثم خرج من المنزل وأغلق الباب بشدة، ونزل العنصران الدرج وبرفقتهما والد جنا.
بعد مرور بعض الوقت تجرّأ أفراد الأسرة وقرروا المغامرة بنزول الدرج لمحاولة معرفة مصير رب الأسرة. “في الطابق الثاني، فوجئنا بجثة والدي على الأرض تسبح في دمائها، وقد تلقى طلقتين، إحداهما فتّتت عظم ذراعه اليسرى، والأخرى في رأسه”. تعالى صراخ أفراد العائلة، فتح جارهم باب شقته في الطابق الثاني. “كان واضحًا أنه تعرّض للضرب، وآثار البكاء على وجهه، يبدو أنه نجا من القتل لأنه سنّي”، تقول جنا معتذرة عن الإشارة إلى الطوائف.
ترك أفراد الأسرة جثة الأب وعادوا إلى شقتهم بعدما صرخ أحد العناصر من أسفل البناء يطالبهم بالعودة إلى منزلهم وإلا قتلهم. بعد ساعة أو أكثر، قرروا النزول مجددًا أملًا بجلب جثمان الأب. كان الجار السنّي قد غطى الجثة بشرشف. تساعد الجميع في حملها إلى الطابق الرابع، ثم مسحوا الدم عن الجثة وألبسوها ثيابًا نظيفة، وصلّوا عليها، وغطوها.
في اليوم التالي (السبت 8 آذار/مارس) وصلت إلى الحي مجموعات مسلّحة جديدة، بعضها كان عبارة عن عصابات محليّة راحت تقتحم البيوت بغرض السرقة، وبعضها كانت مجموعات يوحي مظهر أفرادها بأنهم ليسوا سوريين. “للأسف اللي قتلوا أبي كانوا سوريين، بس اللي شفناهم تاني يوم كانت أشكالهم غريبة ولحاهم طويلة، وشعورهم حمراء اللون”، تشرح جنا.
كان التواصل مع العالم الخارجي قد انقطع إلا من خلال هاتف المنزل (الأرضي). حاول أفراد الأسرة التواصل مع الهلال الأحمر السوري، أو أي جهة أخرى يمكنها إخراجهم من الحي، لكن الأمر بدا مستحيلًا لأن المدينة كانت مشلولة بالكامل. “حاولنا التواصل مع بعض أصدقائنا من الطائفة السنية تحديدًا، فقد بدا واضحًا أن حظوظهم في الوصول إلينا وإخراجنا أكبر، لكننا لم نكن نحفظ كثيرًا من أرقام الهاتف بعدما صودرت هواتفنا الخلوية”.
كانت أنباء المجزرة قد بدأت في الانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي تلك الظروف تلقت جنا اتصالًا على هاتف المنزل من قبل صديقة من الطائفة السنية في إحدى قرى بانياس. أخبرتها الصديقة بأن والدها انطلق نحو بانياس، بهدف اصطحاب جنا وأسرتها إلى قريته. قبل وصول والد صديقتها، نجحت جنا في التواصل مع فريق “الخوذ البيضاء” في بانياس (الدفاع المدني)، وشرحت لهم الظرف.
“خبرونا إنو رح يمرقو من عنا من الحارة، وطلبوا أن نستعد كي يصطحبونا معهم”. بالفعل وصلت بعد قليل سيارة “الخوذ البيضاء” إلى الحي. “ناديناهم من الشرفة، صعدوا إلينا، أخبرونا أن نقل الجثة في ذلك الظرف مستحيل، لكن بإمكانهم نقلنا نحن الأحياء إلى أي مكان نختاره داخل مدينة بانياس”.
تركت الأسرة جثّة رب الأسرة في المنزل، وانطلقت برفقة “الخوذ البيضاء” نحو مجمع سكني على أطراف بانياس يُعرف باسم “مساكن المحطة الحرارية”، وهو مجمع معزول ومحميّ لأنه خاص بموظفي محطة توليد الكهرباء وعائلاتهم، وقد تمركز فيه عناصر من الأمن العام عقب سقوط النظام.
كان والد جنا قد تقاعد من هذه المحطة قبل عامين فحسب. تشرح جنا بتوازن نفسي لافت أن فريق الخوذ البيضاء قد تعامل معها ومع أفراد أسرتها بأخلاق عالية، وتولّوا نقلهم إلى المساكن المقصودة، وهناك سمح لهم عناصر الأمن العام بالدخول بعد تفتيش حقائبهم ومعرفة اسم الشخص الذي سيستقبلهم.
بعد يومين، استطاعت أسرة جنا العودة إلى الشقة برفقة متطوعين في الهلال الأحمر السوري بغية نقل جثة والدها لدفنه في مقبرة جماعية. تشرح الشابة قائلة “حتى ذلك اليوم كان هناك مخاطر من تحرك أي فرد من الطائفة العلوية في بانياس. استعنّا بوالد صديقتي السنّي، الذي جاء بسيارته واصطحبنا إلى مركز للهلال الأحمر، ومن هناك انطلقنا بصحبة سيارة تابعة للهلال إلى منزلنا، حمل المتطوعون الجثمان من الشقة إلى سيارة الهلال الأحمر، ثم انطلقنا نحو منطقة الدفن الجماعي في مقبرة تجاور مقامًا اسمه /مقام الشيخ هلال/. كان هناك عدد كبير من ذوي الشهداء، كانوا يفتحون خنادق طولية كبيرة، ثم تُدفن في كل منها مجموعة جثث بعد الصلاة عليها، ثم يُغلق القبر الجماعي ليُفتح آخر”.
بعد يومين من الدفن، تمكنت أسرة جنا من مغادرة بانياس نحو مدينة طرطوس داخل سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر، برفقة أسرتين أخريين، وفي طرطوس كان أقارب جنا في انتظارهم. “وهي قصتنا” تقول الشابة مختتمة حديثها بتنهيدة طويلة.
***
على المقلب الآخر، بات مؤكدًا ضلوع مقداد فتيحة في التحريض على الهجمات الأولى. في 6 آذار/مارس، نُشر بيان حول تشكيل “مجلس عسكري وغرفة عمليات” بهدف “تحرير الساحل السوري”، وذُيل باسم غياث دلا، وهو عميد سابق في القرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد. كما أقر محمد جابر، في لقاء تلفزيوني، بمسؤوليته عن الدعم ومشاركته في التخطيط بتنسيق مع غياث دلا.
كان محمد جابر يتزعم وشقيقه أيمن ميليشيا “صقور الصحراء” الموالية لبشار الأسد، وقد عملت لسنوات طويلة بالتنسيق مع القوات الروسية في سوريا.
استنادًا إلى تحليل الشهادات، يمكن تقسيم العناصر المسلّحة التي هاجمت عناصر الأمن العام، ونفذت هجمات مسلحة ضد بعض المقار العسكرية، إلى ثلاث فئات. تضم الفئة الأولى عناصر انضمت إلى “لواء درع الساحل” لأسباب مختلفة، وتشير شهادات موثوقة (إحداها من سيدة شارك زوجها في عمليات الفلول ثم قُتل) إلى أن فتيحة عمل على تحفيز العناصر الذين انضموا إليه استنادًا إلى رواية تؤكد أنه يعمل بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية فاعلة، وأن “إمدادات ضخمة بالسلاح والرجال ستصل من العراق، عبر مطار حميميم، بمجرّد النجاح في السيطرة على مواقع عسكرية أساسية”.
أما الفئة الثانية، فتضم عناصر في الجيش السوري السابق، أو الميليشيات الموالية له. تواصل معهم بدءًا من شهر شباط/فبراير أشخاص قالوا إنهم يعملون بالتنسيق مع الروس، وعرضوا عليهم الانضمام سريعًا إلى تحرك مُرتقب.
زعم بعض الوسطاء أن ضباطًا سابقين في الجيش السوري موجودون في قاعدة حميميم ويخططون للعملية، فيما قال آخرون إنّ التخطيط يحصل في موسكو. طُلب من عناصر سابقين في القوى البحرية أن يستعدوا للعودة إلى مواقعهم السابقة مع بدء العملية. وافق عدد منهم، فيما رد آخرون بأنهم غير مستعدين للمشاركة إلا بعد بدء التدخل الروسي الموعود.
من بين الشهادات اللافتة ما أكده أحد الشبان من هذه الشريحة حول رفضه الانضمام، بل مشاركته هذه المعلومات مع مسؤول في الأمن العام، وقوله إن هذا المسؤول أكد أن الأمن العام على معرفة بما يُدبر ويراقب التحركات.
الفئة الثالثة قوامها شبّان من بعض القرى في ريف جبلة تحركوا ضمن مجموعات صغيرة (تعداد المجموعة بين 5 و10 عناصر)، ومن دون تنسيق مباشر مع أي طرف، بل في إطار استغلال للارتباك الذي أصاب عناصر “الأمن العام”، وبدوافع ترتبط مباشرة بالانتهاكات التي تعرض لها أبناء الطائفة العلوية منذ سقوط النظام.
تشير شهادات متقاطعة إلى أن عددًا من الشبان كانوا قد حصلوا على أسلحةٍ في ظل الفوضى التي سادت عقب سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر الماضي، واحتفظوا بها “للدفاع عن النفس”. استطعنا تحديد مصدرين أساسيين لهذه الأسلحة: الأول فيلا في جبلة كان يملكها اللواء زيد صالح، الذي كان يشغل منصب “نائب رئيس الحرس الجمهوري” قبل فرار بشار الأسد، ومع سقوط النظام استغل الشبان الفوضى ودخلوا الفيلا وجمعوا ما عثروا عليه فيها من أسلحة وذخيرة.
أما المصدر الثاني فهو فيلا في ريف جبلة تعود ملكيتها إلى اللواء ناصر ديب، الذي شغل مناصب رفيعة عديدة في زمن النظام السابق منها مدير إدارة الأمن الجنائي، ومعاون وزير الداخلية. وعلى نحو مماثل استغل شبان فوضى سقوط النظام وجمعوا ما عثروا عليه من أسلحة فردية وذخائر في الفيلا.
تبدو مدينة جبلة هدفًا أساسيًّا لمخطط “الفلول”، بينما غابت عن جميع الشهادات التي استطعنا جمعها أي إشارات إلى بانياس (ريف طرطوس) التي شهدت لاحقًا مجزرة مروعة بحق السكان المدنيين من أبناء الطائفة العلوية، أو مدينة اللاذقية التي شهدت بعض التحركات العسكرية المحدودة ضد “الأمن العام”.
تشير الشهادات إلى أن خطة “الفلول” كانت تتضمن السيطرة على مداخل ومخارج مدينة جبلة، ثم فتح خط إمداد بين المدينة ومطار حميميم وصولًا إلى مطار اسطامو والفوج 826 دبابات وكان من المفترض أن هذه النقاط ستكون مصادر للذخائر والإمدادات البشرية. لكن ما حصل على أرض الواقع أن الروس لم يقدموا أي دعم على الأرض، وأن ذخائر المهاجمين بدأت بالنفاد بعد بضع ساعات من تحركهم.
هل تعرّض “الفلول” لخديعة؟ أم خُدع العناصر بسيناريو اختلقته قياداتهم؟ أم أنّ المخطط كان قائمًا بالفعل لكنه فشل من جرّاء التسرّع في إطلاق الهجمات كما تُشير بعض الروايات المتداولة؟ أسئلة عديدة لا يمكن الجزم بإجابات قاطعة حولها، خصوصًا مع تعذّر التواصل مع مصادر غير مدنيّة، وبدلًا من ذلك قرّرت التركيز على أسباب تأخر تحركات من هذا النوع لمدة تجاوزت ثلاثة أشهر منذ فرار الرئيس السابق بشار الأسد.
***
حين سقط النظام السوري بعد فرار رئيسه في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، توجهت الأنظار بشكل أساسي إلى الساحل السوري، إذ ينحدر كثير من عناصر الجيش والأمن السابقين من محافظتي اللاذقية وطرطوس.
توقع كثير من المراقبين أن يُبدي هؤلاء مقاومة عنيفة ضد “هيئة تحرير الشام” التي قادت غرفة عمليات مشكلة من تحالف مجموعات وفصائل عسكرية في تحرك أفضى إلى تهاوي النظام بشكل دراماتيكي، لكن أي مقاومة لم تحدث. ودخلت قوّات الشرع المدن الساحلية تباعًا بسلاسة لافتة. في المقابل، لم تنتهج الفصائل العسكرية التي دخلت المناطق الساحلية نهجًا عنيفًا، واكتفت بالسيطرة على المقار الأمنية والعسكرية والحكوميّة، مع عدد محدود جدًا من الحوادث الأمنيّة المتفرقة.
كانت طريقة سقوط النظام السابق قد لعبت دورًا أساسيًّا في تقويض أي شعبية مُفترضة لبشار الأسد. نظر كثير من مؤيديه السابقين إليه بوصفه خائنًا تخلّى عن أتباعه، وعدّه آخرون جبانًا آثر النجاة بنفسه، فيما سرت أقاويل وتحليلات عن أن “اختفاء الأسد من المشهد بهذه الطرقة جاء بموجب صفقة إقليمية تضمن حقن الدماء،” وأن “الإدارة الجديدة تحظى باحتضان ودعم بتوافق كل القوى الفاعلة في المشهد السوري”.
عزّزت تلك الأجواء الإيجابية آمالًا لدى كثير من السوريين بطي صفحة دموية من تاريخ البلاد، وسرت إشاعات حول “عفو عام” موعود. كذلك راجت أصوات تُبشّر بتحسن مُرتقب في القطاعات الخدمية ولا سيما قطاعي الاتصالات والإنترنت، والكهرباء، مع “تسريبات” مزعومة عن دخول شركات تركيّة توفر الإنترنت الفضائي بأسعار زهيدة، وأخرى عن بواخر لتوليد الكهرباء.
أدى زوال الحواجز العسكرية بين الشمال السوري ومناطق سيطرة الأسد السابقة إلى وفرة كبيرة في أنواع من البضائع والسلع كان الحصول عليها صعبًا قبل سقوط النظام. ترافق ذلك بانخفاض سريع في أسعار السلع الغذائية لأسباب عديدة أبرزها خروج “الفرقة الرابعة” من المشهد، وهي التي كانت حواجزها تفرض إتاوات باهظة على أي سلع تصل الأسواق السورية، فضلًا عن قانون “العرض والطلب”، الذي أدى تلقائيًّا إلى هبوط الأسعار مع تزايد حجم البضائع المعروضة، وسرى ذلك على العملات الأجنبية ولا سيما الدولار الذي أُلغيت قيودٌ على تداوله كان يفرضها نظام الأسد، وضُخت كميات كبيرة منه في الأسواق مع الكثافة الهائلة للمغتربين الذين سارعوا إلى زيارة البلاد بعد زوال الموانع الأمنية، علاوة على وفود وناشطين وكوادر إعلامية من جنسيات شتى صارت دمشق وجهتها الأساسية لأسابيع متتالية بعد سقوط النظام.
أدى ذلك إلى تحسّن في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار. ففي حين كان الدولار الواحد يعادل نحو 30 ألف ليرة عشيّة سقوط النظام، تهاوى إلى 8 آلاف ليرة في شباط الماضي. فيما سُجلت تصريحات عديدة لمسؤولين في “الإدارة الجديدة” تعِد بزيادة سريعة لرواتب موظفي القطاع العام بنسبة 400%.
***
على أرض الواقع، سارت المُجريات بطريقة مختلفة جذريًّا، فتردّت الخدمات الأساسية إلى حدّ غير مسبوق، ليصل عدد ساعات قطع التيار الكهربائي في شهر شباط الماضي إلى نحو 23 ساعة يوميًّا في كثير من المناطق، وهذا بدوره أدّى إلى شح مياه الشرب بسبب توقف عمل المضخات، بينما تردّت خدمات الاتصالات الخلوية بفعل تزايد الكثافة البشريّة وتهالُك مزوّدات الخدمة.
تُوّج كل ذلك بانخفاض القدرة المالية لدى الشرائح الأشد فقرًا، فأثّر انخفاض سعر صرف العملات الأجنبية أمام الليرة بشكل سلبي على آلاف العائلات السورية التي تعتمد على تحويلات اللاجئين والمغتربين في مختلف أنحاء العالم، وهي تحويلات زهيدة لا تتجاوز مئتي أو ثلاثمئة دولار/يورو شهريًّا، لكنها كانت تعادل بضع ملايين من الليرات في السوق السوداء.
لم يتزامن انخفاض سعر الصرف بانخفاض يوازيه في أسعار السلع، باستثناء بعض الأصناف الغذائية مثل الخضار والفواكه، واللحوم الحمراء التي انخفضت أسعارها لأسباب لا علاقة لها بالسياق السياسي، بل بإقدام مربي المواشي على بيع أعداد كبيرة منها للذبح بسبب تزايد أسعار علفها، وتعذّر الاعتماد على المراعي الطبيعية مع شح الهطولات المطرية في الشتاء الأخير.
في المقابل، حافظت السلع المستوردة على مُعدل أسعار مرتفع نسبيًا ومن بينها سلع أساسية مثل الرز والسكر والمتة والشاي والقهوة. كما تضاعف سعر الخبز (السلعة الغذائية الأساسية عند معظم السوريين) ليصبح 4000 ليرة بدلًا من 500 ليرة لكيس يحوي 12 رغيفًا (أي 8 أضعاف السعر السابق).
وبدلاً من رفع الرواتب الموعود، باشرت الحكومة إجراءات فصل للموظفين في القطاع الحكومي، ووصل عدد المفصولين في منتصف كانون الثاني الماضي/ديسمبر إلى نحو 300 ألف موظف. وبرغم أن الموظفين المفصولين لا ينتمون إلى طائفة بعينها، فإن نسبة المفصولين من أبناء الطائفة العلوية كانت الأكبر لأسباب تنوّعت بين انتمائهم الطائفي، وبين كونهم في الأساس قد وُظّفوا لأنهم “من أهالي الشهداء” في زمن النظام السابق.
كانت الوظيفة الحكومية نوعًا من “الترضية” التي قدمها النظام السابق لذوي القتلى من عناصر الجيش والأمن، فجرى توظيف الآلاف من دون حاجة فعليّة إليهم، وكان إلغاء هذا الامتياز واحدًا من أسرع الإجراءات التي أقدمت عليها حكومة الشرع الأولى، وشيئًا فشيئًا تبدّدت الآمال وهيمن الإحباط على شرائح عديدة، وفُتح الباب أمام سيناريوهات مختلفة.
***
في الأسبوع الثاني من شهر شباط/فبراير الماضي، جلستُ في أحد فنادق دمشق مع زميلين صحفيين، ينتمي كلّ منهما إلى طائفة دينية مختلفة، نتبادل الآراء والمعلومات، وكنتُ مهتمًّا على نحو خاص بتتبّع السرديّات التي يروجها رجال الدين من الطوائف المختلفة، فلطالما لعبت هذه السرديات دورًا أساسيًّا في توجيه المزاج العام في الشارع السوري.
وقتذاك كان المزاج الشعبي الذي عايشتُه من خلال مئات الأحاديث المباشرة في حلب وإدلب ودمشق على امتداد أسبوع يعتبر أن وصول أحمد الشرع إلى سدة الحكم في سوريا “نصرًا إلهيًّا”، خصوصًا بعدما زار الشرع المملكة العربية السعودية، وأدى العمرة. وقد سمعت عبارات عديدة من قبيل “فتح الله له أبواب القصر الجمهوري في دمشق، ثم باب الكعبة في مكة”. كما سمعتُ مرويّات و”نبوءات” متداولة في “الشارع السنّي” حول أن “دمًا كثيرًا سيسيل في معارك ضد الشيعة والعلويين”.
بدوره أخبرنا ضياء بأن بعض المرويات المتداولة عن دروزٍ متدينين في السويداء تؤكد أن الأمور في سوريا لم تستقر بعد، وأن هناك جولات قادمة من الاقتتال. أما كمال، القادم من اللاذقية، فتحدث عن “نبوءة” يتزايد تداولها في بعض الأوساط الشعبية ويُزعم أنها واردة في كتاب “الجفر” المنسوب إلى علي بن أبي طالب، وخلاصتها أن “جيشًا جرّارًا سيأتي من الشرق لرفع الظلم عن العلويين”. وقد حظيت إشاعةٌ انتشرت في أواخر شهر كانون الثاني/ديسمبر عن عودة ماهر الأسد إلى سوريا لقيادة عملية مضادة بانتشار واسع استنادًا إلى هذه النبوءة المزعومة، قبل أن يتضح أنها لا تحظى بأي نصيب من الصحة.
مع ذلك، لا يبدو أن “النبوءات” لعبت الدور الأساسي في استقطاب الشبان إلى صفوف “لواء درع الساحل”، فيما تركت سردية “الحفاظ على الوجود” أثرًا بالغًا على هذا الصعيد. خُلاصة هذه السردية تقوم على أن العلويين مهددون بالذبح في أي لحظة على يد الفصائل الجهادية السلفية، وهي سردية سبق أن اعتمد عليها نظام الأسد لاستقطاب متطوعين إلى ميليشيات عديدة شُكلت بدءًا من العام 2012، وتزايدت وتيرة الانضمام إليها على نحو خاص بعد آب/أغسطس 2013 حين ارتكبت مجموعات “جهادية” مجازر في ريف اللاذقية الشمالي استهدفت قرى علوية، ما عزّز رواج نظرية “إن لم تقاتل ستُقتل” وقتذاك.
وفي تكرار للسيناريو، تشير شهادات عديدة استمعت إليها حول المجازر الأخيرة في الساحل إلى أن مقداد فتيحة ومن يعملون معه استندوا بشكل خاص إلى الانتهاكات العديدة التي استهدفت العلويين بسبب انتمائهم الطائفي في حمص وأريافها وأرياف حماة في شهري كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير الماضيين، وصولًا إلى ارتكاب مجازر متفرقة في فاحل والقبو ومريمين وبضع قرى أخرى.
كانت آخر عبارة قالها لي رامي أثناء الإدلاء بشهادته عبر تطبيق سيغنال: “أحيانًا أشعر بالندم لأنني هربت، كان عليّ أن أعود إلى المنزل، ربما استطعت الدفاع عن عائلتي، وفي أسوأ الأحوال ربما كانوا سيكتفون بقتلي بدل أن يقتلوا والدي العجوز”. سألته بعدها: هل تعتقد أنك قد تفكر مستقبلًا بالقتال؟ لكنه لم يُجب عن سؤالي حتى الآن.
موقع أوان