أبحاثتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

عن أي دولة في سورية نتحدث؟/ مروان قبلان

14 مايو 2025

تشكّل مسألة إعادة بناء الدولة، ومؤسّساتها، همًا مشتركا لأكثر السوريين هذه الأيام، فقد ترك النظام البائد إرثاً ثقيلاً في هذا المجال، بعد أن فقدت الدولة، بسبب سياساته المدمّرة، أكثر صفاتها ووظائفها، وإن ظلّت تحتفظ بمؤسّساتها المدنية والخدمية في المدن الكبرى، بفضل صلابة المجتمع الأهلي السوري، وصموده الأسطوري. فمن جهة الصفات، ما زالت الدولة فاقدة سيادتها (وتلك أهم صفاتها، إذ لا دولة من دون سيادة)، مع وجود أربعة جيوش أجنبية على أراضيها. وقد ازدادت هذه المعضلة (فقدان السيادة) سوءاً مع تفاقم النزعة العدوانية الإسرائيلية بعد سقوط النظام، حيث أخذت إسرائيل، بعد أن كانت تسرح وتمرح في الأجواء السورية أيام النظام البائد، تتوغّل في أراضينا، وتحتل أجزاء إضافية منها، وتنفذ عمليات خاصة فيها من دون أدنى اعتبار لسيادة سورية (جديدها أخيراً استعادة رفات الجندي الإسرائيلي، تسفي فيلدمان، الذي قتل في أثناء الغزو الإسرائيلي لبنان عام 1982). الأميركيون، الروس، والأتراك كلهم يتصرفون أيضاً، في مناطق وجودهم العسكري، من دون اعتبار للسيادة السورية. فوق ذلك، لا تستطيع الدولة بسط سلطتها على كل ترابها الوطني، حتى عندما لا تكون هناك قوات أجنبية، كما في السويداء، مثلاً. أما لجهة وظائفها، فما زالت الدولة، بتوصيفها التقليدي، غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها في حفظ أمن المجتمع، لأنها لا تحتكر ملكية السلاح، ولا شرعية استخدام العنف (أهم وظائف الدولة)، إذ تبقى قوى ومليشيات وجماعات كثيرة تملك السلاح في مناطق مختلفة، وتحكمها وفق رؤيتها وقوانينها، في تحدٍّ واضحٍ لسلطة الدولة. هناك تحدّيات أخرى كثيرة، يضيق المجال بذكرها، تواجه عملية إعادة بناء الدولة في سورية. بيد أن المشكلة الرئيسة التي تواجهنا حاليّاً، أنه وفيما يتفق أكثر السوريين على مسألة إعادة بناء الدولة، لجهة الصفات، والوظائف، والمؤسّسات، إلا أنهم يختلفون بشدة حول ماهية تلك الدولة، وكيفية بنائها: هل تكون، مثلاً، دولة دينية، كما يريد بعضهم، أم مدنية، كما ينشد آخرون، هل تكون مركزية أم فيدرالية؟ ثم ماذا عن النظام السياسي الذي يدير الدولة، هل يكون سلطانياً/ شبه ملكي، كما جاء في نص الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/ آذار الماضي، حيث تسيطر السلطة التنفيذية على باقي السلطات، وتعين أعضاءها، وتحظر الأحزاب، والانتخاب، وتحكم بالمراسيم، أم نذهب نحو نظام ديمقراطي تعدّدي (برلماني، رئاسي، أو مختلط) يقوم على مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون؟ هذا يحيلنا إلى سؤال آخر مهم: من أين تنبثق السلطة وتستمد شرعيتها، من إرادة الشعب وتعبر عنها، أم من إرادة جماعة متغلبة، تشكل قاعدة للحكم ومصدر شرعيته، بمعزل عن الآخرين؟ وماذا عن الهوية الوطنية، والثقافة السياسية، ومناهج التعليم، كيف نبنيها، ومن يضع أسسها، ومضامينها؟ ماذا عن الدستور، كيف نكتبه، ومن يكتبه، وبأي تفويض، ومضمون؟ ماذا عن مؤسّسات الجيش والأمن، هل نسعى إلى بناء جيشٍ يكون الانتساب إليه مفتوحاً أمام كل السوريين، وتشكّل الخدمة الإلزامية جزءاً مركزيّاً من عملية إعادة بنائه على أسسٍ وطنية، أم نذهب باتجاه بناء جيش، احترافي، خاص؟ وماذا عن النظام الاقتصادي للدولة، هل نذهب باتجاه اقتصاد السوق الحر، أم دولة الرفاه الاجتماعي، حيث تقوم الدولة بمسؤولياتٍ تتجاوز الرقابة والإشراف والتوجيه إلى الدخول في صلب عملية الإنتاج. يمتدّ الخلاف أيضا إلى كيفية بناء مؤسّسات الدولة، هل نعيد إنتاج مؤسّسات تتماهى مع السلطة الحاكمة، أم تكون مستقلة عنها؟ هل نعتمد في ملء شواغرها على الولاء، والانتماء، ومبدأ “من غلب غنم”، أم نعتمد الكفاءة والنزاهة وتكافؤ الفرص؟

تحتاج كل هذه الأسئلة وغيرها توافقات وطنية بشأنها، ومن دونها لا يمكن أن تقوم دولة، لا في صفاتها، ولا في وظائفها، ولا في مؤسّساتها. سيكون من الصعب، مثلاً، إقناع مكوّنات أساسية في المجتمع، والفصائل العسكرية التي تمثلها، بحلّ نفسها وتسليم سلاحها والانضواء في كنف الدولة، إذا لم يتم التوافق على شكل هذه الدولة، ودورها فيها. سيكون من الصعب أيضاً تهيئة الظروف لإخراج القوى الأجنبية، ووقف التدخّلات الخارجية، من دون إقناع كل سوري أن الدولة ملجأه، وقادرة على حمايته. وسيكون من الصعب أكثر انتاج شرعية للدولة نفسها من دون أن يشعر كل مواطن أنها تمثله. هذا لن يحصل من دون حوار وطني حقيقي، يتم فيه حسم كل هذه المسائل، والإجابة عن كل تلك الأسئلة المصيرية. ومن يعتقد بخلاف ذلك، لا شك أنه لم يتعلم شيئاً مما جرى على مر العقود الماضية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى