عندما تخذُلنا الركاكة السياسية/ مازن علي

18 مايو 2025
لأن السياسة ليست اختياراً طوعياً يمكن الابتعاد عنه أو تجنّبه، ولأن السياسة تحدّد مستوى التعليم والطبابة التي نتلقاها، بل جودة الهواء الذي نتنفّسه، ولأنها تتدخّل في شروط الحياة، بدءاً من أدنى الحاجات إلى أعمق معاني المواطنة والحرية، فإننا لا نستطيع الإفلات منها ومن تأثيرها على واقعنا ومصيرنا، تماما كما لا نستطيع الإفلات من المناخ الذي نعيش فيه، على حد تعبير روبرت دال. لهذا؛ عندما تختلّ السياسة أو تتعطّل، لا يظل أثرها حبيس الجدل النظري، بل يلقي بثقله على تفاصيل الحياة اليومية.
هذه مقدّمة مبسطة ومختزلة لمعنى السياسة التي تصفع وجوهنا بتداعياتها وانعكاساتها على واقعنا مع كل تصريح أو قرار يصدر عن السلطة السورية الحالية، فبعد مرور نحو ستة أشهر على سقوط نظام الأسد، تستخدم السلطة خطاباً سياسياً ينطوي على وعود مُعلّقة التنفيذ، وإجراءات غير قابلة للصرف السياسي، شهدنا تجلياتها في مؤتمر الحوار الوطني الذي أنجز على عجل، في مشهد بروتوكولي أكثر منه آلية حقيقية لإنهاء الصراع أو الاستماع إلى المكوّنات المتضرّرة. مثله، الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر من دون مشاوراتٍ مجتمعية كافية، وأهمل المبادئ الأساسية للانتقال الديمقراطي؛ كالمشاركة السياسية والتمثيل العادل. سبق ذلك تسريح آلاف الموظفين تحت ذرائع الفلول أوالعمالة الزائدة، من دون البحث في تداعيات ذلك على مؤسّسات الدولة، وما تُحدثه من توترات اجتماعية بمظلومية مضافة إلى الجرح السوري لتبقيه مفتوحاً، ما عزّز الريبة في دوافع السلطة الجديدة.
أضف إلى ذلك إعادة إنتاج شبكة زبائنية جديدة من المحسوبين على دوائر السلطة، في التعيينات والترقيات، وجدل المقاتلين الأجانب، ما أفرغ الوعود من محتواها، وأعاد تدوير النخبة الوافدة إلى دمشق بعد إسقاط نظام الأسد، بدل فتح المجال أمام الطاقات الوطنية المعطّلة في المؤسسات الأصيلة، ثم جاء تأليف الحكومة تحت يافطة التكنوقراط، لتؤكّد أن أداء السلطة يركز على إدارة الصورة، لا بناء الثقة، واستثمار رمزية التحرير لتبرير احتكار القرار، عبر الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس المرحلة الانتقالية.
لا يُراد من كل ما سبق التحامل على التجربة الوليدة في سورية، ولكن ما نعايشه مع السلطة ليس مجرّد ضعف في الأداء، بل صورة أوضح لما يمكن تسميتها الركاكة السياسية، التي لو أردنا تعريفها لفهمناها انطلاقاً من كنايتها اللغوية وإسقاطاتها السياسية؛ فكما أن للّغة أصولاً تضبط المعنى وتمنح العبارة تماسكها، فإن للسياسة منطقاً يحكم الفعل ويمنعه من التشتت والتناقض. والركاكة، في أصل معناها اللغوي، ليست خطأ صريحاً بقدر ما هي ضعف في التكوين؛ جملة لا تعرف أين تبدأ وأين تنتهي، كلمات مترابطة شكلياً، لكنها لا تحمل فكرة واضحة. وعلى هذا القياس، تبدو الركاكة السياسية شبيهة بسابقتها، لا تنفي النية الطيبة، ولكنها تكشف عن افتقار إلى الحنكة، والحكمة في اتخاذ القرار. ليست الركاكة هنا فعلاً متعمّداً، بل ارتباكٌ وتلكؤٌ يتنكّر في هيئة الحذر، لكنها، في النهاية، تُنتج الأثر نفسه؛ تآكلاً في المعنى السياسي، وعجزاً عن بناء جملة مفيدة اسمها الدولة.
قد يعطي بعضهم العلامة الكاملة لنجاح السلطة في تسجيل اختراقات على مستوى الدبلوماسية الدولية؛ كالحصول على تعهد من الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفع العقوبات، التي أثقلت كاهل الشعب السوري، ولكن لا ينبغي أن يُنسى أنها ثمرة جهد هائل بذلته دول إقليمية، وتحديداً الأشقاء العرب في سبيل ذلك؛ لهذا يُعدُّ نسب هذا النجاح إلى كفاءة السياسة الخارجية للسلطة تعبيراً عن ركاكة سياسية مضاعفة، فكلنا يعرف أن المصالح لا تُمنح بتعهد لفظي، ولا تُبنى عبر المجاملات الدبلوماسية، بل تُشتق من الداخل، ومن تماسك المشروع الوطني.
التهافت خلف الاعترافات الخارجية، وتقديم تنازلات لا يعلم المواطنون كلفتها، ولا مواضع المقايضة فيها، يشي بمسار تفاوضي غير شفاف، ويقوض جوهر السياسة التي يفترض أن تكون شأناً عاماً، لا ساحة مغلقة لصفقات النخبة.
الأهم أن محاولة التوفيق بين أطراف دولية كبرى تختلف مصالحها وتتناقض طلباتها تشبه السير في حقل ألغام من دون خريطة وطنية، فمن الصعب، بل المستحيل، إرضاء واشنطن وموسكو وأنقرة وباريس والعرب وغيرهم في آنٍ معاً، من غير تقديم أثمان سيادية أو إيجاد تناقضات داخلية عميقة، بالنظر إلى قائمة الشروط التي قد تفجر السلطة ذاتها. السياسة هنا تتحول إلى حقل توازنات هشّة، لا إلى مشروع واضح لبناء الدولة من الداخل. في حين أن المسار الطبيعي لأي سلطة محمّلة بإرث ثوري، يفترض أن تنطلق من قيمها وشعاراتها التي خرج السوريون من أجلها، بدل البحث عن شرعية خارجية قد تُمنح اليوم وتُسحب غداً.
ما نراه اليوم من أداء السلطة الانتقالية في دمشق ليس سوى امتداد واضح لتلك الركاكة؛ فهي لا تمارس القمع، ولكنها توحي به. لا ترفض الديمقراطية، ولكنها تُسوّف بحجة الوقت، وحساسية المرحلة. ربما ليست مسوّغات خاطئة تماماً، لكنها تبريرات تنمّ عن الافتقار إلى الدربة والمهارة السياسية. تحاول تجنّب الاصطدام بالمطالب والاستحقاقات الملحّة، فإذا بها تصطدم بالواقع. فالأمن ينفلت، والثقة تتآكل، والمجتمع الذي يمنح المقبولية والشرعية يتسلل إليه الخذلان.
لو قُيّض لأهل السلطة فهم أصيل وراسخ للسياسة، لما كنّا أمام جدل بديهيات الحكم والإدارة والمشاركة والتمثيل، بل كنّا نحث الخطا إلى رسم ملامح الدولة المنشودة، المعبّرة عن الإرادة العامة للسوريين، وشكل النظام الذي يوجه السياسات، ومنها يمكن الانطلاق نحو بناء استراتيجية خارجية تلبي مكانة سورية الحضارية وموقعها الجيوسياسي والاستثمار بهما، لتجاوز السنوات المهدورة في عهد النظام البائد.
العربي الجديد