واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 19 أيار 2025

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————-
ارتدادات مرتقبة في سوريا لحل “العمال الكردستاني”/ خالد الجرعتلي
18 أيار 2025
تباينت القراءات حول تداعيات إعلان “حزب العمال الكردستاني” عن حلّ نفسه وتخليه عن العمل المسلح، خصوصًا تأثيره المباشر في مناطق شمال شرقي سوريا، حيث يشكّل الحزب تاريخيًا المرجعية الإيديولوجية والعسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وتتقاطع المصالح في المنطقة التي ينتشر فيها “الحزب” والأطراف المتفرعة عنه في سوريا، إذ تضرب تركيا المنطقة منذ سنوات، وتطالب بخروج “العمال” منها، بينما تنتشر قوات عسكرية غربية تحت مظلة التحالف الدولي، داعمة لـ”قسد”، التي يتحكم فيها العمال.
الحزب أعلن عن حل نفسه، وإنهاء حركته المسلحة التي كانت توجه ضد تركيا بشكل أساسي، وتتفرع ضد أطراف أخرى في مناطق، وبلدان أخرى.
وقال الحزب، في 12 من أيار الحالي، في بيان نشرته وسائل إعلام كردية منها شبكة “رووداو” (مقرها أربيل)، وألقاه زعيمه الحالي، جميل بايق، إن “قرار نزع سلاحه وحل نفسه هو من أجل الحل الديمقراطي والسلام الطويل الأمد”.
وعقب إعلان “العمال” حل نفسه، قالت صحيفة “حرييت” التركية، إن أنظار أنقرة تتجه إلى تسليم حزب “العمال” أسلحته، وعلى وجه الخصوص، الصواريخ الموجهة والمعدات الأخرى الموجودة في سوريا.
وأضافت أن حزب “العمال” المدرج على لوائح الإرهاب في تركيا، وأمريكا، ودول أوروبية، تلقى شاحنات محملة بالأسلحة والذخائر في سوريا تحت ذريعة القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وفي وقت تتعدد فيه التحليلات حول الملف، يبدو قرار حلّ “العمال الكردستاني”، نقطة تحوّل فارقة في المعادلة السورية، لكنه سيظل مرهونًا بمدى التزام كوادر الحزب بالانسحاب من المشهد، إلى جانب استعداد القوى الكردية والسورية الرسمية على حد سواء للانخراط في تسوية وطنية شاملة، تتجاوز الحسابات الأمنية إلى معالجة القضايا الأمنية والسياسية المتراكمة.
تخفيف الذريعة التركية… ولكن الخلاف أعمق
شكل وجود “العمال” في سوريا ذريعة للتدخل التركي في شمالي سوريا، ورغم أن “قسد” نفت خلال السنوات الماضية، ارتباطها بـ”العمال” ووجود أفراد وقادة منه في المنطقة، اعترف قائدها مظلوم عبدي بوجودهم، لكنه قدم وعودًا بإخراجهم من سوريا في حال الوصول لوقف إطلاق نار مع تركيا.
“الحزب” الكردي الاشتراكي، شكل عوائق أمام تفاهمات “قسد” مع دمشق، إذ رفض خروج أفراده وقادته من المنطقة قبل ضمان أن تحظى “قسد” بمركز قيادي في سوريا، وهو ما سبق أن نقلته وكالة “رويترز” مطلع العام الحالي، مع انطلاق مسار المفاوضات بين الجانبين.
وعلى ضوء حل “العمال” نفسه، بدت مبررات تركيا للتحرك العسكري، واعتبار أن الشمال السوري مصدر قلق أمني، أقل صدى، لكن خبراء تواصلت معهم عنب بلدي يعتقدون أن الواقع أبعد من ذلك.
ويرى الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أسامة شيخ علي، أن تركيا، التي طالما استخدمت علاقة “قسد” بـ”حزب العمال الكردستاني” كذريعة لتبرير هجماتها، قد تجد في حلّ الحزب فرصة لتخفيف هذا العبء. لكن جوهر الموقف التركي لا يتعلق فقط بوجود صلة تنظيمية مع “العمال”، بل برفضها القاطع لوجود كيان سياسي كردي مستقل في شمال شرقي سوريا، حتى وإن فكّ هذا الكيان ارتباطه مع قنديل.
الباحث قال لعنب بلدي إن أنقرة لا تثق بالقيادات السورية الكردية، وتعتقد أن معظمهم تلقى تأهيله الفكري والعسكري في معسكرات “الحزب” بجبال قنديل، وبالتالي، فإن أي مشروع سياسي كردي سيظل بنظرها تهديدًا للأمن القومي التركي.
وأضاف أن الخيار الأفضل أمام “قسد” يتمثل في الاستمرار بتنفيذ الاتفاق مع الحكومة السورية، والانخراط ضمن الجيش السوري كجزء من تسوية سياسية داخلية، ما يمنحها هامش حركة أوسع على الساحة السورية ويجنبها الاصطدام مع الأطراف الإقليمية.
انتقال من العمل العسكري إلى السياسي
أحدث التعليقات التركية الرسمية حول حل “العمال الكردستاني” كانت في 15 من أيار الحالي، عندما ذكر المتحدث باسم المكتب الإعلامي لوزارة الدفاع التركية، زكي أوكتورك، أن بلاده ستتابع عن كثب “لخطوات الملموسة” على الأرض بخصوص تسليم سلاح “العمال”.
وأضاف أن القوات المسلحة التركية ستواصل عمليات التمشيط، وتحديد وتدمير الكهوف والأنفاق، والألغام، والمتفجرات في مناطق انتشار “الحزب”، حتى التأكد من أن المنطقة خالية من أي تهديد، وفق ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية.
مدير مركز “رامان للدراسات”، بدر ملا رشيد، لفت إلى أن التوجه العام داخل “العمال الكردستاني” يشير إلى التخلي عن فكرة العمل المسلح والانتقال إلى العمل السياسي، وهو ما يُتوقع أن ينسحب على “قسد” أيضًا، لاسيما في ظل الاتفاق الذي أبرمه مظلوم عبدي مع الحكومة السورية.
ملا رشيد أوضح لعنب بلدي أن هذا التحول لن يترك فراغًا كبيرًا داخل الساحة الكردية السورية، حيث يظل “حزب الاتحاد الديمقراطي” المرتبط إيديولوجيًا بـ”العمال الكردستاني” هو الحزب المهيمن.
ويعتقد الباحث أن موارد الحزب التي كانت تُوجه لقنديل قد تُعاد توجيهها لدعم “الاتحاد الديمقراطي”، ما يمنحه قدرة أكبر على توسيع قاعدته الشعبية وزيادة حضوره السياسي، خاصة في ظل تراجع دور “المجلس الوطني الكردي” الذي يعتبر منافسه التقليدي، وحظي بدعم من أربيل ذات العلاقة الجيدة مع تركيا.
تحديات التنفيذ ومصير كوادر “العمال”
لم تعلّق الحكومة السورية حتى اليوم على قرار حل “العمال” الذي يهيمن على “قسد” السورية، كما لم تطرح أي مؤشر على موقفها من قرار “الحزب”، في وقت اعتبرت فيه “قسد” و”الإدارة الذاتية” أن حل “العمال” هو أمر إيجابي.
وفي وقت تلف الضبابية تفاصيل القضية حول إلقاء السلاح، ومن الجهة التي ستستلمه، والمطلوبين من “الحزب” لتركيا، وغيرها، تبقى الأبعاد الميدانية في مناطق سيطرة “قسد” بسوريا أكثر وطأة، إذ لم يعرف حتى اليوم مصير المقاتلين الأجانب في “قسد” الذين تطالب الحكومة السورية برحيلهم.
بدوره قال الباحث المتخصص في شؤون شمال شرقي سوريا، سامر الأحمد، لعنب بلدي إن التأثير النظري للحل ينبغي أن يكون كبيرًا، نظرًا لأن كوادر الحزب وخاصة الأجنبية منها كانت تتولى إدارة “قسد” أمنيًا وإداريًا.
وتساءل الباحث عن مدى استعداد هذه الكوادر فعلاً للانسحاب أو التخلي عن مكاسبها، محذرًا من إمكانية ظهور تنظيم جديد يحمل اسمًا مختلفًا لكنه يحتفظ بنفس البنية الصلبة والعصبية التنظيمية.
وأضاف الأحمد أن وجود هذه الكوادر، وخصوصًا في ظل تهديداتها لبعض قيادات “قسد” وحتى لمظلوم عبدي، يعيق تنفيذ الاتفاقات الحالية ويضع عراقيل أمام التحول نحو تسوية سياسية، لكنه يرى أن الخطوة جاءت بتفاهم تركي، ما يرجّح أن يكون لها انعكاسات إيجابية إن مارست أنقرة ضغوطًا جادة لحل الإشكال جذريًا، سواء في قنديل أو في سوريا.
ليس الأول
سبق أن أعلن “حزب العمال” عن حل نفسه بعد عام على اعتقال زعيمه على يد المخابرات التركية في مدينة نيروبي بكينيا، عام 1999، لكنه أعاد تشكيل نفسه لاحقًا، واستأنف عملياته ضد الجيش التركي.
وفي عام 2013، انخرط الحزب مجددًا بمحادثات سلام مع تركيا، وعلّق عملياته العسكرية تمهيدًا لعقد مؤتمر ينهي حالة العداء مع أنقرة، لكنه أعاد استئناف نشاطه المناهض لأنقرة عام 2015، بعد أن هاجمت الأخيرة مواقع له بالقرب من الحدود العراقية.
وتطالب تركيا بحل جميع الفصائل العسكرية المتفرعة عن “العمال” في كل من العراق وتركيا وسوريا، وهو ما لم يوضحه بيان الحزب.
ودعت الحكومة التركية مرارًا إلى إنهاء نشاط الحزب في الدول الثلاث، في وقت استمرت فيه محادثات أنقرة مع الحكومة العراقية، التي انتهت بإدراج العراق لـ”العمال” على “لوائح الإرهاب” لديه.
عنب بلدي
————————————
حل حزب العمال وآفاق انفتاح تركيا على كردها/ عبد الباسط سيدا
18 أيار 2025
لا يمكن عزل قرار «حزب العمال الكردستاني» الخاص بحل الحزب، والتخلي عن السلاح بناء على طلب زعيمه عبدالله أوجلان، المعتقل في جزيرة ايمرلي منذ عام 1999، عن سلسلة من التحولات النوعية التي جرت، وتجري، في المنطقة، بدءأً من غزة، ومروراً بلبنان وسوريا واليمن، وربما في دول أخرى قد يكون العراق بينها، وهي تحولات قد ستؤدي إلى معادلات واصطفافات جديدة في إقليمنا.
وفي هذا السياق، يبدو أن الخطوة اللافتة التي أقدم عليها دولت بهتشلي، زعيم «حزب الحركة القومية» المشارك في الائتلاف الحاكم، في البرلمان التركي لم تكن فردية، وذلك حينما توجه بالتحية إلى ممثلي حزب «المساواة وديمقراطية الشعوب» المحسوب على حزب العمال، ومن ثم مطالبته بدعوة أوجلان إلى البرلمان ليعلن التخلي عن السلاح وحل حزب العمال، وذلك مقابل منح الأخير حق الأمل. بل كانت على الأغلب بالتوافق مع شريكه في الائتلاف الحاكم، «حزب العدالة والتنمية» بزعامة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.
وقد أسفرت تلك الخطوة، وبعد سلسلة من اللقاءات والاجتماعات السرية والعلنية، إلى خروج أوجلان على الملأ ليطالب حزبه بترك السلاح وحل نفسه. ومن ثم كانت التصريحات والتسريبات بشأن القرار الذي اتخذه المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال وشارك فيه أوجلان نفسه عن بعد؛ وهو القرار الذي رحبت به الحكومة التركية والأحزاب التركية المعارضة، إلى جانب الأحزاب الكردية في كل من تركيا وإقليم كرستان العراق وسوريا؛ بالإضافة إلى الترحيب الإقليمي، وحتى الدولي، على أمل أن يكون مقدمة لعملية سلمية تقود إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا؛ حل سيكون في صالح تركيا وكردها، وفي صالح تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
ورغم وجود علامات استفهام كثيرة حول مدى جدية هذا القرار وآليات تنفيذه، وكيفية التعامل مع التحديات والصعوبات التي ستبرز أثناء عملية التنفيذ، ومنها على سبيل المثال: مصير القيادات المطلوبة تركياً وأمريكياً، بالإضافة إلى حدود تأثير النظام الإيراني في ميدان عرقلة تنفيذ هذا القرار، وذلك من خلال القيادات المقربة منه؛ وغير ذلك ومن المسائل الإجرائية التي قد تكون مثار تباين وخلاف.
ولكن في جميع الأحوال لن يعود حزب العمال بعد هذه الخطوة مستقبلاً ليكون ذاك الحزب القادر على التحكّم بالورقة الكردية في تركيا، ولن يكون في مقدوره التدخل بنفس المستوى في شؤون الكرد سواء في العراق أم في سوريا. ولن يكون في وسعه الاستمرار في الإدعاء بأنه يمثل المخاطب الشرعي والوحيد في أي مسعى يرمي إلى وضع حل للقضية الكردية في تركيا؛ وهي القضية الأقدم والأكبر من حزب العمال وبقية الأحزاب، بل تعود بجذورها الحديثة على الأقل، إلى المراحل الأخيرة للدولة العثمانية التي تصاعد فيها النزوع القومي، وإلى بدايات تأسيس الجمهورية التركية التي التزمت الأيديولوجية القومية التي فرضها مؤسسها مصطفى كمال على الدولة. وكانت الحصيلة جملة نتائج منها اعتماد سياسات التتريك، والقطع مع التراث الإسلامي عبر تطبيق النمط الغربي على مستوى الحياة الشخصية للمواطنين؛ هذا إلى جانب تبني الأبجدية اللاتينية الأمر الذي أحدث قطيعة معرفية ما زالت تركيا تعاني من تأثيراتها السلبية بمختلف الأشكال، هذا رغم الجهود الاستثنائية التي بذلت لاحقاً على صعيد توفير الشروط المطلوبة للعودة إلى المصادر والمراجع العثمانية المكتوبة بالأبجدية العربية.
يشكل الكرد في تركيا حالياً الأغلبية في أكثر من 20 ولاية من أصل 81 ولاية تتشكل منها تركيا. أما على صعيد العدد، فلا توجد إحصائيات رسمية، ولكن التقديرات من جانب الباحثين المتابعين تبين أن عدد الكرد في تركيا يتراوح بين 20 إلى 25 مليون مواطن كردي يحملون الجنسية التركية. وهذا فحواه أن هذه القضية هي أكبر من أن تُختزل في حزب العمال؛ كما أنها أكبر من أن يتم غض النظر عنها، أو إرجاء البت فيها، أو التصريح بعدم وجودها أصلاً، وعدم التفكير بالعمل من أجل الوصول إلى حل عادل لها، يضع حدا للمعاناة الكردية في تركيا. وهذه المعاناة هي حصيلة عقود من الاضطهاد والإنكار والتجاهل وعدم الاعتراف، مما أدى إلى تراكم سلبيات هائلة في مختلف الميادين، سلبيات ولّدت الحساسيات، وأوجدت الجدران النفسية، ورسخّت الأحكام المسبقة التضليلية، وكل ذلك استفادت منه الحركات والقوى السياسية المتطرفة المتشددة على الضفتين. إلا أن هذا الوضع تحوّل تدريجياً نحو الإيجابية، وكان الاختراق الكبير في عهد رئاسة توركت أوزال (1989-1993) الذي اعترف صراحة بوجود كردي كبير في تركيا، ولم يجد أي خطورة في احترام الثقافة الكردية والاعتراف بحق الكرد في استخدام لغتهم وإحياء ثقافتهم ضمن إطار وحدة الشعب.
ومع أن هذا النَفَس الانفتاحي لم يستمر طويلاً، إلا أنه أسس لامكانية بلورة رؤية جديدة في التعامل مع الموضوع الكردي، وهي الرؤية التي تحولت إلى موقف سياسي لحكومة العدالة والتنمية لاحقاً. هذا رغم الانتكاسات التي حصلت، والصراعات التي كانت بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني الذي عمل بكل طاقاته للهيمنة على الورقة الكردية، وإبعاد بقية الأطراف الكردية عن ساحة التأثير. وقد استفاد في هذا المجال من علاقاته الإقليمية مع سلطة آل الأسد والنظام الإيراني، وأصبح مع الوقت مندمجاً في حسابات السياسات الإيرانية في كل من العراق وسوريا، خاصة في المناطق الكردية.
كما شكل الحزب المعني أداة للضغط على تركيا لصالح أجندات إيرانية، وليس من أجل دفع الأمور نحو الوصول إلى حل سياسي مقبول للقضية الكردية. هذا رغم وجود عوامل مساعدة لمثل هذا التوجه، من بينها أن تركيا دولة قائمة على المؤسسات رغم كل الملاحظات. يقوم نظامها على التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية تحترم نتائجها سائر الأحزاب المتنافسة بغض النظر عن موقعها من الحكم، أو موقفها من الحكومة. وقد قطعت شوطاً لا بأس به على صعيد التعامل الإيجابي مع الموضوع الكردي منذ مجيء حزب العدالة إلى الحكم. وهناك اليوم أقسام للدراسات الكردية في جامعات تركية عديدة لا سيما في الولايات ذات الأغلبية الكردية. وهناك دور نشر ومؤسسات إعلامية كردية، وأحزاب كردية مرخصة. بالإضافة إلى ذلك ليس هناك سقف للمراكز التي يمكن أن يصل إليها المواطنون الكرد في مؤسسات الدولة طالما أنهم يلتزمون بدستور الدولة وقوانينها. وهناك الكثير من المهرجانات الفنية والمناسبات الاحتفالية الكردية التي تنظم إحياء لذكر أعلام الأدب الكردي، وحتى ذكرى بعض السياسيين ورجال الدين الكرد. وكل هذه الخطوات وغيرها تساعد في تهيئة الظروف لعرض وجهة نظر متكاملة حول مقترح حل عادل للقضية الكردية في تركيا تقدمه الحكومة إلى البرلمان، ليُنَاقش من قبل مختلف الأحزاب الممثلة في البرلمان، وحتى خارج البرلمان ضمن صفوف الأحزاب والمنظمات والقوى المؤثرة في المجتمع بغض النظر عن الانتماءات والتوجهات، وذلك باعتبار أن هذه القضية هي قضية وطنية عامة تخص الجميع.
ومثل هذه الخطوة لو تحققت، ستفتح الآفاق أمام حل واقعي ممكن مستدام، حل سيكون من دون شك لصالح استقرار وازدهار المجتمع التركي، ويمنح تركيا قوة إضافية تمكّنها من أداء دور كبير منتظر على مستوى المنطقة بمزيد من التأثير والفاعلية، وذلك بعد أن تكون قد تجاوزت «عقلية المشكلة»، التي تتعامل بموجبها مع الموضوع الكردي، لتعتمد «عقلية التواصل». فحل الموضوع الكردي سيمكن تركيا من بناء الجسور المتينة مع كرد المنطقة سواء في سوريا أم في العراق وحتى في إيران؛ الأمر الذي ستكون له انعكاسات إيجابية على صعيد العلاقات مع هذه الدول؛ بل سائر دول الإقليم وحتى على المستوى الدولي، وبالتالي تكون (تركيا) قد استعدت لأداء دور كبير يتناسب مع حجمها وامكانياتها وموقعها وتاريخها.
وبالعودة إلى موضوع حل حزب العمال، يُلاحظ وجود ارتياح عام في الأوساط الكردية والتركية بخصوص هذه الخطوة، لأن وجود هذا الحزب كان يعرقل استمرار العمل السياسي الناضج على المستوى الكردي في تركيا حيث القوانين تسمح بتشكيل الآحزاب، وتقرّ بحقها في النشاط والدعاية، والمشاركة في الانتخابات. فحل الحزب المذكور معناه إزالة العقبة التي كانت تمنع الكرد من ممارسة العمل السياسي بأريحية وحرية، ومثل هذه المشاركة ستضفي المزيد من الشرعية على المطالب الكردية، وستساعد على بناء التحالفات مع الأحزاب التركية المتنافسة؛ وهذا مؤداه استقرار داخلي يمكّن تركيا من تركيز جهودها على قضايا التنمية، وتوفير المقدمات الضرورية لضمان مستقبل أفضل لشبابها وأجيالها المقبلة.
وفي هذا المجال لا بدّ من أخذ التركيز الأمريكي في عهد ترامب الثاني على مكانة تركيا ودورها في الإقليم عموماً، وفي سوريا على وجه التخصيص، بعين الاعتبار؛ وقد شمل هذا الدور السعودي أيضاً، والخليجي بصورة عامة، وهو ما سمعناه كثيراً على لسان ترامب أثناء زيارته الخليجية التي التقى خلالها بالرئيس السوري، وأعلن عن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على بلاده. كما شدد في الوقت ذاته على أهمية عودة أمريكا إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة، وذلك لإدراكه بأن أي فراغ سينجم عن الانسحاب الأمريكي سيتم استغلاله بكل تأكيد من قبل المنافسين.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
———————————
شبكة أنفاق تحفرها “قسد” تهدد بانهيار المباني في الرقة/ عبد الله البشر
19 مايو 2025
يعيش سكان مدينة الرقة مخاوف مستمرة من حدوث انهيارات أرضية تطاول مباني سكنية، نتيجة توسع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في حفر الأنفاق
انهار طريق في شارع الوادي بمدينة الرقة، عقب مرور قاطرة ثقيلة، في 26 مارس/ آذار الماضي، ليكتشف الأهالي وجود نفق في المنطقة حفرته “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وقوبل الأمر بنداءات من الأهالي لإيقاف حفر الأنفاق، لكنها لم تلقَ أي استجابة.
من الرقة، يقول سلامة الفيصل لـ”العربي الجديد” إنّ “الكثير من الأنفاق حُفرت تحت المدينة، ومشروع الحفر هو مخطط وممنهج، لكنه يهدد المنازل والبنية التحتية في المدينة، وتتجاهل (قسد) تحذيرات ونداءات السكان التي تطالب بإيقاف عمليات الحفر”. يضيف الفيصل: “وفق معلومات الأهالي، هناك مرافق كاملة تحت الأرض يشرف عليها شخص يدعى إسماعيل الأحمد الإسماعيل، وهو يقود مع شقيقه إبراهيم مجموعة من عمال حفر الأنفاق. الخطر يكمن في تشعب الأنفاق وكثرتها، ولا نعلم بالتحديد لماذا يتم حفرها، لكن ما يخيفنا هو احتمالية تحويل بعضها إلى مستودعات لتخزين الأسلحة. تروج (الإدارة الذاتية) لمشاريع خدمية في الرقة، لكن حفر الأنفاق لا يمت بصلة إلى مشاريع الخدمات، وهو تهديد للبنية التحتية، ويعرض حياة السكان للخطر، ونحمّلهم مسؤولية النتائج الوخيمة على المدينة وسكانها”.
وكشفت مصادر محلية في الرقة عن وجود شبكة متشعبة من الأنفاق أسفل المدينة، بما في ذلك منطقة “وادي الفرات”، وهي منطقة ذات تربة غير مستقرة تجعلها عرضة للانهيار، وسجلت الرقة أخيراً انهياراً أرضياً بالقرب من “جامع الجراكسة”، ما يعكس خطر عمليات الحفر على المباني. ويؤكد النازح من مدينة الرقة، محمد العثمان لـ”العربي الجديد”، أن الأنفاق تضم سجناً سرياً يقع أسفل المنطقة التي تضم مبنى الرقابة والتفتيش جنوبي مركز المدينة، وأن هذا السجن يُحتجز فيه مدنيون.
عنصر من قوات الأمن العام السوري، حلب 12 فبراير 2025 (أسعد الأسعد/فرانس برس)
وأفادت وسائل إعلام محلية، في إبريل/ نيسان الماضي، بأن مدينة الرقة شهدت خلال شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان تسجيل عشرات نقاط الحفر، والتي شملت مناطق حيوية مثل دوار النعيم، والبانوراما، والمشفى الوطني، ومعسكر الطلائع، وجسر الصوامع، ومطحنة الرشيد، وأن عمليات الحفر امتدت إلى داخل الأحياء المكتظة بالسكان مثل الفردوس والجميلي، حيث يُخشى من انهيارات أرضية كارثية نظراً إلى اقتراب الأنفاق من سطح الأرض وعدم استقرار التربة.
ووفق المصادر المحلية، فقد أنشأت “قسد” سبعة أنفاق على طول خط سكة القطار في منطقة جسر الرومانية، إلى جانب ثلاثة أنفاق غرب المنطقة، ونفق في محيط الملعب الأسود، ونفقين قرب حديقة جواد أنزور، إضافة إلى ثلاثة أنفاق أخرى في شارع الجميلي، وثلاثة أنفاق إضافية في منطقة الصوامع، فضلًا عن نشاطات حفر قرب المشفى الوطني.
ومن الرقة، يوضح فارس ذخيرة لـ”العربي الجديد”، أن “فكرة حفر الأنفاق في أحياء مركز المدينة تعود إلى حقبة سيطرة تنظيم (داعش)، والذي عمل على إنشاء شبكة معقدة من الأنفاق، وهذه الأنفاق كانت مصدر خوف كبير لسكان المدينة. على منوال التنظيم الإرهابي، تقوم آليات وعمال تابعون لقوات قسد بحفريات في مراكز حيوية وأحياء، وقد رصدنا العديد منها، ما يشكل خطراً كبيراً على الأبنية والشوارع”. ويثير حفر الأنفاق مخاوف السكان العاجزين عن إيقافها، خاصة أن عمليات الحفر أصبحت علنية. يقول الخمسيني عمر الحاج لـ”العربي الجديد”، إن “الوضع الراهن مقلق للغاية، فالرقة مدينة تضم أعداداً كبيرة من السكان، وهي في حاجة إلى الكثير من الخدمات، منها ما يتعلق بالصرف الصحي والمياه وغيرها. لا نعلم ما ضرورة هذه الأنفاق، لماذا يثيرون مخاوفنا بها، وقد شهدنا مؤخراً انهيارات أرضية بسبب مرور الشاحنات على الطرق، ونخشى أن يتطور الأمر وتنهار بعض المنازل، وما يجري هو استهتار بأرواح الناس”.
يضيف الحاج: “حفر الأنفاق لم يعد خافياً على أحد، فهناك عمال يحفرون في النهار ضمن مناطق مسوّرة باستخدام شبك من الحديد، ويستخدمون رافعات كهربائية لاستخراج التراب من الأنفاق، ولا نعرف كيف ستبرر بلدية الرقة هذا العمل، وهم في الأصل لن يتحدثوا عن المخاطر مع ادعائهم دائماً أنهم يعملون لصالح سكان المدينة”.
وتؤكد حملة “الرقة تذبح بصمت” المحلية، أن قوات “قسد” تواصل عمليات حفر أنفاق تستخدم لأغراض عسكرية، وآخرها حفر نفق في حي الجميلي بوسط المدينة، ضمن منطقة تضررت مبانيها بشدة خلال فترة الحرب على تنظيم “داعش” في عام 2017، ما يزيد احتمالات انهيار المباني في المنطقة مع استمرار عمليات الحفر.
العربي الجديد
——————————-
سورية من إرث الاستبداد إلى بناء الدولة الجديدة/ فيصل يوسف
19 مايو 2025
في ظلّ سنوات طويلة من الصراع والدمار، ومعاناة يومية أثقلت كاهل السوريين، يبرز قرار الإدارة الأميركية رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية بصيصَ أمل في نفق طويل من الظلمة، لما يحمله من دلالاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ قد تُفضي إلى بداية مسار جديد نحو انفراج تدريجي للأزمة، وتوفير أرضية أكثر ملاءمةً لعملية سياسية شاملة ومستدامة، تعالج ما خلّفه النظام البائد من دمار ومعاناة وشرخ عميق في بنية المجتمع والدولة.
تكشف نظرة فاحصة إلى التجربة السابقة أن الإجراءات الاقتصادية، التي غالباً ما يجري تقديمها في سياق “الأدوات غير العسكرية”، قد أثبتت محدوديةَ فعّاليتها في تحقيق الأهداف المُعلَنة، بل إنها، في الواقع، لامست بشكلٍ مباشر حياة المواطنين السوريين، وأثّرت في قدرتهم على تأمين ضرورات الحياة الأساسية. لقد تحوّلت هذه الإجراءات، في أحيانٍ كثيرة، إلى عوامل مساعدة في تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي، وتفسير قصور الخدمات العامّة، وتفاقم مشكلة الفقر والنزوح على نطاق واسع. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار القرار الأميركي المعلن أخيراً بمثابة قراءة جديدة للواقع، نحو تبنّي استراتيجيات أكثر واقعية وتركيزاً في البعد الإنساني، وتشجّع على تفاعل بنّاء وتدريجي مع أيّ سلطة تنفيذية تلتزم مساراً انتقالياً حقيقياً.
إن الآثار الإيجابية المحتملة لتخفيف العقوبات تتجاوز البعد الاقتصادي المباشر، لتشمل إمكانية إيجاد مناخ أكثر إيجابية لتعزيز الثقة وفتح قنوات للحوار. ومع ذلك، يظلّ تحقيق هذه الإمكانات مرهوناً بمدى قدرة المؤسّسات السورية، حكوميةً ومجتمعيةً، على إدارة الموارد بشفافية وعدالة، وضمان وصولها إلى مستحقّيها بعيداً من مظاهر الفساد والاستئثار. كما يستلزم ذلك تضافر الجهود بين الأطراف المحلّية والإقليمية والدولية لدعم الاستقرار الشامل وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، التي تمسّ حياة المواطنين بشكل ملموس.
وعلى صعيد السياق السياسي الأوسع، يكتسب تخفيف العقوبات دلالاتٍ إضافيةً، إذ يتزامن مع حراك دبلوماسي إقليمي ودولي متزايد بشأن مستقبل سورية. يمكن النظر إلى هذه الخطوة حافزاً غير مباشر إلى دفع العملية السياسية، وفقاً لجوهر قرار مجلس الأمن 2254، الذي يشدّد على أهمية بناء نظام حكم ديمقراطي تعدّدي يضمن كل حقوق السوريين، وتنوّعهم، ويضع حدّاً لممارسات الاستبداد والإقصاء التي عانتها البلاد عقوداً.
تفرض المرحلة المقبلة مسؤوليةً مضاعفةً على عاتق الحكومة السورية، والقوى الوطنية الفاعلة كافّة، تستدعي التعامل مع هذه اللحظة المفصلية بروح من الجدّية والمسؤولية الوطنية. يتطلّب ذلك ترجمةَ النيات الحسنة خطواتٍ عمليةً ملموسةً على صعيد إطلاق إصلاحات هيكلية حقيقية في منظومة الحكم، وإظهار التزام راسخ بسيادة القانون ومكافحة الفساد بأشكاله كلّها، وتوسيع فضاء الحرّيات العامّة، وضمان مشاركة سياسية فاعلة لكل ألوان الطيف السوري. لم تعد تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين مجرّد مسألة خدماتية، بل أصبحت مكوّناً أساسياً في عملية استعادة الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وخطوةً ضروريةً نحو تحقيق مصالحة وطنية حقيقية.
في صميم أيّ تصوّر لمستقبل سورية، تبرز القضية الكردية اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة والمجتمع على استيعاب التنوّع وتحقيق العدالة، فالشعب الكردي، الذي يمتلك جذوراً عميقةً في هذه الأرض، وإسهامات تاريخية في بنائها، ظلّ يعاني سياسات التهميش وإنكار الهُويَّة والحقوق المشروعة عقوداً. لا يمكن أيّ مشروع وطني شامل ومستدام أن يكتمل من دون معالجة هذه القضية بشكل عادل وجذري، من خلال تضمين الحقوق الثقافية والسياسية للكرد في الدستور السوري، وضمان مشاركتهم الفاعلة في صياغة مستقبل البلاد، بما يعكس انتماءهم الوطني الأصيل وشراكتهم الكاملة في بناء سورية الغد.
إننا نرى اليوم ملامح إجماع وطني متزايد حول الرؤية المستقبلية لسورية، دولةً مدنيةً ديمقراطيةً لا مركزيةً، تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمساءلة، وتقوم على شراكة وطنية حقيقية ومتكافئة بين جميع مكوّناتها. وفي هذا الإطار، فإن أبناء سورية يتطلّعون، إلى مبادرات بنّاءة من الأشقاء والأصدقاء، تسهم في تعزيز هذا التوجّه، عبر تمكين الشعب السوري من بناء دولته الجديدة على أسس راسخة من الوحدة الوطنية، والتنوّع، الثقافي والقومي والديني.
تكتسب الجهود المبذولة لتوحيد الموقف الكردي وتشكيل وفد موحّد أهمية قصوى، ليس ضرورة لتمثيل مصالح المكوّن الكردي فقط، بل إسهامٌ حيوي في تعزيز الوحدة الوطنية، لأن وجود صوتٍ كرديٍّ موحّد في أيّ حوارات سياسية مقبلة يُعزّز من قوة هذا المكون وقدرته على الدفاع عن حقوقه المشروعة، ويمثّل، في الوقت نفسه، إضافةً نوعيةً إلى الجهود الوطنية الرامية إلى إرساء نظام ديمقراطي تعدّدي، يضمن المواطنة المتساوية، ويؤسّس لحكم رشيد يشارك فيه الجميع في صنع القرار وتحديد المصير المشترك.
تأكيد وحدة الأراضي السورية وسيادتها الوطنية قاسم مشترك يجمع عليه جميع السوريين، إلا أن هذا المفهوم لا ينبغي أن يُختزَل في إطار المركزية الصارمة، التي أثبتت التجارب أنها كانت بيئةً حاضنةً للفساد والتهميش والإقصاء. يمثّل تبنّي نظام ديمقراطي لا مركزي ضمانةً حقيقيةً لتوزيع عادل للسلطة والموارد، وتمكين المجتمعات المحلّية من إدارة شؤونها بكفاءة وفعّالية ضمن إطار الوحدة الوطنية، بما يُعزّز الانتماء الوطني، ويُحقّق التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد. تصوير هذا الخيار دعوةً إلى التقسيم ينبع من فهم ضيّق لطبيعة الدولة الحديثة، التي تستمدّ قوّتها من قدرتها على احتواء تنوّعها، وتقدير اختلافات مكوّناتها، وبناء شرعيتها على أساس من رضا مواطنيها وثقتهم بمؤسّساتها.
ختاماً، يتطلّب استثمار هذه اللحظة التي تحمل في طياتها بوادر انفتاح سياسي واقتصادي تبنّي رؤية وطنية متكاملة وشاملة لبناء سورية المستقبل. رؤية تنطلق من الاعتراف بالحقائق الراهنة، وتؤمن بالشراكة السياسية والاجتماعية الحقيقية، وتتبنّى إصلاحاتٍ جوهريةً تمسّ جوهر المشكلات، وتضع المواطن السوري، بكلّ مكوناته وتطلعاته، في صلب أيّ مشروع وطني. لقد آن الأوان لتجاوز حقبة الاستبداد والانقسام، والانطلاق نحو بناء عقد اجتماعي جديد، يفتح الباب أمام مستقبل تزدهر فيه سورية بتنوعها ووحدة أبنائها.
العربي الجديد
———————————–
دمشق مرة ثانية/ بشير البكر
الإثنين 2025/05/19
زرت دمشق في شباط الماضي بعد غياب 45 عاماً. وحينما غادرتها بعد حوالي أسبوعين، قلت بيني وبين نفسي، إن هذه الزيارة غير محسوبة. لم يكن الوقت كافياً لرؤية الأهل والأصدقاء والزملاء، والقيام بجولات في المدينة من أجل الكتابة. أغلب الذين التقيت بهم عتبوا عليّ لأني غادرت ولم أمكث مدة أطول. وكان لديهم الحق في ذلك. كان يجب أن أكرس وقتاً أطول لتلك الزيارة، وألا تقتصر على دمشق لوحدها. ثمة من دعاني لزيارة السويداء ودرعا وحلب وحمص وحماة واللاذقية، وخاطبني كثيرون من أفراد عائلتي وأقربائي، وألحوا على ضرورة زيارة مدينتي الحسكة، التي تعيش وضعاً صعباً يفوق ما تواجهه المدن السورية الأخرى.
لم يكن لدي من الوقت أكثر من أسبوعين، وكان عليّ أن أرجع إلى باريس بسبب ارتباطي بمواعيد تحددت قبل سقوط النظام، وما كان في مقدوري تأجيلها. ثم أن زيارة دمشق في ذلك الوقت كانت على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلي، لأني اردت التعرف من كثب على الإدارة الجديدة، التي تربطني صداقات ببعض سياسييها وإعلاميها. حاولت أن أجد أجوبة للكثير من الأسئلة التي بقيت تشغلني مثل غالبية السوريين، الذين يأملون أن تستقر سوريا، وتباشر ورشة عمل لتنظيف البلد، ووضع خريطة طريق للمرحلة الانتقالية على أسس تشاركية، وتحقيق العدالة للمتضررين من عهد آل الأسد، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها نظاما الأسد الأب والابن.
زيارة المدن السورية الأخرى أمر لا يقلّ إلحاحاً عن دمشق، التي تشكل نقطة البداية في الوطن سياسياً ووجدانياً. فإذا لم تكن دمشق مستقرة وعلى عافية، لن يستقيم الوضع في بقية أنحاء البلد. وهذا أمر شهدناه طيلة أعوام الثورة، حينما تمكن النظام العام 2015 من استعادة المبادرة بمساعدة روسيا. وبعدما كان على وشك السقوط، قام على قدميه سياسياً وعسكرياً. ولعبت روسيا وإيران ورقة السيطرة على العاصمة من أجل تثبيت بشار الأسد، وإعادة تأهيله محلياً وعربياً ودولياً.
زيارة مدينة الحسكة، لا تقارن بأي زيارة أخرى، كونها المدينة حيث وُلدت، وعشت فيها طفولتي وشبابي الأول، وما زال القسم الأكبر من عائلتي يقيم فيها، وفوق ذلك لها خصوصية سياسية مهمة، لأنها ليست محكومة من الدولة السورية، بل من “قوات سوريا الديموقراطية” التابعة للإدارة الذاتية الكردية، والتي تفرض على أي زائر إلى هناك إجراءات، لا أقبلها من طرفي، لأنها تمس مبدأ سورية هذه المنطقة، وتطعن في أنها جزء من الدولة السورية. وينتظر أهل المدينة من أبنائها المثقفين والإعلاميين والسياسيين أن يعرضوا قضيتها أمام الرأي العام السوري، عسى أن تبادر السلطات لإيجاد حلول سريعة للمشاكل التي تعانيها، لا سيما المياه، عصب الحياة للاستهلاك والزراعة التي تأثرت بسبب تراجع المطر. وتعد حصيلة هذه السنة كارثية، إلى حد أنه يتوجب إعلانها منطقة منكوبة.
لا أحس بأن زيارتي الثانية التي بدأت قبل أيام ستحقق كل ما أصبو إليه، والقسط الأكبر منه عاطفي ووجداني، وأظن أن ذلك لن يتحقق كلياً، حتى لو أقمت هنا بصورة نهائية، وهذا سيحدث حتماً ذات يوم. ذلك أن غياب 45 عاماً ليس بالأمر العادي الذي يمكن للمرء أن يمر عليه بسهولة. أحتاج إلى وقت كي أعوض ما فاتني هنا، وإلى جهد كبير حتى أسدد لبلدي ما له في ذمتي من ديون، والقيام بما يترتب عليّ من مسؤوليات في هذه المرحلة الصعبة التي تتطلب من جميع السوريين التكاتف من أجل النهوض بسوريا التي نحبها، ونطمح لأن ترجع أرض لقاء وثقافة وقلب المشرق العربي وحاضنة قضاياه، خصوصاً قضية فلسطين.
أحس اليوم بفاصل زمني كبير مر بين الزيارتين، رغم أن الوقت لم يتجاوز الشهرين ونصف الشهر. ربما يرجع السبب إلى أن كثير من التطورات، الأمر الذي يبعث على الإحساس بأن المدة التي استغرقتها طويلة، أو ربما هو مجرد إحساس تشكل لدي لكثرة ما استغرقت من تفكير في كل تفصيل سوري، وهذا شأن لا يقتصر على فئة دون غيرها من السوريين، بل تتشاركه الغالبية العظمى، خصوصاً أبناء البلد الذين غادروا بعد العام 2011، ولم تتسنّ لهم زيارته بعد سقوط النظام، وذلك لأسباب تتعلق بقوانين اللجوء، التي تسمح للاجئ بزيارة كل العالم، باستثناء البلد الذي جاء منه.
دمشق بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات، تختلف كلياً. ذلك ما تقوله عيون السوريين التي تبرق بالأمل في أن تبدأ البلاد مرحلة التعافي، وتباشر ردم المسافات بين أبنائها ومكوناتها، لترجع سوريا إلى لونها الزاهي المتعدد والمتنوع.
المدن
———————————
=====================