تسوية عاطفية/ سلوى زكزك

18 مايو 2025
ببساطة متناهية تمت تسوية أمر إرث السيدة ناديا التي توفيت منذ شهرين. تركت السيدة ناديا عددًا كبيرًا من الجلابيات الملونة والمريحة والملابس الداخلية القطنية الدمشقية الفاخرة، إضافة إلى مناشف قطنية بصباغ ثابت وحجوم متعددة، مع عدد كبير من الأمشاط ومن الكريمات والمراهم والزيوت التي تستخدم قبل الاستحمام وبعده.
فرادة هذا الإرث وضع زوجة ابنها أمام مأزق فعلي، ماذا ستفعل بكل هذا الإرث؟ الذي فوضت بنات المرحومة الخمس إلى زوجة الأخ بتصريفه وتوزيعه، خصوصاً بعد رفضهن لاقتناء أي قطعة منه.
بدا اليوم مشمسًا في ربيع مستعجل، سمح النهار الدافئ لزوجة الابن بالانتهاء من طي إرث والدة زوجها بعد غسله وتجفيفه على الحبال تحضيرًا لتوضيبه في أكياس نظيفة وإرساله إلى وجهة ما ترحب بتفاصيله وتقدر قيمته المعنوية والعاطفية والاقتصادية. لكن الحيرة بلغت منتهاها، وهي ترتب ألواح صابون الغار وصابون زيت الزيتون مع زيت الورد وزيت الفازلين وزبدة الكاكاو والأمشاط في صندوق كرتوني، باغتها سؤال حبسته طويلًا في حلقها، كيف لسيدة تجاوزت الخامسة والثمانين الاستمرار باستخدام كل هذه التفاصيل التي تنتمي إلى الرفاهية أولًا وإلى حب كبير للذات، ولم تتوقف عنها يومًا، رغم أن الحرب المجنونة قد أكلت البلاد وكل ارتباط بالرفاهية والاطمئنان وتدليل الذات والموت يتربص بالجميع.
طرقات ضعيفة وخجولة على بوابة المنزل الحديدية. ست نساء يقفن بتردد وخجل وإنهاك، أسقنا ماءً! كانت أول جملة نطقن بها معًا! من أنتن؟ من أين جئتن؟ أية ريح قذفت بكنّ إلى هنا؟ والمرأة صاحبة البيت تراقب وتخزن صورًا مؤلمة لجباه يابسة، وقد نفر الدم من بعضها، نساء بجلابيات بدت عليهن كخيمة، ربما من شدة نحولهن! وربما كانت مستعارة أو موهوبة.
صرخت بلهفة: تفضلن، أرض الدار واسعة، تفضلن. اعتذرت النساء بردٍ جماعي واحد: الأطفال متعبون وعطاش، فقط أسقينا ماءً ودعينا نواصل رحلتنا. ألقت نظرة على الأطفال الذين احتموا جانبًا بجدار المنزل، أصرت على إدخالهن، وهم تلقوا دعوتها برضا بالغ ومؤثر، تجاوز الأطفال أمهاتهم ودخلوا البيت خفافًا، فجأة تحولت أرض الدار إلى صالة مكتظة بالرؤوس الغريبة، رؤوس بعيون زائغة وأجساد نحيلة ومرهقة.
نفدت عبوات المياه بسرعة غريبة، وصاحبة البيت قررت قرارًا أشد غرابة، قالت بصوت عالٍ وحاسم: ستقمن جميعًا بالاستحمام! الجلابيات نظيفة وجاهزة، المناشف والصابون يكفيان الجميع ويزيدان، حتى الأمشاط والزيوت والفازلين وزبدة الكاكاو كلها لكن! بدت وكأنها ضائعة ووحيدة في زحمة لم تتوقعها، لقد وجدت حلًا عجيبًا، بل رائعًا لإرث والدة زوجها، لكن ماذا عن الأطفال، جارتها تجمع ملابس للعائلات الفقيرة، هاتفتها وجاء الرد سريعًا أكياس فيها ملابس متعددة المقاسات مع ثلاثة أكياس من الكعك وإبريقين من الشاي المحلى جيدًا.
هاتفت بنات المرحومة، لم تكلمهن، أسمعتهن الضجيج وأحصت أمامهن أعداد النساء والأطفال، بدت أرض الدار وكأنها خشبة مسرح يتبدل اللاعبون عليها بسرعة غريبة وبملامح وجوه مختلفة، طلبت النساء أكياسًا لرمي ما يرتدينه فيها، علت الضحكات الصاخبة وصاحبة البيت تقول للنساء (حتى لو الملابس الداخلية واسعة شدوها شوي).
يحكى أن بعض النساء بكين حين لامست المياه الساخنة أجسادهن، وبعضهن احتفلن بالفازلين على جباههن المشققة بمشاعر مفرطة في بهجتها، طلبت إحداهن الاحتفاظ بالمشط، وتجادلت سيدتان حول لون الجلابية التي تردن ارتداءها.
أكبر السيدات سنًا طلبت فنجانًا من القهوة، وكان للجميع حصة مضافة منها، لم يبق من إرث والدة الزوج شيئًا في المنزل، تمت التسوية الجماعية المشبعة بالعاطفة في لحظة استثنائية، وبقيت الحكاية، وأسماء ست نساء مع أطفالهن التسعة تقرر في ذلك اليوم أن يخرجوا خارج قراهم المحاصرة.
حين يصير الاستحمام وطنًا، وقطعة الصابون عاطفة، وجلابيات الموتى سكنًا، وفنجان القهوة بداية لحياة جديدة، سنمنح المكان اسمًا واحدًا، اسمًا شاهدًا على كل هذا الخراب الموشى بالعاطفة: سورية.
العربي الجديد