أن تكون مصاباً بداء “تسوندوكو”/ معن البياري

24 مايو 2025
ليس داءً بالضبط، وإنما هو حالة، أو محضُ سلوكٍ شخصي، لكنّ العنوان أعلاه يتزيّد. وهذا، في بعض أعرافنا في الصحافة، جائزٌ بحدودٍ وبلا مبالغاتٍ فادحة. ولا أظنّني أرتكبُ أمراً مستنكَراً إذا اعتبرتُ “تسوندوكو” داءً، أو مرضاً، على أنْ لا أغالي فأذهب إلى أنَّ لا شفاءَ منه. والقول، من قبلُ ومن بعد، إن الخروج من هذه الحالة ميسور، بشيءٍ من الحذر و”الحِمية” وحُسن الإدارة والرّشد، سيّما وأن الموضوع كله مرهونٌ بالمزاج، بصورةٍ أو بأخرى، فالقصّة كلها نفسيةٌ وذهنيةٌ ليس أكثر، وسيّما (أيضاً) أن كثيرين أصيبوا بـ”تسوندوكو” ثم أمكن لهم، مع وقت غير طويل، أن يغادِرُوه ويغادِرَهم، ولا حاجة إلى أدوية أو وصفات طبية. ولا يتعلق الحديث هنا عمّن يستطيبون الإقامة في هذا المرض، ويجدون بعض المتعة وهم فيه، ولا يرَوْنه في الأصل مرضاً، ولا حتى مشكلة. وفي النهاية، لا يتعلق الحال بمتاعب في المفاصل، أو بعدم انتظام دقّات القلب، أو أوجاعٍ في الرأس، ولا أيضاً بأيٍّ من الأمراض الخطرة، شفى الله الجميع، وإنما هو مزاجٌ فردي، لدى كثيرين أو قليلين، مستحسنٍ أو غير مستحسن، لا طائل منه أو ثمّة شيئاً من طائلٍ له، بحسب المنظور إلى الحالة التي تُعاينُها، أو تُقاربها.
… ولكن، ما هو “تسوندوكو” هذا؟ أطنبت السطور أعلاه عنه من دون أيّ تعيينٍ له، أو تعريفٍ به، بل جعلته لغزاً، وهو ليس هكذا. وإذا رجّح قارئٌ أنّ التسمية يابانية، فهذا صحيحٌ، كما صحيحٌ قولُه إذا قال إن المفردةَ غير ذائعة، فلم تتسرّب مع السلع اليابانية ومسمّياتها في بلادنا. ولمّا كان من العسير أن يذهب واحدُنا إلى معاجم بلاد الشمس المشرقة وقواميسها ليعرف معنى هذه الكلمة ودلالاتها، ففي الوُسع الاحتكام إلى العارفين بالحالة التي يؤشّر إليها هذا اللفظ، أو من نقلوا عنهم.
بلا تطويل كلام (!)، “تسوندوكو” في قاموس “كامبريدج” يعني “شراء الكتب والاحتفاظ بها وجمعها في كومة، لأنك تنوي قراءتها، لكنّك لا تفعل”. وهنا، لا أظنّ أن المصطلح الياباني هذا يشمل الذين يستهويهم جمع الكتب وبإفراط تساعدهم عليه قدراتهم المالية، ولا المهووسين بشراء الكتب. وقد تعرّفتُ على عديدين من هؤلاء، يثير بعضُهم فيك اندهاشاً من شرائهم كتباً بلغات لا يعرفونها، لمجرّد أن أغلفتها جميلة، أو أنها كتبٌ نادرة. وأتذكّر هنا من هؤلاء صديقاً تلحمياً، كان، رحمه الله، تاجراً ميسوراً، ومثقّفاً ومترجماً على كفاءة. جال بي مرّة في مكتبته الباهرة، ووجدتُ فيها كتباً بالبلغارية والرومانية والبولندية والروسية جاء بها من بلدانها. وبحسب المعنى في “تسوندوكو”، صاحبي ذاك، ولم يكن يُتقِنُ غير الإنكليزيّة والعربية، غير مشمولٍ بالحالة المسمّاة أعلاه، لأنها مقصورةٌ على من يشتري كتباً ليقرأها، وتتراكم عنده، ثم لا يفعل.
مناسبة الإتيان هنا على المفردة اليابانية، وهي من عاميّة لغة الإمبراطورية العتيدة كما فهمت، ما اجتمع لديّ من كتبٍ اقتنيتُها (لِمَ لا أقول اشتريتُها؟) وأخرى أُهديتُها من كاتبيها وناشريها، في معرض الدوحة الدولي للكتاب أخيراً، أُضيفت إلى ما تراكم عندي من معارضَ سابقة، ومن إهداءاتٍ من ناشرين ومؤلفين، ومما أوصي بها من كتبٍ تصل إليّ. ولم تتيسّر أوقاتٌ لقراءة كثير منها، وبذلك أجدُني مصاباً بـ”تسوندوكو”، كما كثيرين غيري، ذلك أننا، جميعُنا، نرغب أن نغادر هذا كله، فنقرأ كتباً بديعة، ما اقتنيناها إلّا للإمتاع والمؤانسة معها، وهي رواياتٌ وسير وتأملات في الفكر والثقافة وقصائد وقصص وأفكار في السياسة وشؤون العالم.
كيف نتعافى من إصابتنا بـ”تسوندوكو”؟ … باحتراسٍ أكثر، وبإدارة الوقت وتنظيمه، فلا نلملم الكتب كيفما اتفق، مع أن كتباً قد لا تشعُر بحاجةٍ إلى قراءتها الآن، ثم ترى نفسَك مدفوعاً إلى قراءتها بعد عام أو أكثر. … ولكن، من قال إن ثمّة ضيقاً فينا من مشهدٍ كتبٍ لم تُقرأ بعد، تتكوّم ثم تتكوّم أكثر، وتنتظر أن يُعثر على وقتٍ لمطالعتها، ليُمتع الجميع بالصحّة وطول العمر؟.
العربي الجديد