
للمرة الأولى في تاريخ التطور أصبح بإمكان البشر التفاعل في فضاءات افتراضية سيكون لها تأثيرات مستقبلية
السبت 24 مايو 2025
يمكن أن يكون لساعات الجلوس الطويلة على منصات التواصل الاجتماعي تأثيرات ممتدة قد تصل إلى حد العزلة عن الحياة الاجتماعية الحقيقية وما يرافقها من اضطرابات نفسية وانعكاسات سلوكية خطرة، إضافة إلى تأثيرها في جودة النوم والحضور الاجتماعي والتركيز في أداء المهام.
يتغير شكل التفاعل البشري اليوم في عالم يتسمر فيه أكثر من 3 مليارات ونصف المليار شخص أمام الأجهزة المحمولة، وتتزايد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي مع أكثر من ملياري شخص ناشط على منصات التواصل الاجتماعي حول العالم. وبحسب مؤسسة “بي أم سي” العلمية المتخصصة بالطب النفسي، أصبح بإمكان الناس اليوم، للمرة الأولى في تاريخ التطور البشري، التفاعل في فضاءات افتراضية، حيث تنفصل الإشارات الزمنية والمكانية والجسدية عن بعضها بعضاً.
بناء الهوية
ووفقاً للدراسة التي أجرتها “بي أم سي” فإن الطابع الافتراضي الذي أُضفي على التفاعلات الاجتماعية من المتوقع أن يؤثر في السلوكيات الاجتماعية البشرية، شاملاً مستويات عدة منها بناء الهوية، إذ يحكم بناء الهوية في الحياة الواقعية عملية تواصل مستمر مشترك يحدث من خلال التعاملات الجسدية المتكررة مع الآخرين، لتبنى الهوية بصورة مشتركة عبر سرديات مشتركة، من خلال العمل على المشاريع نفسها أو مشاركة القيم الثقافية أو التقاليد أو القيام بأنشطة مشتركة، بينما يُنشأ السرد في العالم الافتراضي بصورة ذاتية بالكامل باستخدام مقاطع فيديو أو صور أو نصوص أو محتوى آخر على الإنترنت، ومن خلال اتصال غير مستمر ومنقطع ومشاركة افتراضية يديرها تبادل انطباعات على شكل تعليقات وإعجابات وغيرها، لذا من سهل إنشاء هوية مزيفة يمكن بدوره أن يسهل عمليات الاحتيال والتصيد الإلكتروني.
فضاء مشترك
من جهة أخرى تتزامن المشاركة في الحياة الواقعية مع أفعال متجسدة في الفضاءات الزمنية والجغرافية نفسها، كلغة الجسد والتواصل البصري والتعبير الصوتي، في حين نجد هذه المشاركة في العالم الافتراضي غير متجسدة وغير متزامنة، ويمكن أن تكون أحادية الاتجاه تماماً أو تنفذ مع جمهور افتراضي مثل إعادة التغريد وإنشاء الوسوم أو جلسات أونلاين عبر مكالمات الفيديو. ويمكن إجراء المقارنة ذاتها على مستويات أخرى مثل الاهتمام المشترك والتواصل البصري وديناميات التفاعل الاجتماعي والعلاقات ومراقبة الوضع الاجتماعي.
من هنا يمكن لكل العمليات الاجتماعية الافتراضية تقريباً أن تحدث بصورة غير متزامنة ومنفصلة تماماً عن التجسيد المادي وبصورة متحررة من القيود الزمنية أو الجغرافية، مثل تبادل رسائل نصية ورموز تعبيرية عبر محادثة افتراضية، هذا التحرر من التجسيد المادي يغير جذرياً في طبيعة المعلومات الاجتماعية التي تُنقل وتُتبادل.
ولا بد من أن لهذا النقل شبه الكلي للحياة الاجتماعية من الواقع إلى منصات العالم الافتراضي تأثيراً كبيراً يترك بصماته على جوانب عدة، منها نفسية وعاطفية واجتماعية وغيرها.
الدماغ الاجتماعي
والواضح أن تلك التأثيرات ما زالت خارج دائرة الاهتمام اللازم اليوم، فنحن نرى قمة الجبل الجليدي إلا أن ما يحدث في العمق لا يزال خارج حدود الرؤية، ولكن الأكيد أن بعض الأعراض بدأت تظهر منذرة بحدوث تغييرات كبيرة على المستويات الإنسانية كافة، وهنا يمكن ملاحظة كثير من التأثيرات التي يتركها الجلوس وقتاً طويلاً أمام الشاشات في سبيل متابعة منصات التواصل الاجتماعية وناشطيها.
وتشير الدراسات إلى أن زيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قد تؤدي إلى تغيرات في نشاط الدماغ، لا سيما في المناطق التي تتحكم بالانفعالات والحساسية للتفاعلات الاجتماعية، إذ لوحظ وجود علاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاضطرابات النفسية المرتبطة تحديداً بالدماغ الاجتماعي، وهو شبكة من مناطق متعددة في الدماغ تدعم إدراك التفاعلات الاجتماعية المعقدة، أي تلك التي تمكننا من التعرف إلى الآخرين وتقييم حالنا النفسية من النيات والرغبات والمعتقدات، إضافة إلى مشاعرنا وتصرفاتنا وأفعالنا وحالات الآخرين النفسية.
النرجسية الاستعراضية
كذلك تظهر عشرات الأوراق البحثية أن السمات النرجسية ترتبط بصورة واضحة بزيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها لأغراض رومانسية، وكذلك كثافة النشر على تلك الوسائل والمشاركة الشخصية، وزيادة وتيرة نشر صور السيلفي وتحريرها والمداومة على تحديث الحالة من منطلق التعبير عن الذات وتقديمها للآخرين، إضافة إلى الإعجاب وزيادة التفاعل مع الصور الشخصية وزيادة المحتوى الترويجي الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدامها الإدماني على وجه العموم.
وفي حين تشمل السمات الأساسية لاضطراب الشخصية النرجسية الاستعراض والشعور بالاستحقاق والحاجة المفرطة إلى الإعجاب وسلوكيات تضخيم الذات، فمن الطبيعي أن ترتبط السمات النرجسية العالية بزيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وبنهاية المطاف ظهر أن النرجسية الاستعراضية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتواتر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل “إكس” والتفاعل مع “الأصدقاء” على “فيسبوك” وزيادة التعبير عن المشاعر على وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن هنا يمكن أن يكون لساعات الجلوس الطويلة هذه تأثيرات ممتدة قد تصل إلى حد العزلة عن الحياة الاجتماعية الحقيقية وما يرافقها من اضطرابات نفسية وانعكاسات سلوكية خطرة، إضافة إلى تأثيرها في جودة النوم والحضور الاجتماعي والتركيز في أداء المهام، وتأثيرات مباشرة في الذاكرة والمزاج قد تصل إلى إضرابات تتعلق بالأوهام الاجتماعية وجنون العظمة والوقوع في فخ العلاقات الخيالية وتشوه في إدراك الذات أو الأوهام الجسدية.