العدالة الانتقالية تحديث 05 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————–
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني/ فضل عبد الغني
2025.06.04
يُجسّد دور المدعين العامين في المجتمعات الديمقراطية الحديثة مفارقة تقع في صميم الحوكمة الدستورية وسيادة القانون. يتمتع هؤلاء المدعون بسلطة تقديرية واسعة في تحديد من يُحال إلى القضاء بتهم جنائية، إلا أنهم ملزمون في الوقت ذاته بالتوفيق بين متطلبات المساءلة السياسية والاستقلال المهني.
ويعكس هذا التوتر تحديات أعمق في النظرية الديمقراطية بشأن كيفية تنظيم مؤسسات تستجيب للإرادة العامة مع بقائها محصّنة ضد التدخلات السياسية. تُظهر الدراسات الحديثة أن استقلال الادعاء العام يُعزّز من مساءلة السلطة التنفيذية من خلال تمكين ملاحقة الموظفين العموميين في قضايا الفساد وسوء استخدام السلطة، بينما تضمن آليات المساءلة خضوع المدعين العامين أنفسهم للمحاسبة أمام المؤسسات الديمقراطية. ومع ذلك، لا يزال تحقيق التوازن المثالي بين هذين البُعدين من أكثر التحديات تعقيدًا التي تواجه أنظمة العدالة الجنائية عالميًا، حيث تختلف المقاربات بحسب التقاليد الدستورية والسياقات السياسية والتاريخ المؤسسي لكل دولة.
الإطار المفاهيمي: استقلال النيابة العامة والمساءلة
يشمل مفهوم استقلال النيابة العامة أبعادًا هيكلية ووظيفية تُميّزه عن استقلال السلطة القضائية، مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة شبه القضائية للعمل الذي تقوم به النيابة. ويُقصد باستقلال النيابة العامة ألا يُتوقع من المدعين العامين أن تترتب على أدائهم المهني عواقب سلبية، مثل العزل أو النقل أو خفض الأجور. ويركّز هذا المفهوم على العلاقة بين المدعين العامين والسلطات الحكومية، لا سيما السلطة التنفيذية التي كثيرًا ما تمارس سلطتها الإدارية على أجهزة الادعاء.
ويتجلّى هذا الاستقلال في قدرة المدعين العامين على اتخاذ قراراتهم بحرية، دون تدخل أو تأثير من السلطة التنفيذية أو موظفين عموميين، خصوصًا في القضايا التي تطول هؤلاء الأشخاص، مثل الفساد، واستغلال السلطة، وانتهاكات حقوق الإنسان. ويمتد نطاق الاستقلال ليشمل المهام الأساسية للنيابة العامة، بما في ذلك قرار تحريك الدعوى، وإجراء التحقيقات، وتقرير الاستمرار في الملاحقة القضائية أو سحب التهم.
وفي المقابل، فإن المساءلة تشير إلى وجود آليات تكفل استخدام هذه السلطة التقديرية بشكل مسؤول، وفقًا للمعايير القانونية والمهنية. وتشمل المساءلة كلاً من الضوابط البيروقراطية الداخلية وآليات الرقابة الخارجية المصممة لمنع الانحرافات في ممارسة سلطة الادعاء، مع الحفاظ على ثقة الجمهور في عدالة النظام الجنائي.
ولا ينبغي فهم العلاقة بين الاستقلال والمساءلة على أنها تعارضية، بل تكاملية. إذ إن الاستقلال من دون مساءلة قد يؤدي إلى انحرافات في أداء النيابة العامة، ويُقوّض ثقة المواطنين في حيادها، في حين أن المساءلة من دون استقلال تُفضي إلى إمكانية التلاعب السياسي بالإجراءات الجنائية. ولهذا، يتعين على أنظمة الادعاء الفعّالة أن تُقيم ترتيبات مؤسسية تضمن تحصين المدعين العامين من التدخلات السياسية، مع بقائهم في الوقت ذاته خاضعين للمساءلة المهنية والديمقراطية بشأن سلوكهم وأدائهم الوظيفي.
الأطر الدستورية وآليات التعيين
الأنظمة الرئاسية والنماذج التنفيذية التشريعية
تميل الأنظمة الرئاسية عادةً إلى تركيز سلطة تعيين المدعين العامين في يد السلطة التنفيذية، مع إدماج آليات رقابة تشريعية لضمان المساءلة الديمقراطية. ففي الولايات المتحدة، يُجسّد النظام الفيدرالي هذا التوجه من خلال ما يُعرف ببند التعيينات، حيث يُرشّح الرئيس المدعي العام، إلا أن تعيينه لا يُستكمل إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ. وتخدم هذه الآلية التشاركية غرضين رئيسيين: ضمان إسناد المناصب العليا لأشخاص ذوي كفاءة، وتوفير رقابة ديمقراطية على قرارات التعيين التي تتخذها السلطة التنفيذية.
تشمل هذه العملية مراجعة دقيقة من خلال جلسات استماع تعقدها اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ، حيث يُقيّم الأعضاء مؤهلات المرشحين، وتوجهاتهم القانونية، ومواقفهم السياسية. ويُبرز هذا النموذج الأميركي كيفية تحقيق التوازن في الأنظمة الرئاسية بين كفاءة الأداء التنفيذي والضوابط المؤسسية.
ويشغل النائب العام في الولايات المتحدة موقعين حيويين في آنٍ واحد: وزير العدل، ورئيس أجهزة إنفاذ القانون، ما يُضفي على هذا المنصب وزنًا دستوريًا كبيرًا. وتُنتج هذه المسؤولية المزدوجة توترات مستمرة بين واجب المساءلة السياسية أمام السلطة التنفيذية، وضرورة الحفاظ على استقلال القرار داخل جهاز النيابة العامة. ويُظهر هذا الوضع التحدي الدائم في تأمين استقلال النيابة العامة ضمن بنى تخضع، بطبيعتها، للمساءلة السياسية.
الأنظمة البرلمانية وسلطة رئيس الوزراء
في المقابل، تنتهج الأنظمة البرلمانية مسارات مختلفة في تعيين المدعين العامين، تعكس طبيعة هياكلها الدستورية واندماج السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، تعتمد نظام التعيين التنفيذي المباشر، حيث يُعين رئيس الوزراء المدعي العام لإنجلترا وويلز دون الحاجة إلى تصويت أو مصادقة من البرلمان. ويُجسد هذا الإجراء مبدأً برلمانيًا راسخًا مفاده أن الحكومة، بعد نيلها ثقة البرلمان، تملك صلاحية تعيين كبار المسؤولين التنفيذيين.
غير أن هذا النموذج يطرح توترات واضحة بين الأدوار السياسية والقانونية للمدعي العام، الذي يُضطلع في آنٍ واحد بمهام وزير في الحكومة ومستشار قانوني أول لها. ويمكن أن يؤدي هذا التداخل إلى تضارب في المصالح، لا سيما حين يضطر المدعي العام لاتخاذ قرارات تمس زملاءه السياسيين أو تتعلق بسياسات الحكومة ذاتها.
ويعتمد النظام البريطاني إلى حدّ كبير على الأعراف الدستورية والمهنية القانونية، بدلاً من آليات رقابية مؤسسية صارمة، لضمان استقلال النيابة العامة. وتُبرز قضايا مثل رفع دعاوى ازدراء ضد شخصيات سياسية رفيعة التحديات المترتبة على هذا الترتيب، لا سيما ما يتعلق بإمكانية وجود تعارض فعلي أو مُتصوّر في المصالح، بما يُهدد مبدأ الحياد وتحقيق العدالة.
التوتر الأساسي: الاستقلال مقابل الرقابة السياسية
يعكس التوتر القائم بين استقلال النيابة العامة والمساءلة السياسية إشكالية دستورية عميقة تتصل بمبدأ فصل السلطات وبُنى الحوكمة الديمقراطية. ففي عدد كبير من الأنظمة القضائية، تعمل النيابات العامة ضمن إطار السلطة التنفيذية أو ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، ما يُنتج تضاربًا بنيويًا بين وظيفتها في تطبيق القانون وضرورة تحصينها من النفوذ السياسي. ويبرز هذا التوتر بشكل خاص عندما تكون النيابة العامة معنية بالتحقيق مع مسؤولين حكوميين يمارسون سلطة إدارية مباشرة على عملها، أو حتى بملاحقتهم قضائيًا.
في هذا السياق، تُعد الضمانات الدستورية لاستقلال النيابة العامة أدوات حيوية للحماية من التدخلات السياسية في سير العدالة الجنائية. فعلى سبيل المثال، ينص القانون الأساسي في هونغ كونغ على أن وزارة العدل “تتولى إدارة الملاحقات الجنائية دون أي تدخل”، مما يُكرّس استقلال النيابة العامة كمبدأ دستوري وليس مجرد إجراء تنظيمي. وقد أكدت محكمة الاستئناف في هونغ كونغ على هذا الاستقلال باعتباره “ركيزة أساسية لسيادة القانون”، مشددة على أن اتخاذ قرارات الملاحقة أو إيقافها يجب أن يبقى ضمن صلاحيات الادعاء العام حصريًا، بمعزل عن الضغوط السياسية.
تُصبح الحاجة إلى حماية استقلال النيابة العامة أكثر إلحاحًا في القضايا ذات البعد السياسي الحساس أو التي تطول مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى. ففي مثل هذه القضايا، لا بد أن يستند المدعون العامون في قراراتهم إلى معايير الجدارة القانونية والأدلة المتاحة فقط، دون اعتبار للعواقب السياسية أو الضغوط الحكومية. ويضع هذا الدور المدعين العامين في موقع فريد ضمن الهياكل السياسية، حيث يُطلب منهم خدمة الصالح العام دون أن يخضعوا لأجندات السلطة التي تُحدد هذا الصالح عادةً.
ومع ذلك، فإن آليات المساءلة السياسية تظل جزءًا أساسيًا من النظام الديمقراطي، ولا يمكن فصلها كليًا عن عمل النيابة العامة. فالمدعون العامون يتصرفون بسلطة واسعة ويُشرفون على موارد عامة كبيرة، ما يفرض الحاجة إلى وجود رقابة ديمقراطية تضمن الاستخدام الرشيد والمسؤول لهذه السلطة. ويتمثل التحدي هنا في تصميم آليات مساءلة تُحافظ على استقلال النيابة العامة، مع ضمان خضوعها للمحاسبة، بما يُعزز ثقة الجمهور في المؤسسات العدلية.
نماذج تنظيم النيابة العامة والمساءلة
تبنّت الأنظمة القضائية حول العالم نماذج متنوعة لتحقيق توازن فعّال بين استقلال النيابة العامة والمساءلة، تعكس اختلافاتها في التقاليد الدستورية، والثقافات السياسية، والسياقات التاريخية. وتنقسم هذه النماذج عمومًا إلى فئتين رئيسيتين: نماذج المساءلة الانتخابية، ونماذج المساءلة البيروقراطية، مع اتجاه متزايد نحو المزج بين النموذجين.
يرتكز نموذج المساءلة الانتخابية، على مبدأ الرقابة الديمقراطية المباشرة، سواء من خلال انتخاب النواب العامين مباشرة من قبل المواطنين أو تعيينهم من قبل مسؤولين مُنتخبين. ويهدف هذا النموذج إلى ضمان استجابة النيابة العامة لأولويات الجمهور وقيمه، مع إتاحة ضوابط خارجية على سلطتها التقديرية من خلال دورات انتخابية منتظمة. ويؤكد أنصار هذا النموذج أن المساءلة الانتخابية تُبقي النواب العامين على تواصل مباشر مع المجتمع، في حين يرى معارضوه أنها قد تؤدي إلى تغليب اعتبارات شعبوية أو سياسية على قرارات الاتهام، بما يُقوّض استقلالية النيابة.
في المقابل، تعتمد غالبية الأنظمة الأوروبية، وغيرها من الدول، على نماذج مساءلة بيروقراطية داخلية. وتتصف هذه الأنظمة بوجود أجهزة ادعاء مركزية، ذات هياكل هرمية واضحة، وتعليمات مكتوبة تُنظّم قرارات الملاحقة، بالإضافة إلى آليات مراجعة دورية داخلية. ويلتحق المدعون العامون في هذه النماذج بجهاز بيروقراطي مهني، ويُنفذون السياسات من خلال رقابة داخلية منظمة، بدلًا من المساءلة العامة عبر صناديق الاقتراع.
يمنح النموذج البيروقراطي الأولوية للخبرة القانونية والانضباط المهني وتوحيد تطبيق المعايير القانونية، ويُوفّر حماية من الضغوط السياسية المباشرة. إلا أن هذا النموذج لا يخلو من الإشكاليات، إذ قد تُستغل السلطة الهرمية من قِبل جهات سياسية نافذة للتأثير على
السياسات المؤسسية أو قرارات كبار المسؤولين. وتُحدَّد فعالية هذا النموذج إلى حد كبير بمدى استقلال كبار مسؤولي النيابة وقوة أنظمة الحوكمة الداخلية.
وتشير الاتجاهات الراهنة إلى تقارب بين النموذجين، باعتماد أدوات بيروقراطية داخلية أكثر صرامة، إلى جانب تعزيز الرقابة العامة والشفافية. ويعكس هذا التقارب وعيًا متزايدًا بأن أيًا من النموذجين، منفردًا، لا يُقدّم حلاً كافيًا للتعقيدات المؤسسية المرتبطة بحوكمة النيابة العامة في السياقات الديمقراطية المعاصرة.
الأدلة التجريبية على الاستقلال والمساءلة الحكومية
تُبرز الأبحاث التجريبية الحديثة وجود أدلة قوية على أن استقلال النيابة العامة يُسهم بشكل كبير في تعزيز مساءلة الحكومة، من خلال زيادة احتمالية ملاحقة المسؤولين الحكوميين المتورطين في سلوكيات جنائية. وتُظهر بيانات مشروع العدالة العالمي وجود ارتباط إيجابي وثيق بين استقلالية النيابة العامة ونجاحها في مقاضاة المسؤولين الفاسدين، حيث بلغ معامل الارتباط بين الاستقلال والمساءلة 0.893، مما يُشير إلى علاقة متينة بين العاملين.
ويُبيّن التحليل أن هذا الاستقلال يُؤثر على وجه التحديد في قدرة المدعين العامين على التعامل مع مختلف فئات الموظفين العموميين، ويُعزّز استعدادهم لمتابعة القضايا ضد شخصيات مرتبطة سياسيًا، قد تكون بمنأى عن الملاحقة القضائية في ظروف أخرى. وتدعم هذه النتائج الطرح النظري الذي يرى في استقلال النيابة العامة آلية حيوية لضمان خضوع الجميع للقانون، دون استثناء بسبب المنصب أو النفوذ.
مع ذلك، تكشف البيانات أن استقلال النيابة العامة لا يكون فعّالًا إلا إذا اقترن بمستوى كافٍ من المساءلة. فالمدعون العامون الذين يتمتعون باستقلال مطلق دون رقابة مناسبة قد يصبحون عرضة للفساد أو الممارسات غير المهنية، ما يُقوّض قدرتهم على محاسبة المسؤولين الحكوميين على نحو فعال. وتُبرز هذه النتيجة الحاجة الماسة إلى بناء ترتيبات مؤسسية تُوازن بين الاستقلال والرقابة، لضمان نزاهة جهاز النيابة وتعزيز ثقته أمام المجتمع.
وتحمل هذه النتائج دلالات مهمة لصانعي السياسات في مجالات إصلاح المؤسسات والعدالة الجنائية. فهي تُظهر أن تعزيز استقلال النيابة العامة يُمكن أن يُحقق مكاسب كبيرة على صعيد مساءلة الدولة وسيادة القانون، لكن هذه المكاسب تبقى رهينة بتوافر آليات مساءلة مؤسسية فعّالة تضمن النزاهة وتُعزز ثقة المواطنين.
ويتعين أن تُراعي إصلاحات النيابة العامة المستقبلية في سوريا التحديات المستجدة، مثل الاستقطاب السياسي، ونفوذ السلطة التنفيذية، والتطورات التكنولوجية، والقيود المالية، مع البناء على الخبرات الدولية الناجحة في مجالات الشفافية، والمجالس المهنية، وبرامج التدريب والتطوير المؤسسي، وتوازن السلطات، وسيادة القانون في العالم المعاصر.
تلفزيون سوريا
————————–
جدّات بلازا دي مايو.. تجربة الأرجنتين في إعادة أبناء المعتقلين إلى عائلاتهم/ يمان زباد
2025.06.04
في فترة نظام الأسد الأب والابن؛ لم يكن أسلوب الاعتقال والاختفاء القسري مرتبطاً فقط بمعاقبة المعارضين السياسيين لذلك النظام، أو حتى كأداة ردع للشعب في حال حاول الخروج من النهج الذي صنعته “الدولة المتوحشة” في تأطير المجتمع، بل كانت فلسفة الاعتقال هي للحصول على رهائن بغض النظر عن مشاركتهم في معارضة الأسد، حيث تعتمد الدول الاستبدادية عادة على معاقبة المناهضين لها بشكل مباشر، والتضييق على عائلاتهم، في حين اعتمد الأسد على العقوبة الجماعية لكل عائلة المعارض أو الناشط، وصنع ديناميات لهذا الاعتقال بشكل مؤسسي وممنهج، من لحظة وصول التقارير عن المعارضين حتى لحظة إخفائهم مع عائلاتهم، وعامل هؤلاء المعتقلين كرهائن عنده لا يقبل إدخالهم في أي مفاوضات لإطلاق سراحهم، أو حتى الإعلان عن مصيرهم أو أين دُفن الذين سلَّم لعائلاتهم بياناً أنهم قُتلوا تحت التعذيب.
وبعد سقوط الأسد بقي ملف المعتقلين الشهداء جُرحاً مفتوحاً أمام الدولة الناشئة والمجتمع المدني الذي يحاول النهوض بنفسه، وزاد من عُمقه تراكم تقارير عن تغيير نظام الأسد لأسماء أبناء المعتقلين وتوزيعهم في دور أيتام مختلفة، بُغية التعتيم على هوياتهم وطمس أصولهم، وإبقاء ذويهم في حالة من الشتات بحثاً عن أي معلومات قد توصلهم لأبناء أقاربهم الشهداء، وهُنا تَعود الذاكرة إلى مطابقة ما فعله الأسد مع ما فعله الجنرال “خورخي فيديلا” في الأرجنتين عبر قتل المعتقلين وإخفاء وتغيير هوية أبنائهم، وعما فعله المجتمع المدني الأرجنتيني في محاولة منه لمعرفة مصير هؤلاء الأبناء.
“جدات بلازا دي مايو” في وجه قاتل أبنائهم
كان سلوك الجنرال الأرجنتيني بعد انقلابه عام 1976 هو الاعتقال الواسع للمعارضين من النقابات والأساتذة الجامعيين والناشطين، وكان الاعتقال يشمل كل عائلاتهم بمن فيهم الأطفال، وكان يحرص على إخفاء أماكن الاعتقال وحتى أماكن دفن المقتولين من المعتقلين بشكل واضح، كما اعتمد “خورخي” على نشر تفاصيل التعذيب والاعتقال وحتى آليات التخلص من المعتقلين عبر (رحلات الموت) عن طريق إلقائهم أحياءً في المحيطات أو إخفاء جثثهم بنفس الطريقة، حيث اعتمد خورخي على ملف المعتقلين كأداة أساسية لمواجهة الحراك ضده، بالإضافة لتغيير هويات أطفال المعتقلين ووضعهم على لوائح التبني وفي دور الأيتام بأسماء جديدة وأصول مزيفة، ومع ازدياد حالات اعتقال الأطفال مع ذويهم، بدأ الحراك المدني في الأرجنتين يتبلور عبر مظاهرات سريعة لأمهات المعتقلين كل خميس من كل أسبوع تتم في ساحة “مايو” في وسط العاصمة الأرجنتينية “بوينس أيرس” مرتديات أوشحة بيضاء ويحملن صور أبنائهم وأحفادهم المفقودين.
استطاعت أمهات المعتقلين تدريجياً من تنظيم أنفسهن وإنشاء أرشيف لأبنائهن وأحفادهن المعتقلين، وذلك بالتزامن مع حملات مناصرة قاموا بها عالمياً لتسليط الضوء على سلوك الجنرال الأرجنتيني اتجاه الإخفاء القسري للأطفال، واستطاعوا لاحقاً أن يُنشئوا أرشيفاً اعتمدوا عليه في حراكهم الموسع بعد تنحي “خورخي” واعتقاله، حيث بدأت الجدات خطوتهم التالية بالبحث عن أحفادهن الذين غيَّر المستبد أسماءهم، وذلك عبر:
1- ابتكار قاعدة بيانات للحمض النووي عبر تأسيس “البنك الوطني للبيانات الجينية” وذلك بدعم أميركي بهدف الحصول على عينات من عائلات المفقودين.
2- أطلقوا حملة موجهة للأهالي الذي تبنوا أطفالاً في فترة حكم “خورخي” من أجل أخذ عينات من الأطفال ومطابقتها مع بيانات البنك الوطني.
3- قاموا بتنظم بيانات كل دور الأيتام في البلاد ومتابعة تسجيلاتهم ضمن فترة حكم “خورخي” وأخذ عينات جينية من الأطفال فيه ومطابقتها مع بيانات البنك الوطني.
4- إطلاق حملات تشجيع مستمر ((حتى الآن)) للأشخاص الذي يشكون بأصولهم وذلك لدفعهم من أجل تقديم عينة جينية خاصة بهم للبنك الوطني، تحت عنوان : ((إذا كنت تشك في هويتك، نحن نساعدك))
5- دفع الدولة الأرجنتينية لإصدار قانوني بتجريم التبني خارج إطار الدولة مع عقوبات مشددة.
أفضى حراك “الجدات” إلى العثور على أكثر من 120 طفلا من أبناء المعتقلين الذين قتلهم “خورخي”، وتوارث المجتمع المدني في الأرجنتين مشروع “الجدات” واستمر البنك الوطني للبيانات الجينية حتى الآن، وما زال الأفراد في الأرجنتين يقدمون حمضهم النووي للتأكد من عائلاتهم، وكان أخر المكتشفين لعائلاتهم هو “الحفيد 139” الذي عثر على عائلاته بعد 40 عاما في كانون الثاني 2025.
نحو معرفة مصير أبناء المعتقلين الذي قتلهم الأسد
فتح سقوط الأسد الباب على الآليات التي اتبعها بالتعامل مع أبناء المعتقلين، حيث كان هناك توثيق حقوقي تراكمي عن آليات الاعتقال وأساليب التعذيب وأيضاً طُرق التخلص من جثث المعتقلين من قبل المجتمع المدني السوري، ولكن كان ملف أبناء المعتقلين ضبابياً قبل هروب الأسد، ولكن تصدر الأحداث بعد انتشار إثباتات تؤكد تغيير الأسد لأصولهم واللعب بأسمائهم، مما يوجب على الدولة والمجتمع المدني الناشئ اتخاذ خطوات سريعة لمعرفة مصير هؤلاء الأطفال، فعلى صعيد الحكومة والمجتمع المدني يتوجب:
1- إصدار أوامر بمنع مغادرة العاملين والإداريين في دور الأيتام بين عامي 2011-2025 القطر.
2- تأسيس مكتب حقوقي ضمن اللجنة الوطنية للمفقودين للتحقيق مع هؤلاء العاملين والإداريين، ومتابعة أرشيف كل دور الأيتام في سورية.
3- إنشاء البنك الوطني للجينات، وذلك بدعم من المجتمع المدني المحلي والدولي.
4- تشجيع الشباب الذين خرجوا من دور الأيتام على تقديم بياناتهم الجينية لمطابقتها مع بيانات البنك المُنشأ.
5- أن تُعيد روابط المعتقلين تنظيم نفسها، بعد أن تحول عملها من حقوقي يُطالب الأسد بالكشف عن مصير أبنائهم، لعمل حقوقي وحراك محلي وطني لحث الدولة على إصدار قوانين لترميز الضحايا وتسريع ملف العدالة الانتقالية.
وبسبب تسارع الأحداث في سوريا سياسياً وأمنياً نحو الاستقرار، يتوجب أن تكون مثل هذه الخطوات سريعة، في ظل بقاء ملف المعتقلين مجهولاً، حتى على صعيد أماكن دفن جثثهم أو أين اختفى آلاف الأطفال الذي اعتقلهم الأسد مع عائلاتهم.
خِتاماً؛ لا تهدف خطوات العدالة الانتقالية، أو معرفة مصير المعتقلين والوصول إلى إطفالهم التي تغيرت هوياتهم فقط لإعادة هؤلاء الأطفال إلى عائلاتهم المتبقية، بل أيضاً من أجل ترميز الضحايا، وذلك عبر قوانين لاحقة مبنية الإعلان الدستوري الذي نص على تجريم إنكار جرائم الأسد.
تلفزيون سوريا
——————————
فرنسا تبدي دعمها لـ”هيئة العدالة الانتقالية” في سوريا
التقى رئيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، عبد الباسط عبد اللطيف، القائم بأعمال السفارة الفرنسية في سوريا، جان باتيست فافر، لبحث سبل دعم فرنسا للهيئة.
وقالت الهيئة في بيان اليوم، الأربعاء 4 من حزيران، إن اللقاء استعرض الاحتياجات التي يتطلبها مسار العدالة الانتقالية بسوريا وسبل دعمها وبحث آليات التعاون الممكنة لتعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق المساءلة والمصالحة.
وبحسب الهيئة، “يعكس هذا اللقاء ترحيب الهيئة بدعم مبادرات العدالة الانتقالية والعمل نحو تحقيق استقرار دائم في سوريا”.
بدوره، قال القائم بأعمال السفارة الفرنسية في سوريا، جان باتيست فافر، على حسابه بمنصة “إكس”، إنه التقى رئيس الهيئة عبد الباسط عبد اللطيف، ومستشارة وزير الخارجية السوري للعدالة الانتقالية زهرة برازي.
ووفقًا لفافر، فقد درات نقاشات حول إنشاء الهيئة وأهدافها، وتحديات العدالة الانتقالية في سوريا.
وأشار إلى أن العدالة الانتقالية هي عنصر أساسي للانتقال السياسي السلمي وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، بما يلبي تطلعات المجتمع السوري.
وتقف فرنسا، بحسب فافر، إلى جانب سوريا في مكافحة الإفلات من العقاب من خلال التعاون مع هيئة العدالة الانتقالية، وفيما يتصل بالآليات القانونية الدولية.
خارطة طريق
في كلمة مصورة نشرها حساب “هيئة العدالة الانتقالية” الرسمي على “فيسبوك”، في 23 من أيار الماضي، قال رئيس الهيئة عبد الباسط عبد اللطيف، إن “الهيئة ستعتمد خارطة طريق عملية واضحة المراحل، مبنية على أسس واقعية تراعي السياق السوري وخصوصيته، إلى جانب خطة وطنية للتوعية بمفهوم العدالة الانتقالية، ومنصة إلكترونية لتلقي الشكاوى، وآليات للتواصل مع المجتمع، كما ستصدر تقارير دورية ذات مصداقية توثّق ما تم إنجازه”.
ستعمل الهيئة خلال المهلة المحددة بـ30 يومًا على “تشكيل فريق عمل يتضمن ممثلين عن الضحايا، وخبراء قانونيين وحقوقيين، واختصاصيين في الأدلة الجنائية والبحث الجنائي، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، كما ستستعين بمجلس استشاري يمثل الضحايا، يرافق عمل الهيئة في جميع مراحله، ووضع نظامها الداخلي”.
وأعلن عبد اللطيف التزام الهيئة بالعمل لتنفيذ مهامها، تحقيقًا لتطلعات الشعب السوري بجميع مكوناته، وذلك عبر ما يلي:
كشف الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد.
مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات بالتنسيق مع الجهات المعنية.
جبر الضرر الذي لحق بالضحايا.
ترسيخ مبادئ عدم التكرار، وتعزيز المصالحة الوطنية.
وتحمل “هيئة العدالة الانتقالية” اليوم “أمانة كبيرة”، بحسب عبد اللطيف، تتمثل بـ”مساءلة ومحاسبة مرتكبي الجرائم، وإنصاف الضحايا وذويهم، ومعالجة آثار الانتهاكات الممنهجة بطرق تُسهم في ترسيخ العدالة، ومنع تكرار ما حدث، وتأسيس مصالحة وطنية متينة، قائمة على سيادة القانون، وتعزيز ثقة السوريين بمنظومة العدالة، وصولًا إلى سلام دائم ونهضة وطنية شاملة”.
وأكد رئيس هيئة العدالة الانتقالية أن العدالة في سوريا “لن تكون انتقامية”، بل قائمة على كشف الحقيقة، والمساءلة، والمحاسبة، ومنع الإفلات من العقاب، وترسيخ سيادة القانون.
——————————–
هذا ما يقوله “مسار كمبوديا للعدالة” للسوريين/ رستم محمود
حين تحاكم الدولة ماضيها: دروس كمبوديا لسوريا القادمة
2025-05-31
في خريف العام 2022، وبعد 45 عاماً من ارتكابهم لواحدة من أفظع المجازر على مرّ التاريخ بحق الشعب الكمبودي، وحينما كانت المحكمة الكمبودية/الدولية المشتركة تُصدر حكمها على “خيو سامفان”، ثالث وآخر قيادي من جماعة “الخمير الحُمر” الكمبودية “، كان الأخير كان يُطلق شعارات وطنية مُدوية “مهما كان قراركم، سأموت وأنا أتذكر معاناة شعبي الكمبودي دائماً، سأموت وأنا أرى نفسي وحيداً أمامكم، سأُحاسب رمزياً لا على أعمالي الشخصية، بل على دوري الوطني”. بعدها قدم استئنافاً مطولاً للمحكمة، مؤلفاً من 1800 معطى، تقوم كل واحدة منها على التشكيك بأصل المحكمة، وتعتبرها مناهضة للوطنية الكمبودية.
من أصل مئات الآلاف من المرتكبين المعروفين تماماً، عبر عمليات قتل منظم نفذته جماعة “الخمير الحمر” بحق قرابة مليوني مواطن كمبودي، وفقط خلال أربعة أعوام فحسب (1975-1977) من حكمهم الديكتاتوري، ورغم سقوط نظامهم سريعاً، وبقاء ملايين الجثث والمستندات كبينات دامغة على المقترفين، ورغم المساندة الدولية شبه المفتوحة للنظام القضائي الكمبودي، لم يتمكن هذا الأخير خلال ربع قرن كامل (1998-2022) إلا من إدانة ثلاثة قياديين من النُخبة الحاكمة فحسب!، ما اعتبره الحقوقيون على مستوى العالم درساً في إغلاق صفحة الماضي الدامي والأليم، مع إدانته.
حدث ذلك لثلاث أسباب مركبة ومتداخلة فيما بينها، تتوخى بمجموعها مستقبل كمبوديا لا ماضيها. وهو ما حولها إلى نموذج عالمي رائد، ومرجعاً لكل الدول التي شهدت أنظمة فظيعة مثل الذي كان في كمبوديا.
فرئيس الوزراء “هون سين” الذي قاد مرحلة تحديث البلاد منذ العام 1998، وكان ضابطاً في زمن حُكم “الخمير الحُمر”، وأنشق فيما بعد، حذر من الملاحقات التي قد تطال الأشخاص من غير أعضاء النُخب العليا الحاكمة، لأن ذلك “سيفتح جروحاً لن تندمل” في المجتمع الكمبودي، وهدف المحاكمة رمزي أولاً، ورسالة لكل الحكام المستقبليين، وفقط كذلك. كان “هون سين” قائد حركة التحرر الكمبودية ضد النظام القمعي، ورائد مرحلة التحول نحو الديمقراطية في أواسط التسعينات، بعد “اتفاقية باريس بشأن كمبوديا”، لكنه أولاً كان الشخص الذي قال يومياً “فقدت في حرب عيني، لا أريد لأحدٍ أن يفقد رمشه”.
كذلك لأن المحاكمة أرادت أن تكون بمثابة مؤسسة حديثة تماماً، على العكس تماماً من النظام الهمجي الذي تقصدت محاكمته. فالمباحثات والقوانين والاتفاقيات التي خاضتها الحكومة الكمبودية مع الأمم المتحدة طالت خمس سنوات كاملة، والمضامين الداخلية للمحكمة كانت حريصة على تأمين أعلى درجات الحيادية بين المدعين والمدافعين عن المتهمين، فيما حرصت القوانين الناظمة لها لأن تكون الإدانة، فيما لو حدثت، شديدة الرصانة. فعلى العكس تماماً مما فعله المجرمون من جماعة “الخمير الحُمر”، أرادت المحاكمة القول إن “حياة الإنسان ثمينة للغاية”، فإدانة ثلاث مرتكبين فحسب من أصل مئات الآلاف من المرتكبين، كلفت الخزينة العامة 300 مليون دولار.
أخيراً، فأن المحكمة كانت بمثابة إجراء واحتفاء بـ”نهاية عصر”. فرغم انهيار نظام “الخمير الحُمر” عام 1979، إلا أن إجراءات المحاكمة لم تبدأ إلا عام 1998، أي بعد نهاية الحرب الباردة تماماً، ومعها كل التمردات وأشكال الصراخ الإيديولوجي والمظلومية الوطنية التي بقيت الجماعة اليسارية تزعق بها طوال عقود، وصار المجتمع الكمبودي بكل مستوياته واعياً لفداحة الانقسام بشأنها. صار ذلك حقيقية حتى بالنسبة لأكثر مؤيدي الجماعة المتطرفة، بسبب عقدي الانفتاح السياسية والسلام الاجتماعي الذي كان (1979-1998). فعبارات مثل التي نطق بها المجرم المدان “خيو سامفان” حول الوطنية والوطن، وحيث أدانته المحكمة بقتل 22 ألف شخص في مخيم واحد بدم بارد، لم يعد لها أي معنى في السردية الكلية للشعب الكمبودي.
يقول كل ذلك أشياء كثيرة للسوريين.
يقول مثلاً إن العدالة الانتقالية ومحاكمة عصر الجناة الأسديين والبعثيين لا تتم بإجراءات شديدة العبث والسلطة، مثل التي تجري. وإن تحقيق العدالة ليس تحقيقاً جنائياً ضد الجناة أولاً، بل ممارسة رمزية وروحية لصالح الأجيال الأحدث. وإن مثل هذه المشاريع الكبرى يجب أن تنفذها الدولة، بكل عتادها المؤسساتي وثقلها العقلي ووعيها بمصالح شعبها، لا مجرد تيار سياسي يسعى لتجيير المحاكمات لصالحها. وإن هذه القضية ذات بُعد إنساني، قائمة على الشراكة والتكامل مع المجتمع الدولي والمؤسسات العالمية. وإن الجناة سيبقون يمرغون ألسنتهم في العبارات الوطنية والخطابات الشعبوية، وإن مهمة المحاكمة أن تُثبت عدم جدارة وقيمة ومعنى تلك الأقاويل. والأهم، إن هذا المسار لا بُد أن تسبقه مسيرة وعي كبرى من قِبل النُخب السياسية والثقافية والمجتمعية، ليقولوا لمجموع الجُناة، أياً كانوا وعلى أية دفة من الصراع كانوا من قبل، يقولوا إن عصركم أنتهى تماماً، بدلالة كل تفصيل من هذه المحاكمة.
كم هي بعيدة عن كل ذلك، تلك البلاد التي تُسمى سوريا، بلادنا.
+963
———————————-
رغيد الططري الذي أمضى أطول مدة في السجون السورية يريد العدالة لا الانتقام
05 حزيران 2025
دمشق: اعتُقل رغيد الططري، السجين السياسي الذي أمضى أطول مدة في الاعتقال في سوريا، حين كان يبلغ من العمر 26 عاماً، وبقي خلف القضبان 43 عاماً، إلى حين سقوط حكم عائلة الأسد، وهو أمر لم يكن ليخطر في باله حتى في المنام.
يوم أطاح تحالف فصائل معارضة ببشار الأسد، الذي فرّ إلى موسكو في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، خرج الططري، الذي كان طياراً سابقاً في سلاح الجو ومحكوماً بالمؤبد، من السجن، على غرار نحو 60 ألف معتقل كشفوا فظاعات ممارسات السلطات مع المعتقلين. بينما لا يزال عشرات آلاف غيرهم في عداد المفقودين.
ويقول الططري، الذي يبلغ من العمر اليوم 70 عاماً، وقد غزا الشيب شعره وشاربيه: “لقد رأيت الموت” تحت التعذيب.
لكن الرجل يؤكد أن ما يريده من سجّانيه ليس الانتقام، بل العدالة. ويضيف: “كلّ شخص يجب أن يُحاسب على جرائمه (…). لا نريد أن يُسجن أحد إلا إذا ثبتت عليه جرائم موثوقة”.
ويكمل: “لسنا ضد المحاسبة، نحن ضد الظلم… لا نريد أن يُسجن أحد ظلماً”.
في شقته الصغيرة في دمشق، يُقلّب الططري صوراً له عندما كان شاباً بزيّ الطيّار، قبل اعتقاله في العام 1981.
بعد توقيفه، أُدين في محكمة ميدانية بتهمة “التخابر مع دول أجنبية” وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وهي تهم يؤكد الططري أنها مختلقة.
وخلال سنوات اعتقاله، نُقل من سجن إلى آخر في عهد حافظ الأسد، ثم ابنه بشار، الذي خلفه في العام 2000.
كان الططري بين الضباط المناهضين لدخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976، بهدف وقف تقدم الفصائل الفلسطينية واليسارية اللبنانية، ويعتبر أن “الجيش السوري تدخّل في شؤون بلد آخر (…)، وقمع الشعب اللبناني، وهو ما رفضناه”.
وناهض كذلك القمع الدموي لـ “الإخوان المسلمين” الذين قادوا انتفاضة مسلحة في مدينة حماة مطلع الثمانينات. ويقول: “كُثر منّا كانوا رافضين إشراك الجيش في عمليات سياسية داخل البلد كما خارجه”.
بعد انشقاق اثنين من زملائه الطيارين وهروبهما إلى الأردن في العام 1980، بدأت الاعتقالات في أوساط الجيش، فهرب هو أيضاً إلى مصر ثم الأردن، لكنه عاد بعدما بدأت قوات الأمن بمضايقة عائلته، ليُعتقل.
نتمنى الموت
وفقاً لتقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، عاش أكثر من مليوني سوري تجربة السجن تحت حكم عائلة الأسد، نصفهم بعد انطلاق الاحتجاجات السلمية في العام 2011، التي قمعتها السلطات بعنف وشكّلت شرارة اندلاع النزاع في البلاد.
ولقي أكثر من 200 ألف شخص حتفهم في السجون، بينهم من أُعدم، بينما قضى آخرون تحت التعذيب، بحسب المرصد.
ويقول الشريك المؤسس لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، دياب سرية، لوكالة فرانس برس: “رغيد الططري هو السجين السياسي الأقدم في سوريا والشرق الأوسط”.
ومرّ الططري بسجن صيدنايا، الذي شكّل رمزاً لأسوأ انتهاكات حكم حزب البعث، واصطلحت منظمات حقوقية على تسميته بـ”المسلخ البشري”.
لكن بالنسبة لأقدم سجين في سوريا، فإن أسوأ تجربة له كانت في سجن تدمر، الواقع في وسط الصحراء، حيث بقي 15 عاماً.
يروي الططري: “تدمر لم يكن سجناً، كان معتقلاً (…) خارجاً عن أي انضباط وأي قوانين وأي إنسانية (…). كان يمكن لشرطي إذا استاء من سجين أن يقتله”.
ويضيف: “كل ما قيل عن التعذيب في تدمر… لا مبالغة فيه، بل هو قليل”.
ويتابع: “لم نكن نخاف من التعذيب، كنا نتمنى الموت، لا مشكلة. المشكلة كانت أن ينهار الشخص ويقول كلاماً يناقض المبادئ التي يؤمن بها”، مضيفاً أنه كان يرفض ترداد عبارة “حافظ الأسد ربّك” التي كانوا يطلبون منه قولها.
في سجن تدمر، قُتل مئات السجناء، معظمهم من الإسلاميين، رمياً بالرصاص، وذلك عقب محاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد في عام 1980.
ويروي الططري أنه في تدمر “يفقد المرء المشاعر، لا تعود هناك قدرة على التفاعل”. هناك، كان مقطوعاً عن العالم تماماً، وعلم بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1993 من سجين آخر أُدخل مستشفى السجن.
بعد العام 2011، تغيّرت حياة الططري حين تمكّن من الانتقال إلى سجن السويداء مقابل مبلغ مالي. هناك، تمكّن من حيازة هاتف جوّال خبّأه في حفرة داخل زنزانته.
ويقول: “الهاتف الجوّال يخرجك من السجن”. لكن حين اكتشفت السلطات هاتفه، عاقبته بنقله إلى سجن طرطوس على الساحل السوري، الذي خرج منه قبل ستة أشهر.
أحلام اليقظة
عند اعتقاله، كانت زوجة رغيد الططري حاملاً. واعتُبر الططري في عداد المفقودين لسنوات طويلة. عندما كان في تدمر،
اعتقدت عائلته أنه مات، إلى أن حصلت على دليل أنه حيّ في العام 1997، بعد دفع رشى. حينها، التقى الططري بابنه، الذي كان يبلغ من العمر 16 عاماً، للمرة الأولى.
ويقول: “كنت خائفاً من هذا اللقاء”، مضيفاً أن الزيارة كانت مراقبة “ومن خلف الحديد (…) أنهيت اللقاء بعد 15 دقيقة”.
بعد 43 عاماً في السجن، فقد الططري عدداً كبيراً من أفراد عائلته. إذ فارقت زوجته الحياة، وانتقل ابنه للعيش في الخارج، بعدما تلقّى تهديدات مع بداية الاحتجاجات الشعبية في العام 2011.
في سجنه، كان الططري يرسم ليهرب من الواقع. ويقول: “كنت أخرج من السجن بتفكيري”، وعبر “أحلام اليقظة”، مضيفاً: “أن ينقلب النظام بين ليلة وضحاها كان أمراً أكبر من أحلام اليقظة التي راودتني (…). لم يكن يتوقع أحد أن يحصل الأمر بهذه السرعة”.
القدس العربي
————————————
“المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”وقوانين الأسد ما تزال تحكم السوريين/ وفاء عبيدو
2025.06.05
رغم التحوّل السياسي الجذري الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الأسد وتسلم السلطة من قبل المعارضة التي كانت على قوائم المطلوبين للنظام المخلوع، إلا أن القوانين والأحكام التي شرّعها النظام البائد لا تزل نافذة في مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجهاز القضائي الذي لم يطرأ عليه بعد أي تغيير بنيوي أو إصلاح جوهري.
إذ يطرح هذا الواقع تساؤلات قانونية وأخلاقية منها، هل تبقى القوانين التي وُضعت في ظل نظام فاسد افتقر إلى الشرعية والنزاهة، ملزمة بالتطبيق؟ وهل يمكن أن تُطبَّق هذه القوانين نفسها على ضحايا ذلك النظام، بعد زواله؟
فعلى مدار عقود شُرّعت القوانين في سوريا لخدمة السلطة لا المجتمع، وتم تفريغها من مضامينها الحقوقية لتحويلها إلى أدوات قانونية للقمع والإقصاء وتصفية الخصوم السياسيين، وفي ظل هذا القضاء التابع للأجهزة الأمنية، جرى تجريم آلاف المواطنين استناداً إلى تهم فضفاضة واتهامات غير مثبتة.
ورغم سقوط النظام، لا تزل آلاف القضايا المعلّقة مفتوحة وتُستخدم القوانين ذاتها لملاحقة الأفراد، خاصة المنشقين والمغتربين عن بلدٍ عاش لعقود تحت قبضة قانونية خاضعة للاستبداد، واستمرار تطبيق هذه القوانين من دون مراجعة يجعل من القضاء وسيلة لاستمرار الظلم عوضًا عن أن يكون أداة لتحقيق العدالة.
ثم إن غياب الإصلاح القانوني بعد التحوّل السياسي يعكس هشاشة المرحلة الانتقالية، ويثير قلقاً حقيقياً حول استقلالية القضاء وقدرته على بناء دولة قانون قائمة على مبادئ العدالة والمساواة، فالإبقاء على قوانين النظام السابق من دون مراجعة جذرية لا يهدد فقط ثقة الناس بالمؤسسات، بل يقوّض أيضاً فرص تحقيق العدالة المنشودة، ويفتح الباب أمام إعادة إنتاج القمع تحت غطاء قانوني جديد.
حين تبقى أدوات القمع نافذة في سوريا
لم يكن في نية علي الأحمد الذي غادر سوريا قبل أكثر من عشرة أعوام أن يعود إليها، وكان قد انشق عن قوات النظام في عام 2012، ثم اتجه إلى تركيا حيث أعاد بناء حياته هناك وحصل لاحقًا على الجنسية التركية، وبعد سقوط النظام ومع انفتاح أفق التغيير في بلاده عاد في زيارة لم تتجاوز ستة أيام، وفق ما أوضحه لموقع تلفزيون سوريا.
لم يتوقع علي أن يُستقبل كمتهم لا كمواطن كان له موقف رافض للظلم من نظام مستبد، إذ أبلغه أحد الضباط منذ لحظة وصوله إلى مطار دمشق، بأنه مطلوب لأكثر من 15 جهة أمنية بعضها جنائي، حاول علي تسوية وضعه القانوني، لكنه سرعان ما اصطدم بجهاز قضائي لم يتغير، وإجراءات لا تعترف بزمان أو مكان، حَسَبَ وصفه.
أوكل علي محامية لمتابعة قضيته كون مدة إجازته قصيرة، مبينًا أن شخصاً يُدعى (م.الأحمد)، انتحل هويته خلال فترة غيابه، واستخدم بطاقته مزورة باسمه لتنفيذ عمليات نصب وبيع ممتلكات منها ممتلكات لعائلته، مبينًا أنه تعرض للتهديد من قبل محمود عدة مرات.
اقرأ أيضاً
وزير العدل يبحث مع نائبة المبعوث الأممي إلى سوريا سبل التعاون في تطوير المنظومة القضائية – سانا
وزير العدل ونائبة المبعوث الأممي يبحثان دعم القضاء وإصلاح التشريعات
وبالرغم من توفر الوثائق التي تثبت وجوده خارج البلاد طوال تلك الفترة، إلا أن المحكمة رفضت الاعتراف بها، وطَلبت حضوره الشخصي للتحقيق، مشككًة باحتمالية دخوله إلى سوريا مسبقًا بطرق أخرى، تَبَعاً لما ذكره علي.
وقال “خرجت من البلاد منشقاً، وعدت زائراً، فوجدت نفسي مجرماً، القوانين ذاتها والعقلية ذاتها حتى بعد سقوط النظام، ما زال عليك أن تثبت أنك بريء من تهم لم ترتكبها”.
غادر علي البلاد مجددًا بعد حصوله على إذن سفر لمرة واحدة فقط، لكنه يعلم أن عودته مجددًا قد تكون محفوفة بالمخاطر ما لم تُطوَ قضيته بشكل نهائي، موضحًا أن ما يؤلمه على حد قوله “ليس الاتهام بل أن يظل القانون في البلد أداة تهديد لا أداة عدالة، حتى بعد التغيير”.
وناشد الأحمد الجهات المعنية بالنظر في قضيته والقضايا المتشابهة، قائلًا “لا تكونوا مثلهم لا تكرروا ظلمهم لنا، فجرح المواطنين كبير ويحتاج لعلاج في أن يشفى الوطن من فساد أدوات النظام التي ما زالت في السلطة”.
“المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”
يتشابه رواد في ذات القضية ولكن بتفاصيل مختلفة فعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على انشقاقه عن وكالة الأنباء الرسمية السورية “سانا”، لا يزال الصحفي رواد عجمية يواجه تداعيات قراره المهني والأخلاقي الذي اتخذه في بداية الثورة السورية، كونه غادر الوكالة من دون تقديم استقالة رسمية، في ظل بيئة سياسية وأمنية كانت تحظر مثل هذه الخطوة، مما جعل اسمه مسجلاً كموظف “منشق” داخل سجلاتها.
فوجئ عجمية بطلب السلطات منه استصدار “براءة ذمة” من جهة عمله السابقة وتسوية وضعه القانوني، خلال زيارته القصيرة إلى سوريا وهو قادم من النرويج حيث يقيم منذ سنوات، وقال لموقع تلفزيون سوريا “طلبوا مني في المعبر براءة ذمة كأنني متهم، بالرغْم أن معظمهم كانوا مطلوبين سابقاً للنظام المخلوع واليوم أصبحوا هم السلطة!، القوانين يجب أن تُعاد صياغتها لتصبّ في مصلحة من ساهموا في إسقاط النظام لا لمعاقبتهم”.
ملفات عالقة بين التغيير السياسي والإداري
مع التغيير السياسي في سوريا، أُثيرت تساؤلات حول مصير المنشقين عن مؤسسات الدولة، خصوصًا من رفضوا الانخراط في أدوات القمع الإعلامي والإداري، ورغم التحول الحاصل لا تزال ملفات قانونية وإدارية سابقة قائمة من دون مراجعة، في ظل غياب آليات واضحة لمعالجة هذه الحالات.
وتابع رواد أن مصدرا مطلعا في وكالة “سانا” أكد له أن العفو الذي أصدره النظام السابق لم يشمله، ما يجعل مراجعة الوكالة للحصول على براءة ذمة، خطوة ضرورية ثم التوجه إلى مديرية شؤون العاملين لإتمام إجراءات رفع منع السفر المفروض عليه.
ويرى أن المسألة ليست مجرد إجراء روتيني، بل تحمل أبعاداً أخلاقية ومبدئية، قائلًا “من غير المقبول أخلاقياً أن أدخل إلى مقر وكالة غادرته لإنه جزءٌ من نظام مجرم، فأعود له اليوم كمتهم عوضًا عن تكريم، كم هو معيب هذا الأمر”، وأضاف ” ذكرياتي هناك سيئة وأكره حتى الاقتراب من المكان”.
كما يطالب السلطات الجديدة بإعادة النظر في أوضاع الصحفيين المنشقين، بمنحهم معالجة قانونية عادلة واعترافاً معنوياً بدورهم في فضح آلة القمع الإعلامي للنظام، متابعًا “لا نطالب بامتيازات، بل بالإنصاف والاعتراف حتى ولو عبر رموز بسيطة كإصدار قوائم بأسمائنا أو بيانات رسمية تقدّر دورنا”.
ويختم رواد حديثه بلفت النظر إلى أن ملف الصحفيين الذين وقفوا إلى جانب الثورة خلال سنوات النزاع يحتاج إلى مراجعة عاجلة، باعتباره جزءاً أساسياً من مسار العدالة الانتقالية وتأكيد الحقوق الإنسانية والمهنية.
ومن الجدير بالذكر أن وزير الداخلية السوري أفاد بأن (ثمانية ملايين ومئتين وعشرين ألف) مواطن كان مطلوباً أو ممنوعاً من السفر على زمن النظام البائد وأن الوزارة تعمل حالياً على حل المشكلة، حيث حُذف خمسة ملايين ومئتا ألف اسم كان مطلوباً لأسباب تتعلق بخدمة العلم، والباقي نحو ثلاثة ملايين يجري العمل على حلّ مشكلتهم من بينهم مليون ومائة وثلاثون ألف موظف.
وأشار إلى أن النظام البائد قام بإجراءات كيدية بتعميم أسماء معارضيه وإرسالها إلى شرطة الإنتربول الدولي، وقد سلّم لبنان لائحة باسم مليوني مواطن سوري مطلوبين له.
ملاحقات معلّقة تُقيّد الواقع الجديد
رغم انتهاء حكم النظام السابق، إلا أن تبعاته ما تزال تثقل حياة كثيرين، فملفات الملاحقة والاتهامات غير المثبتة لا تزل قائمة اتجاه العديد من ضحايا الاعتقال والملاحقات، إذ يعيشون في فراغ قانوني خاصة مع استمرار التهم والإجراءات، لتُبقي أصحابها في دائرة الشك والحرمان حتى بعد تغيّر السلطة.
تروي رهام تفاصيل اعتقالها الذي جرى قبل سنوات، وتصفه بأنه بداية لمسار طويل من التهميش والملاحقة، وقالت “تم توقيفي من قبل مجموعة تابعة لحزب الله، من دون مذكرة أو توضيح وبقيت محتجزة لديهم عدة أشهر ثم نُقلت إلى أحد الأفرع الأمنية التابعة للنظام لم يكن واضحاً لي ما المطلوب تحديداً، لكن الأسئلة كانت تدور حول إخوتي وأقاربي المطلوبين للأمن، أكثر من كونها تحقيقاً معي شخصياً”.
مع نهاية فترة التحقيق، وُجهت إليها تهم عدة منها “الإرهاب وحيازة مواد مخدرة”، وهو ما تنفيه تماماً، وأضافت “لم يكن لدي أي شيء من هذا القبيل وهذه التهم وعندما قلت للمحقق هذا الكلام، كانت الإجابة: أثبتي العكس”، واصفًة ما حدث أنه لم يكن محاولة لتطبيق القانون بل وسيلة ضغط أو تصفية حسابات.
كما أوضحت لموقع تلفزيون سوريا أن الإفراج عنها لم يتم عبر القضاء، بل تم بوساطة أحد المتنفذين مقابل مبلغ مالي كبير وبعد مغادرتها البلاد بطريقة غير شرعية، اكتشفت رهام أن منزلها قد تم بيعه بورقة مزورة، من دون أن تكون جزءاً من أي إجراء قانوني أو حتى على علم به ولم تستطع فعل شيء.
وحين عادت بعد سقوط النظام، كانت تتوقع أن تعود كمواطنة عادية، فإذا بها تُفاجأ بأن اسمها لا يزال على قوائم المطلوبين، بالتهمة نفسها التي نُسبت إليها منذ سنوات.
وقالت “مافي شي تغير صح بشار سقط، لكن نظامه وإجراءاته وقضاته قائمة، القوانين التي استُخدمت لتبرير الظلم ما زالت تُستخدم، ما معنى السقوط إن بقيت نفس الملفات مفتوحة ونفس التهم معلقة”.
بين الإرث الاستثنائي والإصلاح المؤسسي
مع بدء المرحلة الانتقالية في سوريا بعد سقوط النظام، برزت تساؤلات عدّة حول الإطار القانوني الذي يحكم البلاد، وكيفية التعامل مع تركة ثقيلة من القوانين الاستثنائية والأحكام القضائية الجائرة التي طالما استخدمت كأداة قمع ضد المعارضين.
في هذا السياق، أوضح المحامي عارف الشعال لموقع تلفزيون سوريا، أن اعتماد الإعلان الدستوري على مبدأ استمرار العمل بالقوانين النافذة قبل سقوط النظام، باستثناء القوانين الاستثنائية، يُعد خطوة طبيعية ومتوافقة مع فقه القانون الدستوري، إذ إن الثورات غالباً ما تُسقط الدساتير والقوانين المرتبطة بها، خاصة تلك التي تتعارض مع مبادئها.
لضمان استقلالهم.. وزارة العدل تصدر تعميما لحماية القضاة والمحامين وتعزيز حصانتهم
وأشار إلى أن النظام القانوني السوري يضمن، نظرياً الحقوق والحريات، لا سيما في ضوء القوانين الصادرة في الخمسينيات كقانون العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية، إلا أن العقبات الحقيقية التي تواجه المنشقين والمعارضين تتمثل في الأحكام الصادرة عن المحاكم الاستثنائية والإجراءات الإدارية التي اتخذها النظام السابق، مثل مصادرة الأموال والحجز الاحتياطي ومنع السفر.
كما أوضح الشعال أن الإدارة الجديدة اتخذت خطوات لتخفيف القيود الأمنية، حيث تم تعليق تنفيذ النشرات الشرطية في المنافذ الحدودية، ورفع حظر السفر عن أكثر من خمسة ملايين مواطن كانت قد فُرضت عليهم قيود مرتبطة بمخالفات خدمة العلم.
مشيرًا إلى صدور المرسوم الجمهوري رقم 16 لعام 2025، الذي ألغى قرارات الحجز الاحتياطي على أموال المنشقين والمعارضين للنظام السابق، في خطوة أنهت عملياً مفاعيل المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، الذي كان يتيح للأجهزة الأمنية الطلب من وزارة المالية الحجز على أموال أي شخص من دون مسوغ قضائي.
وأضاف الشعال أن معالجة الأموال المصادرة بموجب أحكام المحاكم الاستثنائية (الإرهاب والميدانية) لا تزل مسألة معقدة، وتتطلب قانوناً خاصاً لإلغائها، وهو أمر مرتبط بتشكيل مجلس تشريعي يصدره وهو ما نفتقده حتى الآن.
وفيما يخص وضع القضاء، يرى الشعال أن القضاة يمارسون حالياً عملهم باستقلالية على المستوى الفردي، من دون تدخل مباشر من وزير العدل أو الأجهزة الأمنية، خلافاً لما كان سائداً سابقاً إلا أن الاستقلال المؤسسي لا يزال منقوصاً بسبب استمرار تبعية مجلس القضاء الأعلى للسلطة التنفيذية.
ويرى أن تحقيق عدالة انتقالية حقيقية وإعادة بناء منظومة قضائية قائمة على الشفافية والمحاسبة والحقوق، يبقى مرهوناً بتشكيل مجلس تشريعي يمتلك صلاحية إصدار القوانين اللازمة. وأشار إلى أن غياب سياسة أو خِطَّة معلنة لإصلاح القضاء لدى وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى يمثل إشكالية حقيقية يجب تلافيها من قبلهم بأسرع وقت ممكن، بحسب تعبيره.
كما لفت الشعال إلى وجود تغييرات بنيوية في القضاء، بعضها مخالف للقوانين النافذة، كاستحداث منصب “رئيس العدلية” وتعيين قضاة لا يحملون شهادات في الحقوق في مواقع قضائية حساسة.
واختتم قائلًا “أن المنظومة القانونية الحالية قادرة إلى حد مقبول على التعامل مع المرحلة، لكنها تحتاج إلى إصلاحات محددة، وأن تحقيق عدالة انتقالية حقيقية ما زال مرتبطاً بوجود سلطة تشريعية قادرة على سن القوانين اللازمة لذلك”.
الشبكة السورية: لا عدالة من دون تشريع
أوصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بإنشاء هيئة عدالة انتقالية في سوريا عبر قانون يصدر عن مجلس تشريعي، لا من خلال مرسوم تنفيذي، محذّرة من مخاطر تقويض استقلالية الهيئة في حال تأسيسها بقرار تنفيذي، كما أظهرت تجارب دولية في أوغندا والمغرب وبيرو.
وأكدت الشبكة، في تقريرها أن نجاح العدالة الانتقالية يتطلب هيئة مستقلة مالياً وإدارياً، محصنة من التدخل السياسي، ومتكاملة مع القضاء المستقل، مشيرة إلى أن غياب استقلال القضاء يُضعف المساءلة ويشوّه مسار العدالة.
وشدد التقرير على أهمية تشكيل المجلس التشريعي ضمن الإعلان الدستوري المرتقب، لما له من دور في ترسيخ الشرعية وتعزيز الشمولية وسيادة القانون، إضافة إلى ضمان التنوع العرقي والديني والسياسي داخل الهيئة بما يعكس المجتمع السوري.
كما دعت الشبكة إلى آليات شفافة في اختيار أعضاء الهيئة، من خلال لجنة توصية تضم خبراء وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، بعيداً عن التعيينات السياسية، مع التأكيد على ضرورة التعاون الحكومي الإلزامي لضمان الوصول إلى المعلومات والسجلات الرسمية.
واختتم التقرير بجملة توصيات أبرزها: إعداد قانون تأسيسي شامل، تخصيص ميزانية مستقلة، تنفيذ برامج توعية، ودمج مسار العدالة الانتقالية ضمن إصلاحات الأمن والقضاء لمنع تكرار الانتهاكات وبناء مستقبل أكثر عدالة.
تلفزيون سوريا
———————————-
=======================