هل نحاكم المبدع أخلاقياً؟/ كمال الرياحي
مازال العالم العربي يخلط كل مرة بين قيمة الكاتب ككاتب أو الفنان كفنان، وسلوكه أو أخلاقه، و يخلطون بين الأديب والمؤدب وبين الأدب باعتباره فن كتابة، والأدب بمعنى التأدّب والسلوك الأخلاقي، لذلك تجدهم في أول ظهور لهذا الكاتب أو الفنان في وضع المنفعل يصبون عليه جام غضبهم، فهو محكوم منذ أعلن نفسه كاتباً أو فناناً بالصمت وكتم الغيظ وتحمل الأذى.
كل فنان في عرفهم عليه أن يكون مسيحاً، وأن يتحمّل دق المسامير في يديه ولا ينفعل أو يرد الفعل. بعض المبدعين فهموا هذه التركيبة النفسية للشعوب الشرقية، فصاروا يتصنعون الدبلوماسية والرقّة في العلن، مع أن دواخل الكثيرين منهم ترشح سوداوية وحقد على زملائهم من المبدعين، وهم بذلك ينافقون الجماهير ويرمون لهم تلك الصورة المزيفة التي يريدون رؤيتها، وفي السر يكيدون لبعضهم، إن كان ذلك عند معجبيهم أو متابعيهم، ويقومون بتصفيتهم في الجوائز إذا ما كانوا في لجان التحكيم.
الغريب أن هذه الجماهير لم تعد تنظر في الأعمال الإبداعية للمبدعين أصلاً، بل صارت تصدر حكمها مما يقال عن المبدع ويروج عنه من إشاعات، أو ما استخلصوه من تصريحات آنية أو دفع إليها في سياق خاص ومقام خاص. ووفقاً لذلك الحكم، تقع تصفية المبدع وإقصاؤه من الفضاء العام. فما حقيقة كل هذا في ثقافات العالم والعالم العربي؟
كان صاموئيل بيكيت لا يطيق الناس ويعيش في عزلة، حتى أنه كان يرفض اجراء حوارات معه، وكثيراً ما اعتبر أن الاختلاط بهم مدمر للنفس. يقول: “إني لا أغفر لأحد. وأتمنى للجميع حياة آثمة، ثم نار جهنم وصقيعها. حتى يخرج اسم شريف من الأجيال اللعينة”. فكيف أن نحكم على هذا الرجل الذي امتنع حتى عن إجراء حوار بعد فوزه بجائزة نوبل، والتي قبلها على مضض، لأنه مغرور، ونعتبر أن سلوكه ورفضه يعتبر سلوكاً لا أخلاقياً؟
كان جان جينيه لصاً، وظل لسنوات يتنقل من سجن إلى سجن، كان يعلم أنهم يريدونه مسيحاً، لكنه رغم نضاله الطويل لنصرة الإنسانية حتى لوح به حماسه نحو المخيمات الفلسطينية، لم ينس أبداً أنه لا يمكن الاطمئنان للبشر لطبيعتهم الرخوية التي خبرها في حياة التيه في العالم وحياة السجون منذ طفولته.
كان كتابه السيري “يوميات لص” شاهداً عليها. يسجل محمد شكري في يومياته معه موقفاً طريفاً يكشف مزاجية جان جينيه وعدم خضوعه لأي ضوابط يمكن أن تتوقّع عبرها ردّات فعله، لأنه لا يؤمن بأن شيئاً اسمه قوانين شخصية الكاتب من خارج نصه، فيذكر محمد شكري بتاريخ 18 يناير 1968 أول لقاء بجان جينيه في حوار شيق بينه وبين صديقه يقول فيه: “كنت في مقهى سنترال مع جيرار بيتي، قال: انظر! ها هو جان جينيه.
يمشي بطء يداه في جيبي سرواله، ملابسه مهملة، وسخة. ينظر باستمرار نحو سطحية مقهى سنترال. توقف. التفت نحو مقهى فيونتس ثم اتجه إلى مقهى طنجة. قلت لجيرار: أريد أن أعرفه.
قال بانفعال: من الأحسن ألا تفعل.
لماذا؟
إنه يتضايق من معرفة الناس بسهولة. الانسجام معه صعب. هكذا سمعت عنه.
أنا نفسي كنت قد سمعت عنه أشياء كثيرة. كان قد قال لي مسؤول في المركز الثقافي الفرنسي:
بغض النظر عمّا حصل لمحمد شكري مع جان جينيه وقتها، وما سيحصل بعدها من صداقات وعداوات تعكس لنا الحادثة طبيعة المبدع المركبة، والتي لا يمكن أن نضبطها بقوانين أخلاقية، ولا يمكن أن نحسم عبرها، ولا عبر تاريخ جان جينيه اللصوصي، على أعماله الإبداعية التي شهد له العالم كله بعبقريتها وشعريتها، فأسلوب الكاتب في الوجود لا يمكن أن يعكس أسلوبه في الكتابة.
يقول جان جينيه ردا على ثقافة الجماهير وقوانينها القطيعية: “كلما كبر ذنبي في عيونكم صارت حريتي أكبر”.
كان محمد شكري نفسه كاتباً متهتكاً تخرّج من بارات طنجة ومواخيرها ومقاهيها، وظل صديق العاهرات وبائعات الهوى لآخر عمره، ويكره المتظاهرين بالرقي وفي رؤوسهم ترقد الضفادع، كما يقول المثل التونسي، ويكفي أن نعود إلى كتابه “وجوه” الجزء الثالث من سيرته الذاتية ونقرأ تلك الحادثة التي كان فيها البطل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي تهكم عليه وأراد إهانته بطريقة لا تليق لا بالشاعر الذي لهجت بذكره العرب بسبب ارتباط اسمه بالقضية الفلسطينية، بل بسبب افتقاده، في تلك اللحظة، لأي نبل ولو نبل الشطار الذي يحمله شكري، والذي أدّبه برد لاذع ومكثف أشد من قصيدة. غير أن ما ارتكبه درويش في حق محمد شكري لا يمكن أن يحجب عنا أيضاً قيمة ما قدمه من أدب.
نفس العرب الذين كانوا يتحدثون طوال الوقت عن عبقرية سليم بركات وما قدمه للثقافة العربية وللرواية والشعر، فجأة، وبعد أن سرب أن لدرويش ابنة في السر، قامت الدنيا ولم تقعد، ونُكّل به، واعتبروه سقط متاع، وتجرأ الكتبة على أعماله ووصفوها بالهذيان اللغوي واللاروائية.
بوكوفسكي المتمرد
حسم الأمريكي تشارلز بوكوفسكي الأمر مع العامة عندما يقول: “يفرغوني الناس مني، علي أن أبتعد عنهم لأعيد ملئي”. اكتشف صاحب رواية “النساء” أن الاختلاط بالعالم والإصغاء إليهم أكثر من اللزوم يبذر الكاتب ويمحوه، بل كان صاحب “يوميات عجوز قذر” و”ملذات الملاعين” و”مفتوح طوال الليل” يتجنّب الجلوس مع الكتاب، ويعتبرهم مصانع للنميمة في روايته “هوليود”.
أن يقول كاتب مثل بوكوفسكي أنه ينبغي الابتعاد عن الناس وهو الكاتب الأكثر انغماساً في الحياة والأكثر التصاقاً بالشارع، يجب أن يفهم بشكل أعمق. الشارع ليس سوقا لآلهة صغيرة أو تجمع للملائكة والبشر، بتنوعاتهم يشكلون حشوداً من الشر والجهل أكثر من الخير والمعرفة، والشر، كما اللون الأسود، إذا خلطته بآلاف الألوان الفاتحة الأخرى سيطغى في النهاية.
يقول بوكوفسكي: “كنت وحيداً وأنا بصحبة الجميع”، وعزلته هذه التي يحملها على كتفيه أو تعمّده شرب الخمر وهو يلقي الشعر، أو تركه لبرنامج أبو ستروف لبيرنار بيفو في المباشر وتحرشه بالناقدة الفرنسية التي بجانبه، ولا تلك المشاهد التي يظهر فيها يركل عشيقته، لم تقلل من شأنه الإبداعي. لم يكن بوكوفسكي معنياً بالتقييمات الأخلاقية له ولا حتى بالتقييمات النقدية لأدبه، لذلك كتب بكل ذكاء ساخر رواية “أدب رخيص”، ونهض ذات يوم يلقي قصيدته “أنا كاتب رديء” يقول فيها:
“أنا كاتب رديء
أحياناً حتى الكتّاب الرديئون يقولون الحقيقة
ذات مرة سجّلتُ صوتي وأنا أقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، كأنّه يتوجع، والشعراء كلّهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون!”.
أخلاق توفيق الحكيم وطه حسين ويوسف ادريس
وُصف توفيق الحكيم بعدو المرأة لمعاداته حركة التحرر النسائي بمصر بقيادة هدى شعراوي، وكذلك اتهم عباس محمود العقاد، وكان توفيق الحكيم بخيلاً من الطراز الأول، بينما كان طه حسين فظاً مع زملائه، وكثيراً ما قزّمهم، وكان عبد الحليم داهية ويكيد لفريد الأطرش، وكان يوسف إدريس مغروراً، وله مع قصص الغرور حكايات من شرق الأرض إلى مغربها، إلا أن هذا كله لم ينقص من قيمة هؤلاء شيئاً.
وكذلك كان يوسف شاهين واحد من المتهمين بالعنف تجاه الصحافة والنقاد، وهوجمت عصبيته حتى شككوا في أعماله الفنية بسبب تلك العصبية لا بسبب الأعمال.
بعض الكتاب كان انحرافهم جزءاً أساسياً من مشروعهم الأدبي، كجورج باتاي أو ماركيز دي ساد أو أبولينير أو لوتريامون. كان فوكنر يمشي حافياً في الشوارع وسقط إدغار ألن بو ميتاً من الإدمان في الشارع، فهل يمكن أن نشكك في قيمتهم الأدبية لأنهم لم ينخرطوا في أخلاقيات مجتمعاتهم؟ ألم تصادر أعظم الأعمال الأدبية والفنية من روايات وأفلام بنفس التهمة أن صناعها أو محتواها يهدد الأخلاق العامة، ثم صارت بعد ذلك من كلاسيكيات الأدب والفن وصارت تدرس للناشئة، من رواية “الحارس في حقل الشوفان” إلى “مدام بوفاري”؟
يبقى السؤال قائماً: إذا كانت أخلاق الشعوب متحركة كما نراها في هذه النماذج وليست ثابتة، فلماذا نواصل الحياة بهذه الراديكالية في حكمنا على المبدعين؟ لماذا اليوم تقع تصفية توفيق بن بريك ثقافياً، لأنه ساند في الانتخابات الرئاسية نبيل القروي بتونس، أو صفع صحفياً، أو قال كلاماً نابياً؟ ولماذا تقع تصفية الروائية والجامعية المصرية منى البرنس لأنها رقصت بمايو أو بـ”جلبية”؟ لماذا تقع محاسبة الفنان صلاح مصباح لأنه يتحدث عن العنصرية ضد السود في تونس، ونجعل من تصريحاته الانفعالية في برامج التوك شو ذريعة لذلك الاقصاء؟
إن المناداة بعدم محاكمة الكتّاب أو الفنانين بسبب ما ورد في نصوصهم أو أعمالهم الفنية يجب أن يرافقها دعوة بعدم الحكم على منتج الكاتب أو الفنان من سلوكه أيضاً، فلا رابط بين الفن والأخلاق والكاتب أو الفنان باعتباره بشراً علينا أن نتعامل مع سلوكه في اطار القانون المدني لا عبر العقاب الفني.
أي أنه إذا أذنب بحق شخص أو مؤسسة يحاكم محاكمة عادلة ولا يقع قتله ووأده فنياً أو أدبياً. غير أننا في عالم عربي يجرم المبدعين ويغتالهم مهنياً بسبب مواقفهم من التحولات السياسية، أو مواقفهم أو قربهم من أنظمة سابقة، فنعلي من الرديء لأنه يتناسب مع المرحلة، ونمحو المبدع المجيد لأنه ضد النظام إن كان سياسياً أو أخلاقياً أو ثقافياً، مثلما حصل للفنانين عمرو واكد وخالد أبو النجا والكاتب علاء الأسواني وغيرهم كثير في كل بلد عربي. متى نتعامل مع الكتاب والفنانين كما تعاملنا مع مارادونا عندما نراه يجر إلى السجن لتعاطيه المخدرات أو ارتكاب جرائم عنف، فنفصل بين مارادونا الشخص وماردونا أسطورة كرة القدم؟
رصيف 22