مراجعات الكتب

“عن الكتابة” لستيفن كينغ… حق القارئ في المتعة/ فادي سعد

في شهر حزيران 1999، أراد الكاتب الأميركي ستيفن كينغ إنهاء كتاب مذكراته الذي عنوَنَه “عن الكتابة”. كان بدأ الكتاب في نهاية 1997، وظلّ يماطل في إنهائه سنتين تقريباً. كاتب روايات الرعب والفانتازيا الذي يُعتبر من أكثر الكتّاب مبيعاً في العالم (350 مليون نسخة)، كان يجد صعوبة في إنهاء مخطوط له لا ينتمي لجنس الرواية أو القصة. كتب كينغ ما يقرب من 61 رواية و200 قصة قصيرة. حُوّلتْ الكثير من أعماله إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية وكتب كوميدية. مع ذلك، بحسب كينغ، وجد كتابة المذكرات مشروعاً ليس بالسهولة التي توقعها.

أخيراً في صيف 1999، قرّر إنهاء الكتاب الذي يسترجع فيه أهم المحطات في حياته الأدبية. لكن حياته، في ذاك الصيف، أخذت منعطفاً خطراً، وخصّص الفصل الأخير من مذكراته للكتابة عنه. في 19 حزيران من ذاك العام، صدمتْه سيارة بينما كان يتمشّى في نزهة صيفية. تحطّمتْ عظام ومفاصل كينغ في أماكن عديدة ولزمه ما يقارب سبع عمليات جراحية ليعيد بناء جسده المحطّم. يكتب كينغ عن رحلة نقاهته الطويلة بعد ذلك ليستعيد قدرته على الكتابة، جسدياً ونفسياً. في العام 2000 نُشر الكتاب أخيراً.

يشكّل كينغ في عالم الكتابة حالة تستحق التوقف عندها. نحن أمام كاتب حقّق، بمعايير الانتشار والبيع والشهرة، نجاحاً كبيراً. لكننا لسنا أمام كاتب من طراز جيمس جويس أو فوكنر أو ماركيز أو كافكا. كينغ لا يدّعي هذا. لكن، هل على كل كاتب وروائي أن يكون من ذاك الطراز الروائي التاريخي؟

في مذكراته، يقول كينغ إنه يكتب لأنه يستمتع بالكتابة، ولإنه لا يعرف أن يفعل شيئاً آخر بالقدر نفسه من الشغف والجودة. الكلمتان هنا لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض: الشغف ضروري، لكنه غير كاف من دون جهد مستمر في تطوير أدوات الكتابة. أدوات يشبّهها كينغ بصندوق الشغل. لا يمكن بناء عمارة من دون أدوات. أهمية مذكرات كينغ تتركّز ربّما عند هذه النقطة: ما هي الأدوات التي طوّرها واستعملها ككاتب ناجح؟ أدوات غير مرتبطة بالماركيتينغ والعلاقات. فالرجل بدأ من الصفر. لم يكن يعرف أحداً في عالم الأدب. كان يعمل في البدايات أعمالاً مجهدة لا تدرّ عليه سوى ما يكفي ليعيل عائلته. ظلّ لفترة طويلة يتلقّى ردوداً رافضة لقصصه التي كان يرسلها للمجلات الأدبية الأميركية. لكنه ظلّ يكتب ويرسل قصصه ويتلقّى الرفض. أسلوبه تحسّن تدريجياً، مستفيداً من الملاحظات الجانبية لرؤساء التحرير على برقيات الرفض. ومع صقل أسلوبه بدأت الردود تتغير وبدأت حياته تتغير. لذلك، مجرّد أن كينغ كاتب شعبي، لا يعني أن أدواته الأدبية بسيطة وشعبية. هذا الربط فيه مزيج من الاستخفاف والكسل.

البعض ما زال ينظر بعين شكّاكة (ونخبوية) لجماهيرية وشعبية الكاتب، ويراها في تضاد مع مقدار الأهمية الإبداعية. هذه النظرة قد تكون صحيحة أحياناً، لكنها ليست قاعدة طبعاً. هذا الجدل صاحبَ مسيرة كينغ الأدبية، وظهر على الملأ عندما نال العام 2003 ميدالية الاستحقاق التي تقدّمُها “مؤسسة الكتاب الوطنية” الأميركية لإسهاماته المميّزة في الأدب الأميركي. تصادمتْ ردود الأفعال. الناقد الأميركي المعروف و”المحافظ”، هارولد بلوم، علّق قائلاً: “قرار إعطاء ميدالية الاستحقاق لستيفن كينغ يشكل انحطاطاً مستمراً في عملية التسطيح المشينة لحياتنا الثقافية…”. وردّ عليه الروائي والناقد الأميركي أورسون كارد مُدافعاً: “ما يكتبه كينغ أدب حقيقي… لكن ما يقصده مهاجموه أنه ليس الأدب الذي يوافق الذائقة النخبوية الأدبية الأكاديمية”.

ببساطة لنسألْ: لماذا يملك هذا الكاتب “الشعبي” جمهوراً كبيراً دوناً عن مئات الكتّاب الذين بدأوا مثله؟ لماذا له معجبون وقرّاء من جميع الطبقات الاجتماعية والفكرية؟ بعض الأجوبة يمكن أن نجده في كتاب مذكراته. فكينغ يكتب عن الكتابة كمهنة تستحق أن يتم العمل بجهد ودأب من أجل إجادتها والإبداع فيها. التمرين يساوي الموهبة. الموهبة هي تمرين مستمر. يكتب كينغ عن الجودة وجهد الكتابة كما مهندس خبير ناجح عن ساعات الدراسة والعمل الطويلة. ثمة أخلاقية وجدّية لديه في تعامله مع الإبداع. أخلاقية تحثّ على التعلّم والمثابرة. أخلاقية تستحق الاحترام بعيداً من النجومية.

لغة كينغ متخفّفة، نحيفة، متخلّصة من الزوائد، غير استعراضية، رشيقة، “اللغة لا يجب أن تلبس دائماً ربطة عنق وحذاء أنيق”.

برنامجه اليومي: ست ساعات يومياً قراءة وكتابة. كتابة في الصباح، قراءة في المساء. لا نصيحه لديه للكتّاب سوى القراءة والكتابة بشكل يومي. كم يجب أن يكتب المرء في اليوم؟ ما من إجابة موحّدة للجميع، فلكل كاتب له إيقاعه الخاص. كينغ يحاول كتابة 2000 كلمة يومياً. هدف شبه مقدّس بالنسبة إليه. المهم الجلوس والكتابة. التمرين اليومي يربّي عضلات الكتابة. كينغ يتبنّى أن الكمية تؤدي في النهاية إلى النوعية.

يفرّق كينغ بين القصة والحبكة. بالنسبة إليه القصة أهم من الحبكة. القصة هي ذاك المحتوى الذي سيجذب القارئ ويُمتعه ويجعله يمسك الكتاب ولا يتركه. الحبكة هي الأسلوب والإطار الفني. لكن، ودائماً بحسب كينغ، ليست الحبكة ما يصنع الكتاب، بل القصة الجيدة. يمكن الاختلاف طبعاً مع هذه الرؤية. ماكس جاكوب يردّد في مقدمة إحدى كتبه مقولة بوفون: “الأسلوب هو الرجل”. وأكثر من ذلك، يمكن القول إنّ هذا بالضبط ما يفرّق بين كاتب جماهيري مثل كينغ، وكاتب مفصلي مثل فوكنر. لكن هل يمكننا (أو بعضنا على الأقل)، كقرّاء، إنكار أننا ربّما نستمع برواية “بؤس” لكينغ، أكثر من رواية “الصخب والعنف” لفوكنر؟ لا بدّ أن يكون من ضمن طموحات أي روائي، إمتاع القارئ. يمكن أن نقتبس هنا عبارة لوالت ويتمان مع تغيير كلمة واحدة فقط: “ليكون هناك (روائيون) كبار، يجب أن يكون هناك جمهور كبير أيضاً”.

ينصح كينغ بعدم التوقف عند الشروع في كتابة قصة أو رواية. “إذا لم أكتب كل يوم في مشروعي الكتابيّ، بهتت الشخصيات وضاعت منّي”. بعد الانتهاء من كتابة رواية، بمسوّدتها الأولى، يضع المخطوط في الدرج، ولا يعود إليه إلاّ بعد حوالي ستة أسابيع. “تلزمني مسافة من عملي كي أستطيع أن أرى عيوبه ونقاط ضعفه ورؤيته مجدّداً بعين القارئ لا المؤلف”. في أحد فصول الكتاب يتحدّث عن النصيحة الأدبية الذهبية التي غيّرتْ طريقة كتابته إلى الأبد. في العام 1966، تلقّى رسالة رفض من إحدى المجلات الأدبية التي راسلها. في أسفل الرسالة، كانت هناك ملاحظة مكتوبة بخط يد مدير تحرير المجلة: “قصة ليست سيئة لكنها منتفخة. يجب أن تعدّل الطول. المعادلة: المسودة الثانية = المسودة الأولى – 10% . حظاً سعيداً”. أخذ كينغ بالنصيحة ولاحظ أن نصوصه بعد ذلك باتت أكثر توتراً وجاذبية، وبدأ يتلقّى رسائل قبول أخيراً. يعزو نصيحة الاختصار الذهبية هذه إلى تحسّن أقداره الأدبية، ومنذ ذلك الوقت وهو يطبّقها على نصوصه كافة بلا هوادة.

“عن الكتابة” هو عن كتابة ستيفن كينغ. إضافة إلى قدرة الكتاب على إشباع ذاك الفضول الموجود لدى كلّ منا للتلصلص على طقوس وتفاصيل حياة أحد الروائيين. يحمل الكتاب مقولة تستحق التفكّر. أن القارئ يستحق الاحترام. كينغ يحترم القارئ قبل كتابة نصه وأثناء كتابة نصه. يفكّر فيه. يحترم حق القارئ في الاستمتاع، وحق القارئ في عدم تضييع وقته، وحق القارئ في أن يكون جزءاً من المعادلة الإبداعية. ربّما هذا هو سرّ نجاح كينغ جماهيرياً، وربّما هذا هو سرّ بقاء كينغ في مصاف الروائيين “الشعبيين”. لكنها مقولة تستحق أن نحترمها أيضاً، وأن لا نتجاهلها. في النهاية، نحن لا نكتب لأنفسنا فقط.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى