صفحات الثقافة

كراهية المهاجرين تحول الضيف إلى عدوّ/ أبو بكر العيادي

أحكام قاسية: عنف البولنديين وقذارة الطليان وتقاعس العرب ونهم الأفارقة للجنس.

رغم انفتاح الشعوب على بعضها بعضا، وما فرضته العولمة من تقارب، فإن الارتياب من الاختلاف تفاقم أكثر من ذي قبل، وهو ما نراه خاصة في أوروبا. فكيف تستقبل أوروبا الآخر غير الأوروبي وما هي آثار بث ثقافة الخوف في ذلك؟

تكاد الحضارات على مرّ الأزمنة تلتقي حول واجب استقبال الضيف وإكرامه، سواء أكان عابر سبيل أم هاربا أم لاجئا، إذ كان العرب قبل الإسلام وبعده يعتبرون إكرام الضّيف قيمة من القيم الأصيلة التي يجدر بالمرء المحافظة عليها، وكان الإغريق القدامى يعدّون استقبال الغريب رحمةً لها صلةٌ بالورع والتقوى وفاء للربّ زيوس، لأن في استقباله احترامًا للإنسان باسم الذات الإلهية، وهو ما شجّع النّاس على الارتحال طلبا للرزق أو الأمن أو بحثا عن مكان يجدون فيه راحتهم المادية والنفسية.

إلا أن الأزمنة الحديثة التي بدأت مع الثورة الصناعية خلقت معطيات جديدة، فقد احتاج أرباب المصانع إلى أيد عاملة لم يعد السكّان الأصليون وحدهم قادرين على سدّ مسدّها، فبدأت الهجرات الجماعية إلى مواقع الإنتاج الصناعي.

الرفض والكراهية

رغم أن المهاجرين الأوائل كانوا من أوروبا نفسها، أي من نفس العرق والملّة، واستُقدموا تلبية لحاجة، فإنهم قوبلوا بالنفور والعداء، ولم تكن مشاعر رفض فئة من الأجانب تزول إلا لتتحول إلى فئة جديدة. ففي فرنسا مثلا ظهرت تلك المشاعر تجاه البولنديين ثمّ تحوّلت إلى الطّليان، ثمّ إلى الإسبان، فالبرتغاليين. ولكنّها اتّخذت وجها آخر مع وفود عرب شمال أفريقيا، ثمّ أفارقة جنوب الصحراء الكبرى، قبل أن تقدم شعوب أخرى هاربة من الاستبداد والحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، لكون هذه الفئات الجديدة من أجناس وثقافات غير أوروبية لها معتقدات وعادات تخالف ما في البلد المضيف.

وكان من أثر ذلك أن تحوّل النفور إلى كراهية، لاسيّما بعد نهاية مرحلة “الثلاثينات المجيدة” التي شهدت فيها فرنسا ازدهارا ملحوظا عقب الحرب العالمية الثانية، وبداية الانتكاس الاقتصادي. ومبعث تلك الكراهية خوف من مسألتين: أن يستحوذ القادمون الجدد على مواطن الشغل، فضلا عن كونهم يكلفون المجتمع غاليا؛ وأن يهددوا ثقافة السكان الأصليين ودينهم، حتى أن بعضهم عبّر عن خشيته من أن يتحول الفرنسيون كلهم إلى مسلمين. أي أن القائلين بالرأي الأول يلتقون حول العواقب المادية لحضور الأجانب، بينما يركز أصحاب الرأي الثاني على الملامح الرمزية.

ومنطلق كل تلك المعتقدات مسارٌ أساسي، آليّ تقريبا، يسميه علماء الاجتماع بـ”التصنيف الاجتماعي”، قوامه ترتيب وتنظيم المجتمع بالتأكيد على الفوارق بين الفئات الاجتماعية، مع تقليل الفوارق داخلها، ما يؤدي إلى قوالب منمّطة جاهزة، فإذا ما طُبّق هذا التصنيف على المهاجرين، ألغيت كل الفروق في ما بينهم، وصارت لهم صورة متجانسة لا يُنظر إليها في الغالب إلا سلبيّا.

وبموجب ذلك القالب يقع تقديم المهاجرين كأشخاص منفّرين وعديمي الكفاءة، فهم في نظر عامة الناس متقاعسون، يعيشون على المساعدات الاجتماعية، ويتمسكون بمعتقداتهم وعاداتهم، ولا يريدون الاندماج في المجتمع الفرنسي، وفي أحسن الأحوال يضيّقون على الفرنسيين فرص الشغل. وبما أن من المهاجرين أغلبية مسلمة، فإن بعضهم يتحدث عن “صدام حضارات” وبعضهم الآخر عن “تعويض أكبر” يخطط له المسلمون لفرض ديانتهم وهيمنتهم على العالم الغربي تدريجيا.

يحدث هذا رغم أن الدراسات العلمية أثبتت أن الأرباح الاقتصادية للهجرة تفوق أو تعادل تكاليفها، وأن المهاجرين يتولون الأعمال التي ينبذها أهل البلاد، بل إن حضورهم يخلق مواطن شغل، وأن المسلمين أقلية، ودينهم لا يمثل خطرا على المجتمع. بيد أن تلك المعتقدات تجد آذانا صاغية، لاسيما أن بعض وسائل الإعلام ما انفكت تشهرها وتروّجها آناء الليل وأطراف النهار حتى ترسخ في الأذهان كحقيقة ثابتة. وكانت النتيجة أن تولّدت في نفوس الناس أفكار مسبقة عن المهاجرين، مشفوعة بالخوف أو بالكراهية أو بكليهما معًا.

ولئن كان الخوف يشير إلى عنصر بيّن نوعا ما، فإن الكراهية هي إطار لموضوع مجهول، يلقي عليه أهل البلد المضيّف صورة متوهمة لا وجود لها أحيانا إلا في أذهانهم، كعنف البولنديين، وقذارة الطليان، وضراوة الألبان، وتقاعس العرب، ونهم الأفارقة للجنس… وإن كانوا على الأقل يميزون بين هذه الفئة أو تلك، أما اليوم فهم يضعون كل المهاجرين في سلة واحدة، وينظرون إليهم ككتلة متجانسة، تهدد الحضارة الغربية برمّتها.

فكيف تحولت الضيافة إلى عداء؟

الضيف العدو

كان دريدا قد ابتكر عبارة جديدة هي hosti-pitalité اشتقها من الجذر اللاتيني هوستيس hostis الذي يعني الضيف والمضيف في الوقت نفسه، ومنه الضيافة hospitalité، ويعني أيضا العدائي hostile، ومنه المعاداة hostilité.

ودريدا لم يصغ تلك اللفظة المركبة التي تعني الشيء ونقيضه اعتباطا، وإنما لأن الضيف قد ينظر إليه كعدوّ محتمل. وهذا ما دأبت عليه الأحزاب السياسية التي جعلت من مقاومة الهجرة رهانا كان من نتيجته صعود الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، وانكفاء الأقليات في مجموعات عرقية ودينية لعجز الحكومات المتعاقبة على إدماجها في النسيج المجتمعي الفرنسي. وبدل الاستناد إلى الدراسات العلمية التي تناولت الواقع الديمغرافي والاقتصادي، اختار الجميع ترديد الشعارات نفسها، وتحميل المهاجرين التراجع الاقتصادي الذي تشهده فرنسا عند كل حملة انتخابية حتى صار الإقرار بالواقع من التابوهات.

ومردّ ذلك إلى سببين أساسيين: أولهما أن المعلومات الديمغرافية التي بحوزة الحكام تؤكد على ضرورة مواصلة استقبال المهاجرين، وهو ما يجهله عامة الناس الذين يقفون في معظمهم من مسألة الهجرة موقفا عاطفيا. وبدل أن يصارحوا شعوبهم لجأوا إلى ثيمة معاداة الأجانب التي تسمح لهم بتقديم خطاب يدغدغ مشاعر منتخبيهم، ويضمن لهم البقاء في السلطة أو الوصول إلى مواقع أرفع. والحال أن مؤشرات التناسل في فرنسا، وفي أوروبا بوجه عام، لا تسمح بضمان تجدد السكان، ما يجعل الهجرة ضرورية اقتصاديا وماليا على المدى القصير.

 مؤشر الخصوبة في بلدان الاتحاد الأوروبي، حسب إحصائيات 2016، يشير إلى نسبة طفل فاصل ستة لكل امرأة قادرة على الإنجاب، فيما يستوجب تجدد السكان اثنين فاصل واحد. أي أن سكان أوروبا يسيرون إلى التناقص والهرم مع ما يعني ذلك من ضياع الدينامية وضعف التأقلم مع المستحدثات العصرية. وبما أن نسبة النمو الاقتصادي سنويا في تراجع، فليس السكان المتقدمون في السن هم الذين سيعدّلون الكفة أو يرجّحونها. أضف إلى ذلك أن صناديق التقاعد والحيطة الاجتماعية التي تعاني من عجز فادح منذ سنين طويلة، ستزداد عجزا بتكاثر عدد المتقاعدين وبلوغهم سنّ الشيخوخة.

والسبب الثاني، المترتب عن سابقه، أن الحكام يعرفون أن بلادهم تحتاج إلى المهاجرين لتجديد النسل لا محالة، ولتأمين الدورة الاقتصادية أيضا، خاصة في مجالات ينفر منها أبناء البلاد؛ مثلما يعرفون أن المهاجرين يعطون فرنسا أكثر مما يأخذون، ولكنهم لا يجاهرون بذلك، لأن في الجهر به مقتلهم السياسي. ذلك أن الرأي العام بعد أعوام من خطاب العداء والكراهية وأعوام أخرى من الشعبوية السياسية التي تروج لها وسائل إعلام عنصرية، علاوة على الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا أكثر من مرة، يرفض استقبال مزيد من المهاجرين، ويعتقد أن الهجرة لعبت دورا سلبيا، بل ثمة من يرفض استقبالهم حتى بدوافع إنسانية، فقد أظهر استفتاء أجرته “أودوكسا” عام 2018 أن ثلاثة أرباع المستجوبين يرفضون استقبال الفارين عبر البحر من جحيم بلدانهم.

المفارقة أن العولمة كسرت الحدود الجغرافية، فسمحت بانتقال المعلومة والبضاعة، وقربت الناس في ما بينهم، افتراضيا على الأقل، إلا أنها لم تفلح في تسهيل انتقال البشر، حيث رفعت أمامهم حواجز من الأسلاك الشائكة، وجدرانا عازلة، ونقاطَ تفتيش مشددة حيثما ولّوا وجوههم. وما كان ذلك ليحصل لو تشجّع الحكام ليحدثوا شعوبهم حديث الصدق، ويعلموهم بأنهم من دون الهجرة سيقل إنتاجهم، وتقل قدرتهم التنافسية، ما يعني كساد اقتصادهم واحتمال تعرضهم للفقر، ولكنهم آثروا ترضية شعوبهم بكلام بعيد عن الواقع.

 لا يتجاسر هؤلاء الحكام على انتقاد الشعبوي المجري فيكتور أوربان إلا من جهة عدم احترامه القواعد الديمقراطية، ويغضون الطرف عن سوء معاملته المهاجرين الذين يطرقون أبواب القارة العجوز، وعن تدنّي عدد سكان بلاده في العشريات القادمة، مع زحف شيخوخة حادة لن تجد من يحلّ محلها.

 وكل الشعبويين في سائر البلدان الأوروبية يعِدون شعوبهم بالممارسة نفسها لو يصلون إلى السلطة، ويتناسون أن الجسد، كما يقول علماء البيولوجيا، يحتاج إلى عنصر دخيل يضمن بقاءه وتجدده. وإذا استطاعت بعض البلدان أن تسيطر على الهجرة، فما الفرق بينها وبين الأنظمة التي تدعو إلى مجتمع النقاء والطهر؟

يقول الإيطالي روبرتو إسبوزيتو “لا وجود لمجموعة بشرية تحصّنها مناعة، ولكن الإفراط فيها يهدد بتدمير معنى وجودنا نفسه”.

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى