نقد ومقالات

بيار بايار: الكذب انتصاراً للأدب والمخيّلة

ملف خليل صويلح

يشتغل بيار بايار (1954) في منطقة نقدية استثنائية. لا يتردّد في اقتحام حقول الألغام، ووضعنا في مهبّ أسئلة جديدة تصب في مديح الاختلاق واعتباره امتيازاً لا عيباً. بعد كتابَيه «كيف نتحدّث عن كتب لم نقرأها» (2007)، و«كيف نتكلم عن أمكنة لم نزرها؟» (2012 ــ دار مينوي- باريس)، يجازف مرّة أخرى في الدفاع عن الأكاذيب التي يبثها كتّاب السيرة الذاتية والروايات الوثائقية وخرافات الحياة اليومية، معتبراً أن تزييف الحقائق ضرورة أدبية. في كتابه «كيف نتحدّث عن وقائع لم تحدث؟»، يتساءل عن جدوى عالم موثوق وموضوعي بدون أكاذيب: «ألن يكون في النهاية عالمٌ بلا أدب، من دون فلسفة، وبلا خيال؟». هكذا يتعقّب نصوصاً كانت إلى وقتٍ قريب- بالنسبة إلى القراء- وثائق دامغة، أو وقائع حدثت فعلاً، خصوصاً أن أصحابها يتمتعون بمصداقية عالية. عملية فضح الأكاذيب هذه لا تأتي من موقع الضد، إنما لتأكيد ضرورة التوابل التي يضيفها الكتّاب إلى سردياتهم، وأهمية وجود مثل هذا الفلفل الحار في متنها. العملية هنا مزدوجة، فهو من جهة يقتفي أثر النص الأصلي بقصد تمجيده، والدفاع عن خيارات كتّابه في مواجهة أولئك «المشاغبين» الذين يفتشون عن الحقائق الصرفة، والإطاحة بكل ما هو متخيّل، ليس في النصوص وحدها، وإنما في «أكاذيب الحياة اليومية» أيضاً. ينافح أستاذ الأدب في «جامعة باريس الثامنة»، والمحلّل النفسي عن وقائع تبيّنَ لاحقاً بأنها لم تحدث بالطريقة نفسها التي رواها أصحابها، تحت بند «الحاجة الملحّة إلى تصنيع الخيال». ثم لماذا نخسر ثمار الخيال طالما أنها تضيف السعادة إلى البشر، فالكائن، حسبما يقول، ليس لغة فقط، بل هو كائن سردي يحتاج إلى كتابة وتلقّي القصص، وتالياً حق المرء في الحديث عن وقائع لم تحدث بعد والتعبير عن رأيه فيها، وتبرئة الحكّائين من تهمة تزوير الحقائق، والدفاع عن حقهم في سرد الحكايات بصرف النظر عن النهج الذي يسلكونه في الحكي. يستهجن بيار بايار الضجة التي أثيرت حول السيرة الذاتية التي كتبتها ميشا ديفونسيكا بعنوان «البقاء على قيد الحياة مع الذئاب»، ومواجهتها في حجم التلفيق الذي مارسته الكاتبة في رواية سيرتها. حتى إنّها لن تتردد ــ خلال رحلة هروب طفلة يهودية من بروكسل إلى أوروبا الشرقية مشياً على الأقدام، بحثاً عن والديها اللذين انتهيا في أحد المعتقلات النازية ــ بالعيش في غابة بصحبة ذئبة: «لجأتْ إلى الغابة، فرأت كلباً كبيراً تبعها فترة وجيزة، ثم تبيّن بعد ذلك أنه ذئب، أو على وجه الدقة، ذئبة. أطلقت الفتاة الصغيرة على الذئبة اسم ريتا، تيمناً باسم أحد كلاب جدها. قامت الذئبة برعايتها وصارت تذهب للصيد وتحمل إليها بعضاً مما تصطاد، وعملت على حمايتها في الليل وهي نائمة ملتصقة بها، وعلَّمتها بأناة ما يحكم مجتمع الذئاب من قواعد وأعراف». لاقى الكتاب إقبالاً من ملايين القرّاء، واستهجاناً لدى المتخصّصين في المحرقة لجهة الخطأ في التواريخ، والأمر ذاته بالنسبة إلى المتخصّصين في شؤون الذئاب، ثم اتسعت دائرة الفضيحة عندما كشف التحقيق أن ميشا ديفونسيكا ليست يهودية في الأصل، وقد سطت على سيرة ليست لها ونشرتها باسم مستعار. يفرّق بيار بايار هنا بين «الحقيقة الذاتية»، و«الحقيقة الواقعية»، وينتصر للأولى، معتبراً إياها انتصاراً للمخيّلة، و«للجنون التأويلي» في المقام الأول قائلاً: «لنعتبرْها واحدة من قصص الجنيات، ونكتفِ ببهجة السرد، بعيداً عن أروقة المحاكم». سيقع جون شتاينبك تحت وطأة اختلاق آخر. في مطلع ستينيات القرن المنصرم، اكتشف صاحب «عناقيد الغضب» بأنه لا يعرف أميركا جيّداً، فقرّر أن يقوم برحلة بين المدن الأميركية بشاحنة تحمل بيتاً متواضعاً وخدمات بسيطة، أطلق عليها اسم «روسينانتا» كتحية لسرفانتس. وكي يسلّي وحدته اصطحب كلبه معه. هذا ما سنجده في كتابه «رحلاتي في أميركا». بعد نصف قرن، قرّر الصحافي الأميركي بيل ستايغروولد اقتفاء أثر شتاينبك والأماكن التي عبرها، وفقاً لخط الرحلة الأسطورية، فكانت المحصّلة حفنة من الحقائق المزيّفة، أولاها أنه كان برفقة زوجته، وأن كلبه «تشارلي» صاحب دور ثانوي في الرحلة. كما أنه كان أثناء استراحاته يذهب إلى فنادق مريحة، وليس إلى الشاحنة كي ينام، كما كتب، بالإضافة إلى اختلاقات أخرى تتعلّق بأماكن لم يزرها، وببشرٍ لم يقابلهم. يجيب صاحب «تحقيق حول هاملت» مفنداً أسباب شتاينبك في تزييف وقائع رحلته بأن ما حدث هو خيار أدبي هدفه وصف أميركا على نحوٍ آخر أكثر تأثيراً وغرابة.

مقالات مرتبطة

من جهته، سيدوّن شاتوبريان وقائع رحلته إلى أميركا، وفقاً لأهواء المخيّلة: كان يحمل رسالة توصية من الماركيز لارويري إلى الرئيس الأميركي جورج واشنطن، لكنه في الواقع لم يتمكن من مقابلته بسبب مرضه، فسلّم الرسالة إلى الخادمة، إلا أنه حين كتب مذكراته عن هذه الرحلة، ادعى أنه قابل الرئيس وتحاور معه طويلاً حول «الأمة الأميركية»، و«الثورة الفرنسية»، ثم دعاه في اليوم التالي لتناول العشاء معه. في ملف تلك الفترة، لم يجد ريمون لوبينغ خلال مراجعته وثائق تلك الفترة أي أثر للمقابلة المزعومة، لأن شاتوبريان بعد تسليمه الرسالة إلى الخادمة، سافر في صبيحة اليوم التالي إلى مدينة أخرى. والواقعة الحقيقية الوحيدة أن شاتوبريان تمكّن من رؤية الرئيس عن بعد، أثناء مروره في عربة تجرها أربعة جياد، وسيخترع حكايات غرامية لم تحدث، ربما لتعويض خسائره الحقيقية بما يخصّ العاطفة، بالإضافة إلى تحسين سيرته الذاتية مسوّدة وراء أخرى. مرّة ثالثة، يبرّر المحلّل النفسي الفرنسي الأسباب التي دعت هؤلاء إلى صوغ وقائع لم تحدث، لمصلحة «الحقيقة الأدبية» التي تحتاج دوماً إلى اشتعال المخيّلة بما يغري المتلقي بمتابعة القراءة: «ما يهمنا في نظرية شاتوبريان هو الأثر الذي يشعر به القارئ، مثلما كانت النتيجة المرئية وحدها هي التي تهمُّ المهندسين المعماريين الإغريق» يقول. الكارثة الكبرى في التزييف سنجدها في «الأعمال الكاملة للشاعر سان جون بيرس». في عام 1972، ارتأت دار «لابلياد» الباريسية، طبع الأعمال الكاملة للشاعر بإشرافه شخصياً، فوجدها فرصة استثنائية لتنظيف سيرته من الأعشاب الضارة بشطب كل ما لا يليق بسيرة شاعر ودبلوماسي، بتطعيمها وقائع لم تحدث. وإذا به يتحوّل إلى شاعر رؤيوي ببصيرة حادّة، إلى درجة التنبؤ بثورة أكتوبر 1917 حتى قبل أن يعرف أحد من هو لينين الذي كان يقيم في سويسرا حينذاك، وليس في موسكو، كما بدا في رسالةٍ أخرى، كأنه خصم لدود لهتلر. أكثر من ذلك كتابة رسائل جديدة بتواريخ قديمة (!). هنا لن يجد بيار بايار دفاعاً قوياً عن سلوكيات الشاعر، مكتفياً بالقول: «لا شك في أن مسألة صورة الذات هذه هي الأكثر أهمية لكاتب مشهور مثل سان جون بيرس، الذي من الواضح أنه مهتمٌّ بالتحكُّم بتصورات حياته المزدوجة، الأدبية والسياسية، فيزيل منها التناقضات، ويحتفظ بما يسمح له من إعلاء شأنه في نظر الأجيال اللاحقة». تبريرات أخرى سيلجأ إليها في قراءة سيرة ليوناردو دافنشي وفقاً لتصورات فرويد عنه، وكذلك مذكرات أناييس نن. يختتم بيار بايار مرافعته عن أصحاب المخيّلات المشتعلة بضرورة إعلاء شأن الخيال كفعل ديمقراطي، وقيمة أساسية، وإحباط أي محاولات رقابية لإجهاض عمل الحكّائين، صنّاع الدهشة، أولئك الذين يروون تاريخاً مضاداً قابلاً لأن يحدث بمجرد تدوينه أو النطق به.

هنا مقطع من كتابه «كيف نتحدّث عن وقائع لم تحدث» (2020) الذي يصدر قريباً بالعربية (ترجمة قاسم المقداد) عن «دار نينوى»

هذيان أناييس: مذكّرات مزدوجة

يستحيل تقديم لوحة شاملة عن الحياة العاطفية لكاتبةِ مذكراتٍ شخصيةٍ مثل أناييس نن بسبب ما يكتنفها من تعقيد؛ لكن قراءة مذكراتها، والسيرة التي خُصَّت بها، من دون مجاملة، ديردر بير، تتيح لنا تكوين فكرة عنها. تقدم لنا فترة ما بين الحربين مثالاً نوعياً على هذا التعقيد. كانت أناييس متزوجة من المصرفي هوغ غويلر، ثم التقت هنري ميللر وارتبطت معه بعلاقة غرامية مُحتدمة لسنوات نجمت عنها مراسلات شهيرة. لكن خلال السنوات نفسها، تعلّقت بفنان لاجئ إلى فرنسا من بيرو مع زوجته غونزولا موريه التي ارتبطت معها أيضاً بعلاقة عاطفية طويلة. في الفترة نفسها، خضعت لتحليل نفسي لدى رونيه الليندي- مؤسس «جمعية باريس للتحليل النفسي»- عاقدة النية على إغرائه، فأصبحت عشيقته. كان الليندي يُذكّرها بوالدها يواكيم نن الذي هجر عائلته وهي في عزّ شبابها، لكن الأب عاد للظهور فجأة، فكان لظهوره هذا وقع الصاعقة عليهما، فأصبحا عاشقين. أهملت أناييس الليندي، وتعلّقت بمحلل نفسي آخر هو أوتو رانك فعلّمها التحليل النفسي وساعدها على افتتاح عيادة خاصة في نيويورك لفترة من الزمن.

هذه الخريطة المختصرة لحياة نن العاطفية خلال فترة ما بين الحربين، لا تهتم بالغراميات العابرة ولا بالعلاقات المثلية ـــ ولا سيما مع صاحبات عشاقها ــ التي بقيت حذرة في التصريح بها. هذه الطوبوغرافيا الغرامية لا تهدف إلى الكمال، بل تسعى فقط إلى وضع الديكور وتوضيح الصعوبات التي واجهت نن طيلة حياتها، سواء من أجل تنظيم حياتها العاطفية، أو القيام بعملها ككاتبة على نحو أفضل في الوقت نفسه. هذه الحياة العاطفية المركبة اضطرت نن، بحكم الظروف، إلى الاستمرار في اختلاق حكايات خرافية موجهة إلى أصحابها: «أستيقظُ صباحاً وأنا أغنّي لأني أعرف بأنهم ناموا بعمق، تهدهدهم أكاذيبي، أكاذيبي الدائمة الجميلة؛ أكاذيب ضرورية، مُختلقة، أو أشبه بحكايات الجنيّات». إن حياة عاطفية مشوّشة كهذه تتطلب وضع لوجستيات متطورة، ولا سيما في مجال الكتابة. بعدما اكتشف زوجها مذكراتها الخاصة التي تبوح فيها بخياناتها، قالت له نن من دون أن يعتريها الاضطراب إنها مذكرات مُتخيّلة: «ما قرأته ليس سوى مذكراتي المتخيَّلة. كل ما فيه اختلاق، لكي أشكل كل ما لا أعيشه – صدقني، أنا وحش، لكن في الخيال فقط. يمكنك قراءة المذكرات الحقيقية حينما تريد». هكذا وجدت نن نفسها مضطرةً، كي لا تكشف نفسها، إلى كتابة مذكرات ثانية موازية بعدما حذفت منها قبل ذلك، جميع المقاطع التي تدينها. مذكرات تمنحها إمكانية الكذب كما يحلو لها، وأيضاً لتكشف في ذهنها عن تنوعها لغويلر بعد موتها، من خلال عرض عدة أشكال عن نفسها عليه. «الشخص الوحيد الذي لا أكذب عليه هو مذكراتي. وقد أكذب من خلال الحذف، من باب العطف. ويبقى الكثير مما سأحذفه. الحقيقة موجودة في المذكرات. وكل ما يوجد خارجها عبارة عن هذيان. […] أتشبث بهذه الحقيقة المكتوبة يوماً بعد يوم. وإلا سأصبح ضائعة، ضائعة، ضائعة». بناءً على ما سبق، فإن التوزيع واضح بين الأكاذيب اليومية الناجمة خلال المحادثات والموجهة للزوجين والعشاق، وأصالة المذكرات المكتوبة، التي حرّرتها لنفسها لتحاشي الضياع في تعددية انعكاساتها الشخصية. ربما تهدف المذكرات، من هذا المنظور، إلى تقليص التعددية النفسية، وتنوّع الأكاذيب عبر خلق مكان مثاليّ يختفي فيه الانشطار، وحيث يمكن أن ينشأ شكلٌ من الحقيقة عن الذات. في الواقع، هذه المذكرات أبعد ما تكون عن وعاء يتضمن حقيقةً كاملة. فضلاً عن هذا، رأينا أن نن تكتب أحياناً عدة مذكرات في الوقت نفسه: «إن متّ يوماً وقُرئت النسختان من المذكرات، من منهما أنا؟». إنه من العسف مقابلة حياة نن الخاصة، بوصفها فضاء للتزييف، بالمذكرات المعروضة باعتبارها مكاناً لقول الحقيقة. لأنها في الواقع، موضوعُ بناءٍ مستمر. وقد بيّنت ديردر بير أن المذكرات لم تكن بمأمن من الاختلاقات اليومية، بل تخضع لتعديلات كانت تجريها عليها نن عبر السنوات وتبعاً لتطوراتها. هذا العمل الذي قامت به لإعادة صياغة مذكراتها قادها إلى إتلاف الكتابات الأصلية، باعتبار أن كل نسخة جديدة ستكون النسخة الأولى. وهكذا، فإن قارئ المذكرات الذي يفترض أن يكون، خلافاً لعشاقها، الوحيد المالك للحقيقة مخدوعاً بعُدة مغرية، بُنيت وفقاً للمبدأ نفسه الذي بنيت عليه الخرافات التي تغذي بها المقربين منها كل يوم. ما تُبيّنهُ مذكرات أناييس نن، التي يفترض أن تكون المكان الطوباوي لإعادة التجميع، يكمن في الصعوبة الكبيرة في تثبيت صورة ذاتها هذه أمام الأجيال القادمة، وهي الصورة التي حاول سان- جون بيرس تثبيتها عن ذاته من خلال اختراع شخصية داخلية. ومحاولة تثبيت هذه الصورة يعني الاضطرار إلى إعادة كتابة لا تنتهي، لأنه لا يمكن لأيٍّ من هذه الحقائق العابرة أن تكون قادرة على منح شعور مُلَطِّف للتعايش مع الذات.

هذا العجز في اللغة وما ينجم عنه من ألم يقودان إلى افتراض وجود قوة لا واعية في داخلنا تحرّضنا على العودة الدائمة إلى ماضينا، القريب أو البعيد، في محاولة منا لإضفاء شكلٍ مؤقت من التجانس عليه. وتشبه عشرات آلاف الصفحات التي تتكوّن منها مذكرات نن، صور المراسلات المتخيّلة التي وضعها بيرس لنشاطنا الداخلي اليومي من أجل ترتيب حياتنا الماضية. إنها تبيّن ما يمكن تسميته الغريزة السردية وهي بصدد العمل، والتي تعيننا على تحمل حركيّتنا النفسية عبر حقنها بالتجانس والمعنى، كما يفعل المسرود الواضح للحلم عند الاستيقاظ. هذه الحاجة الملحة إلى القصّ – سواء طُبِّقتْ على النهار الفائت أم على السنوات المنصرمة – تعد دافعاً أساسياً لعمل نفسيتنا، التي يعود إليها الفضل في حمايتنا من التشتّت.

لا شك في أن هذه الغريزة ــ التي تُفضَّلُ إضافتها إلى قائمة الغرائز الفرويدية الأساسية ــ لا تنحو في جوهرها إلى الاختلاق. لكنها ملائمة بسبب استحالة إدخال عدد الأحداث وتنوعها في اللغة، لما تقدمه أوهام الخيال من صورة مقبولة للأحداث المبعثرة التي تتكون منها الحياة.

من دون افتراض وجود هذه الغريزة السردية ـ التي نراها تعمل منذ الطفولة والتي لا يصحُّ اختزالها بالكذب ــ يصعب فهم جميع هذه المسرودات الوهمية التي تُبهجُ بها شخصيات هذا الكتاب جمهورها، من خلال انضمام هذا الجمهور المتواطئ في أغلب الأحيان، وهو مسرور بوحدة الواقع هذه التي تريح النفس.

وفي حال كانت نن ترى نفسها شخصية مجزّأة، فالأمر نفسه ينطبق على الرجال الذين تشاركهم حياتهم، والذين نخطئ إن وصفناهم صادقين كلياً في مقابل كذبها. وتالياً ما كان للحياة العاطفية المتعددة، كالتي عاشتها أناييس نن أن تكون لولا تواطؤ أولئك الذين يفترض أن يكونوا مخدوعين. والاحتمال قليل جداً في أن يكون مختلف أزواج نن وعشاقها يجهل بعضُهم وجود بعض لفترة طويلة، مع وجود هذه المتناقضات، والاستخدامات غير المعقولة للزمن. وهكذا، لا يمكن للغريزة السردية أن تنتشر بكل قوتها، من دون أن تصطدم بالحذر أو العداء إلا لأنها تلاقي جمهوراً متسامحاً لدى ناشري المسرودات، غير عابئين بأن يقدم أحد لهم النصيحة فعلاً، لأنهم متشبّثون براحتهم النفسية، وببهجة الوهم الخلّاق.

————————

 رسول الـ fake news ينتصر للحكايا/ أحلام الطاهر

عادة ما يظهر هذا الستينيّ النحيف الشاحب مرتدياً لباساً أسود يلتصق بجلده، يقود مُحاورَه بلا رحمة بين سراديب من الكتب إلى غرفة ضيقة حيث يكتب ويستمع لجلسات مرضاه قبل أن يسأله بإلحاح: «هاه؟ ما رأيك في نظريتي؟»

في مواجهة النصوص التي يحبها، ثمة مُنظّر يسكن بيار بايار، يدفعه إلى درجة «الجنون التأويلي» كأنها الطريقة الوحيدة التي وجدها كي يتخلص من الكتب التي تسكنه وينأى عنها. من غيره ينشغل بالبحث عن قاتل روجر أكرويد الأرمل الريفي الثري في رواية أغاثا كريستي؟ عن الطرق لإنقاذ الأعمال الأدبية الفاشلة؟ وكيف نتحدث في كتب لم نقرأها؟ ينجح بايار في جعل اللغة كائناً خفيف الظلّ، ويجهد للإتيان بمجاز واقعي يكسر الحاجز بين الخيال والنظرية، يقول: «الأدب والتحليل النفسي حليفان في الفضاءات المعقّدة التي يفتحانها في مواجهة الخطاب السائد الذي أصبح اليوم كاريكاتورياً إلى أبعد الحدود».

أخذ المحلل النفسي والأستاذ المحاضر في الأدب الفرنسي على عاتقه مهمة الكشف عن خفايا النفس، لكنه لم يستقِ شواهده الاختبارية من الواقع المباشر أو التجربة اليومية، وإنّما من السجلات الأدبية بوصفها تختزل التجربة البشرية الأعمق. في كتبه، لا يتمّ الالتفات إلى الشخصيات الأدبية باعتبارها مجرد نماذج تخييلية، وإنّما كذوات تتمتّع بوجود تاريخي فعلي. لكن، «للأسف ثمة من يصدّق كل ما يقرأه مثل دون كيشوت» يقول بحنق حين يُقيَّم كتابه «كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها» كنوع من الدليل الذكي الذي يفتح منفذاً للهرب من الكتب الجدية والشاقة.

القُراء من مختلف أنحاء العالم شكروا بيار بايار على «السماح لهم بعدم القراءة»، وقد سمعناه يشجع هذا التوجه الذي غذّى نجاحه بجمل مثيرة على شاكلة: «من الممكن جداً أن تخوض نقاشاً محتدماً عن كتاب لم نقرأه حتى ـ بل ربما خصوصاً ـ لو كان محاورك لم يقرأ الكتاب هو أيضاً».

حجة إضافية في يد منتقديه الذين استفزّتهم «الطرق التي نسلكها لكي لا نقرأ» واعتبروا خطابه تشجيعاً للعزوف عن القراءة، يجتذب الشباب الذين يستهويهم أي شيء أكثر بكثير مما يفعل الكتاب. لكن هذا التهجّم يعزوه بايار إلى سوء الفهم وعدم القدرة على التفريق بين مستويات الخطاب، بين الجد والسخرية، إذ ينبغي أن ننتبه إلى أن الكثير من الأمثلة التي يسوقها ليشيّد عليها بنيانه النظري مستقاة من روايات. يقول: «عدد الأشخاص الذين اعترفوا لي بمعاناتهم مع القراءة مذهل! ومن الجيد أن يكون كتابي قادراً على ترميم الجراح النرجسية، لكنني لم أكتبه لهذا الغرض! لم أنصح أبداً بعدم القراءة. وكيف لي أن أفعل ذلك وقد تطلّب مني هذا الكتاب عدداً مهولاً من القراءات». لعلّ المفارقة أن بايار كان يبحث لوضع كتابه عن الشخصيات التي قادتها الظروف إلى مواقف حرجة تُحتّم عليها التحدث عن الكتب التي لم تقرأها. وقد أعاد قراءة فيليب روث مثلاً، مقتنعاً أنه سيجد شيئاً ما، دون جدوى.

مدخل الكتاب يأتي بأسلوب حكواتي مشوّق لكنه ملغوم: «ولدت في بيئة لا نقرأ فيها إلا القليل، وبالكاد نجد لذة في هذا النشاط، وعلى أي حال، لا أملك الوقت الكافي لأكرس نفسي له». وليس علينا نحن القراء أن نصدق هذه الشائعة، فقد كان بايار طفلاً مفتوناً بمحاولات أخته للكتابة ولطالما صرّح بأنه يقرأ كي يكتب «ودائماً بدافع الإعجاب أو الغيرة». مكتبة العائلة لم تكن تخلو من مؤلفين أمثال دانيال روبس، وجورج برنانوس وهو نفسه كان يلتهم كتابين عندما كان يدرّس في المعاهد الثانوية في الشمال، وكانت الرحلة تستغرق أربع ساعات بالقطار يملؤها برواية في الطريق إلى هناك، وأخرى عند العودة. وبالتالي من المضحك أن نقول إنه يشاركنا خبرته العميقة في «اللّاقراءة» حتى حين يدفعنا هو للضحك بخبث: «باعتباري مدرّساً في الجامعة، لا يمكنني أن أتجنب واجب التعليق على كتب لم أفتحها».

عند هذا الحد، يمكننا الانتقال إلى زاوية أوسع من رؤية بايار، إذ يعتبر أن القراءة هي أيضاً لا قراءة لأن فعل الإمساك بكتاب وفتحه هو أيضاً فعلٌ لا إرادي يتمثل في إغلاق كل الكتب الأخرى التي كان من الممكن أن نختارها. لكن كيف نشقّ طريقنا بين كتب العالم كلها؟ يُري بايار القارئ أن المهم ليس أن يقرأ هذا الكتاب أو ذلك «فتلك مضيعة للوقت»، بل أن ينظر إلى مجموع الكتب نظرة تُسمّيها إحدى شخصيات موزيل «نظرة شمولية». رواية «رجل بلا صفات» تُذكّرنا بهذه الإشكالية القديمة بين الثقافة واللانهاية، وتقدّم أحد الحلول الممكنة لما نشعر به من إحباط ومحدودية أمام العدد الهائل من الكتب التي سنظل جاهلين بها إلى الأبد، حيث يصرّح أمين المكتبة بحلّ سهل التطبيق: «أتريد أن أخبرك كيف أعرف كل الكتب؟ لأنني لا أقرأ أياً منها».

وهنا أيضاً يأخذ النقاد على بايار عدم اهتمامه بمضمون الكتاب لمصلحة بما يسميه «موقعه»، فإذا كان الحديث عن الكتاب متعلقاً بأي شيء آخر ما عدا الكتاب نفسه، تصبح الكتب كلها سواء والكُتّاب على مستوى واحد!

صحيح أن مكتبيّ موزيل يحرص على ألا يدخل إلى محتوى الكتب لكنه ليس مستهزئاً بها مُهمِلاً لها كما يتبادر إلى أذهاننا، على العكس، حبه للكتب ـ ولكن للكتب جميعاً لا لبعضهاـ هو الذي يدفعه إلى أن يبقى بحذرٍ على تخومها كي لا يجرّه اهتمامه الزائد بأحدها إلى إهمال الأخرى. يقول بايار إن من يحشر أنفه في الكتب، فقد خسرته الثقافة برمتها، لأن الثقافة الحقة يحب أن تنزع إلى الاستيعاب الكلي، ولا يجوز أن تُختزل إلى مجرد مراكمة للمعارف التفصيلية. نتيجة البحث عن هذه «الشمولية» هي أن نظرتنا إلى كل كتاب على حدة تتبدل من حيث إننا نتجاوز فرديته لنهتم بالعلاقة التي تربطه بغيره من الكتب. وهذه العلاقات هي ما ينبغي للقارئ أن يسعى للإحاطة بها.

الفهارس إذن، الروابط والصلات هي ما يجب على المثقف أن يتعرف إليه لا هذا الكتاب أو ذاك على وجه التحديد. صاحب «من قتل روجر أكرويد» (1998) ينزع القداسة عن الكتاب قبل أن يتفرغ للكاتب وسلطته حين يتعقب روايات آغاثا كريستي ويعيد فتح التحقيق في القضية البوليسية ليفنّد استنتاجات المحقق البلجيكي الشهير هيركول بوارو، ويثبت لنا أن الرواية مهما كانت خاضعة للسيطرة، تُقدّم دائماً لقرائها هامشاً من المناورة وتدعوهم إلى التعاون بنشاط أكبر مما يعتقدون عادةً أنهم مخوّلون للقيام به. يريد بايار للقارئ أن يتحول من قارئ سلبي إلى قارئ فاعل خلّاق بمعنى آخر: إلى كاتب.

على أي حال، الخيال دائماً هو الموضوع الإشكالي الذي يتعارض مع المصداقية في كتابات بيار بايار أو «صديق الـ fake news» ما يسميه منتقدوه، فهو يعتبر الإنسان كائناً لغوياً يعتاش على الحكايات ويرغب بسماع واختلاق القصص، في «كيف نتحدّث عن وقائع لم تحدث؟»، يسوق مثال الصحافي الألماني كلاس ريلوتيوس الذي طُرد من صحيفة «دير شبيغل» بعدما «صاغ» بعض تقاريره بطريقة أدبية: اخترع أسماء أخرى للشخصيات، أضاف بعض التفاصيل من هنا وتكتم على أخرى هناك متناسياً أن عالم الخيال الأدبي لا يتوافق مع النزاهة الصحافية. ولبايار طريقته في المقاربة، إذ يعتبر أنّ الأدب يكثّف الواقع من أجل الوصول إلى شكل من أشكال الحقيقة المختلفة عن الحقيقة التاريخية. وفي النتيجة، من العبث مكافحة القصص أو الاستخبار عنها واستبدالها بالوقائع الصحيحة. ماذا نستفيد نحن كقرّاء حين يعترف ريلوتيوس تحت نير الأوامر الأخلاقية بأنه نادم ويشعر عميقاً بالعار؟ بأنه مريض ويحتاج إلى مساعدة؟ أو حين تعتذر الصحيفة لقرائها الذين «تعرّضوا لاقتباسات احتيالية، تفاصيل شخصية مختلقة أو مشاهد وهمية» بعد نشر هذه القصص المفبركة رغم وجود طاقم متخصّص للتدقيق في صحة الأخبار؟

يستدعي الكتاب أيضاً رواية ميشا ديفونسيكا «البقاء على قيد الحياة مع الذئاب» (1997) حيث تروي كيف تبنّتها الذئاب عندما كانت تعبر أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد حلل الطبيب النفسي بوريس سيرولنيك هذه الحكاية باعتبارها كذبة تاريخية وحقيقة ذاتية، فلربما احتاجت ميشا إلى أن تروي هذه القصة لنفسها لتحافظ على توازنها النفسي، وقد نجح الكتاب في استقطاب مئات الآلاف من القراء الذين تقبّلوا فكرة أن الذئاب قد تدافع عن قيم العائلة وتتبنّى الأطفال المنكوبين، ما اضطر الكاتبة للتبرير لاحقاً: « كنت أسرد دوماً عن نفسي قصة مختلفة أخرى، حقيقة أخرى». ويروق لبايار أن يستعرض هذه الحقائق الأخرى، هذه القصص المغلوطة ويخبرنا أن فرويد مثلاً صاغ بحوثه عن «الطاقة المكبوتة كمحرك أساسي للإبداع»، استناداً إلى حياة ليوناردو دافنشي الخالية من المغامرات. لكن الأبحاث اللاحقة ستكشف أن حياة دافنشي العاطفية كانت مثيرة ـ خاصة بالنسبة إلى القرن الخامس عشرـ وإن ظلت محاطة بالسرية في فلورنسا فلأنه كان يفضّل رفقة الذكور الأصغر سناً.

ولهذه الأمثلة المتراصّة المبنيّة بإحكام مثل «داون تاون» أن توقعنا في شباك نظرية جديدة: من خلال تعقّب «الأخبار الزائفة» ودحض الأساطير بإصرار ومحو الخرافات وتبديد الأوهام، ألسنا نجازف بتشييد عالم كامل صادق وموثوق وموضوعي ومضمون خالٍ من الأكاذيب؟ عالم بلا خيال، بلا فلسفة، بلا أدب؟

ملحق كلمات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى