نقد ومقالات

القصيدة عصية على التفسير، وليست غامضة/ أوكتافيو باث

القصيدة لغة إيقاعية— ليست لغةً ذات إيقاع (نشيدًا) أو مجرد إيقاع لفظي (الصبغة الغالبة للغة برمّتها، حتى النثر).

*

الإيقاع آصرةُ مُخالَفةٍ ومُشابَهة: هذا الصوت ليس ذلك الصوت، وهذا الصوت ليس كمثل ذلك الصوت.

*

الإيقاع هو الاستعارة الأصلية ويكتنف الاستعارات الأخرى جميعها. إنه يقول: التعاقب تكرار، والزمن لا زمن.

*

سواء كانت غنائية، ملحمية، أو درامية؛ فإنّ القصيدة تعاقب وتكرار، تاريخٌ في رزنامة وشَعيرةٌ. والـ “حدَث” قصيدة كذلك (مسرح) وشعيرة (احتفال)، ولكنه يفتقر إلى جوهر واحد: الإيقاع، تقمُّص اللحظة. إننا نكرر أبيات غونغورا المنظومة في أحد عشر مقطعًا، وأبيات ويدوبرو أحادية المقطع في “ألتاثور”، مرات ومرات؛ سوان وهو يصغي إلى سوناتا فانتوي، أغاممنون وهو يضحّي بإفيجينيا، سيغيسموندو وهو يكتشف بأنه يحلم وعيناه مفتوحتان، مرات ومرات. ولكنّ الـ “حدث” لا يحدث إلّا مرة واحدة فحسب.

*

تنحلّ اللحظة في تعاقب لحظات مغفلة. ولكي نصونها، يتوجب أن نحوّلها إلى إيقاع. يكشف الـ “حدث” عن احتمالية أخرى: اللحظة التي لا تتكرر البتّة. ومن حيث التعريف، فإن هذي اللحظة هي اللحظة الأخيرة: الـ “حدث” استعارة للموت.

*

السيرك الروماني “حدث” قبل أن يوجد الحدث— ونفيه. فلو كان المشاركون في “حدث” مخلصين لمبادئهم حقًا، فإنّ الجميع سوف يموت. كما أنّ التمثيل الحقّ للحظة الأخيرة سوف يستدعي فناء الجنس البشري. الحدث الأوحد الذي لا يتكرر: نهاية العالم. وفي مكان ما بين السيرك الروماني والـ “حدث”: مصارعة الثيران. مجازفة، ولكنها أسلوب أيضًا.

*

ليست قصيدة من مقطع واحد أقلّ تعقيدًا من الكوميديا الإلهية أو الفردوس المفقود. تضع الـ “ساتاساهاسريكا سوترا” التعاليمَ الأساسية في مقطوعات شعرية؛ فيما تضعها الـ “إيكساكساري” في مقطع واحد: أ. كلّ اللغة، وكلّ المعنى، والغياب المطلق لمعنى اللغة والعالم في الوقت ذاته، مكثّفًا في صوت حرف العلة الواحد هذا.

*

فهم القصيدة يعني، في المقام الأول، سماعها.

*

تدخل الكلمات عبر آذاننا، وتظهر في عيوننا، ثم تتلاشى في التأمل. تسعى كل قراءة قصيدة إلى استدعاء الصمت.

*

أن نقرأ قصيدة هو أن نسمعها بعيوننا؛ أن نسمعها هو أن نراها بآذاننا.

*

في الولايات المتحدة، أصبحت موضة الشعراء قراءة قصائدهم على رؤوس الأشهاد. إنها سُنّة ملتبسة، لأنّ ملَكة الإصغاء إلى الشعر في الواقع فنّ ضائع؛ زد على ذلك أنّ الشعراء المعاصرين هم كتّاب ولذلك فإنهم “ممثلون رديئون لمشاعرهم”. ولكنّ شعر المستقبل سوف يكون شفاهيًّا. تعاونًا بين آلات ناطقة وجمهور من الشعراء، سوف يكون فنَّ الإصغاء إلى رسائلَ ودمجها. أليس ذلك ما نفعله اليوم في كل وقت نقرأ فيه كتاب قصائد؟

*

حين نقرأ قصيدة أو نصغي إلى واحدة، فإننا لا نشمّ، نتذوّق، أو نلمس الكلمات. كل هذي الأحاسيس صور ذهنية.

*

ولكي نختبر قصيدة، يتوجب علينا أن نفهمها؛ ولكي نفهمها، يتوجب علينا أن نسمعها، أن نراها، وأن نتأملها— أن نحوّلها إلى صدى، وظلّ، وعدَم. الإحاطة تمرين روحيّ.

*

قال دوشامب: وحيث أنّ شيئًا ثلاثي الأبعاد يطرح ظلًّا ثنائيّ البعد، فإنه يتوجب علينا أن نكون قادرين على تخيّل الشيء المجهول، رباعيّ الأبعاد، الذي نحن ظلّه. وأما بالنسبة إليّ، فإنني مفتون بالبحث عن شيء أحادي البعد لا يطرح أيّ ظل البتّة.

*

كل قارئ شاعر آخر؛ وكل قصيدة قصيدة أخرى.

*

على الرغم من أنّ الشعر يتغير دومًا، إلّا أنه لا يتقدم.

*

في الخطاب العادي، تضع العبارةُ الأُسَّ للعبارة الأخرى؛ إنها سلسلة ذات بداية ونهاية. وفي القصيدة، تحتوي العبارةُ الأولى العبارةَ الأخيرة، وتبعث العبارةُ الأخيرة العبارةَ الأولى. الشعر ملاذنا الوحيد ضد الزمن ذي الخط المستقيم— ضد التقدم.

*

لا تكمن أخلاقية الكاتب في المواضيع التي يتناولها أو المقولات التي يطرحها، بل في تصرفه تجاه اللغة.

*

في الشعر، التّكنيك اسم آخر للأخلاقيّة: ليس تلاعبًا بالكلمات بل شغف وتقشّف.

*

يتكلم الشاعر الرديء عن نفسه، باسم الآخرين على نحو دائم أو يكاد. أمّا الشاعر الحق، فإنه يتكلم مع الآخرين حين يكلّم نفسه.

*

ليس الفارق بين العمل “المغلق” والعمل “المفتوح”، فارقًا مطلقًا. ولكي تكون كاملة، تتطلّب القصيدة المحكمة تدخُّل قارئ يفكّ مغالقها. وأمّا القصيدة المفتوحة، فإنها تلمح، في المقابل، إلى بنية دنيا على الأقلّ: نقطة بداية— أو مثلما يعبّر عنها البوذيون— “متّكأ” للتأمل. في الحالة الأولى، يفتح القارئ القصيدة؛ وفي الثانية، يكملها، إنه يغلقها.

*

كأنّ الصفحة البيضاء، أو الصفحة المغطاة بلا شيء سوى علامات الترقيم، قفص بلا أيّ طائر فيه. العمل المفتوح الحق هو لك الذي يغلق الباب: القارئ، آن يفتحه، يترك الطائر— القصيدة— يخرج.

*

فتح القصيدة بحثًا عن هذا واكتشاف ذاك— شيء مختلف دائمًا عمّا توقعّناه.

*

سواء كانت مغلقة أو مفتوحة، تطلب القصيدة موت الشاعر الذي يكتبها ومولد الشاعر الذي يقرؤها.

*

الشعر صراع سرمدي ضد المعنى. على طرفي نقيض: القصيدة تحيط بجميع المعاني، إنها معنى المعاني جميعها؛ أو القصيدة تحرم اللغة من أيّ معنى. في الحقبة المعاصرة، يمثّل مالارمي محاولة كتابة قصيدة النوع الأول؛ فيما تمثل دادا محاولة كتابة النوع الثاني. لغة وراء اللغة أو تدمير اللغة عبر اللغة.

*

أخفقت دادا لإيمانها بأن هزيمة اللغة سوف تكون نصر الشاعر. نادت السريالية بسلطان اللغة العليّ على الشاعر. يتعيّن على الشعراء الشباب إزالة الفارق بين المبدع والقارئ: اكتشاف نقطة الالتقاء بين المتكلّم والمنصت. هذه النقطة هي قلب اللغة.

*

مُكملين أعمال نيتشه، آخذين النفي إلى أقصى ما يستطيع الذهاب إليه. وفي نهاية الطريق، لهوٌ في انتظارنا وعبث: احتفال، كمال الأعمال، حلولها الخاطف وفناؤها.

*

آخذين النفي إلى أقصى ما يستطيع الذهاب إليه. فإنّ التأمل في انتظارنا هناك: امّحاء اللغة، شفافيةٌ.

*

ما تقدمه لنا البوذية هو نهاية الأواصر، محو الديالكتيكيّة— صمت ليس البَدَد بل قرار اللغة.

*

يتوجب على القصيدة أن تستفزّ القارئ: أن تجبره على الانصات— الانصات إلى نفسه.

*

يولد النشاط الشعري من القنوط في مواجهة عجز الكلمة، وينتهي في الاعتراف بالقدرة الكليّة للصمت.

*

لا يكون المرء شاعرًا حتى يكون قد شعر بغواية تدمير اللغة أو خلق واحدة جديدة، حتى يكون قد اختبر فتنة اللّامعنى والفتنة التي ليست أقلّ ترويعًا للمعنى العصيّ على التوصيف.

*

بين الصرخة والصمت، بين المعنى الذي هو كل المعاني وغياب المعنى، تنهض القصيدة. ما الذي يقوله دفق الكلمات الرفيع هذا؟ إنه يقول: لا شيء إلّا وقد قاله الصمت والصراخ من قَبْل. وآنَ يكون ذلك قد قِيْلَ، يكفّ الصخب والصمت. نصرٌ عارِضٌ، تهدّده على الدوام الكلمات التي لا تقول شيئًا، والصمت الذي يقول: لا شيء. 

*

وقد يكون الإيمان بخلود القصيدة هو الإيمان بخلود اللغة. يتوجب علينا أن ننحني مذعنين للدليل: تولد اللغات وتموت؛ وذات يوم سوف يحجم أيّ معنى عن أن يكون ذا معنى. أوليسَ هذا الإحجام عن امتلاك المعنى هو معنى المعنى؟ يتوجب علينا أن ننحني مذعنين للدليل . . . .

*

انتصار الكلمة: القصيدة كالنساء العاريات في التصاوير الألمانية التي ترمز إلى انتصار الموت. نُصبٌ مجيدة حيّة لانحلال الجسد.

*

الشعر والرياضيات قطبا اللغة الأقصيان. لا شيء وراءهما— ملكوت العصيّ على الوصف؛ وبينهما ملكوت الكلام، المتناهي في جسامته.

*

متيّمًا بالصمت، الملاذ الوحيد للشاعر هو أن يتكلّم.

*

الكلمة ضاربة بجذورها في صمت سابق على الكلام— هاجس اللغة. والصمت، بعد الكلمة، مستند إلى لغة ما— إنه صمت مُشفَّر. القصيدة هي المسار بين هذين الصّمتين— بين رغبة الكلام والصمت الذي يقدح الرغبة والكلام.

*

وراء الدهشة والتكرار: ———————

*

ليست الأفكار الحقيقية للقصيدة هي تلك التي تخطر في بال الشاعر قبل كتابة قصيدته، بل تلك التي تظهر في عمله بعد ذلك، سواء عن قصد أو بمحض الصدفة. ينبثق المحتوى من الشكل، وليس العكس بالعكس. ينتج كل شكل فكرته الخاصة، رؤيته الخاصة للعالم. للشكل معنى؛ وليس هذا فقط، ففي ملكوت الفنّ وحده الشكل الذي يمتلك المعنى. ولا يقع معنى القصيدة في ما يريد الشاعر قوله، بل في ما تقوله القصيدة حقًّا. ما نظن بأننا نقوله وما نقوله حقًّا شيئان مختلفان تمامًا.

اختيار وترجمة: تحسين الخطيب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى