سياسة

نصر متجدد للأسد بالنووي الإيراني/ عمر قدور

يكسب بشار الأسد منذ صارت العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران شبه محسومة، يكسب بوصفه جزءاً مما تقول إدارة بايدن أنها لا تريد ربطه بالاتفاق النووي! إنه في واحد من الملحقات الخفية للتفاهم الجديد، ومن المحتمل جداً أن تكون الانعطافة التركية الأخيرة نحوه مبنية على معلومات تتجاوز ما تتداوله الصحافة عن دنو موعد الإعلان عن إحياء الاتفاق النووي. ربما تصرفت أنقرة على أن الاتفاق صار قائماً، وربما أُبلغت بذلك من موسكو أو طهران.

يوم الأربعاء الفائت شدد نيد برايس، المتحدث باسم وزراة الخارجية الأمريكية على أنه “لا يوجد تحدّ أمام الولايات المتحدة والشركاء أكبر من امتلاك إيران سلاحاً نووياً”. في تصريحه هذا لشبكة سي إن إن، كان برايس يرد على انتقادات معسكر الحزب الجمهوري الذي يرى أن إحياء الاتفاق النووي سيزيد من قوة وقدرة إيران ووكلائها في المنطقة، بالاستفادة من الأموال التي ستحصل عليها، وأيضاً من اللين والمرونة اللذين أبدتهما إدارة بايدن كرمى لإحياء الاتفاق مع طهران.

تتلخص وجهة نظر إدارة بايدن بأن الأولوية المطلقة هي لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، تليها في مرتبة غير ملحة تهديدات إيران ووكلائها في المنطقة. بينما يرى الجمهوريون أن الأمرين غير منفصلين، فطهران تريد الاتفاق لتحصل من بين مكاسبه على الأموال اللازمة لمشروعها في المنطقة، مع التنويه بأن التهديدات الإيرانية وصلت إلى الولايات المتحدة نفسها، باستهداف مسؤولين سابقين تتهمهم طهران بالمسؤولية عن اغتيال قاسم سليماني.

بموجب ما تقوله إدارة بايدن عن مفاوضات النووي، تخلت إيران عن بعض من شروطها، وفي مقدمها مطلب رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية. وهو مطلب، عدا عن كونه خارج إطار الاتفاق النووي أصلاً، يقتصر على الجانب المعنوي، والتراجع عنه لا يُعدّ تنازلاً خاصة عندما يقترن بعدم وضع نشاطاته في المنطقة على طاولة المفاوضات الحقيقية. المهم فعلاً أن إيران ستتذرع لاحقاً بنصوص الاتفاق الذي لا يتطرق إلى ميليشياتها المنتشرة في أربعة بلدان عربية، ونخصص منها سوريا لأهميتها كصلة وصل بين العراق والضاحية الجنوبية وصولاً إلى أقصى جنوب لبنان.

لا تخفي طهران أن الإبقاء على سلطة الأسد مسألة شديدة الأهمية لها، مثلما تكاد واشنطن ألا تخفي أن القضية السورية يالنسبة لها هي ملف بين ملفات أخرى، ويصلح أن نقيس هذا التعبير على قصف إسرائيل المواقع الإيرانية، إذ تسمّيه معركة بين الحروب. هكذا، لا وجود لسوريا في السياسة الأمريكية إلا من زاوية كونها ملفاً يرتبط بالملفات الأخرى العالقة مع موسكو، وتارة أخرى بالعالقة مع طهران، وما بينهما العلاقة غير المستقرة مع أنقرة.

بقدر ما سوريا غير مهمة بحد ذاتها لواشنطن فإن إدارة بايدن قادرة على تقديم التنازل الأكبر فيها، التنازل الذي قد يصل إلى انسحاب وشيك للقوات الأمريكية، ما يعني تسليم المناطق التي تسيطر عليها الآن قوات قسد إلى الأسد. الأقرب إلى الواقع أن الميليشيات الإيرانية هي المؤهلة لوراثة قسد فعلياً، وهو خيار لا يزعج الروس المشغولين بحربهم الأوكرانية، ولا يزعج الجار التركي، مع ملاحظة انعدام الاشتباك العسكري بين طهران وأنقرة بخلاف التسخين المتواتر بين الثانية وموسكو.

كان ترامب قد قرر لأكثر من مرة الانسحاب من سوريا، ثم تراجع تحت ضغط من حزبه، ولم نشهد حينها انتقادات من الحزب الديموقراطي لنوايا ترامب. أي أن انسحاباً أمريكياً من سوريا في الشهور المقبلة، ربما بعد انتخابات الكونغرس، لن تكون له عواقب داخلية إطلاقاً، وسيحظى بتأييد أو صمت الديموقراطيين، مع صمت الجمهوريين الموالين لترامب أو لنهجه.

هذا السيناريو في صلب ما تطالب به طهران لجهة الحصول من واشنطن على شيء ما لا يستطيع الرئيس المقبل التراجع عنه، فالانسحاب الأمريكي من سوريا لن تعقبه عودة ما لم يطرأ حدث دراماتيكي يمس مباشرةً الأمن القومي. إذا كان من أحد ينتظر تبريراً، فذريعة الانسحاب موجودة، وهي زوال خطر داعش، مثلما كانت ذريعة البقاء مرمية على عدم انتهاء التهديد بعودة التنظيم.

من الملاحظ أن واشنطن اختارت التصعيد واستهدفت ميليشيات إيرانية في سوريا عشية وضع اللمسات الأخيرة على التفاهم النووي كما يُعتقد، وهذا لا ينفي “بل يعزز” فكرة حضور سوريا ضمن المفاوضات، فقد يكون التصعيد رسالة إلى طهران مفادها أن تشددها في جانب ما سيقابله تشدد أمريكي في سوريا. ربما يتعلق الاستهداف أيضاً بانتقادات الجمهوريين المتزايدة على خلفية انكشاف المخططات الإيرانية التي تهدف إلى اغتيال مسؤولين في إدارة ترامب، لكن الملاحظ على أية حال أن العملية الأمريكية كانت محسوبة بدقة كرسالة سياسية لا عسكرية.

الرسالة الأهم كانت في اعتذار بايدن عن استقبال مكالمة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتالياً في غياب وزير دفاعه عندما سيكون نظيره الإسرائيلي في زيارة لواشنطن. لا تريد إدارة بايدن التحدث على مستوى عالٍ إلى الإسرائيليين، ومن المرجح لأنها “بنتيجة مفاوضات النووي” لا تستطيع طمأنتهم حول تفاصيل العودة إلى الاتفاق، ولا تستطيع طمأنتهم حول النفوذ الإيراني في سوريا، والذي لن يتعاظم فقط بسبب حصول طهران على العائدات المالية، بل أغلب الظن أن تعاظمه سيكون مديناً لانسحاب أمريكي.

سلاح وحيد تلوّح به الإدارة الأمريكية ضد الأسد، طالما بقي على رفضه الحل السياسي، وهو سلاح العقوبات. بمعنى أن واشنطن لم تقل لمرة واحدة أن وجودها في سوريا مرتبط بالضغط على الأسد ليقبل بالتسوية بين تصوراتها وتصوراته؛ طبعاً لا نتحدث هنا عن مطالب السوريين. بهذا السلاح، الذي لا يكترث به الأسد أسوة بنظراء له فعلوا مثله، تباهي واشنطن وكأنها صاحبة موقف “مبدئي”، والطريف أنها تذكّر بعقوباتها وهي تنتقد حلفاءها الذاهبين للتطبيع مع الأسد، وآخرهم الحليف التركي إذا أكمل مسيرته.

في كل الأحوال، مع انفتاح الساحة الأوكرانية، فقدت الساحة السورية قيمتها السابقة بالنسبة للمنخرطين في الصراع هناك، وهذا يصحّ على أنقرة وموسكو وواشنطن، لا على طهران وتل أبيب. قد تبقى العقوبات الغربية وعلى رأسها الأمريكية لسنوات مقبلة، كتذكار من تلك الساحة ليس إلا، ولا يُستبعد لاحقاً أن تشكو إدارة جديدة، أو حتى هذه الإدارة، من عدم امتلاكها أوراقاً للضغط على الأسد بعد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا!

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى