سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

في التفكيك والنقد المزدوج للفكر السوري – العربي/ حسام الدين درويش

02 ابريل 2025

إذا كان جاك دريدا هو ناحت كلمة التفكيك والأب المؤسس لمفهوم التفكيك والفلسفة التفكيكية فإن مصطلح “النقد المزدوج ارتبط بعبد الكبير الخطابي الذي له كتابٌ يحمل هذا العنوان ويمارس فيه هذا النقد الذي سمَّاه ﺑ”النقد المزدوج”، على الرغم من أن دريدا كان يصر عموماً على أن التفكيك ليس نقداً. وقد شرح الخطيبي معنى ذلك النقد (التفكيكي) المزدوج بأنه “ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الأيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة”. وفي كتابه المكتوب والمنشور باللغة الفرنسية “Maghreb pluriel المغرب في صيغة الجمع”، ربط الخطيبي التفكيك بعملية إنهاء الاستعمار، وأقر، فيه، بتبنيه أو استعارته لفكرة التفكيك من دريدا تحديداً أو خصوصاً، بوصفه فكراً نقديّاً وإيجابيّاً يُفصّل، تدريجياً، فكرة الاختلاف بين الفلسفة والعلم والكتابة.

إذا كان الحديث عن التفكيك بوصفه “نقداً (مزدوجاً)” يبدو إشكاليّاً ومختلفاً عليه وموضعَ جدالٍ واختلافٍ شديدين، فإن الربط بين التفكيك وما هو ثنائي يبدو معقولاً ومناسباً جدّاً للمقاربة التفكيكية. فالتفكيك، بالمعنى الدريدي، يتناول الثنائيات المثنوية تحديداً، أي الثنائيات المفاهيمية التي يوجد تناقضٌ وتراتبٌ معياريٌّ بين الطرفين المكونين لها. وبعد تحديد الثنائية أو المثنوية وتوضيح التناقض والتراتب المذكورين اللذين تتضمنهما، تتضمن المقاربة التفكيكية عملية قلب أو عكس لهذه التراتبية، بما يفضي إلى نفي التراتب المذكور أو تعليقه، وإعادة النظر في العلاقات بين طرفي الثنائية، وإظهار تداخلهما واعتماد كلٍّ منهما على الآخر.

وعلى الرغم من أن مفهوم التفكيك يبدو لكثيرين، مثل نصوص دريدا، معقداً إلى درجة الزعم بأنه، مستعصٍ على الفهم، يمكن المحاججة بأهمية حضور المقاربة التفكيكية ليس في التفكير النخبوي أو الأكاديمي أو المختص فحسب، بل في فكر وحياة أو في الفكر الحياتي لكل إنسانٍ عموماً، أيضاً. فإذا كان الفكر والتفكير الإنساني قائمًا، أو ينبغي أن يقوم، على التعددية والجدلية – كما أشار بديع الكسم في رده على النقد النيتشوي للجدل – فإن موات الفكر أو موته، يحصل بقدر ما تسيطر الأحادية عليه. والمثنوية ثنائية زائفة، وهي في حقيقتها وصميمها رؤية أحادية. ففي المثنوية لا وجود إيجابياً حقيقياً إلا لطرفٍ واحدٍ ولا وجود سلبياً إلا لطرفٍ واحدٍ. فالمثنوية، مثل المانوية، يمكن ردها إلى أحاديتين متنافرتين: الخير والشر، الله والشيطان، الطبيعة والثقافة، الإيمان والإلحاد، الحقيقة والخطأ… إلخ.

من أهم الثنائيات التي نعتقد بضرورة تفكيكها تأتي ثنائية “العلماني/ الديني (الإسلامي)”، عموماً، و”الدولة العلمانية/ الدولة الدينية”، خصوصاً، إضافة إلى ثنائية “التنوير (الحداثي)/ الهداية (الدينية)”. وعلى النقيض من الإقصاء المتبادل بين طرفي أو قطبي هذه الثنائية، وفقاً لتصورات الإسلامويين والعلمانويين لها، وبعيداً عن الجدل السلبي، على الطريقة الأدورنية والدريدية (نسبة إلى أدورنو ودريدا)، نعتقد بوجوب السعي إلى إقامة جدلٍ/ تركيبٍ إيجابيٍّ بين طرفي مثل هذه الثنائيات، وبالإمكانية الفعلية أو المبدئية لإقامة هذا الجدل أو التركيب. وسنقتصر، فيما يلي، على بعض إشارات تفكيك/ تفكك ثنائية “العلماني والديني” أو ثنائية “الدولة الدينية الدولة العلمانية”، من خلال مفهوم “المدني/ الدولة المدنية”.

لوهلةٍ أو أكثر، يحيل مفهوم العلماني، بوصفه صفةً، على غير الديني، أي على ما هو مغاير للديني، أو على اللا-ديني، أي على ما هو منافٍ أو مناقضٌ للديني؛ كما يحيل مفهوم الديني، في هذا السياق، على ما هو غير علمانيٍّ أو لا-علماني. وهكذا يُفهم كل مفهوم من خلال مغايرته للآخر أو منافاته له. والمسألة ليست مجرد تناقضٍ وصفيٍّ، بل تتضمن دائماً تراتبيةً معياريةً، تشيطن طرفاً وتُملئك الطرف الآخر. ويبدو ذلك واضحاً عند كل العلمانويين والإسلامويين، على حدٍّ سواءٍ، مع اختلافهم في تحديد الطرف الشيطاني أو المشيطَن، والطرف الملائكي أو المملأك. وهكذا يوجد، لدينا، تراتبيتان متناقضتان، وصفيّاً ومعياريّاً.

ويمكن لتفكيك/ تفكك التراتبية الإسلاموية المعيارية، للتقابل بين الديني والعلماني، أن يحصل من خلال إظهار/ ظهور المنجزات الكثيرة والكبيرة لغير المتدينين، و/ أو للعلوم غير الدينية، ومن خلال ظهور مجالات غير دينيةٍ. فغير الديني أو اللا-ديني ليس مجرد سمةٍ لكل ما هو مرذولٌ، كما يحاج الأفغاني؛ فمنجزات العلوم الحديثة (غير الدينية) سمحت بالكثير من التطورات الإيجابية، وبتوفير الماء والغذاء والدواء والعلاج والمعرفة للمتدينين وغير المتدينين، على حدٍّ سواءٍ. في المقابل، استند متدينون كثر إلى الدين، في تأييدهم لهذا النظام الاستبدادي أو ذاك. فحتى النازية وجدت تأييداً من الكنيسة في ألمانيا، وحتى داعش وجدت تأييداً من متدينين مسلمين، وسنداً من نصوصٍ دينيةٍ. وسواء حكم رجال الدين مباشرةً، كما هي الحال في إيران ولاية الفقيه مثلاً، أم استُند إلى نصوص الدين وإلى رؤيةٍ دينيةٍ ما، لتسويغ نظامٍ سياسيٍّ ما، كما هي الحال في السعودية مثلاً، فإن الدين/التدين يمكن أن يكون حليف الاستبداد.

ويمكن لتفكيك/تفكك التراتبية العلمانوية المعيارية، للتقابل بين الديني والعلماني، أن يحصل من خلال إظهار/ ظهور الجذور أو الأسس الدينية للعلمانية، والجرائم التي ارتكبت باسمها أو نتيجةً لها، والسلبيات الكثيرة والكبيرة، التي ارتبطت بها، خصوصاً عندما تحولت إلى ما يشبه العقيدة أو الدين ضد الدين والمتدينين. كما يمكن التشديد على أن متدينين كثراً استندوا، جزئيّاً على الأقل، إلى الدين في مطالبتهم بالديمقراطية، والإصلاح السياسي والاقتصادي، وتحقيق العدالة، ورفع الظلم الذي يحصل، في إطار حكم أنظمةٍ سياسيةٍ استبداديةٍ لا-دينيةٍ/علمانيةٍ. وقد دفع كثيرون منهم ثمناً كبيراً بسبب مطالباتهم المحقة والمشروعة. فلم يكتفِ الدين/ التدين بأن يكون “أفيوناً للشعوب”، بل كان أيضاً وخصوصاً “صرخة المضطهدين والمقموعين والمظلومين”.

يمكن، وينبغي، لتفكيك التقابل المعياري، بين العلماني والديني، أن يترافق مع تفكيكٍ للتمييز الوصفي الأيديولوجي بينهما. فليس ثمة تخارجٌ ضروريٌّ بين الديني والعلماني، إذ يمكن للديني أن يتضمن ما هو علمانيٌّ، والعكس صحيحٌ. ومن هنا جاءت المعقولية الجزئية والنسبية لمصطلح “العلمانية الدينية” أو “الدين العلماني”. فليس نادراً الحديث عن أن العلمانية كانت ممكنةً في “الغرب المسيحي”، لأن المسيحية، ذاتها، تتضمن فصلاً بين ما هو لقيصر وما هو لله. في المقابل، ليس نادراً الحديث عن أن الإسلام يتضمن، مسبقاً، ما هو غير دينيٍّ، كالديمقراطية والعلمانية. وقد تجلى، على سبيل المثال، في حديث حسن حنفي، وغيره، عن “الإسلام العلماني” و”الإسلام الديمقراطي”.

يبدو حضور التفكيك والنقد المزدوج ممكناً وضروريّاً، بشكلٍ خاصٍّ، عند التعامل مع الفكر الأيديولوجي، المثنوي بماهيته أو طبيعته. وقد سبق لي أن انتقدت هيمنة ذلك الفكر، في الحالة السورية، في كتابي “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر”، وأرى إمكانية المحاججة بأن الفكر السوري لا يبدو استثناءً عند مقارنته بالفكر العربي عموماً. ففي كثير من السياقات والنتاجات، ما زال ذلك الفكر مستنزفاً في التعبير عما يرغب فيه أو عنه، بطريقة ٍأو درجةٍ تؤثر سلبًا في مضامينه المعرفية التحليلية. ويبدو ذلك واضحًا في السياق السوري الراهن، حيث تسود الاستقطابات الأيديولوجية وبطريقةٍ تفقد الفكر توازنه وتجعله يسقط مرنحًا ومغشيًّا عليه في كثيرٍ من الأحيان. ولا يكون لمثل هذا الفكر صوت معرفيٍّ، بل يكون أقرب إلى الضجة التي قد تشحذ الهمم أو تحبطها، لكنها لا تكون قادرة على إغنائها معرفيّاً أو تأسيسها فكريّاً. وإذا كانت المعرفة من دون أيديولوجيا عمياء والأيديولوجيا من دون معرفةٍ جوفاء – كما حاججت في كتابي المذكور آنفًا – فإن الفكر السوري الراهن، أقرب، في حالاتٍ كثيرةٍ، إلى أن يكون أجوفَ من أن يكون أعمىً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى