الناس

“هذا العمل أو عملٌ أرذل منهُ، أو الجوع. كان هذا الأفضل بين تلك الخيارات”/ هيام العبدلله

من حكايات تعاطي وترويج المخدرات بين الطلّاب في دمشق

كيف تحوّل بعض شباب العاصمة إلى مدمني مخدرات؟ وما هي أهمّ أسباب هذا التحوّل؟ من يقف خلف إنتاج هذه المواد وترويجها؟ ما هي هذه المواد المخدّرة وكم تبلغ قيمتها السوقية؟ وما أثرها على ثقافة الشباب ونفوسهم وتعليمهم؟ يحاول هذا التحقيق الإجابة عن كل هذه الأسئلة.

“أعتقد بأنّ الحشيش كان جزءً لا يتجزّأ من كلّ ما حدث في البلاد، منذ اندلاع الثورة السوريّة وما تلاها من أحداث؛ فجأة أصبح الجميع يتحدّث عن الحشيش وعن فوائده وعن قدراته العجيبة وعن مساعدته في الدراسة وما إلى ذلك، والعجيب أنّ بعضًا من زملائي كانوا يبيعون الحشيش في الجامعة وكنت أتساءل كيف يسمح لهم بإدخالها! أنا كنت واحدًا من أولئك الذين تعلّقوا بهذه المادّة ولم أستطيع تركها حتى الآن”.  يقول محمد، طالب مستنفذ في كليّة الحقوق في جامعة دمشق، وفي قوله ذاك يختصر مشهدًا يعيشه المجتمع الطلّابي في دمشق منذ عشر سنوات.

لم تعد الجامعات في العاصمة السوريّة دمشق مجرّد أماكن لتلقّي العلوم والمعارف وتقديم البحوث وتبادل الأفكار والآراء بين الطلبة، بل صارت بؤرًٍا لانتشار المواد المخدّرة وغيرها من المواد المذهبة للعقول والمسبّبة للإدمان، حتّى أنّ بعض الطلبة يصفون الحرم الجامعي بأنّه “أكبر سوق للاتجار بالمخدّرات”.

فخّ على هيئة مَخْرَج: كيفَ أقبل بعض الطلبة على المخدّرات للمرّة الأولى؟

أوقفت ريم (اسم مستعار، 24 عامًا، طالبة هندسة اتصالات في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في دمشق)، تسجيلها في الجامعة بعدَ شهرين من وفاة والدها بقذيفة هاون في منطقة جرمانا، ريف دمشق في نهاية العام 2015؛ لتبدأ الفتاة، والتي كانت تبلغ من العمر آنذاك 19 عامًا، حياةً مختلفةً برفقة عددٍ من زملائها في الجامعة. وعن تلك البداية تحكي ريم لحكاية ما انحكت: “كنتُ محبطةً إلى حدّ بعيد نتيجة وفاة والدي بهذه الطريقة المجانيّة. انعزلت في البيت لعدّة شهورٍ لم أرَ خلالها أيّ إنسان إلى أن زارتني زميلتي مرام وأصرّت عليّ للذهاب معها إلى جلسة أصدقاء في منزل أحد زملائنا في الجامعة”.

كانت المرّة الأولى التي تدخّن فيها ريم مادّة الحشيشة المخدّرة رفقة زملائها في تلك الجلسة بعد شهور من عزلتها الاختياريّة في المنزل.

“في بادئ الأمر شعرت بالإعياء قليلًا، ثمّ استعدتُ أنفاسي، ثمّ بدأت بالضحك لأوّل مرّة منذ وفاة والدي. لقد نسيت الأمر تمامًا لساعات. كنتُ بأمسّ الحاجة إلى شيء يخرجني من الحالة التي كنتُ أعيشها. أعتقد أنّ أساس تعلّقي بهذه المادّة هي حالتي النفسيّة التي كنتُ فيها عند تعاطيها للمرّة الأولى في تلك الجلسة.” تقول ريم.

كانت المرّة الأولى ولكنها لم تكن الأخيرة. أخذت ريم تتردّد إلى جلسات مُشابهة بشكل متواتر أسبوعيًا، تتعاطى وزملائها مختلف أنواع المخدّرات التي كانت تتوفَّر لهم حتّى باتت تلك الجلسات أشبه بطقسٍ يواظبون عليه ويعتادونه.

 لاحظ محمد (اسم مستعار، 29 عامًا، طالب في كلّية الحقوق)، أنّ انتشار هذه المواد لم يكن بمحض الصدفة، مؤكّدًا أنّ المواد انتشرت بين ليلة وضحاها بعدَ اندلاع الثورة، ومع مرور الأيّام بات تعاطي الحشيش الشغل الشاغل له ولأصدقائه.

يقول محمد لحكاية ما انحكت: “كنا نجتمع يوميًا بعدَ الجامعة عند أحد الشباب لندخّن ما مقداره عشرة غرامات تقريبًا، وهو مقدار كبير جدًّا، ولكن لأنّ المادّة كانت متوفّرة بكثرة وبسعر رخيص، فقد كنّا قادرين على تحمّل تكاليفها، لقد كان طقسًا يوميًّا أشبه بالصلاة لا يمكن تفويتهُ أو تجاهله أو الغياب عنه ولو ليومٍ واحد. فلم نعد نصعد إلى قاسيون حيث كنا نقضي معظم أوقاتنا أو في المقاهي نلعب بأوراق اللعب أو الشطرنج أو في محال البلايستيشن PlayStation وغيرها من الأمور التي كنّا نقوم بها قبل اندلاع الثورة”.

تعكس كميّة المضبوطات، التي تنشرها صفحة وزارة داخليّة حكومة النظام على موقع فيسبوك، بصورة واضحة حجم تفشّي ظاهرة المخدّرات التي تشهدهُا البلاد؛ حيث تمّ ضبط ما مجموعهُ 102 كغ من الحشيش المخدّر، و18300 حبّة كابتاغون، و4000 حبّة دوائية مخدّرة في محافظتين (دمشق وريفها) من أصل أربعة عشرَة محافظة، وفي أقلّ من شهر واحد (كانون الثاني 2021).

ولعلّ إلقاء القبض على المروّج عبد الرزّاق-ع في منطقة مساكن برزة في العاصمة دمشق، في الحادي عشر من كانون الثاني الفائت، أبرز تلك العمليات؛ حيث دُهِمَ المروِّج في صالون للحلاقة وكان بحوزتهِ 47 كغ من الحشيش المخدّر مخبّأة في الصالون، حسبما أعلنت وزارة الداخليّة.

لا يقتصر هذا الانتشار للمواد المخدّرة على الحشيش المخدّر، بل يتعداها إلى المواد المخدرة المُصنعة، وهي مركبات كيميائيّة شديدة الفعاليّة على مستوى الإدمان.

تحكي ولاء (اسم مستعار، 23 عامًا، طالبة في كلّية الاقتصاد في جامعة دمشق) لحكاية ما انحكت عن بداية تعاطيها لحَبوب الترامادول، وهو مركب دوائي، في شقّتها المشتركة مع زميلات لها في الجامعة في منطقة المزّة، “بدأت بتناول الترامادول هنا مع الفتيات قبل عامين عن طريق الصدفة ولم تكن هناك أيّة دوافع، ولكن فيما بعد بدأ الدواء بمنحي بعض النشاط أثناء المحاضرات أو في العمل بعد الجامعة. بدأت بربع حبّة ثمّ زدّتها إلى النصف بعد شهور، أمّا الآن فأنا أتناول من حبّة ونصف إلى اثنتين يوميًا”.

تقول ولاء إنّ هذه البرشامة “سحريّة” إذ “تستطيع حبّة واحدة أن توهمكِ بأشياء عجيبة؛ كأن ترتفعين لوهلة عن سطح الأرض أو تنتابك تلك الرعشة التي يخلّفها الخدر الذي تحسّينه أعلى الجمجمة، ثمّ تشعركِ بأنّكِ سلطانة في هذا العالم: شيء من التميُّز عن بقية الأشخاص من جهة، ونوعًا من النشوة العارمة والاسترخاء التام قبل النوم من جهة أخرى.”

آراء متباينة ونتيجة واحدة: كيفَ يفسّر طُلاب دمشق هذه الظاهرة؟ 

“أشياء كثيرة وأوّلها الضغوط التي تعيشها الفتيات بعدَ تحرّرهنَ من قبضة العائلة وحيواتهنَ السابقة في مجتمع مغلقٍ وكثير النقّ على الفتيات والتشكيك فيهن، فأنا شعرتُ، عندما غادرت محافظتي نحو دمشق بغرض الدراسة، أنّني تحرّرت من قيود كثيرة كانت تطبق على أنفاسي”. تقول ولاء لحكاية ما انحكت مبرّرةً تعاطيها وشريكاتها في السكن لبعض أنواع المخدّرات.

أمّا محمد فيرى أنّ هذا التحوّل الذي طرأ على حياة الشباب ولا سيّما الجامعي منه إنّما هو نتيجة طبيعية وتسلسل منطقي لحياة شبابٍ يعيش في ظلّ سلطة قمعيّة وغير شرعيّة “تلاحقنا وتعتقلنا بدلًا من توفير فرص العمل والتعليم الجيّدة والمحترمة لنا” ومن الطبيعي أن يتحوّل هذا الشباب إلى الأعمال الحرّة والمخدّرات والحركات الصبيانيّة تاركين التعليم الذي ينخر مؤسّساته “الفساد والتهريج”.

كما ولم تعد هذه المواد المخدّرة، المنتشرة بوفرة بأيدي الشباب في الجامعة وخارجها، مجرّد مواد يمكن تعاطيها في أوقات الراحة والعُطَل أو المناسبات والاحتفالات، لأنّها تحوّلت، كما يرى محمد، إلى “ثقافة قائمة بذاتها يلجأ إليها كلّ شاب وصبية فقدوا الأمل في حياةٍ كانوا يتمنّونها وأحلام يحاولون تحقيقها، فصار التعاطي بديلًا لمشروع الزواج وبناء الأسرة وبديلًا للتخرّج من الجامعة والعمل في وظيفة ثابتة تحقّق الاستقرار لموظّفها وبديلًا لحياة لا يرى الشباب فيها بادرة خير أو بارقة أمل”.

وبالنسبة إلى ريم التي تداوم على تعاطي مادّة الحشيش وحبوب بيوغابلين المهدّئة للأعصاب برفقة عدد من أصدقائها فتعزو تعاطيها إلى حادثة وفاة والدها والضيق الاقتصادي الذي تمرّ به الأسرة.

تعاني اليوم ريم من عدد من الآثار الجانبيّة لهذه المواد، فتصفها بالقول: “أشعر كما لو أنّي مصابة بوهنٍ منذ أعوام؛ فأمضي ساعات بأكملها أفكّر في الطريقة التي يجب أن أبدأ بها مهمّة منزليّة بسيطة، أو أقلّب صفحات الكتب في جلسة دراسية دون أن أشرع في حفظ كلمة واحدة. لا مزاج عندي لممارسة أيّ نشاط رسمي كالزيارات العائليّة أو الاحتفالات التقليديّة من قبيل الخطوبات والأعراس، وعمومًا لا مزاج عندي لمعظم النشاطات التي يقوم بها أفراد المجتمع عادةً”.

تضيف ريم في حديثها لحكاية ما انحكت: “أنام كثيرًا وأنسى كثيرًا، وأفكّر كثيرًا ولكن بصورة سوداويّة. ما زلتُ مكتئبة منذ موت والدي غير أنّ شكل هذا الاكتئاب هو ما تغيّر؛ إذ تحوّل من مجرّد نوبات تروح وتجيء إلى حالة عامّة ترافقني في معظم ساعات يقظتي”.

من التعاطي إلى الترويج

بعدَ وفاة الأب والمعيل الوحيد للأسرة وَجدَتْ ريم نفسها في أسرة تواجه أزمة معيشية حقيقية، “لقد كان الوضع مزريًا في المنزل؛ لم تكن والدتي تقوى على توفير مصاريفنا أنا وشقيقي الصغيرين. عَملتْ أمّي في معمل لإنتاج المواد المنظّفة ولكنّ المرتَّب لم يكن يتجاوز الأربعين ألف ليرة سوريّة في الشهر (حوالي 80 دولار أمريكي آنذاك- 2016)، أي أقلّ من إيجار المنزل بعشرة آلاف ليرة سوريّة” تقول ريم لحكاية ما انحكت.

“لقد صَعُبتْ حالتنا المعيشية إلى حدّ لم يعد بالإمكان السكوت عنهُ. عَملْتُ أوّل الأمر في محلّ لبيع الإكسسوار والمكياج لمساعدة والدتي في المصروف وكنتُ أتقاضى خمسين ألفًا (حوالي 100 دولار أمريكي في العام 2016) في الشهر؛ ومع ذلك لم يكن المدخول يغطّي احتياجاتنا الأساسيّة. حينها اقترح عليّ أحد أصدقائي، الذين أشاركهم جلسات التدخين، العمل معهم في بيع المواد المخدّرة مقابل نسبة مئوية؛ فوافقتُ مضطرّة لصعوبة الظرف ولوجود فئة واسعة من معارفي ممّن يتعاطون هذه المادّة بشكل يومي، ما يعني ربحًا مؤكّدًا”.

تمكّنت ريم، حتّى الآن على الأقلّ، من العودة إلى جامعتها والحفاظ على عملها (تجارة الحشيش المخدّر) دون أن تتعرّض لمساءلة قانونيّة أو استدعاء لفرع من فروع مكافحة المخدّرات على الرغم من أنّ أحد أصدقائها تمّ القبض عليه في شهر شباط من العام 2018 وكان بحوزته 100 غرام من الحشيش المخدّر.

تحكي ريم عن كيفيّة ترويج المادّة وبيعها في الحرم الجامعي، وهو الأمر الذي يُعتبر بمثابة خطر كبير خاصّة وأنّ الجامعة فضاءً عام ومؤسّسة حكوميّة تتسع فيها احتمالات الوشاية، “يتعامل أحد زملائنا مع حرس الجامعة الذين يتقاضون بضعة آلاف للتغاضي عن إدخالنا لهذه المواد، وأحيانًا أخرى لا يتطلّب الأمر تنسيقًا مع الحرس لأنّه لا يتمّ تفتيش الطلبة عندَ البوابات كما توجد بعض الأمكنة الخاليّة من الكاميرات والتي يمكننا تبادل البضائع فيها”.

تتخيّل ريم بين الفينة والأخرى مشهدًا تُقادُ فيه إلى السجنِ بتهمة حيازة المواد المخدّرة؛ الحدث الذي “لا محالة من أنّه سيودي بحياة والدتي التي تعاني من أمراض قلبيّة”، إلا أنّ هذا العمل، كما تقول ريم لحكاية ما انحكت: “يوفّر للأسرة حاجاتها ويؤمّن لي ولشقيقي مصاريف التعليم ولوالدتي دواءها، وليس هناك بديل منطقيّ له، فالخمسين ألف التي كنتُ أتقاضاها في عملي السابق لم تكن تكفي مصاريف خمسة أيّام”.

تصمت ريم قليلًا ثم تضيف “”هذا العمل أو عملٌ أرذل منهُ، أو الجوع. كان هذا الأفضل بين تلك الخيارات”.

يذهبُ مضر (32 عامًا، عنصر سابق في ميلشيات الدفاع الوطني ومُشتغل في صيانة الأجهزة الإلكترونيّة حاليًا)، بتحليله إلى أبعد من ذلك، فيقول لحكاية ما انحكت” لقد ظهرت الحشيشة وحبوب الكابتاغون والترامادول أوَّل ما ظهرت بين صفوف الدفاع الوطني في اللاذقية ودمشق، وعلى الطرف الآخر بين أيدي “العصابات المسلّحة”، وكانت تروّج بطريقة غير مباشرة مع بداية “الأزمة”، إلا أنّها بلغت الذروة مع بدء الاشتباكات حيث كانت توزّع من قبل بعض العناصر في الجيش والدفاع الوطني واللجان الشعبيّة وحزب الله على المناوبين ليلًا لإبقائهم يقظين، وعلى المُشتبكين وفرق المداهمة لتقلّل من خوفهم وتبقيهم نشطين للقيام بالمهمّات”.

أمّا عن تسرّب المادّة لصفوف الطلبة الجامعيين فيرى مضر أنّ ذلك حصل نتيجة بسبب “احتياجات مادّية لدى بعض العناصر الذين لم تعد رواتبها تساوي شيئًا، وبسبب شراهة بعض الضبّاط الأمنيين وبعض رجال العصابات الذين لم تعد الحرب تدرّ عليهم الأموال كما كانت تفعل حين كانت في أوجها”.

بدورها تذهب العديد من التقارير في وسائل الإعلام العالميّة إلى ما أشار إليه مضر من تورّط بعض رموز نظام الأسد وضبّاطهِ وحلفائه بترويج المواد المخدّرة في سوريا وخارجها، فتجارة المخدّرات لم تعد مقتصرة على الداخل السوري، حيث ضبطت العديد من الدول، ومن بينها مصر والسعوديّة وإيطاليا حمولات ضخمة من المواد المخدّرة القادمة من سوريا.

ففي العام المنصرم، أوقفت الشرطة الإيطالية ثلاث حاويات اشتملت على 14 طنّاً من مادّة الأمفيتامين في مرفأ ساليرنو جنوب مدينة نابولي مصدرها سوريا.

اعتبرت الشحنة من أضخم شحنات المخدّرات التي تمّ ضبطها تاريخيًا، حيث قُدِّرَتْ قيمتها السوقية بنحو مليار يورو وكان المُراد بها تغطية حاجة السوق الأوروبيّة للكابتاغون في ظلّ تقاعس الإنتاج الأوروبي من المادّة إبّان الإغلاق الذي أعقب تفشّي فايروس كورونا.

وبالرغم من أنّ صحيفة الغارديان نَقلت عن الكولونيل دومينيكو نابوليتانو، قائد الحرس المالي في نابولي، قوله إنّ تنظيم الدولة الإسلامية هو مصدر هذه الأقراص وذلك لتمويل الجهاد في الشرق الأوسط، إلا أنّ صحيفة دير شبيغل الألمانيّة نشرت تحقيقًا بعد يومين أكّدت من خلاله أنّ مصدر الشحنة هو سامر كمال الأسد، عمّ رئيس النظام السوري بشار الأسد، والذي يدير مصنعًا لحبوب الكبتاغون في مدينة اللاذقية، حسب الصحيفة الألمانيّة.

وبعد أيّام نشرت صحيفة صنداي تايمز البريطانيّة تحقيقًا تؤكّد فيه على تورّط رجال النظام السوري بتهريب شحنة الأمفيتامين الإيطاليّة من خلال إثباتها أنّ لفافات الورق التي خُبّئَت فيها الأقراص مُنتجةً في مصنع حلبي يملكه رجل أعمال مقرّب من النظام السوري.

الغيتوات، أو مصير متعاطي المخدّرات

يعزو نذير إبراهيم، الباحث السوري في علم الاجتماع والثقافة والمشرف في مركز للإدمان في مدينة دوسلدورف، ألمانيا، هذا الانتشار غير المسبوق للمخدّرات في سوريا إلى تداعيات ما حدث في البلاد منذ آذار 2011. “في الحروب تنهار المعايير الأخلاقيّة وتتبدّل المقولات الاعتباريّة الموجّهة للمجتمعات إلى حدّ التناقض مع الماضي أحيانًا وهذا ما حدث في سوريا بعد عشر سنوات “حرب” كما كان متوقّعًا؛ فالبلاد تشهد انهيارًا اقتصاديًا تعكسهُ عملتها متدهورة القيمة أمام الدولار والنقد الأجنبي؛ ولذلك ليس علينا أن نتوقّع من الشباب ما هو أفضل ممّا يقومون به اليوم” يقول إبراهيم لحكاية ما انحكت.

وبعد اطلاعه على الحالات التي عرضنا لها في التحقيق، مع إخفاء أسماء أصحابها، يقول نذير إبراهيم إنّ “أهمّ ما يمكن تسجيله هو أنّ الشباب المتعاطي في سوريا يشكّل ما نسمّيه في علم الاجتماع (غيتو) أيّ جماعة منعزلة تأبى المشاركة الفعليّة في الحياة الاجتماعيّة أو السياسيّة لشعورها بنوعٍ من الاغتراب عن مجتمعها، فهناك اختلاف جذريّ بين تصوّر الشباب للحياة وبين تصوّر المسؤولين في سوريا لها؛ لذلك ترينهم يشكّلون جماعات منعزلة ويقومون خلالها بتبادل الأفكار والأحلام والآمال والموسيقى والأفلام وكلّ تلك الأمور التي يمكن مشاركتها متناسيين تمامًا أنّهم جزءً من هذا المجتمع وبالتالي جزءً من حلّ هذه المشكلة التي تتمثّل في انعدام قدرتهم على الزواج أو تحصيل أمان وظيفي أو الوجود في مجتمع مسالم لا يهدّد أمنهم.”

يضيف إبراهيم: “وجودهم ضمن هذه الغيتوات هو الذي يعزّز لديهم الشعور بالحاجة الدائمة إلى المخدّرات، فهي، إلى جانب المأساة التي يعيشونها كونهم في يعيشون في سوريا، الشيء الوحيد الذي يربط بعضهم ببعض، وكما أشار أحد الأشخاص سابقًا إلى أنّ التعاطي أصبح ثقافة قائمة بحدّ ذاتها، وهذا صحيح لأنّ التعاطي أصبح في هذه الحالة البديل الوحيد عن الطموحات التي كانوا يشيّدونها لسنوات متأمّلين حلًّا يهبط من السماء”.

يؤكّد إبراهيم على تباين الأسباب الكامنة خلف تعاطي مجموعة من الشباب في سوريا مقابل مجموعة من الشباب في بلدٍ مستقرّ اقتصاديًا وأمنيًا، ففي البلدان المستقرّة ” تكون الخيارات مفتوحة أمام الشباب والفرص متساويّة ما يدفع الدارس إلى تقصّي الدوافع الشخصيّة للمتعاطين في تلك المجتمعات بينما يمكن القول إنّ تردّي الأوضاع المعيشيّة وقلّة فرص العمل وانحدار المستوى التعليميّ وكذا مفرزات الحرب إضافة إلى الخلل الديموغرافيّ، كلّها عوامل ساعدت على انتشار المخدّرات بين الطلبة والشباب عامّةً في سوريا”.

راتب الموظَّف السوري يساوي 40 غرام من الحشيشة

على الرغم من اتساع سوق المخدّرات في دمشق وريفها، والذي يشمل أكثر من أربعة أنواع من الحشيش المخدّر وعشرات الأنواع من الحبوب الدوائيّة سواء أكانت مخدّرة أو منشّطة، إلّا أنّ ثمّة تساؤل يلحّ لمعرفة كيف يتمكّن الشباب من شراء كلّ هذه المواد بينما يعيش أكثر من 90% من الشعب السوري تحت خطّ الفقر، حسب منظّمة الأمم المتحدة. 

يحاول محمد تفسير الأمر لحكاية ما انحكت: “يعتمد التجّار الذين نتعامل معهم على تسعيرات متقاربة، فكلّ عشرة غرامات من الحشيش يتراوح ثمنها بين عشرة آلاف ليرة سورية وخمسة عشر ألف ليرة (بين ثلاثة إلى خمسة دولار أمريكي) وذلك بحسب جودة المادّة ونسبة نقاوتها، ولا يعتبر هذا المبلغ كبيرًا مقارنة بغيرها من السلع اليوميّة كالدخّان الذي بلغ سعر أرخص كروز (عشرة علب) منه 12000 ليرة سوريّة (حوالي ثلاثة دولارات أمريكيّة) أو علبة المتّة التي تجاوز سعرها 5000 ليرة (حوالي 1.5 دولار أمريكي)”. ويضيف:” أمّا الحبوب، والتي لا نداوم على تناولها، فإنّها أيضًا رخيصة قياسًا مع غيرها من المواد، فلديكَ الكابتيكول (الكابتاغون) مثلًا، متوفّرة دائمًا وبأنواع من الأردأ إلى الأفضل ويتراوح سعر الحبّة منها بين 1500 ليرة ولغاية 4000 آلاف ليرة (بين 0.5 و1.2 دولار أمريكي)، وهناك الترامادول والذي لا يتخطّى سعر مظروفها 8000 ليرة (3 دولار أمريكي تقريبًا) ويحتوي على عشر حبّات”.

في حين يعتبر محمد أنّ هذه الأسعار منطقية قياسًا بالانهيار الذي بلغته الليرة، فإنَّ ولاء تشكو من الغلاء الذي وصلت إليه حبوب الترامادول، فتقول لحكاية ما انحكت: “أحيانًا لا تتوفّر المادّة عند الصيدليات ما يضطرّنا إلى البحث عنها في السوق السوداء، وهناك يتضاعف سعر المظروف مرّات ومرّات حسب “القَطْعَة”، فبلغ سعره منذ شهرٍ تقريبًا 18000 ليرة سورية في السوق السوداء (حوالي 5.5 دولار أمريكي) أيْ ما يعادل 35% من مرتّبي الشهريّ، وأنا، فضلًا عن كوني لا أريد التوقّف عن تناول الترامادول، فإنّني لا أرغب في الدخول كلّ يومين والثالث في أعراض انسحاب المادّة والتي تبدأ بوجع الأسنان ولا تنتهي مع الصداع وآلام الظهر والتشتّت الذهني طوال اليوم”.

ترتفع أو تنخفض أسعار المواد المخدّرة في سوريا يوميًا بحسب تذبذب سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبيّة، ولكن إذا ما أُخذَتْ هذه الأسعار مقارنةً بالقدرة الشرائيّة للشريحة الأوسع من السوريين، والتي تضمّ الموظّفين والمشتغلين في القطّاعين العام والخاصّ، فإنّها باهظة التكلفة  إلى حدّ بعيد؛ حيث يتراوح راتب الموظّف الحكومي في سوريا بينَ 50 ألف ليرة سوريّة (حوالي 15 دولار أمريكي) ولغاية 100 ألف ليرة سوريّة (حوالي 30 دولار أمريكي، بحسب سعر الصرف يوم الأربعاء 11 شباط 2021).

اسم مستعار لصحافيّة سوريّة مقيمة في دمشق.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى