صفحات الثقافة

الدروس المستفادة من جميع الديمقراطيات

ديفيد ستاسافاج/ ترجمة أحمد عيشة

الديمقراطية ليست شعلة انطلقت من أثينا القديمة، بل هي صيغة مشتركة عالميًا من أشكال الحكم لديها الكثير لتعلّمنا إياه اليوم

اليوم، يرى العديد من الناس أن الديمقراطية مهددة على نحو لم يكن من الممكن تصوّره قبل عقد من الزمان. بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، بدا الأمر وكأن الديمقراطية كانت الطريق إلى المستقبل. ولكن حالة الديمقراطية في الوقت الحاضر تبدو مختلفة تمام الاختلاف؛ نسمع عن “الارتداد” و “التدهور” وأوصاف أخرى لنوع من السلطوية الزاحفة. إن بعض الديمقراطيات الراسخة منذ أمد بعيد، مثل الولايات المتحدة، تشهد انتهاكًا للأعراف الحكومية التي يُعتقَد أنها كانت آمنة ذات يوم، وقد بلغ هذا ذروته في التمرد الأخير في كابيتول (مبنى الكونغرس) الولايات المتحدة. وإذا كانت الديمقراطية شعلة تشرق فترة من الزمن قبل أن تتلاشى -فكّروا في أثينا الكلاسيكية وجمهوريات مدن عصر النهضة- فسيبدو الأمر وكأننا قد نتجه نحو مرحلة جديدة من الظلام. فماذا يمكننا أن نفعل لعكس هذا الاتجاه الواضح، ولدعم الديمقراطية؟

أولًا، يجب أن نستغني عن فكرة أن الديمقراطية هي مثل الشعلة التي تنتقل من مجتمع رائد إلى آخر. إن السمة الأساسية للديمقراطية -وهي أن أولئك الذين يحكمون لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك إلا بموافقة الناس- لم يتم اختراعها في مكان واحد وفي وقت واحد؛ فقد تطورت بشكل مستقل في العديد من المجتمعات الإنسانية.

وعلى مدى آلاف السنين، عبر قارات متعددة، كانت الديمقراطية المبكرة مؤسسة يحكم فيها الحكّام بالاشتراك مع مجالس وجمعيات الشعب. فمن الهورون Huron (الذين أطلقوا على أنفسهم اسم ويندات) والإيروكوا (الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الهاودينوسوني) في الأحراج الشمالية الشرقية في أميركا الشمالية، إلى جمهوريات الهند القديمة، إلى أمثلة على حكم المدن في بلاد ما بين النهرين القديمة، كانت هذه المجالس والتجمعات شائعة. قدّمت اليونان الكلاسيكية أمثلة مهمة لهذه الممارسة الديمقراطية، وصحيح أن اليونانيين أعطونا لغة للتفكير في الديمقراطية، حتى في كلمة (الديمقراطية – demokratia) نفسها. لكنهم لم يخترعوا هذه الممارسة. وإذا أردنا أن نفهم على نحو أفضل مواطن القوة والضعف في ديمقراطياتنا الحديثة، فإن المجتمعات الديمقراطية المبكرة من مختلف أنحاء العالم تقدّم لنا دروسًا مهمة.

كانت السمة الأساسية للديمقراطية المبكرة هي أن الشعب كان يتمتع بالسلطة، حتى لو لم تكن تجري انتخابات متعددة الأحزاب (اليوم، غالبًا ما يُعتقد أنها سمة محددِة للديمقراطية). مارس الناس، أو جزء مهم منهم على الأقل، هذه السلطة بطرق مختلفة. في بعض الحالات، يتم اختيار الحاكم من قبل مجلس أو مجلس، ويقتصر على أن يكون الأول بين متساوين. في حالات أخرى، ورث الحاكم مناصبه، لكنه واجه قيودًا للحصول على موافقة الشعب قبل اتخاذ الإجراءات، سواء الكبيرة والصغيرة. كان البديل للديمقراطية المبكرة هو الاستبداد، وهو نظام يحكم فيه شخص ما بمفرده عبر مرؤوسين بيروقراطيين جنّدهم ويدفع لهم أجرهم. كلمة “أوتوقراطية – autocracy” هي تسمية خاطئة إلى حد ما هنا، حيث لم يحكم أي شخص في هذا المنصب بمفرده، لكنها تشير إلى طريقة مختلفة لتنظيم السلطة السياسية.

تجلّى الحكم الديمقراطي المبكر بوضوح في بعض المجتمعات القديمة، في بلاد ما بين النهرين، وكذلك في الهند. ازدهرت في عدد من الأماكن في الأميركتين قبل الغزو الأوروبي، مثلًا، بين الهورون والإيروكوا في الأحراج الشمالية الشرقية، وفي “جمهورية تلاكسكالا” التي أبهرت التحالف الثلاثي (1428 -1521)، والمعروف أكثر باسم إمبراطورية الأزتيك. وكان ذلك شائعًا أيضًا في أفريقيا ما قبل الاستعمار. وفي كل هذه المجتمعات، كانت هناك العديد من السمات المميزة التي تميل إلى تعزيز الديمقراطية المبكرة: على نطاق صغير، وحاجة الحكام إلى الاعتماد على الناس في الحصول على المعرفة، وأخيرًا قدرة أفراد المجتمع على الخروج إلى مناطق أخرى، إذا كانوا غير راضين عن الحاكم. وهذه السمات الثلاث لم تكن دائمًا موجودة بنفس القدر، ولكنها ساعدت مجتمِعة في تعزيز الديمقراطية المبكرة.

خريطة لاتحاد الإيروكوا من عام 1730، نسخها جيمس بيرت، لندن، عام 1882. بإذن من مجموعة دارلينغتون، جامعة بيتسبرغ

ولكي نرى كيف يعمل الحكم الاستبدادي (البديل للديمقراطية المبكرة)، ليس أمامنا مثالٌ أفضل من مثال إمبراطورية الصين. إن أوائل الأسر التاريخية في الصين، تشانغ وتشو (من الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد)، كان لديها ملوك يحكمون بوساطة جيش وبيروقراطية، ولا يوجد دليل على وجود مجالس أو تجمعات للشعب. كان الاستبداد سمة شبه ثابتة من سمات الحكم في الصين، ولا يشير هذا إلى وجود بعض الانحراف أو الشذوذ، بل مجرد مسار مختلف من التنمية السياسية عن مجتمعات أوروبا الغربية. كان تتويج النموذج الصيني، الذي تحقق إبان حكم أسرتي تانغ وسونغ (من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، يشتمل على دمج النخبة السياسية في الدولة، من خلال نظام توظيف الأجدر القائم على اختبار الخدمة المدنية. لقد خدم امتحان الخدمة المدنية الصينية (الذي كان الأوروبيون مع دولهم الضعيفة في وقت لاحق معجبين به) هدفًا لا يختلف كثيرًا عن البرلمان، ولكن بطريقة مختلفة جوهريًا، لأن الناس المحليين ليسوا هم الذين اختاروا الممثلين/ النواب.

بالطبع، إن العودة البسيطة إلى الديمقراطية المبكرة ليست ممكنة ولا منشودة. لكن الديمقراطية المبكرة تساعدنا في فهم نقاط ضعف التجربة الديمقراطية الحديثة بشكل أفضل. إن إلقاء نظرة فاحصة على الديمقراطية المبكرة يمكن أن يساعدنا بدوره في فهم ما يمكن أن نفعله لنرى أن الديمقراطية اليوم تحقق الفكرة الأساسية للديمقراطية: تسليم السلطة للشعب.

الاختلاف الأول بين الديمقراطية المبكرة وديمقراطياتنا اليوم هو أن هذا الشكل السابق من الحكم كان ظاهرة صغيرة النطاق. في بعض الحالات، لم تتم الحوكمة إلا على مستوى مجتمع صغير، كما كانت الحال مع الهيداستا Hidatsa، وهي مجموعة أميركية من السكان الأصليين تعيش على ضفاف نهر ميسوري الأعلى. عندما كان الحكم محليًا هكذا، كانت المجالس تجتمع كثيرًا. في حالات أخرى، كما الحال مع مملكة ماري في بلاد ما بين النهرين، كان هناك نظام حكم أوسع، لكن الديمقراطية المبكرة ظلت ظاهرة محلية تمارس من خلال تجمعات المدن الفردية. قد يجتمع هؤلاء للنظر في كيفية تخصيص الضرائب وتوزيعها. كان من النادر رؤية ديمقراطية مبكرة لها جمعية واسعة النطاق تجتذب أعضاء من مواقع متعددة، كما فعل اتحاد هورون. حتى في هذه الحالة، على الرغم من أن هورون تحركت على مساحة كبيرة، ظلت أراضي الاستيطان المركزة مضغوطة، مثل 56 كيلومترًا من الشرق إلى الغرب، و30 كيلومترًا من الشمال إلى الجنوب. وكذلك كان عدد السكان صغيرًا مقارنة بالديمقراطيات الحديثة، حيث كان اتحاد هورون مكونًا من (20,000) فرد فقط تقريبًا.

كان للمجال الصغير تأثير حاسم في طبيعة السياسة؛ في أثينا الكلاسيكية، وبين الهيداستا Hidatsa وفي مملكة ماري، كان أولئك الذين لديهم الحق في المشاركة في السياسة يميلون إلى القيام بذلك بطريقة مباشرة ومكثفة للغاية، لا سيّما في المجالس المحلية. في الديمقراطية الحديثة، المشاركة واسعة جدًا -غالبًا ما تكون أوسع مما كانت عليه في الديمقراطية المبكرة- ولكنها أيضًا ليست عميقة؛ بالنسبة إلى معظمنا، يقتصر الأمر على التصويت في الانتخابات كلّ بضعة أعوام، وبين هذه اللحظات يتخذ الآخرون القرارات. تتمثل المخاطر المحتملة لهذا الترتيب، كما لاحظ المراقبون المخضرمون منذ ولادة الجمهوريات الحديثة، في أنّ المواطنين قد يصبحون غير واثقين من الأشخاص الذين يديرون الحكومة فعليًا على أساس يومي، بسبب التأثيرات الخاصة التي قد يتعرضون لها. من الجدير بالذكر أن هناك علاقة قوية بين الديمقراطيات الراسخة اليوم؛ حيث تميل البلدان ذات عدد السكان الأكبر إلى أن يكون لها ثقة أقل في الحكومة.

وتتمثل إحدى الطرق لمعالجة مشكلة الحجم/ المجال في تفويض المزيد من السلطة إلى الولايات والمقاطعات والمحليات. اليوم، هناك من يحتجّ، مثل المحلل السياسي الأميركي يوفال ليفين، بمبدأ تفريع السلطة: نقل السلطة إلى أدنى مستوى عملي. وفي بعض الديمقراطيات الغربية، مثل كندا وألمانيا والولايات المتحدة، يضمن وجود نظام فيدرالي أن تكون هذه هي الحال بالفعل، بالنسبة إلى كثير من السياسات، ولكن هذه الاستراتيجية يمكن أن تكون أبعد مما هو قائم بالفعل. في القضايا الحاسمة للتجارة الخارجية أو الدبلوماسية أو المسائل الدستورية الملحّة، على سبيل المثال، من غير العملي أن تضع الولايات بمفردها أو المناطق أو المقاطعات سياستها الخاصة.

وإذا لم نتمكن من العودة إلى “كل السياسات محلية”، فإن أحد البدائل هو أن نرى ما يمكن عمله لتحسين ربط المواطنين مع دولة بعيدة. ومن الناحية التاريخية، كان ذلك من خلال الاستثمارات في نشر المعلومات.

وتقدّم الجمهورية المبكرة في الولايات المتحدة مثالًا مهمًا للاستثمار الحكومي للتغلب على مشكلة الحجم/ المجال. في “الاتحادي/ الفيدرالي رقم 10” (1787)، كتب جيمس ماديسون أن الجمهورية الكبيرة سوف تعاني بطبيعة الحال اضطرابات أقل مما تعانيه جمهورية صغيرة، ولكن بعد بضعة أعوام من التصديق على الدستور، بدأ يغني نغمة مختلفة للغاية. ففي مقال له بعنوان “الرأي العام”، كتب ماديسون عن الصعوبة في الجمهورية الواسعة التي قد يواجهها الناس في إعلام أنفسهم عن الحكومة، ودعا إلى التوزيع المعزز للصحف، وساعد ذلك في إقرار قانون الخدمة البريدية لعام 1792.

إن العالم اليوم مختلف كثيرًا عما كان عليه في عام 1792؛ ويمكن للمواطنين، إذا أرادوا، أن يغرقوا أنفسهم في المعلومات والمعلومات المضللة. وهذا يشير إلى أننا في حاجة إلى التفكير في استثمارات جديدة قد تربط المواطنين بالحكومة على نحو أفضل، من خلال إعطائهم مصادر المعلومات التي على علاقة بالواقع، التي يمكنها، في حالة الولايات المتحدة، أن تتجنب إشعال نيران العنصرية الطويلة الأمد. وفي بعض البلدان، وعلى الأخص الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تواجه الصحافة المحلية ظروفًا اقتصادية تؤدي إلى اختفائها، بالرغم من أنها معروفة بأنها أكثر ثقة وأقل حزبية من المنافذ الوطنية. إن تقديم إعانة مالية للمنافذ الإخبارية المحلية من الممكن أن يكون إنفاقًا جيدًا، تمامًا كما كانت الإعانة التي صوت عليها الكونغرس الأميركي في عام 1792 مناسبة.

إذا كان النطاق الواسع لديه القدرة على أن يؤدي إلى عدم الثقة وفك الارتباط في الديمقراطية، فإن مشكلة الاستقطاب هي مشكلة وثيقة الصلة. يمكن أن يتخذ الاستقطاب أشكالًا عدة، مثل تلك التي تنطوي على توترات بين فئات مختلفة من الناس في نفس الموقع، أو اختلاف في الآراء بين الأشخاص الذين يعيشون في مواقع مختلفة. في مجموعة واسعة من الديمقراطيات اليوم، اتخذ الاستقطاب هذا الشكل الأخير بشكل متزايد، مع اكتساب أولئك الموجودين في المراكز الحضرية العالمية الكبيرة نظرة مختلفة تمامًا للعالم عن تلك الموجودة في أماكن أخرى، سواء أكانت تشمل مناطق ريفية، كما الحال في الولايات المتحدة، أم مراكز حضرية بعيدة في المملكة المتحدة، أو التناقض بين المناطق الحضرية والغربية في تركيا وتلك المناطق الواقعة في الشرق. في كثير من هذه الحالات، أظهر علماء السياسة أن الاستقطاب غير متماثل، حيث كان أولئك الذين ينتمون إلى اليمين السياسي هم السبب الرئيس للانتقال نحو التطرف. لم تكن مشكلة الاستقطاب الجغرافي غير معروفة للناس في الديمقراطيات المبكرة، وقد وجدوا طرقًا مبتكرة لمعالجتها. بينما لا يمكننا ببساطة نسخ الحلول التي توصلوا إليها، لا يزال بإمكاننا التعلّم منها بالتأكيد.

تأمل في مثال الإصلاحات التي نفذها كليسينس في أثينا، ابتداء من عام 508 قبل الميلاد. في العقود التي سبقت هذا التاريخ، طور الأثينيون شكلًا جماعيًا للحكم مع مجلس من أربعمئة شخص، كان قد أنشأه سولون في وقت سابق في القرن السادس قبل الميلاد. كان يتألف من 100 عضو من كل قبيلة من القبائل التاريخية الأربع، التي قد تكون قائمة أساسًا على أساس الأقارب أو المهنة، اعتمادًا على المصدر الذي يعتبره المرء. في حين أن هذا النظام قدّم تمثيلًا متساويًا لكل قبيلة، لدرجة أنه صار هناك عداء بين هذه المجموعات -قد يقول المرء حتى الاستقطاب- ربما كان نظام التمثيل قد عزز هذا التوتر. ساعيًا لتغيير الأمور، عند توليه السلطة في 508 قبل الميلاد، أعاد كليسينس تجديد المجتمع الأثيني بالتخلص من القبائل التقليدية الأربعة، وإنشاء 10 قبائل جديدة لتحلّ محلها. سرد أرسطو لاحقًا عنصرًا حاسمًا في إصلاح كليسينس: فقد خصص مجموعات محلية فردية من الناس يُدعى (ديموس – demes) بالقرعة في كل من القبائل العشر الجديدة، وبالتالي “خلط أعضاء” القبائل الأربع السابقة. ويذكر أرسطو كذلك أن كليسينس تأكد من أن القبائل الجديدة لم تكن مركزة جغرافيًا؛ وبدلًا من ذلك، كان لكل منهم عضوية من المدينة والساحل وداخل شبه جزيرة أتيكا [أثينا وما حولها].

الأهم من ذلك أن مبدأ إصلاح كليسينس بعيد كل البعد عن كونه فريدًا؛ لدينا أمثلة بليغة لأناس في الديمقراطيات المبكرة الأخرى عبر قارات متعددة يفعلون الشيء نفسه تقريبًا. لرؤية هذا، يمكننا العودة إلى أمثلة مجتمعات هورون وإيروكوا، التي تم تقسيم كل منها -مثل الأثينيين إلى حد كبير- إلى قبائل منفصلة، ومن الواضح أنها محددة جغرافيًا. قد يبدو هذا وكأنه نظام ناضج للصراع بين القبائل. لكن كان لدى الهورون والإيروكوا نظام بارع لمحاربة المحلية والاستقطاب. إذ لم يكتفوا بتقسيم مجتمعهم إلى قبائل مؤلفة من قرى فحسب، بل قسموها أيضًا إلى عشائر تتقاطع مع الانقسامات القبلية. لذلك، إذا كنت عضوًا في عشيرة الذئب في قرية فردية بين قبيلة كايوغا Cayuga في اتحاد الإيروكوا، على سبيل المثال، فحينئذٍ لديك ارتباط طبيعي بأعضاء كايوغا من تلك العشيرة من قرى أخرى، وكان لديك أيضًا صلة مع أعضاء عشيرة الذئب في قبائل إيروكوا الأخرى. كان الهدف الواضح من هذا النظام هو ربط المجتمع معًا بشكل أفضل، من خلال تخفيف الاستقطاب على طول الخطوط القبلية.

يمكن للناس في المجتمعات المستقطبة اليوم أن يتعلموا شيئًا من نظام عشائر إيروكوا والقبائل الأثينية العشر. ومع تزايد طابعنا القبلي في بلدان مثل الولايات المتحدة، ربما كان بوسعنا أن نتعلم المزيد من المجتمعات التي كانت لديها قبائل بالفعل. ولن يكون الدرس هو تأسيس قبائل أو عشائر جديدة خاصة بنا: فبدلًا من ذلك سوف يكون البحث في الكيفية التي يمكن بها للمؤسسات السياسية والاجتماعية المختلفة أن تساعد في خلق روابط للناس الذين يعيشون في أماكن مختلفة، من خلفيات مختلفة ويعتنقون معتقدات مختلفة للغاية. والفكرة هنا هي المساعدة في تعزيز وتوحيد المجتمع عن طريق إقامة روابط جديدة عابرة لخطوط الاستقطاب.

كان غياب بيروقراطية الدولة سببًا رئيسًا في إثبات أن الديمقراطية المبكرة شكل من أشكال الحكم المستقرة لكثير من المجتمعات. مع القليل من القوة المستقلة -بصرف النظر عن القدرة على الإقناع- وجد أولئك الذين كانوا يرغبون في الحكم، بوصفهم مستبدين، أنفسهم من دون وسائل للقيام بذلك. كان الوجه العكسي لهذا، في كثير من الديمقراطيات المبكرة، أولئك الذين لم يكونوا سعداء بقرار مركزي يمكنهم ببساطة رفض المشاركة أو حتى الانتقال إلى منطقة جديدة. كان الأمر يشبه إلى حد كبير كثيرًا من المجتمعات عبر الإنترنت اليوم، حيث لا يكون لدى أولئك الموجودين في المركز (الذين يطلق عليهم أحيانًا “الحكام المستبدون العادلون مدى الحياة”) خيارٌ للحكم كأوتوقراطيين، لأنهم يعتمدون على المساهمات والخدمات التي يقدمها الأفراد الذين يمكنهم ببساطة رفض المشاركة أو الانتقال إلى مكان آخر.

تفتقر الديمقراطية الحديثة إلى تلك الحماية من القوة المركزية التي تمتعت بها الديمقراطيات المبكرة. في الوقت نفسه، يمكن لوجود دولة مركزية قوية أن يسمح للمجتمع بتحقيق أهداف مثل التعليم الشامل والازدهار، على سبيل المثال لا الحصر. السؤال إذن هو كيف نعيش مع دولةٍ، مع الحفاظ على الديمقراطية؟ ينطوي القيام بذلك على البقاء يقظين بشأن تعدي سلطة الدولة المركزية، بدلًا من الأمل في أن دستور الدولة وحده قد يوفر الحماية الكافية، وعلى الأخص في حالة الولايات المتحدة، حيث تم وضع الوثيقة في لحظة تأسيس صارت بعيدة اليوم.

أولئك الذين ناقشوا دستور الولايات المتحدة لعام 1787 أدركوا الخطر الذي يشكله زحف الدولة المركزية. نتج عن التسوية التي توصلوا إليها سلسلة واسعة من الضوابط والتوازنات المصممة لتمكين سلطة الدولة مع تقييدها أيضًا. أظهرت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مدى انتشار السلطة التنفيذية، على الرغم من جميع الضمانات المقصودة. في بعض دول أوروبا الشرقية، حدث نمط مماثل، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. في التسعينيات، كان يُعتقد أن الضوابط والتوازنات التي تحمي الديمقراطية ستشمل العضوية في الاتحاد الأوروبي والالتزام بمجموعة واسعة من القواعد فوق الوطنية، ولكن في هذا العقد، أظهر حزب فيدسز – Fidesz [حزب يميني متطرف] في هنغاريا ونظرائهم في القانون والعدالة في بولندا أن من الممكن كسر العديد من المعايير الديمقراطية -وفي الواقع إعادة كتابة القواعد الرسمية- من دون أن تكون عضوية الاتحاد الأوروبي مصدًّا فعالًا. يبدو أن الدرس المستفاد من كل هذه الحالات هو أنه بينما يعد تصميم دستور جيد أمرًا مهمًا، فإن الحفاظ على ديمقراطية صحية في مواجهة السلطة التنفيذية يتطلب يقظة مستمرة، وربما يقظة أكثر مما اعتدنا على إيلائها أخيرًا.

والطريقة الأكثر تطرفًا لتقييد السلطة التنفيذية -مرة أخرى بالعودة إلى الديمقراطية المبكرة- تتلخص في الحد منها بشكل جذري، من خلال عدم السماح بجيش دائم أو بيروقراطية ضريبية. وبوسعنا أن نفكر هنا في عضو مجلس الشيوخ الأميركي تيد كروز الذي اقترح، عندما ترشح للرئاسة في عام 2015، إلغاء دائرة الإيرادات الداخلية. ومع أخذ مثال على الكيفية التي ترسخ بها الاستبداد البروسي بعد حرب الثلاثين عامًا (1618-48) في الحسبان إلى حد كبير، كان مفكرو القرن الثامن عشر يرون أن الجيش الدائم على وجه الخصوص أمرٌ يستدعي الاستبداد. ولكن في الأماكن التي أعرب فيها الناس عن أشد المخاوف بشأن هذه الإمكانية -المملكة المتحدة ومستعمراتها الاستيطانية- فإن صعود سلطة الدولة المركزية في نهاية المطاف لاستخراج الموارد واستخدام القوة القسرية لم يسفر عن زوال الديمقراطية. والسبب في ذلك هو أنه عندما يكون هناك تقليد عميق للحكم الاستشاري الذي تم إنشاؤه أولًا، فمن الممكن أن تقوم السلطة التنفيذية وممثلو الشعب ببناء دولة والسيطرة عليها معًا. والسؤال المفتاحي هنا يتلخص في التسلسل: هل تنشأ دولة قوية قبل شكل ما من أشكال الحكم الجماعي؟ أو هل يكون العكس هو الصحيح؟

وعندما يسبق الحكم الجماعي بناء الدولة، فإن هذا يمكنه أن يساعد في تأمين الديمقراطية، ولكن هذا التسلسل وحده لا يضمن ذلك. والأمر متروك في نهاية المطاف لفرادى المشرعين -فضلًا عن الناس الذين ينتخبونهم- لمعارضة محاولات المسؤولين التنفيذيين لتكوين مزيد من السلطة. في دولة مثل هنغاريا، التي تفتقر إلى تقليد طويل من الحكم الديمقراطي، قد لا يبدو من المدهش أن هذه الآلية قد فشلت، ولكن في دولة مثل الولايات المتحدة، كان من الأكثر غرابة أن نرى الإجراءات غير الليبرالية التي اتخذتها إدارة ترامب، في أغلب الأحيان نتيجة للنظام التنفيذي.

في حالة الولايات المتحدة، هناك حجّة تدعو إلى القول بأن السبب وراء تمكّن إدارة ترامب من الذهاب إلى هذا الحد هو أن العقود الأخيرة شهدت توسعًا كبيرًا زاحفًا للسلطة الرئاسية التي تشكل في النهاية خطرًا على ديمقراطيتنا. وفي كتابٍ نُشر قبل عقد من الزمان، كتب بروس أكرمان، وهو عالم قانوني بارز، أن هذا الاتجاه -وهو شيء حدث في ظل الإدارتين الديمقراطية والجمهورية على حد سواء- يحمل في طياته خطر تحول البيت الأبيض إلى “منبر للتطرف الكاريزمي والخروج على القانون البيروقراطي”. وينبغي أن نكون أكثر يقظة بشأن تحذيرات كهذه.

إن الدروس واضحة: سنكون في أفضل وضع للحفاظ على ديمقراطياتنا، إذا أدركنا أن تاريخ الديمقراطية أوسع وأعمق كثيرًا مما هو مفترض في أغلب الأحيان. لقد ابتكر الناس في جميع أنحاء العالم، على مر التاريخ، مؤسسات ديمقراطية ومارسوا الديمقراطية. ويمكننا أن نتعلم من تجربتهم، لنرى كيف يمكن تعزيز الديمقراطية اليوم.

اسم المقال الأصلي         Lessons from all democracies

الكاتب* ديفيد ستاسافاج، David Stasavage

مكان النشر وتاريخه         موقع عيون، ِAeon، 9 آذار/ مارس 2021

رابط المقال         https://bit.ly/3uZOozS

ترجمة   وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

*ديفيد ستاسافاج: عميد العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك، وأستاذ كرسي يوليوس سيلفر Julius Silver في قسم السياسة بجامعة نيويورك. ولديه ارتباطات مع كلية الحقوق بجامعة نيويورك وقسم التاريخ التابع لها. نشر أخيرًا كتاب “تراجع وصعود الديمقراطية: تاريخ عالمي من العصور القديمة إلى اليوم” (برينستون، 2020).

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى