مقالات خاصة بالموقعوائل السواح

حكايات عن الفتى الساحر الجميل/ وائل السواح

مرسمه في باب توما لم يكن فقط مرسما. كان ملتقى ثقافيا ومنتدى سياسيا، ومحطا للرفاق القادمين من المحافظات البعيدة. في مرسمه كنا نوزع المهام ونتقاسم الحارات لتوزيع البيانات، وإلى مرسمه كنا نعود نتذاكر ما حدث ونتحدث عن المستقبل.
ولكنه كان مرسما ايضا، وفيه ابدع كل أحصنته الجميلة التي فتن بها الجمهور والنقاد والفنانين عندما عرضها. في مرسمه أيضا عقدنا حلقات للنقاش الفني وتعلمنا الفرق بين المدارس الفنية. في مرسمه أيضا عقدنا بعضا من لقاءاتنا في الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي. وفي مرسمه احتفلنا بانتصاراتنا الصغيرة وهزائمنا الصغيرة، واحتفينا بالقهوة السوداء، وبالنبيذ الوطني، وبالحمص والخبز المحمَّص والمخلل البلدي.

*****
“اعتقل يوسف،” قال لي جميل، واجتاجتني حالة من الذهول. نظرت في عيني جميل الزرقاوين الصافيتين، الحزينتين والملوَّعتين بهول الخسارة. أحسست بطائر يمسك قلبي بمخالبه، ويقتلعه ثم يطير به صعدا في سماء من الفقد. كان يوما دافئا من ايام ايار 1978. قبل أشهر فقط، تجمع كل المثقفين والفنانين والناشطين في صالة الشعب للفنون الجميلة لمشاهدة معرضه الأول. وفُتِنَّا بأحصنته الجامحة التي لا تقيدها قيود ولا تحد من انطلاقتها حواجز أو سلاسل.
“عليك أن تتخفى،” قلت لجميل.
“لماذا؟” سألني.
“أنت تعرف..” قلت.
“لا.. يوسف لن يعترف علي.” ولم يتخفَّ جميل. ولم يعترف يوسف عليه، أو على غيره.
*****
في 4 شباط 1980، خرج يوسف ورفاقه من السجن. وكان لا يزال مديدا وجميلا وساحرا. كبر خلال العامين قليلا، وفاجأنا أنه كان أكثر حكمة وتوقدا وحماسا. لم يتباه بسنتي حبسه كما فعل آخرون. لم يحدثنا عن التعذيب والوحدة والوحشة. حدثنا عن الحياة والاستمرار والمستقبل. وكان مقسما بين البقاء في الوطن والسفر إلى باريس لإكمال دراساته العليا.
كنا في الهيئة المركزية نحاول ترميم الهيئة بإضافة رفاق جدد إليها. وكان يوسف واحدا من الأسماء المطروحة. كلفني الرفاق بنقل الرسالة إليه. قابلته  في بيته. نقلت رغبة الرفاق إليه، ثم سألته:
“وصلت الرسالة؟”
“وصلت.”
“ذلك رأي الرفاق أوصلته بأمانة؛ أما أنا فأرى أن تسافر إلى باريس وتعود إلينا فنانا عالميا. نحن لدينا الكثير من المناضلين، ولكن لدينا فنانين أقل.”
لا أدري إن كان رأيي لعب يومها دورا في قراره؛ ولكنه قرر السفر. في باريس احتل مكانا مرموقا في عالم الفن هناك. ومكانا حارا بين السوريين. كان بيته مفتوحا لأي سوري معارض في باريس، بغض النظر عن انتمائه الحزبي أو الإديولوجي. ورفض الجنسية الفرنسية لأنه كان يعرف دائما أن فرنسا وطن مؤقت. وحين صارت العودة متاحة، في إحدى النوافذ الصغيرة التي أتاحها النظام للمعارضين، بعد عزلته  الخانقة وخروجه من لبنان، عاد يوسف إلى دمشق. في المطار استقبلناه، نحن أصدقاؤه القدامى ورفاقه ومعنا عشرات من الشبان الذين يعرفون فنه واسمه ولا يعرفونه شخصيا. وفي قاعة المطار الرئيسية غنينا له “طلعنا على الضو.. طلعنا على الريح..
طلعنا على الشمس.. طلعنا على الحرية..
يا حرية..  يا زهرة نارية..
يا طفلة وحشية يا حرية.”
أحاط بنا رجال الأمن، فاصطحبنا يوسف وجئنا به إلى دمشق في مهرجان صغير.
*****
مرسمه الجديد في حارة الورد (لاحظوا الاسم) تحول إلى موئل للمثقفين والفنانين والسياسيين والناشطين المدنيين. وحين اندلعت الثورة، وقف معها، وشارك بحماس في تأسيس هيئة التنسيق الوطنية، وكان جزءا من قيادتها. لم يؤيد يوما العنف، وأكد مرارا على السلمية واللاعنف. وكان يسعى إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية. كان ورفيقه عبد العزيز الخير  أكثر وجوه معارضة الداخل احتراما وتقديرا في أوساط السوريين في الداخل والخارج. بيد أن النظام الذي يفضل الإرهابيين الإسلاميين على المناضلين المدنيين اعتقل الرجلين ومعهما عدد من الناشطين الذينن يؤمنون بسوريا مدنية ديمقراطية.
*****
ترك يوسف ألوانه وفراشيه ومساند لوحاته المشدودة عليها قطع الخام، ومضى إلى العتمة، بصحبة رفيقيه توفيق عمران وعدنان الدبس. لا يحب يوسف العتمة، ولا يحب الزنازين الضيقة. ولكنه يدرك أن الطريق إلى الحرية لا بد في بلد القمع والطغيان أن يمر في الزنازين المعتمة والأقبية الرطبة والوجوه الكالحة لسجاني النظام.
يحب يوسف، مثل كل الفنانين الحقيقيين، النور، لأنه يعطي ابعاد أخرى للوحة، ويساعد الرسم على تقصي اللون الحقيقي للأشياء. مرسمه في حارة الورد كان مضيئا، وكذا كان مرسمه الأول في باب توما.
*****
قبل عشرة أيام، اعتقل نظام بشار الأسد الفنان والمناضل السياسي يوسف عبدلكي مع اثنين من رفاقه. وترافق اعنقال يوسف مع تواتر أخبار عن وفاة المناضل عبد العزيز الخير تحت التعذيب في المعتقل. المحامي والناشط الحقوقي خليل معتوق معتقل دون أن نعرف مكاه أو شروط سجنه. عمر عزيز، الناشط الذي أسس لمبدأ المجالس المحلية في سوريا، قتل تحت التعذيب، وكذلك قتل أيهم الغزول الطالب بكلية الطب. مازن دوريس الرقم الصعب في النشاط المدني السوري موجود في المعتقل وسيقدم إلى محكمة الإرهاب. كل هؤلاء نقاط سوداء في جبهة النظام الفاجر ونقطة بيضاء في تاريخ سوريا المدني والديمقراطية.
تحية إلى يوسف عبدلكي، الفتى الجميل ذي العقود الستة ونيف. نحن نتظرك، زوجتك وابنتك تنتظرانك، وسوريا تنتظرك. فلا تطل الغياب.

وائل السواح
خاص – صفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى