جمال سعيدمقالات خاصة بالموقع

شظايا صهيل.. شظايا حمحمة/ جمال سعيد

أرغب أن يتم نشر ما أكتبه، كتحية ليوسف بمناسبة خروجه من المعتقل

– ما أكثر ما نتمنى ونرغب ونرجو منذ زمن بعيد وحتى الآن. تلوكنا الأحلام والرجاءات، وحين تتمزق، نرفوها بما أوتينا من حنان، وغضب وقهر، نحن الجيل الذي جسد يوسف مرثاتنا في يد مرمية على إحدى لوحاته تشد قبضتها على رغم أنها مقطوعة!   

***

تحدث كثيرون عن  الشيوعي الذي لم يسعَ للحصول على جنسية فرنسية، مُعتبراً ربع قرن من الإقامة في باريس مجرد محطة مؤقتة له كسوري عائد إلى الوطن “بعد قليل”. واتهم البعض يوسف بتطرفه الوطني وذهب البعض في المنتديات الخاصة لاتهامه بالمبالغة في مواقفه “العروبية” خصوصاً في أثناء حرب العراق. وتساءل ابراهيم الأمين-الذي لا يخفى على أحد خلافه مع يوسف : “من هو هذا العبقري (اقرأ المتخلف) الذي قرر توقيف يوسف عبدلكي، وكيف له أن يقنع نفسه، وأهله، وجيرانه، وأهل الشام والساحل وحلب وحمص ودرعا وإدلب والرقة والحسكة ودير الزور والقنيطرة والسويداء بأن الخطر تجسد في رجل واحد اسمه يوسف عبدلكي، وقد وجب توقيفه”  فإذا كان هذا ما يقوله صحفي بينه وبين يوسف خلاف إن لم نقل خصومة فكرية وسياسية، فما الذي سيقوله أصدقاؤه الذين تجمعهم به روابط روحية وفكرية وعقلية تطورت وتعمقت على مدى سنوات؟ والذين يعرفون حقيقة مواقفه المناهضة للقتل والإرهاب والتدخل الأجنبي وأطماع الغرب.

***

التقيت يوسف أول مرة في عام 1978، عرفت حينها أن الشاب الذي أعطاني جريدة “الراية الحمراء- لسان حال رابطة العمل الشيوعي في سورية” هو الفنان يوسف عبدلكي، المتخرج حديثاً من جامعة دمشق، أثناء زيارتي لمعرضه “الحصان والحصان المضاد” في صالة الشعب …وقبل ذلك كنا نلتقي دون أن يعرف أي منا اسم الآخر. ورثت عن معرضه ذاك صهيلاً سكنني لزمن طويل، ورأيت كوناً على هيئة حصان يخرج من اللوحة ويصهل في مساحات الحرية الفسيحة التي لا يطالها إلا الخيال المبدع، والعقل المتبصر. بُعيد اعتقال يوسف عام 1978، وقرأت بعدها مقالاً للشاعر السوري هادي دانيال على الغلاف الأخير لمجلة الهدف، ولا أزال أذكر عنوانه: (من قتل لؤي .. من يقتل يوسف). أتساءل الآن على نحو عابر: ما الذي تنشره الهدف الآن؟ وما الذي يكتبه هادي؟. رأيت بعين روحي  كيف يتحول الصهيل إلى حمحمة، بل وعشت ذلك في أثناء الفترة الطويلة التي أمضيتها في السجن. كانت الخيول التي انعتقت من لوحة يوسف تستيقظ في داخلي، كما هي، بالأبيض والأسود ولكنها لا تصهل فقط، بل تنشج وتحمحم وتبحث عن فضاءات تليق بعدوها وصهيلها!

***

نحو الفراشة التي ترفرف على حد السكين والتأريخ للوجه الآخر من وجودنا بإحساس فني نادر ورؤية بصرية استثنائية، رأيت العصفور والسكين، والقلب المقتطع من الجسد، وعظام الكائنات، وغيرها …وغيرها… ورأيت بعدها كيف دخل اللون الأحمر على بلاد يتجول فيها الموت مخلفاً الدماء على الأرصفة والجدران وداخل غرف المعيشة وعلى الشرفات وفي المطابخ وفسحات الديار والحقول وداخل المركبات إلخ… إلخ. لم يعد عبدلكي يكتفي بالأبيض والأسود بل دخل أحمر الدم إلى لوحته وغطى بعض المساحات، من بينها أحد صحون لوحاته، وبدا كأنه وجبة قهر يومية – سبق للقيد أن دخل الصحن في أحد كاريكاتيرات يوسف باعتباره وجبة يومية-  وبعد ذلك بقليل غاب يوسف وعدنان وتوفيق، أو الأصح غيبوهم، والأدق: تم اعتقالهم!

***

لم يتفق المثقفون والصحفيون والناس الذين يعتبرون كلمة “مثقف” شتيمة على أمر كما اتفقوا على ضرورة إطلاق سراح يوسف عبدلكي ورفيقيه. فقد جمع اعتقاله ابراهيم الأمين وأدونيس “الشاعر والمفكر الإشكالي”، مع جمانة حداد ومحمد علي الأتاسي وبيير أبو صعب وغيرهم الكثير… ممن يختلفون على أمور كثيرة ويتفقون على ضرورة إطلاق سراحه.

***

حين دافع يوسف عن الفن وناصر الإبداع في مواجهة من يرغب باستبدال الفن أو تقزيمه وتحويله إلى”تجارة الفن” دار حديث عابر بيننا عن الأشياء والناس التي لا تباع وتشرى! عن الإبداع المجسّد بما هو قيمة كبيرة بحد ذاته، وعندها تم الهجوم على يوسف، خارج سياق ما يطرحه، بحجة نزع هالة القداسة عنه، التي لم يرتديها يوماً.

ألملم وجه يوسف من بين الصهيل والحمحمة، لأقول إن عبدلكي، الكهل النبيل، ليس أيقونة ولا قديساً، بل أهم بكثير: إنه إنسان نادر!  ولا يتكرر مبدع بقامة يوسف الإبداعية كثيراً، ولا يزال لدى يوسف الفنان والإنسان ما يعطيه للحياة التشكيلية وللحياة الاجتماعية، ولا تليق به إلا الحرية أيها السادة.

خاص – صفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى