رائد وحشمقالات خاصة بالموقع

عبد لكي: قاموس للصمت/ رائد وحش

 

وتلك الأسماك التي غادرت ماءها، ماذا عساها تقول؟

يدرك يوسف عبدلكي أبعاد المجازفة وحجمها فيما لو أن المفردات التي يشتغل عليها: «الأسماك، الفاكهة، الأواني، الأحذية…» حافظت على حرفيتها الواقعية، لذا يتولى ذكاء أصابعه كرسام جسامة المهمة، فيطيح بمفهومي النسب والمنظور، ويعطيهما رؤيا خاصة، والأخطر هو إصراره على العمل بأدوات شديدة التقشف: الفحم والورق، متحدياً الإمكانات المتاحة في الأبيض والأسود، ليصل إلى حدود المستحيل، عبر تأجيجه المساحات ما بينهما، بتأليف حدائق ضاجة بالألوان الطليقة.

خيار الطبيعة الصامتة، أو الميتة، بترجمتها الحرفية، يتحول عنده، بسبب الإصرار العنيد ويباسة الرأس، إلى صنع حياء كاملة من مفردات قليلة، هكذا يصبح للصامت، أو الميت، طراوة الأمل ولمعان الحيوية، لننتبه فجأةً إلى أن ما بوجوهنا ليس سوى عيون عمياء..

وتأخذنا اللوحات إلى جحيمها الواسع، لنعايش في الأشياء القريبة والأليفة كسوراً يستعصي جبرها، وجراحاً من المتعذر تقطيبها. نراقب حبة الكرز موشكةً على الاحتضار، وثمرة الأجاص وحيدةً وغريبةً في طرف جاط، والحذاء البالي يلهث متعباً من المسافات الشاسعة التي قطعها، ربما هو يبحث عن موطئ أخير لم يجده إلا على سطح هذه اللوحة. وقرن الموز، غير المقشر، مكسواً بشحوب جنسي ضار، والجماجم الموثقة بحبال في قسوة الألم الطويلة حتى ما بعد الموت.

هذه الكائنات الضعيفة، في لحظة انسحاقها، تتحدث عن مصير طويل من العذاب الصامت والأخرس، وتروي مشاهد من قهر لم تستمع إليه أذنٌ من قبل.. هذه الكائنات سمعها عبد لكي، وعايشها في حصارها الخانق، فنقلها برواية بصرية صادقة، ليضعنا جميعاً في كابوس، كنّا نتجنب الوقوع فيه طوال الوقت لنعفي أنفسنا من مشقة التفكير بالألم..

رعب صارم وفصيح..

كلّ لوحة يتصدرها عنصر مفؤود ومتوحد ومهجور..

بالإضافة إلى كلّ ذلك تشكل الخلفية بؤرة في غاية الأهمية، فهو لا يكتفي بشخوص مسرحه وحسب، بل يهتم برسم الفراغ العدمي الذي يحتويهم، وبذوبان المتصوف، يؤثّث هذا الفراغ نقطاً وخطوطاً، ليكتمل المشهد الظلاليّ فضاءً حيوياً لحياة كائناته المنهوبة.

إنه يلقي بأعباء ذاته دون فجاجة، مؤكداً أن تجربة المنفى كانت ضرورية لاستيعاب ما في الذات والعالم على ضوء شحوب الكائنات المهمشة، المنفية أيضاً.

ربما يكون قدر الفنان التشكيلي أن يعيش في مملكة الصمت، وأن يقولها بالخط والحركة والفراغ.. وبالنسبة لعبدلكي فقد جعل الأبيض والأسود قاموساً لترجمة ذلك الصمت.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى